فارق السُّلطانُ مَسعودًا جماعةٌ مِن أكابِرِ الأمراءِ، وهم من أذربيجان: إيلدكر المسعودي، صاحِبُ كنجة وأرانية، وقيصر، ومن الجبل: البقش كون خر، وتتر الحاجب، وهو من مماليك مسعود أيضًا، وطرنطاي المحمودي، شحنة واسط، والدكز، وقرقوب وابن طغايرك، وكان سَبَبُ ذلك مَيلَ السُّلطانِ إلى خاص بك واطِّراحَه لهم، فخافوا أن يَفعَلَ بهم مِثلَ فِعلِه بعبدِ الرَّحمنِ وعَبَّاس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق، ووصل إليهم عليُّ بن دبيس صاحِبُ الحلة، فنزل بالجانب الغربيِّ، فجند الخليفةُ أجنادًا يحتمي بهم، ووقع القتالُ بين الأمراء وبين عامَّةِ بغداد ومَن بها مِن العَسكَرِ، واقتتلوا عِدَّةَ دَفعاتٍ، ففي بَعضِ الأيَّامِ انهزَمَ الأمراءُ الأعاجِمُ مِن عامَّةِ بغدادَ مَكرًا وخَديعةً، وتَبِعَهم العامة، فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بَعضُ العسكَرِ مِن ورائهم، ووضعوا السَّيفَ فقُتِلَ مِن العامَّةِ خَلقٌ كثير، ولم يُبقُوا على صغيرٍ ولا كبيرٍ، وفَتَكوا فيهم، فأصيبَ أهلُ بغداد بما لم يصابوا بمِثلِه، وكَثُرَ القتلى والجرحى، وأُسِرَ منهم خلقٌ كثيرٌ، فقُتِلَ البعضُ وشُهر البَعضُ، ودفَنَ النَّاسُ مَن عرفوا، ومَن لم يُعرَفْ تُرِكَ طريحًا بالصَّحراءِ، وتفَرَّقَ العَسكَرُ في المحالِّ الغربية، فأخذوا مِن أهلِها الأموالَ الكثيرة، ونهَبوا بلدَ دجيل وغيره، وأخذوا النِّساءَ والولدان، ثمَّ إن الأمراءَ اجتَمَعوا ونزلوا مقابِلَ التاج وقَبَّلوا الأرضَ واعتَذروا، وتَردَّدَت الرُّسُلُ بينهم وبين الخليفةِ إلى آخِرِ النَّهارِ، وعادوا إلى خيامِهم، ورَحَلوا إلى النهروان، فنَهَبوا البلادَ، وأفسَدوا فيها، وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد، ثمَّ إنَّ هؤلاء الأمراءَ تفَرَّقوا وفارَقوا العراقَ، وتوفِّيَ الأميرُ قيصر بأذربيجان، هذا كُلُّه والسُّلطانُ مَسعود مُقيمٌ ببَلَدِ الجبل، والرسُلُ بينه وبين عَمِّه السُّلطان سنجر مُتَّصِلة، فسار السُّلطانُ سنجر إلى الريِّ، فلَمَّا عَلِمَ السُّلطان مسعود بوصولِه سار إليه وترَضَّاه، واستنزله عمَّا في نَفسِه فسَكَنَ. وكان اجتماعُهما سنة 544.
