ترأَّس محمد داود أفغانستان بانقلابٍ في 1393 هـ/ 1973م ضدَّ الشاه محمد ظاهر (وهو ابنُ عمِّ الشاه) وكانت ميولُ محمد داود للروس الذين أرادوا منه أن يخنقَ الدعوات الإسلامية في البلاد، ومن ثَم تستطيع الشيوعيةُ أن تنتشرَ فيها، وهذا ما حصل فعلًا في البدايةِ، ولكن لما رأى أن كفَّةَ الشيوعيِّين بدأت ترجحُ وأحسَّ من نفسه بالتبعية لها أرادَ أن يرجعَ عمَّا هو عليه، فبدأ بالتودُّد للدول الإسلامية، كالسعوديةِ وباكستانَ وليبيا، وألقى أيضًا القبضَ على كثير من الزعماءِ الشيوعيين، ومنهم محمد تراقي، وحفيظ الله أمين، وبابرك كارمل، ولكن هذا لم يُعجبِ الشيوعيِّين، وقبل أن يتابع ضرباتِه حدثَ الانقلابُ في 22 جمادى الأولى 1398هـ / 29 نيسان بقيادة "محمد غلاب زي" أحد قادةِ جناح خلق (حزب شيوعي) والعميدِ الشيوعيِّ عبد القادر، ضد الرئيس محمد داود وأُلقيَ القبض عليه وسلَّموا السلطة إلى زعيم حزب خلق: نور محمد تراقي، واحتفظ لنفسه برئاسة الحكومة، وجعل بابرك كارمل نائبه، وفي اليوم الأول من الانقلاب قُتِل أكثر من 15 ألفَ نفس، وقُتِل الرئيس محمد داود وأبناؤه وباقي أفراد أسرته، هذا بالإضافة لقتلِه المئات من القادة الإسلاميِّين وعشرات الألوف من العامة غير الذين أودعهم غياهبَ السجون مع التفنُّن بألون العذابِ المرير، وعُرِفت هذه الحركة بثورة ساور، أي: ثَوْرة نيسان.
وُلِد عبد العزيز علي عبد الحفيظ الرنتيسي عام 1947م في قرية يبنا (بين عسقلان ويافا)، لجأت أسرتُه بعد حرب 1948م إلى قطاع غزَّةَ، واستقرَّت في مخيم خان يونس للاجئين، وكان عمرُه وقتَها ستةَ شهورٍ، التحَقَ وهو في السادسة من عُمره بمدرسةٍ تابعةٍ لوَكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفِلَسْطينيين، واضطر للعمل أيضًا، وهو في هذا العمر ليُسهِم في إعالة أسرته الكبيرة التي كانت تمرُّ بظروف صعبةٍ، أنهى دراسته الثانوية عام 1965م، وتخرَّج من كلية الطب بجامعة الإسكندرية عام 1972م، ونال منها لاحقًا درجة الماجستير في طب الأطفال، ثم عمِلَ طبيبًا مُقيمًا في مستشفى ناصر (المركز الطبي الرئيسي في خان يونس) عام 1976م، شغَل الدكتور الرنتيسي عدةَ مواقعَ في العمل العام منها: عضوية هيئة إدارية في المجمَّع الإسلامي، والجمعية الطبية العربية بقطاع غزَّةَ، والهلال الأحمر الفِلَسْطيني، وعمِلَ في الجامعة الإسلامية في غزَّةَ منذ افتتاحها عام 1978م، محاضِرًا يدرِّسُ علمَ الوراثة وعلمَ الطفيليات.
أسَّس مع مجموعة من نشطاء الحركة الإسلامية في قطاع غزَّةَ تنظيمَ حركةِ المقاومة الإسلامية "حماس" عام 1987م، واعتُقِل عدَّةَ مرَّاتٍ، وتعرَّضَ لمحاولة اغتيالٍ نفَّذتها قوات الاحتلال الصِّهْيَوْني، ونجا منها، وبعد يومَيْنِ من اغتيال الشيخ ياسين، اختير الدكتور الرنتيسي زعيمًا لحركة "حماس" في قطاع غزَّةَ، واغتيل هو مع اثنين من مُرافقيه في 17 نيسان (أبريل) 2004م، بعد أن قَصفَت سيارتَهم طائراتُ الأباتشي الصِّهْيَوْنية في مدينة غزَّةَ، رحمه اللهُ.
