بعدَ أن كتَب الله النَّصرَ للمسلمين وفتحوا إيليا بيتَ المَقدِس طلَب أهلُه أنَّ يُصالَحوا على صُلحِ أهلِ مُدُنِ الشَّام، وأن يكونَ المُتولِّي للعَقدِ عُمَر بن الخطَّاب، أَبَى بَطْرِيقُها أن يُسَلِّمَ مَفاتيحَ القُدسِ إلَّا للخليفةِ عُمَر بن الخطَّاب، فحضَر عُمَر رضِي الله عنه والقِصَّةُ في دُخولِه مَشهورةً، حيث كان يَتَناوَب على بَعيرٍ مع خادِمِه، فكانت نَوْبَةُ عُمَر المَشْيَ حين وُصولِهم إلى القُدْس، ولم يَرْضَ عُمَر أن يَركبَ بدلًا عن خادِمه مع طَلَبِ الخادِم ذلك، ولم يَأْبَه لتلك الوَجاهات المُزَيَّفَةِ فدَخَلها ماشِيًا، فكان ذلك مِن العَلامات التي زعَم البَطْريقُ أنَّها تكون فيمَن يَسْتَلِم المفاتيحَ، فأخَذها عُمَرُ وصلَّى في بيتِ المَقدِس واتَّخذَهُ مَسجدًا كما كان، ولم يُصَلِّ بالقُرْبِ مِن الصَّخرةِ رغمَ مَشورةِ بعضِهم له بذلك، ثمَّ عقَد الصُّلْحَ مع أهلِها وكتَب بذلك الشُّروطَ المَشهورَةَ بالشُّروطِ العُمَرِيَّةِ.
كانت بِدايَة فَتْح الأَندَلُس بأن يُولْيان حاكِم الجَزيرَة الخَضْراء غَضِبَ مِن لُذْريق (رُودْريغُو) مَلِك الأَندَلُس فاتَّفَق مع موسى بن نُصَير على أن يَدُلَّه على عَوْراتِهم ويُدْخِلَه الأَندَلُس, فكَتَب موسى إلى الوَليد يَسْتَأْذِنُه في غَزْو الأَندَلُس, فكَتَب إليه الوَليدُ: خُضْها بِالسَّرايا، ولا تُغَرِّر بالمسلمين في بِحْرٍ شَديدِ الأَهوال. فكَتَب إليه موسى: إنَّه ليس بِبَحْرٍ مُتَّسِع، وإنَّما هو خَليجٌ يَبِينُ ما وَراءَه. فكَتَب إليه الوَليدُ: أن اخْتَبِرْها بالسَّرايا، وإن كان الأَمْرُ على ما حَكَيْتَ. فبَعَث موسى رَجُلًا مِن مَوالِيه يُقالُ له طَريف بن مالِك أبو زُرْعَة في أربعمائة رَجُل ومعهم مائة فَرَسٍ، وهو أوَّلُ مَن دَخَل الأَندَلُس مِن المسلمين، فسار في أربع سَفائِن، فخَرَج في جَزيرَة بالأَندَلُس، سُمِّيَت جَزيرَة طَريف لِنُزولِه فيها، ثمَّ أَغارَ على الجَزيرَة الخَضْراء، فأَصابَ غَنيمَةً كَثيرَة، ورَجَع سالمَّا. فلمَّا رأى النَّاسُ ذلك تَسَرَّعوا إلى الغَزْو.