خرج السلطانُ قلاوون من دمشق إلى طرابلس فنازلها، وقد قَدِمَ لنجدة أهلِها أربعة شوان- سفن حربية كبيرة- من جهةِ متمَلِّك قبرص، فوالى السلطانُ الرميَ بالمجانيق عليها والزَّحفِ والنُّقوب في الأسوار، حتى افتَتَحها عَنوةً في الساعة السابعة من يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر، بعدما أقام عليها أربعة وثلاثين يومًا، ونصب عليها تسعةَ عشر منجنيقًا، وعَمِلَ فيها ألف وخمسمائة نفسٍ من الحجَّارين الزرَّاقين- رُماة الرماح- وفرَّ أهلُها إلى جزيرة تجاه طرابلس، فخاض الناس فرسانًا ورجالًا وأسَرُوهم وقتلوهم وغَنِموا ما معهم، وظَفِرَ الغلمان والأوشاقية- مسؤولو ركوب السلطان للأحصنة للمتعة والرياضة- بكثيرٍ منهم كانوا قد ركبوا البحرَ فألقاهم الريحُ بالساحل، وكَثُرت الأسرى حتى صار إلى زردخاناه السلطان ألف ومائتا أسير، واستشهد من المسلمين الأميرُ عِزُّ الدين معن، والأميرُ ركن الدين منكورس الفارقاني، وخمسة وخمسون من رجال الحلقة، وأمر السلطان بمدينة طرابلس فهُدِمت، وكان عرض سورها يمرُّ عليه ثلاثةُ فرسان بالخيل، ولأهلها سعاداتٌ جليلة منها أربعة آلاف نول قزازاة، وأقر السلطان بلدةَ حبيل مع صاحِبِها على مالٍ أخذه منه، وأخذ بيروت وجبلة وما حولها من الحصون، وعاد السلطانُ إلى دمشق في نصف جمادى الأولى، ثم عمر المسلمون مدينة بجوار النهر فصارت مدينة جليلة، وهي التي تعرف اليوم بطرابلس، وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة 503 إلى هذا التاريخ، وقد كانت قبل ذلك في أيدي المسلمين من زمان معاوية، فقد فتحها سفيانُ بن نجيب لمعاوية، فأسكنها معاويةُ اليهود، ثم كان عبدُ الملك بن مروان جدَّدَ عِمارَتَها وحَصَّنَها وأسكنها المسلمين، وصارت آمنةً عامرة مطمئنة، وبها ثمارُ الشام ومصر، فإنَّ بها الجوز والموز والثلج والقصب، والمياه جارية فيها تصعدُ إلى أماكِنَ عالية، وقد كانت قبل ذلك ثلاثَ مدن متقاربةً، ثم صارت بلدًا واحدًا، ثم حُوِّلت من موضعها ثمَّ أمر السلطان الملك المنصور قلاوون أن تهَدَّمَ البلد بما فيها من العمائِرِ والدور والأسوار الحصينة التي كانت عليها، وأن يبنى على ميل منها بلدةٌ غيرُها أمكَنُ منها وأحسَنُ، ففعل ذلك، فهي هذه البلدة التي يقال لها طرابلس.
ورد الخبَرُ بأن متمَلِّكَ قُبرُص اتَّفق مع جماعة من ملوك الفرنج على عمارةِ ستين سفينة لغزو دمياط، فجمع السلطانُ الناصر بن قلاوون الأمراءَ وشاوَرَهم، فاتَّفَقوا على عمل جسرٍ مادٍّ مِن القاهرة إلى دمياط خوفًا من نزولِ الفرنج أيَّامَ النيل، وندب لذلك الأمير جمال الدين أقوش الرومي الحسامي، وأمر ألا يراعي أحدًا من الأمراءِ في تأخيرِ رجالِ بلاده، ورسَمَ للأمراء أن يُخرِجَ كُلٌّ منهم الرجالَ والأبقار، وكتب إلى الولاةِ بالمساعدة والعمل، وأن يخرُجَ كُلُّ والٍ برِجاله، وكان أقوش مَهيبًا عبوسًا قليلَ الكلام، له حُرمةٌ في قلوب الناس، فلم يصل إلى فارس كور حتى وجد ولاةَ العَمَل قد نصبوا الخِيَم وأحضروا الرجالَ، فاستدعى المهندسينَ ورَتَّب العمل، فاستقَرَّ الحال على ثلاثمائة جرَّافة بستمائة رأس بقر وثلاثين ألف رجل، وأحضر إليه نوَّابُ جميع الأمراء، فكان يركب دائمًا لتفقُّد العمل واستحثاث الرِّجال، بحيث إنَّه فقد بعضَ الأيام شادي الأمير بدر الدين الفتاح ورجالَه، فلما أتاه بعد طَلَبِه ضَرَبه نحو الخمسمائة عصاةً، فلم يغِبْ عنه بعد ذلك أحَدٌ، ونكَّلَ بكثيرٍ مِن مشايخ العربان، وضَرَبهم بالمقارعِ وخَزَم آنافَهم وقطَعَ آذانهم، ولم يكَدْ يسلَمُ منه أحد من أجناد الأمراءِ ومنشدي البلاد، وما زال يجتَهِدُ في العمل حتى أُنجِزَ الجسر في أقَلَّ مِن شهر، وكان ابتداؤُه من قليوب وآخره بدمياط، يسيرُ عليه الراكِبُ يومين، وعَرضُه من أعلاه أربعُ قَصَبات، ومن أسفَلِه ستُّ قصبات، يمشي ستة فرسان صَفًّا واحدًا، وعَمَّ النفع به، فإنَّ النيل كان في أيام الزيادة يعلو حتى تنقَطِعَ الطُّرُقاتُ ويمتَنِعَ الوصول إلى دمياط، وحضَرَ بعد فراغه الأميرُ أقوش إلى القاهرة، وخُلِعَ عليه وشُكِرَت هِمَّتُه، ووقع الاتفاقُ على عمل جسر آخَرَ بطريق الإسكندرية، ونُدِبَ لعمله الأمير سيف الدين الحرمكي، فعمر قناطِرَ الجيزة إلى آخر الرمل تحت الهَرَمين، وكانت تهَدَّمت، فعم النفعُ بعمارتِها.