يُعَدُّ رفيقٌ الحريريُّ الذى اغتيلَ في قلب العاصمة اللُّبنانية بيروتَ واحدًا من أبرز الساسة اللُّبنانيِّين الذين لعِبوا دَورًا هامًّا في الحياه السياسية بلُبنان، وقد وُلد رفيق بهاء الحريري في صيدا عام 1944م، وأنهى دراسته الثانوية في لُبنان، وحصل على إجازة في العلوم التجارية من جامعة بيروت العربية، وسافَرَ بعد تخرُّجه في الجامعة للعمَل في المملكة العربية السعودية، وحصل علي الجنسية السعودية، وفي عام 1982م بعد الغزو الإسرائيلي للُبنانَ وضَعَ الحريري كلَّ إمكانياتِه تحتَ تصرُّفِ الدولة اللُّبنانيه؛ لإزالة آثار حصار بيروتَ، وفى نفس العام لعِبَ دَورًا في إقامة السلام بين مختلِف الطوائف في لُبنان؛ لوقف المعارك الدائرة آنذاكَ، ونجحَ في إعادة فتح مطار بيروتَ، وقد تولَّى الحريري منصبَ رئيس الوزراء طوالَ المدة التي تلَت الحربَ الأهليةَ اللُّبنانيةَ عامَ 1990م، وذلك خلال الفترة من عام 1992م إلى 1998م، ومن عام 2000م إلى 2004م، عندما استقال من منصبِه بعدَ تصاعُدِ الخلاف بينَه وبين الرئيس اللُّبناني إميل لحود، فيما يتعلَّق بالتوَجُّه نحوَ سوريا، كان الحريري أحد المشاركين البارزين في صياغة اتفاق الطائف عامَ 1989م، والذى وضَعَ حدًّا للحرب الأهلية اللُّبنانية، وأدَّى إلى تسوية الخلافات بين القوى السياسية والميليشيات والأحزاب اللُّبنانية.
وكان اغتيالُه بتفجير مَوْكِبه قرب أحد الفنادق ببيروت والمتَهم حينها باغتياله الأمنُ السُّوري بالتواطئ مع حزب الله.
محمد عابد الجابري مفكِّرٌ مغربيٌّ وُلِد غُرَّةَ شوالٍ (1354هـ)، وكان أستاذَ الفلسفة والفكرِ العربيِّ الإسلامي في كليَّة الآداب بالرباط. حَصَل على دُبلوم الدِّراسات العليا في الفلسفة في عامَ (1967) ثم دكتوراه الدَّولة في الفلسفة عامَ (1970) من كليَّة الآداب بالرباط. عَمِل كمعلِّمٍ بالابتدائيِّ (صف أول) ثم أستاذِ فلسفةٍ عضوِ مجلسِ أُمناءِ المؤسَّسة العربية للديمقراطية. استطاع محمد عابد الجابري عَبْرَ سِلسلةِ نقدِ العقلِ العربيِّ القِيامَ بتَحليلِ العقل العربيِّ عَبْرَ دِراسةِ المكوِّناتِ والبِنَى الثَّقافيَّةِ واللُّغَويَّةِ التي بَدَأت من عصر التدوين، ثم انتَقَل إلى دِراسةِ العقل السياسيِّ ثم الأخلاقيِّ، وفي نهايةِ تِلكَ السلسلةِ يَصِل المعلِّمُ إلى نتيجةٍ مَفادُها أنَّ العقلَ العربيَّ بحاجةٍ اليومَ إلى إعادَةِ الابتِكارِ. وقد أحدَثَت هذه السلسلةُ هِزَّةً عَميقةً داخِلَ العالَمِ الإسلاميِّ من الغَيورين على دينهِم؛ فقام بعضُ العُلَماءِ بالتحذيرِ منه ومن كتاباتِه، منها كتابه: (مدخل إلى القرآن الكريم)، الذي تضمَّن فصلًا بعُنوان جمعُ القرآن ومسألةُ الزيادةِ فيه والنُّقصانِ، وقوله عن القرآن الكريم: (ومن الجائِزِ أن تحدُث أخطاءٌ حين جمعِه زمنَ عثمان أو قبل ذلك؛ فالذين تولَّوا هذه المُهِمَّةَ لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارُكُ بعضِ النقصِ كما ذُكِر في مصادِرنا، وهذا لا يتعارَضُ مع قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ فالقرآن نفسُه ينصُّ على إمكانيَّةِ النسيانِ والتبديلِ والحذفِ والنسخِ!).