هو بغا الكبير أبو موسى التركي، مُقَدَّمُ قُوَّادِ المتوكِّل وأكبَرُهم، كان شجاعًا مِقدامًا وله همَّةٌ عالية وهيبة، ووقْعٌ في النُّفوسِ، وكان مملوكًا للحسن بن سهل الوزير، وكان يُحمَّق ويجهَّل في رأيه، أسهم في اغتيالِ الخليفة المتوكِّل، ثم سيطر على الخليفة المستعين الذي لم يكُنْ له من الأمر شيءٌ غير الاسم، فغَلَب على المستعين هو ووصيفُ الأمير، حتى قيل: خليفةٌ في قفصٍ بين وصيف وبغا ** يقول ما قالا له كما يقولُ البَبَّغا. له عِدَّةُ فتوحات ووقائع، باشر الكثيرَ من الحروب فما جُرِح قط، وخلَّف أموالًا عظيمة، وكان بغا دَيِّنًا من بين الأتراك، وكان من غِلمانِ المعتصم، يشهد الحروبَ العظام، ويباشِرُها بنفسه، فيخرجُ منها سالِمًا، ويقول: الأجَلُ جوشن، مرض بغا الكبير في جمادى الآخرة فعاده المستعينُ في النصف منها، ومات بغا من يومِه عن سن ستين سنة، فعقد المستعين لموسى بن بغا على أعمالِه وعلى أعمالِ أبيه كلِّها، وولي ديوانَ البريد.
ابتنى أبو أحمد الموفَّق بن المتوكِّل مدينةً تجاه مدينة صاحب الزنج المختارة, وسمَّاها الموفَّقيَّة، وعظُمَ شأنُها، بناها أبو أحمد ليستعينَ بها على قتال صاحب الزنج، فأرسل إلى من يأتيه بآلاتِ الماء, ويبني فيها السفنَ والشذاءات, ويجلِبُ متاع البحر. وكان قد انقطع جلَبُ البحر منذ أكثَرَ من عشر سنين لإخافةِ الخبيث السُّبُلَ، وكتب بإثبات كلِّ من يصلُحُ للجنديَّةِ إلى عمَّاله في الأمصار، ورغَّب في ذلك، والمدينةُ الموفَّقيَّة تُبنى والكتُبُ تُنفَذ بما يَعمُرُها والتجَّار يجهِّزون إليها والأسواقُ تكثر وأقبلت إليها مراكِبُ البحر، وبنى أبو أحمد المسجدَ الجامع، فصارت مدينةً كبيرةً، وحُمِلَت إليها الأموالُ والعطاء في أوقاتِه، ورغب الناسُ في حلولها والمصيرِ إليها من كلِّ أَوْب, والخبيثُ يرصُدُ غِرَّةً يصيب فيها فرصَتَه من أبى أحمد، فلا يجدُ لِتَيقُّظِ النَّاسِ وتحارُسِهم، ولحفظ الموكَّلين بالمواضِعِ الضعيفةِ فيها.
خرج المعتضِدُ إلى المَوصِل، قاصدًا حَمدانَ بنَ حمدون التغلبيَّ؛ لأنَّه بلغه أنَّ حَمدانَ التَّغلِبيَّ مال إلى هارون الشاري الخارجي، ودعا له، فلمَّا بلغ الأعرابَ والأكرادَ مَسيرُ المعتَضِد تحالَفوا أنَّهم يُقاتِلونَ على دمٍ واحد، واجتمعوا وعَبَّوا عسكرَهم، وسار المعتضِدُ إليهم في خَيلِه، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرِقَ منهم في الزابِ خَلقٌ كثير. ثم تابع المعتَضِدُ سَيرَه إلى الموصل يريد قلعةَ ماردين، وكانت لحمدانَ بنِ حمدون، فهرب حمدانُ منها وخَلَّفَ ابنَه بها فنازلها المعتَضِد، وقاتل مَن فيها يومَه ذلك، فلما كان من الغدِ ركبَ المعتَضِدُ فصَعِد إلى باب القلعة، وصاح: يا ابنَ حَمدانَ, فأجابه، فقال له: افتَحِ الباب، ففَتَحه، فقعد المعتَضِدُ في الباب، وأمر بنقلِ ما في القلعةِ وهَدمِها، ثم وجه خلفَ ابنِ حمدون، وطُلِبَ أشدَّ الطَّلَبِ، وأُخِذَت أموالٌ له، ثم ظفرَ به المعتَضِد بعد عودتِه إلى بغدادَ.