في رابع عشر شهر صفر قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق، وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام عوضا عن تنبك، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجمعة رابِعَه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السِّرِّ، وقد لبس السلاحَ في جمع من مماليكه، فثار إليه الأمراءُ واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد، ثم خرج تنبك البجاسي من دمشق بعد محاربته الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة الحادي عشر، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسرَ، فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت الثاني عشر يترامَون نهارهم كلَّه حتى حجز الليلُ بينهم، فباتوا ليلةَ الأحد على تعبيتهم، وأصبح تنبك يوم الأحد الثالث عشر راحلًا إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقويةً له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس، وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء السادس عشر، فتمكن من القلعة، فللحال أدركهم تنبك وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربةٍ أصابت كَتِفَه حتى خلعته، فتكاثروا عليه وجروه إلى القلعة ومعه نحو عشرين من أصحابه، وكُتِبَ بذلك للسلطان، فقَدِمَ الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرين، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأُحضِرَت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدُقَّت البشائر، وكُتِبَ بقتله وحَمْل رأسه إلي مصر، وتتبُّع من كان معه، وبطلت حركةُ السَّفَرِ.
هو أبو جعفر "المنتصر بالله" محمد بن جعفر المتوكِّل، وأمُّه أمُّ ولدٍ روميَّةٌ اسمُها حبشية. وكان أعينَ أسمَرَ أقنى, مليحَ الوجهِ, رَبْعةً, كبيرَ البطن, مَهيبًا، لَمَّا قُتِل أبوه دخل عليه التُّركُ ومعهم قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، فقال له: بايِعْ. قال: وأين أمير المؤمنين؟ -يعني: المتوكِّل- قال: قتله الفتحُ بن خاقان. قال: وأين الفتح? قال: قتله بغا, فبايعه القاضي ثم الوزير وكبار قادة الترك, ثم تحوَّل من الجعفري إلى سامراء، وولَّى وزارتَه أحمد بن الخصيب, وأراد المعتزُّ أن يمتنِعَ من البيعة للمنتصر، فقال له بغا الشرابي: أخوك محمَّد أقدمَ على قتلِ أبيك، وأخافُ أن يقتُلَك فبايِعْ، فبايَعَه. ثم صالحَ المنتصِرُ إخوتَه عن ميراثهم على أربعةَ عشر ألفَ ألفِ درهم، ونفى عمَّه عليًّا إلى بغداد، ورسم عليه, وكان المنتصِرُ وافر العقل, راغبًا في الخير, قليلَ الظُّلم. على الرَّغمِ مِن أنَّ المنتصِرَ كان قد تمالأ مع الأتراكِ على قتل أبيه المتوكِّل عندما قرَّرَ أن يعزِلَه من ولاية العهد ويولِّيَها أخاه المعتَزَّ، إلَّا أن المنتصرَ كان يقول: يا بغا أين أبي? من قتَلَ أبي?! ويسُبُّ الأتراك، ويقول: هؤلاء قتَلَة الخلفاء، فقال بغا الصغيرُ للذين قتَلوا المتوكِّل: ما لكم عند هذا رِزقٌ، فعَمدوا عليه وهَمُّوا، فعَجَزوا عنه؛ لأنَّه كان شجاعًا مَهيبًا يَقِظًا متحرِّزًا، فتحَيَّلوا عليه إلى أن دسُّوا إلى طبيبِه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار عند مَرَضِه، فأشار بفَصدِه, ثمَّ فصَدَه بريشةٍ مَسمومةٍ، فمات منها, وكانت مُدَّةُ خلافته ستةَ أشهُر، ثم تولَّى الخلافةَ بعده أبو العباس "المستعين بالله" أحمد بن محمد المعتصِم.