اغتِيلَ في كابُل برهانُ الدين ربَّاني بن محمد يوسف -رحمه الله- والذي يُعَدُّ ثانِيَ رئيسٍ في كابُل بعد سُقوطِ الحكم الشيوعيِّ فيها في إبريل (1992)، وقد أُخرِج من كابُل في (26 سبتمبر 1996) على يدِ حركةِ طالِبان. وظلَّ ينتقِل في ولاياتِ الشَّمال التابعةِ له. وهو يُعتبَر أحدَ أبرزِ زُعماءِ تحالُفِ المعارَضةِ الشمالي، المعارِضِ لطالِبان، ووُلد في مدينة فيض آباد مركز ولاية بدخشان، وينتمي إلى قبيلَةِ اليفتليين ذاتِ العِرقية الطاجيكية السُّنية، والْتحق بمدرسةِ أبي حنيفةَ بكابُل، وبعد تخرُّجِه من المدرسة انضَمَّ إلى جامعة "كابُل" في كليَّة الشَّريعة عامَ (1960)، وتخرَّج فيها عامَ (1963)، وعُيِّن مدرسًا بها. وفي عام (1966) الْتحق بجامعةِ الأزهر وحَصَل منها على درجة الماجستير في الفلسفةِ الإسلاميَّة وعاد بها إلى جامعة كابُل ليدرُسَ الشريعةَ الإسلاميةَ. واختارَتْه الجمعيَّةُ الإسلامية ليكونَ رئيسًا لها عامَ (1972). ولم يحظَ بآراءِ النَّاخبين لقيادةِ الحركة الإسلامية في الانتخاباتِ التي أُجرِيت خارِجَ أفغانستان عامَ (1977)، وهو ما أدَّى إلى انشقاقٍ في الحركة الإسلاميَّة التي انقسَمَت إلى حِزبَين: "الحزب الإسلامي" الذي كان يقودُه قلبُ الدين حكمتيار، و"الجمعيَّة الإسلامية" التي كان يقودُها رباني. ومنذ الاحتلالِ السوفيتِّي لأفغانستان عامَ (1979) كان برهانُ الدين رباني مشارِكًا في الجهاد ضدَّ السوفيت وكانت قُوَّاتُه أوَّلَ القواتِ التي دَخَلت كابُل بعد هزيمة الشُّيوعيِّين فيها. وشَغَل منصِبَ رئيسِ المجلس الأعلى للسَّلامِ في أفغانستان.