مَلَكَ سبكتكين مدينةَ غزنة وأعمالَها، وكان ابتداءُ أمرِه أنَّه كان مِن غِلمانِ أبي إسحاقَ بنِ البتكين، صاحِبِ جيش غزنة للسامانية، وكان مقَدَّمًا عنده، وعليه مدارُ أمرِه، وقدِمَ إلى بُخارى، أيَّامَ الأمير منصور بن نوح، مع أبي إسحاق، فعَرَفَه أربابُ تلك الدولة بالعقلِ والعفَّة، وجودةِ الرأي والصَّرامة، وعاد معه إلى غزنة، فلم يلبثْ أبو إسحاق أن توفِّيَ، ولم يخَلِّفْ من أهلِه وأقاربه من يصلُحُ للتقَدُّم، فاجتمع عسكَرُه ونظروا فيمن يلي أمْرَهم، ويجمَعُ كَلِمتَهم، فاختلفوا ثمَّ اتَّفَقوا على سبكتكين؛ لِما عَرَفوه من عقلِه ودينِه ومروءتِه، وكمالِ خِلالِ الخير فيه، فقَدَّموه عليهم، ووَلَّوه أمرَهم، وأطاعوه فوَلِيَهم، وأحسَنَ السِّيرةَ فيهم، وساس أمورَهم سياسةً حَسَنةً، وجعل نفسَه كأحدِهم في الحالِ والمال، وكان يدَّخِرُ من إقطاعِه ما يعمَلُ منه طعامًا لهم في كلِّ أُسبوعٍ مَرَّتين.
وَصلَ أَصحابُ السُّلطان طُغرُلبك إلى فارس، وبلغوا إلى شيراز، ونزلوا بالبَيضاءَ، واجتمع معهم العادلُ أبو منصور الذي كان وزيرَ المَلِكِ أبي كاليجار، ودَبَّرَ أَمرَهم، فقَبَضوا عليه وأخذوا منه ثلاثَ قِلاعٍ، وهي: قَلعةُ كَبْزَة، وقَلعةُ جُوَيْم، وقَلعةُ بَهَنْدَر، فأقاموا بها، وسار مِن الغُزِّ نحو مائتي رَجُلٍ إلى الأَميرِ أبي سعدٍ، أخي المَلِكِ الرَّحيم، وصاروا معه، وراسَل أبو سعدٍ الذي بالقِلاعِ المذكورةِ، فاستَمالَهم فأطاعوه وسَلَّموهُ القِلاعَ، إليه وصاروا في خِدمتهِ، واجتمع العَسكرُ الشيرازي، وعليهم الظَّهيرُ أبو نَصرٍ، وأوقعوا بالغُزِّ ببابِ شيراز، فانهزم الغُزُّ، وأُسِرَ تاجُ الدِّين نَصرُ بن هبة الله بن أحمد، وكان من المُقَدَّمين عند الغُزِّ، فلمَّا انهزم الغُزُّ سار العَسكرُ الشيرازي إلى فَسا، وكان قد تَغلَّب عليها بعضُ السَّفِل، وقَوِيَ أَمرُه لاشتغالِ العَساكرِ بالغُزِّ، فأزالوا المُتَغَلِّب عليها واستَعادُوها.
أُلْزِمَ الرَّوافِضُ بِتَركِ الأذانِ بحَيّ على خَيرِ العَملِ، وأُمِروا أن يُنادِي مُؤذِّنُهم في أذانِ الصُّبحِ، وبعدَ حَيَّ على الفَلاحِ: الصَّلاةُ خَيرٌ مِن النَّوْم. مَرَّتينِ، وأُزِيلَ ما كان على أَبوابِ المساجدِ ومَساجِدِهم مِن كتابة: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشرِ. ودَخلَ المُنشِدونَ من بابِ البَصرَةِ إلى بابِ الكَرخِ، يُنشِدونَ بالقَصائدِ التي فيها مَدحُ الصَّحابَةِ، وذلك أنَّ نَجْمَ الرَّافِضَة اضْمَحَلَّ، لأنَّ بني بُويه كانوا حُكَّامًا، وكانوا يُقَوُّونَهُم ويَنصُرونَهُم، فزالوا وبادوا، وذَهبَت دَولتُهم، وجاء بَعدَهم قَومٌ آخرون مِن الأَتراكِ السَّلجوقِيَّة الذين يُحِبُّونَ أَهلَ السُّنَّةِ ويُوالونَهُم ويَرفَعون قَدرَهُم، واللهُ المَحمودُ أبدًا على طُولِ المَدَى. وأَمَرَ رَئيسُ الرُّؤساءِ الوالي بِقَتلِ أبي عبدِ الله بن الجَلَّابِ شَيخِ الرَّوافِض، لِمَا كان تَظاهَر به من الرَّفْضِ والغُلُوِّ فيه، فقُتِلَ على بابِ دُكَّانِه، وهَرَب أبو جَعفرٍ الطُّوسيُّ ونُهِبَت دارُه.