ظهر بالشامِ رجلٌ مِن القرامطة، وجمع جموعًا من الأعرابِ، وأتى دمشق، وأميرها طغج بن جف من قِبَل هارون بن خِمارَوَيه بن أحمد بن طولون، وكانت بينهما وقَعاتٌ، وكان ابتداءُ حال هذا القرمطيِّ أنَّ زكرَوَيه بن مهرَوَيه الداعية القرمطي الذي بدأ أمرُه في العراق هذا لَمَّا رأى أنَّ الجيوشَ مِن المعتَضِد متتابِعةٌ إلى مَن بسواد الكوفةِ مِن القرامطة، فإنَّ القتلَ قد أبادهم، سعى باستغواءِ مَن قَرُب من الكوفة من الأعرابِ: أسَد وطيئ وغيرهم، فلم يجِبْه منهم أحد، فأرسل أولادَه إلى كلب بن وبرة فاستغوَوهم، فلم يجِبْهم منهم إلَّا الفَخذُ المعروف ببني العليص بن ضمضَم بن عدِيِّ بن خباب ومواليهم خاصةً، فبايعوا في هذه السَّنة، بناحية السماوة، ابنَ زكرَوَيه، المسمَّى بيحيى، المُكنَّى أبا القاسم، فلقبوه الشيخ، وزعم أنَّه محمَّد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقيل: لم يكن لمحمَّد بنِ إسماعيل ولدٌ اسمه عبد الله، وزعم أنَّ له بالبلاد مائة ألفِ تابعٍ، وأنَّ ناقتَه التي يركَبُها مأمورةٌ، فإذا تبعوها في مسيرِها نُصِروا، وأظهَرَ عَضُدًا له ناقصة، وذكَرَ أنَّها آيتُه، وأتاه جماعةٌ من بني الأصبع، أخلصوا له وتَسَمَّوا بالفاطميين، ودانُوا بدينه، فقصدهم شبلٌ غلامُ المعتَضِد من ناحية الرصافة فاغتَرُّوه فقتلوه، وأحرقوا مسجِدَ الرصافة، واعتَرَضوا كلَّ قرية اجتازوا بها حتى بلغوا هارونَ بنَ خمارَوَيه التي قوطِعَ عليها طغج بن جف، فأكثَروا القتلَ بها والغارة، فقاتَلَهم طغج، فهزموه غيرَ مَرَّة.