هو أحمد بن أويس بن الشيخ حسن النوين بن حسين بن أقبغا بن أيلكان بن القال غياث الدين سلطان العراق. أوَّل ما ولي إمرة البصرة من أخيه حسين، فلما اختلف الأمراء على حسين خرج من بغداد إلى تبريز، فقدم أحمد بالجنود واغتال أخاه وقام بالسلطنة، وذلك في صفر سنة أربع وثمانين، وقبض على أعيان الأمراء فقتلهم وأقام أولادهم، فثار عليه من بقي ببغداد مع أخيه شيخ على شاه زاده؛ فآل الأمر إلى أن قتل واستبد أحمد فسار السيرة الجائرة وقتل في يوم واحد ثمانمائة نفس من الأعيان وانهمك في اللذات، واتفق أن تيمورلنك نازل شاه منصور صاحب شيراز وقتله وبعث برأسه إلى بغداد، والتمس منهم ضرب السكة باسمه، فلم يُطِعْه أحمد، فنزل تيمورلنك بغداد في شوال سنة خمس وتسعين، ففرَّ منها ابن أويس بأهله وما يعزُّ عليه من ماله، فلحقه عسكر تيمورلنك بالحلة فهزموه ونهبوا ما معه وخربوا الحلة، وقَصَد الشام فوصل إلى الرحبة واستأذن الظاهر في القدوم عليه، فأجابه بما يطيب خاطره وأمر النواب بإكرامه، ثم جهز السلطان أحمد بن أويس في أول شعبان سنة 796 ورسم له بجميع ما يحتاج إليه، فدخل بغداد في رمضان فوجد بها مسعود الخراساني من جهة تيمورلنك، ففر وأقام أحمد ببغداد، واستخدم جنودًا من العرب والتركمان، ووقع الوباء ببغداد، ففر أحمد إلى الحلة، وجرى على سيرته السيئة من سفك الدماء والجِدِّ في أخذ أموال الرعية، ولم يزل على ذلك إلى أن عاد تيمورلنك طالبًا الشام، ففرَّ أحمد إلى قرا يوسف بن قرا محمَّد بن بيرم خجا صاحب الموصل واستنجد به فسار معه، وكان أهل بغداد قد كرهوه فحاربوه وهزموهما معًا، فدخلا بلاد الشام واستأذنا أمير حلب وكان يومئذٍ دقماق من جهة الناصر فرج، وذلك في شوال سنة 802، فلم يأذن لهم فخرج لمحاربتهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أهل حلب وأُسِرَ دقماق، فبلغ الناصر ذلك فغضب وأمر بتجهيز عساكر الشام، فتوجهوا ففر قرا يوسف فأوقعوا بأحمد فكسروه ونهبوا ما معه وبعثوا بسيفه إلى الناصر. رجع أحمد إلى بغداد فأقام بها قليلًا فثار عليه ولده طاهر بن أحمد ففر منه وأتى إلى قرا يوسف فسار معه وقاتلا طاهرًا بالحلة، فانهزم وغرق، ودخل أحمد بغداد ثم غدر أحمد بجماعة كانوا عنده من جهة قرا يوسف عدتهم خمسون نفسًا من أعيان دولته، فغضب قرا يوسف وسار لمحاربة أحمد، فهرب ثم اختفى في بئر ببغداد، فأمر قرا يوسف بطم البئر، فطُمَّت فما شكُّوا في هلاكه، واتفق أنه كان بالبئر فرجة فخرج منها ابن أويس ومضى إلى تكريت ثم إلى حلب، وملك قرا يوسف بغداد فأخذها منه تيمورلنك, فكتب قرا يوسف إلى أحمد ليجتمعا على قتال عسكر تيمورلنك فنازلا مرزا أبي بكر بن تيمورلنك بالسلطانية سنة 808، فهزموه وقتلوا ابنه, وملك قرا يوسف تبريز ورجع أحمد إلى بغداد، فاستأذنه قرا يوسف فيمن يقيمه في السلطنة، فأذن له بإقامة ولده بزق ففعل، وذلك في سنة إحدى عشرة، فقدم مرزا شاه في طلب ثأر ولده، فواقعه قرا يوسف فقتل، وغنم قرا يوسف جميع ما كان معه, واتفق في غضون ذلك أن أحمد لما تغلب على طباعه من الغدر مضى إلى تبريز فملكها، ونهب جميع ما وجده لقرا يوسف وولده، فرجع إليه وقاتله فانهزم منه، وذلك في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة، فلم يزل قرا يوسف يتطلب ابن أويس إلى أن ظفر به فأكرمه، ثم سجنه ثم دسَّ عليه من خنقه، فمات في آخر يوم من ربيع الآخر، واستقرت قدم قرا يوسف في بغداد وتبريز، وكان أحمد بن أويس سفاكًا للدماء، متجاهرًا بالقبائح، وله مشاركة في عدة علوم، كالنجوم والموسيقى، وله شعر كثير بالعربية وغيرها؛ وكتب الخط المنسوب، وكانت له شجاعة ودهاء وحِيَل، ومحبة في أهل العلم.