كان أصحابُ حمص أولادُ الأمير خيرخان بن قراجا، والوالي بها مِن قبلِهم، قد ضَجِروا من كثرةِ تعَرُّضِ عَسكَرِ عماد الدين زنكي إليها وإلى أعمالِها، وتَضييقِهم على مَن بها مِن جُنديٍّ وعامِّيٍّ، فراسلوا شهابَ الدين محمود بن تاج الملوك بوري صاحب دمشقَ في أن يُسَلِّموها إليه، ويُعطيهم عِوضًا عنها تَدمُر، فأجابهم إلى ذلك، وسار إليها وتسَلَّمَها منهم، وسَلَّمَ إليهم تَدمُر، وأقطع حِمصَ مَملوكَ جَدِّه معين الدين أنر، وجعل فيها نائبًا عنه ممَّن يثق به من أعيانِ أصحابِه، وعاد عنها إلى دِمشقَ. فلمَّا رأى عسكرَ زنكي الذين بحَلَب وحماة خروجَ حِمص عن أيديهم تابَعوا الغاراتِ إلى بلَدِها والنَّهبَ له، والاستيلاءَ على كثيرٍ منه، فجرى بينهم عِدَّةُ وقائع، وأرسل شهابُ الدين إلى زنكي في المعنى واستقرَّ الصُّلح بينهم، وكفَّ كُلٌّ منهم عن صاحِبِه.
وَقعَ في استراباذ -جرجان حاليا، شمال إيران- فِتنةٌ عَظيمةٌ بين العَلَوِيِّين ومَن يَتبَعُهم مِن الشِّيعَةِ وبين الشافعيَّةِ ومَن معهم، وكان سَببُها أن الإمامَ محمدًا الهَرويَّ وَصلَ إلى استراباذ، فعَقَدَ مَجلِسَ الوَعظِ، وكان قاضِيَها أبو نصرٍ سعدُ بن محمدِ بن إسماعيلَ النعيميُّ شافعيُّ المَذهَبِ أيضًا فثار العَلَوِيِّون ومَن يَتبَعُهم مِن الشِّيعَةِ بالشافعيَّةِ ومَن يَتبَعُهم باستراباذ، ووَقَعَت بين الطائِفَتينِ فِتنةٌ عَظيمةٌ انتَصرَ فيها العَلَوِيُّون، فقُتِلَ من الشافعيَّةِ جَماعةٌ، وضُرِبَ القاضي ونُهِبَت دارُه ودُورُ مَن معه، وجَرَى عليهم من الأُمورِ الشَّنيعةِ ما لا حَدَّ عليه، فسَمِعَ شاه مازندران الخَبرَ فاستَعظَمَهُ، وأَنكَرَ على العَلَوِيِّين فِعْلَهم، وبالَغَ في الإنكارِ مع أنه شَديدُ التَّشَيُّعِ، وقَطَعَ عنهم جِراياتٍ كانت لهم، ووَضَعَ الجِباياتِ والمُصادَراتِ على العامَّةِ، فتَفَرَّقَ كَثيرٌ منهم وعادَ القاضي إلى مَنصِبِه وسَكَنَت الفِتنةُ.