كان أوَّلَ مَن مَلَك البطيحةَ أو البطائح- تقَعُ بين واسِطَ والبصرةِ- عِمرانُ بنُ شاهينَ، أصلُه من الجامدة (من أعمالِ واسط) مجهولُ النَّسَبِ، سواديُّ المنشأِ، ينتَسِبُ إلى بني سُلَيم, كان عليه دِماءٌ فهَرَب إلى البطيحة, واحتمى بالآجامِ, يتصَيَّدُ السَّمَك والطَّيرَ, فرافقه صيَّادون, ثمَّ التَفَّ عليه لصوصٌ, ثمَّ استفحَلَ أمرُه, وكَثُرَ جَمعُه, فأنشأ معاقِلَ وتمَكَّنَ مِن البطيحة, فحارَبَه مُعِزُّ الدَّولة ثمَّ ابنُه عِزُّ الدَّولة غيرَ مَرَّة, ولم يظفروا به، وعجَزَ وُزَراءُ وقُوَّادُ بغداد عن إزالتِه عنها إلى أن مات على فراشِه سنة 369, وامتَدَّت دولتُه بعده أربعينَ سَنةً، حيث تعاقَبَ أولادُه بَعدَه على حُكمِ البطيحةِ، وفي هذه السَّنَةِ توُفِّيَ مُهَذَّب الدَّولة أبو الحَسَن عليُّ بنُ نصر آخِرُ حُكَّام دولة البطيحة، ثمَّ إنَّ ابنَ أخت مُهَذَّب الدَّولة، وهو أبو محمَّد عبدُ اللهِ بنُ يني، استدعى الديلمَ والأتراكَ، ورَغَّبَهم ووعَدَهم، واستحلَفَهم لنَفسِه، واتَّفَق معهم على تنحيةِ ولَدِ مُهَذَّب الدَّولة فقاموا بأخْذِه وحَبْسِه عند أبي محمَّدٍ، وولي الأمرَ أبو مُحمَّد، وتسَلَّمَ الأموالَ والبَلَد، وأمَرَ بضَربِ أبي الحُسَينِ بنِ مُهَذَّب الدَّولة، فضُرِبَ ضربًا شديدًا توفِّيَ منه بعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن موتِ أبيه، وبَقِيَ أبو محمَّد أميرًا إلى مُنتَصَف شعبان، وتوفِّيَ بالذبحة، فكان مُلكُه أقلَّ مِن ثلاثةِ أشهُرٍ، فلمَّا توفِّيَ اتَّفَق جماعةٌ على تأميرِ أبي عبدِ اللهِ الحُسَينِ بنِ بكرٍ الشرابي، وكان من خواصِّ مُهَذَّبِ الدَّولة، فصار أميرَ البطيحة، وبَذَل للمَلِكِ سُلطانِ الدَّولةِ بُذولًا، فأقَرَّه عليها, فآلت تلك البِلادُ بعد ذلك إلى سُلطانِ الدَّولةِ صاحِبِ بغداد.
هو العلَّامة الأوحَدُ، أبو عبدِ اللهِ جمالُ الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني الأندلسي الشافعي النحوي، نزيلُ دمشق. ولد بجيَّان في الأندلس سنة 600 وأقام بحَلَب مدة، ثم بدمشق، أخذَ العربية عن غير واحد، وجالس بحلب ابن عمرون وغيره. وتصدر بحَلَب لإقراء العربية وصَرَف همَّتَه إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغايةَ، وحاز قَصَب السبق، وأربى على المتقدِّمين, وهو صاحب الألفية المشهورة (ألفية بن مالك) التي شرحها وَلَدُه بدر الدين شرحًا مفيدًا، وكان كثير الاجتماع بابنِ خَلِّكان وأثنى عليه غيرُ واحد، كان إمامًا في اللغة والنحو والقراءات وعِلَلِها، صَنَّف فيها قصيدة دالية مرموزة في مقدار "الشاطبية"، وأما اللغة فكان إليه المنتهى في الإكثارِ مِن نَقلِ غَريبِها والاطلاعِ على وَحشِيِّها، وأما النحو والتصريف فكان فيه بحرًا لا يجارى وحَبرًا لا يُبارى، وأما أشعار العرب التي يُستشهَدُ بها على اللغة والنحو فكانت الأئمَّة الأعلام يتحيَّرون فيه ويتعجبون من أين يأتي بها، وكان نظمُ الشِّعرِ سَهلًا عليه، رَجَزُه وطويلُه وبسيطُه وغير ذلك، هذا مع ما هو عليه من الدِّينِ المتين وصِدقِ اللهجة وكثرة النوافِلِ، وحُسنِ السَّمتِ، ورقة القلبِ، وكمال العقل والوقار والتؤَدة. أقام بدمشقَ مدة يصنِّف ويشغل. وتصدر بالتربة العادلية وبالجامع المعمور، وتخرج به جماعة كثيرة. وله تصانيفُ مشهورة المفيدة، منها الكافية الشافية وشرحها وهي في ثلاثة آلاف بيت، تسهيل الفوائد في النحو وشرحه، وسبك المنظوم وفك المختوم، وله تحفة المودود في المقصور والممدود، ولامية الأفعال، وغيرها، توفي ابن مالك بدمشق ليلة الأربعاء ثاني عشر رمضان، وقد نيف على التسعين، ودفن بتربة القاضي عز الدين بن الصائغ بقاسيون.