هو محمد جمال الدين بن صفدر -وتكتب صفتر- الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، كان فيلسوفًا سياسيًّا، وكاتبًا وخطيبًا وصحفيًّا، ولد في شعبان 1254هـ / أكتوبر 1838م بأسد آباد بالقربِ من همذان من أعمال فارس، وقيل إنه ولد بأسد آباد الأفغانية؛ ولذا اختُلِفَ في أصل نسب أسرتِه، هل هو فارسي إيراني أم أفغاني, وقيل إنه من أسرة أفغانية عريقة ينتهي نسَبُها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه, نشأ الأفغاني في كابول عاصمة الأفغان. وتعلَّم فيها بدايةَ تلقيه العلمَ اللغتينِ العربيةَ والفارسية، ودرَس القرآن وشيئًا من العلومِ الإسلامية، وفي سِنِّ الثامنة لفت أنظارَ من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والِدَه يحفِّزُه إلى التعلم، وفي أوائل سنة 1266هـ / 1849م وقد بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل به والده إلى طهران، وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبَرِ علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه "أقاسيد صادق" فتوجَّه مباشرةً إلى مجلسه، ودار حوارٌ بينهما في مسألةٍ علميةٍ، فأُعجِبَ الشيخ من علمه وجرأتِه مع صِغَرِ سنه، فأقبل عليه وضمَّه إلى صدره وقبَّلَه، ثم أرسَلَ إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتريَ له عباءةً وعمامة، ثم قام الشيخُ بلَفِّ العمامة ووضَعَها بيده فوقَ رأسه تكريمًا له، واعتزازًا بعلمِه. ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والدِه -إلى مركز الشيعية العلمي- في النَّجفِ بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربعَ سنوات درس فيها العلومَ الإسلامية وغيرها؛ فدرس التفسير والحديث، والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وأصول الفقه، والرياضة، والطب والتشريح، والنجوم. وقرأ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخ والتصوف، والشريعة، وظهر حُبُّه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، أتقن الأفغانيُّ الحديث باللغة العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكَلَّم بالعربية فلغتُه فصحى، وهو واسِعُ الاطِّلاع على العلومِ القديمة والحديثة، كريمُ الأخلاقِ كبيرُ العقل، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراستَه للعلوم، وظلَّ الأفغاني طوال حياته حريصًا على العلمِ والتعلُّم، وبرزت فيه هوايةُ التَّرحالِ والأسفار. فسافر إلى الهندِ لدراسة بعض العلوم العصرية، ثم عاد إلى أفغانستان. كان الأفغانيُّ يُظهِرُ في عمله السياسي مناهَضةَ استبداد الحكَّام ومناوأة الاستعمار عمومًا والإنجليزيِّ خصوصًا في كلِّ مكانٍ ينزِلُ فيه. حينما وقع خلافٌ بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان له بمثابةِ وزيرِ دولة، وحدث صدامٌ بين جمال الدين وبين الإنجليز، فرحل عن أفغانستان أو طرَدَه الإنجليزُ منها سنة 1285ه ـ/ 1868م، ومر بالهندِ في طريقِه فكان الإنجليز يمنعون العُلَماءَ وطلبة العلم الجلوسَ معه، فخرج منها إلى مصر حيث أقام بها مدةً قصيرة تردَّد في أثنائها على