هو الشريف أبو الحسن علي بن عجلان بن رميثة، واسمُ رُميثة منجد بن أبي نمي بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله المحض بن موسى بن الحسن السبط بن الحسن بن علي بن أبي طالب المكي الحسني، أمير مكة المشرفة، وَلِيَها ثماني سنين ونحو ثلاثة أشهر مستقلًّا بالإمارة، غير سنتين أو نحوهما؛ فإنه كان فيهما شريكًا لِعَنان بن مغامس بن رميثة، ووقع له أمورٌ بمكة مع الأشراف ووقائع، وآخِرَ الأمر توجَّه أخوه الشريف حسن بن عجلان إلى القاهرة يريد إمرة مكة، فقبض عليه السلطان وحبسه، وبعث إلى أخيه علي هذا باستمراره على إمرة مكة، فاستمَرَّ على إمرتها إلى أن وقع بينه وبين بعض القوَّاد، وخرج إليهم عليٌّ، فبدره بعضُهم وسايرَه وهو راكب على راحلته، والشريف عليٌّ على الفرس، فرمى القائد بنفسه على الشريف عليٌّ وضربَه بجنبية كانت معه، فوقعا جميعًا على الأرض، فوثب عليه عليٌّ وضربه بالسيف ضربةً كاد منها يهلك، وولى عليٌّ راجعًا إلى الحلة، فأغرى به شخصٌ يقال له أبو نمي غلام لصهره حازم بن عبد الكريم جنديًّا، وعتبة وحمزة وقاسمًا، فوثبوا عليه وقتلوه وقطَّعوه وبعثوا به إلى مكة، فدُفِن بالمعلَّاة مع أبيه عجلان، وكان قتلُه يوم الأربعاء سابع شوال، ووَلِيَ إمرة مكة بعده أخوه حسن بن عجلان.
أعلن الكاردينال "خيمينيث" أن المعاهدة التي تم توقيعُها مع حكام غرناطة قبل مائة سنة والتي عقدت عام 879 لم تعُدْ صالحة أو موجودة، وأعطى أوامرَه بتنصير جميع المسلمين في غرناطة دون الأخذ برأيهم، أو حتى تتاح لهم فرصةُ التعرف إلى الدين الجديد الذي يساقون إليه، ومن يرفُض منهم عليه أن يختار أحد أمرين: 1- إما أن يغادر غرناطة إلى إفريقيا دون أن يحمل معه أي شيء من أمواله، ودون راحلةٍ يركبها هو أو أحد أفراد أسرته من النساء والأطفال، وتُصادَر أمواله. 2- وإما أن يُعدَمَ علنًا في ساحات غرناطة باعتباره رافضًا للنصرانية, فكان من الطبيعي أن يختار عدد كبير من أهالي غرناطة الهجرةَ بدينهم وعقائدهم، فخرج قسمٌ منهم تاركين أموالهم سيرًا على الأقدام، غيرَ عابئين بمشاقِّ الطرقات، ومجاهِلِ وأخطار السفر إلى إفريقيا من دون مال أو راحلة، في مشهد يشبه هجرة الصحابةِ رضي الله عنهم إلى الحبشة! وبعد خروجِهم من غرناطة كانت تنتظرُهم عصابات الرعاع الإسبانية والجنود الإسبان، فهاجموهم وقتلوا معظمَهم، وعندما سمع الآخرون في غرناطة بذلك آثروا البقاء بعد أن أدركوا أنَّ خروجهم من إسبانيا يعني قتْلَهم، وبالتالي سيقوا في قوافِلَ للتنصير والتعميد كُرهًا! ومن كان يكتشفُه الإسبان أنه قد تهرَّب من التعميد تتمُّ مصادرة أمواله وقتله علنًا! وقد فرَّ عدد كبير من المسلمين الذين رفضوا التعميدَ إلى الجبال المحيطة في غرناطة محتمين في مغاورها وشعابها الوعرة، وأقاموا فيها لفترات، وأنشؤوا قرى عربية مسلمة، وكان الملكُ الإسباني يُشرفُ بنفسه على الحملات العسكرية الكبيرة التي كان يوجِّهها إلى الجبال؛ حيث كانت تلك القرى تُهدَمُ ويُساق أهلُها إلى الحرق أو التمثيل بهم وهم أحياء، في الساحات العامة في غرناطة- رحمهم الله رحمة واسعة، وجعلهم في عِداد الشهداء.