الأزهرِ، وكان بيته مزارًا لكثيرٍ مِن الطلاب والدارسين خاصةً السوريين. ثم دعاه السُّلطانُ العثماني عبد العزيز إلى زيارةِ الدولة العثمانية فأجاب الدعوة، وسافر إلى الأستانة في عهدِ الصدر عالي باشا، فعَظُم أمرُه بها، وذاعت شهرتُه وارتفعت منزلته، ثم عُيِّن جمالُ الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارِفِ الأعلى، وهناك لقِيَ معارضة وهجومًا من بعضِ علماء الأستانة وخطباءِ المساجد الذين لم يرُقْهم كثير من آرائِه وأقواله، وخاصة من شيخِ الإسلام حسين فهمي أفندي، فطُلب من الأفغاني أن يرحَلَ، فخرج من الأستانة عائدًا إلى مصر، فأقام فيها بضعَ سنوات خاض فيها غِمارَ السياسة المصرية، ودعا المصريِّين إلى ضرورةِ تنظيم أمورِ الحُكمِ، وتأثَّرَ به في مصر عددٌ من رموز الحركة الأدبيَّةِ والسياسية، منهم: محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وغيرهما، فقد أُعجِبوا بفكره وجرأتِه في مناهضة الاستبداد والاستعمار، ويُذكرُ أن للأفغان دورًا في إعطاء دفعةٍ قويةٍ للنَّهضةِ الأدبيَّةِ الحديثة بمصر، فلمَّا تولى الخديوي توفيق باشا حُكمَ البلاد أمَرَ بإخراجه مِن مِصرَ، فأُخرِجَ بطريقة عنيفةٍ بأمرٍ مِن الخديوي بعد أن أقام في مِصرَ نحوَ ثماني سنوات. انتقل إلى الهند سنة 1296هـ / 1879م، ثمَّ طُرِدَ من الهند بأمرٍ مِن الإنجليز، فاتَّجَه إلى أوروبا واختار أن يبدأ بلندن، ومنها انتَقَل إلى باريس، فشرع في تعلُّم الفرنسية فيها، وبذل كثيرًا من الجُهدِ والتصميمِ حتى خطا خطواتٍ جيدةً في تعلُّمِها، ثم اتصل بتلميذِه الشيخ محمد عبده المنفيِّ حينَها في بيروت، ودعاه إلى الحُضورِ إلى باريس، وأصدرا معًا جريدة "العُروة الوثقى"، ولكِنَّها ما لَبِثَت أن توقَّفَت عن الصدور بعد أن أُوصِدَت أمامَها أبوابُ كُلٍّ مِن مصر والسودان والهند، بأمرٍ مِن الحكومةِ الإنجليزيةِ, ثمَّ دعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحُضورِ إلى طهران، واحتفى به وقَرَّبه، وهناك نال الأفغانيُّ تقدير الإيرانيين وحَظِيَ بحُبِّهم، ومالوا إلى تعاليمِه وأفكارِه، ثمَّ ذهب إلى روسيا فأقام فيها ثلاثَ سنواتٍ تنَقَّل بين موسكو وعاصمتِها بطرسبرج آنذاك، وزار كييف، والتقى بقيصرِها ألكسندر الثالث، ثمَّ أمر القيصَرُ بطَردِه من روسيا، فعاد مرةً أخرى لإيران بطلَبٍ من الشاه ناصر الدين، ثم انقَلَب عليه فطَرَده من إيران، فرحل إلى البصرة، ومنها إلى لندن للمرَّة الثانية؛ حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهُجومِ على الشاه ناصر الدين، وكشف ما آلت إليه أحوالُ إيران في عَهدِه، انتظم جمالُ الدين في سِلكِ الماسونيَّةِ بطَلبٍ منه؛ زعم أنَّ ذلك يُفسِحُ له المجالَ أمامَ أعماله السياسيَّةِ، وقد انتُخِبَ رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة 1295هـ / 1878م، وقيل إنه استقال منه فيما بعدُ. يُعتَبَرُ الأفغانيُّ في نظرِ مُريديه وطنيًّا كبيرًا، بينما يَنظُرُ إليه خصومُه على أنَّه مهَيِّجٌ خطير، فقد كان له أثَرٌ كبير في الحركاتِ الحُرَّة والحركات الدستورية التي قامت في الدُّوَلِ العربية والإسلامية، وكان