هو السُّلطانُ العثماني مرادُ الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني. ولِدَ سنة 951. قال عبد الملك العصامي المكي: "نشأ مرادٌ في ظِلِّ والده وجَدِّه على مهاد العِزِّ والسلطان في حجرِ الخلافةِ، راضعًا ثديَ العلم والعرفان، ولم تُعلَم له صبوةٌ مع توفُّرِ دواعيها، ولم يتناول شيئًا من المحرَّمات، بل ولا مِن المكروهات؛ فهو منذ ترعرع في شبابه صانه اللهُ عن المحاربة والمخاصمة الناشئة عن حظوظِ النفسِ وحبِّ الرئاسة، واستعمل نفسَه في العلم والعمل، ثم في الاستعداد للخلافة الإسلاميةِ، مع كمال النزاهة والعفَّة والنفاسة، ومنها أنَّ طريقته في الملبس والمأكل والمشرب والمركب طريقةُ الصالحين والزهَّاد ما عدا ما فيه خَلَل لنظام المُلك أو ضرر للعباد، وكان جلوسُه على تخت الخلافة الإسلامية في ثامِنِ شهر رمضان في اليوم الذي توفِّي أبوه فيه من عام 982، فجلس جلوسًا جامعًا لفضل الزمان والمكان، ومنحه الله تعالى من كثرة الخَراجِ والخزائن والعساكر ما لم يجمَعْه أحدٌ من أسلافه الأكابر، فإذا عزم على فتحِ أعظمِ الممالك جهَّزَ شرذمةً من عساكره المنصورة، ففتح كلَّ صعبِ المسالك، ومن النعمة العظمى إتمامُ عمارة المسجد الحرامِ الذي بُدئ بترميمِه في زمان جَدِّه السلطان سليمان سنة 980 وتمام التعمير في زمانه" توفِّيَ مراد الثالث عن عمر يناهز 49 عامًا، ودفن في فناء أيا صوفيا، فكانت مدةُ حكمه عشرين سنة وثمانية أشهر، ثم تولى بعده ابنُه محمد الثالث الذي جلس على سرير السلطنة بعد وفاة والده باثني عشر يومًا؛ لأنَّه كان مقيمًا في مغنيسا.
وُلد الشيخُ العلَّامةُ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمَع الفقه الإسلامي الدولي، وعضوُ هيئة كبار العلماء، وعضوُ اللجنة الدائمة للإفتاء السابقُ، في عالية نجدٍ، عامَ 1365 هـ. درس الشيخُ في المعهد العلمي، ثم في كلية الشريعة، حتى تخرَّج فيها عامَ 1388هـ، وفي عام 1384هـ انتقَلَ إلى المدينة النبوية، فعمِلَ أمينًا للمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية، وكان بجانب دراسته النظامية يُلازمُ حِلَقَ عددٍ من المشايخ في الرياض، ومكَّةَ المكرَّمَة، والمدينة المنورة، وفي عام 1399 هـ / 1400 هـ درسَ في المعهد العالي للقضاء مُنتسبًا، فنال شهادةَ العالِميةَ (الماجستير)، وفي عام 1403 هـ تحصَّلَ على شهادةِ العالِميةِ العالية (الدكتوراه)، وقد تلقَّى العلمَ على عدد من أهل العلمِ منهم الشيخُ صالح بن مطلق، والشيخُ ابنُ باز، ولازَمَ الشيخَ محمد الأمين الشنقيطي نحوَ عَشْرِ سنينَ، وشغَلَ الشيخُ -رحمه الله- وظائف عدةً منها: ولايةُ القضاء بالمدينة النبوية، وعُيِّن إمامًا وخطيبًا في المسجد النبوي حتى مطلعِ عامِ 1396 هـ، وفي عام 1400 هـ اختير وكيلًا عامًّا لوزارة العدل حتى نهاية عامِ 1412 هـ، ثم عضوًا في لجنة الفتوى، وهيئة كبار العلماء، وفي عام 1405هـ عُيِّن ممثلًا للمملكة في مجمَع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمرِ الإسلاميِّ، واختير رئيسًا للمجمَعِ، وفي عامِ 1406هـ عُيِّن عضوًا في المجمَع الفقهي برابطةِ العالمِ الإسلاميِّ، وكانت له في أثناء ذلك مشاركةٌ في عددٍ من اللجان والمؤتمرات داخلَ المملكة وخارجَها، ودرَّسَ في المعهد العالي للقضاء، وفي الدراسات العُليا في كلية الشريعة بالرياض، والشيخ له العديدُ من المصنَّفاتِ النافعة منها: ((المدخل المفصل))، ((فقه النوازل))، ((التقريب لعلوم ابن القَيِّم))، ((معجم المناهي اللفظية)) وغيرها.
سيَّرَ عبدُ الرحمن بن الحَكَم عبدَ اللهِ المعروفَ بابنِ البَلنسيِّ إلى بلادِ العَدُوِّ، فوصلوا إلى "ألبة" والقلاعِ، فخرج المشركونَ إليه في جَمعِهم، وكان بينهم حربٌ شديدة وقتالٌ عظيم، فانهزم المشركونَ، وقُتلَ منهم ما لا يُحصى، وجُمِعَت الرؤوس أكداسًا، وفي هذه السنة أيضًا خرج لذريق في عسكَرِه، وأراد الغارةَ على مدينةِ سالم من الأندلس، فسار إليه عبدُ الرحمن بن الحَكَم فوتون بن موسى في عسكَرٍ جرار، فلَقِيَه وقاتَلَه، فانهزم لذريقُ وكَثُر القتلُ في عسكَرِه، وسار فوتون إلى الحصنِ الذي كان بناه أهلُ ألبة بإزاء ثُغورِ المسلمين، فحَصَره، وافتَتَحه وهَدَمه.
حاصرَ أحمدُ بن طولون نائِبُ الدِّيارِ المصريةِ مدينةَ أنطاكيةَ وفيها سيما الطويلُ، فأخذها منه وجاءته هدايا مَلِكُ الروم، وفي جُملتِها أُسارى من أُسارى المسلمين، ومع كلِّ أسيرٍ مُصحَفٌ، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس، الذي كان عامِلَ الثغورِ، فاجتمع لأحمد بن طولون مُلكُ الشَّامِ بكمالِه مع الدِّيارِ المصريةِ؛ لأنَّه لَمَّا مات نائِبُ دمشق أماخور ركِبَ ابنُ طولون من مصرَ فتلقَّاه ابن أماخور إلى الرملة، فأقَرَّه عليها، وسار إلى دمشق فدخَلَها، ثمَّ إلى حمص فتسَلَّمَها، ثمَّ إلى حلب فأخذها، ثم أكملَ ابنُ طولون استيلاءَه على الشام باستيلائِه على أنطاكية.
احتَرَق مسجِدُ سامِرَّا المشهورُ بمِئذنتِه المُلتَوية، كما احتَرَق مَشهَدُ الحُسَينِ بنِ علي بكَربَلاءَ وأروقتُه، وكان سبَبُ ذلك أنَّ القومةَ أشعلوا شمعتينِ كَبيرتينِ، فمالتا في اللَّيلِ على التأزيرِ- الخشَبِ المُحيطِ بالشَّمعَتَينِ- ونَفِذَت النَّارُ منه إلى غيرِه حتى كان ما كان، ثمَّ بعد ذلك احتَرَقَت دارُ القطن ببغدادَ وأماكِنُ كثيرةٌ بباب البصرة، وفيها ورَدَ الخبَرُ بتشعيثِ الُّركنِ اليَمانيِّ من المسجِدِ الحرامِ، وسُقوطِ جِدارٍ بينَ يَدَي قَبرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمدينةِ، وأنَّه سَقَطَت القُبَّةُ الكبيرةُ على صَخرةِ بَيتِ المَقدِس، وهذا مِن أغرَبِ الاتِّفاقاتِ وأعجَبِها. العِبَر في خبَرِ مَن غَبَر (2/ 214)