يَرمي من إثارة الخواطِرِ إلى تحريرِ هذه الدُّوَلِ من النفوذ الأوربي واستغلالِ الأوروبيِّين، ثم بعد ذلك النهوض بها نهوضًا ذاتيًّا من الداخل متوسِّلًا في ذلك بإدخالِ النظُمِ الحُرَّة إليها، كما كان يهدفُ إلى جمع كَلِمةِ الدول الإسلامية بما فيها فارس الشيعيَّة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ، وإقامةِ إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ قويةٍ تستطيعُ الوقوفَ في وجهِ التدَخُّلِ الأوربي؛ ولذلك دعاه السلطانُ عبد الحميد الثاني في عهدِه وقَرَّبه إليه وتعاون معه في تسويقِ فكرة الجامعة الإسلامية، ثم انقلب عليه السلطانُ عبد الحميد الثاني لَمَّا شك في علاقتِه بالإنجليز. لم يُكثِرِ الأفغاني من التصنيف اعتمادًا على ما كان يبُثُّه في نفوس العاملين، وانصرافًا إلى الدعوة بالسِّرِّ والعلن. له تاريخ الأفغان، ورسالة الرد على الدهريين، ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده, وجمع محمد باشا المخزومي كثيرًا من آرائه في كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني، ولمحمد سلام مدكور كتاب جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق. توفِّيَ الأفغاني في الأستانة بعد أن أُصيب بمرَضِ السرطان في فَكِّه، عن عمرٍ بلغ نحو ستين عامًا، وقد ثار الجدَلُ حول وفاته، وشكَّك البعضُ في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيلَ بالسمِّ. وكانت وفاته في 5 من شوال 1314هـ / 10 من مارس 1897م. قال عنه الفيلسوفُ إرنست رينان الذي التقى به وحاوَرَه: "قد خُيِّلَ إليَّ مِن حريَّةِ فِكرِه ونبالةِ شِيَمِه وصراحتِه وأنا أتحدث إليه، أنَّني أرى وجهًا لوجهِ أحدِ مَن عرفتُهم من القُدَماء، وأنني أشهَدُ ابنَ سينا أو ابنَ رشد, أو أحدَ أولئك الملاحدة العِظامِ الذين ظلُّوا خمسة قرون يعملونَ على تحريرِ الإنسانيةِ مِن الإسارِ" وتبقى شخصيةُ الأفغاني يحومُ حولَها كثيرٌ مِن الشُّكوكِ!
بعث الصِّدِّيقُ خالدَ بنِ الوليدِ إلى قِتالِ مُسَيلِمةَ الكَذَّابِ وقَومِه من بني حَنيفةَ باليمامةِ، وأوعب معه المسلمون، وعلى الأنصارِ ثابتُ بنُ قيسِ بنِ شماسٍ، فسار لا يمُرُّ بأحدٍ مِن المرتدِّين إلَّا نكَّل بهم، وقد اجتاز بخُيولٍ لأصحابِ سَجاحٍ فشَرَّدهم وأمَرَ بإخراجِهم مِن جزيرةِ العَرَبِ، وأردف الصِّدِّيقُ خالِدًا بسَرِّيةٍ لتكونَ رِدءًا له من ورائِه، فلمَّا سَمِع مُسَيلِمةُ بقدومِ خالدٍ عَسكَرَ بمكانٍ يقالُ له عقربا في طَرَفِ اليمامةِ، والريفُ وراء ظهورِهم، ونَدَب النَّاسَ وحَثَّهم، فحَشَد له أهلُ اليمامةِ، فاصطدم المسلِمون والكُفَّارُ، فكانت جولةٌ عظيمة وجَعَلت الصَّحابةُ يتواصَون بينهم ويقولون: يا أصحابَ سُورةِ البَقَرةِ، بَطَل السِّحرُ اليومَ، ودارت رحى المسلمين، وقد مَيَّز خالِدٌ المهاجرينَ من الأنصارِ من الأعرابِ، وكُلُّ بني أبٍ على رايتِهم، يقاتِلون تحتَها، حتى يَعرِفَ النَّاسُ مِن أين يُؤتَون، وصَبَرَت الصَّحابةُ في هذا الموطِنِ صبرًا لم يُعهَدْ مِثْلُه، ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحورِ عَدُوِّهم حتى فتح اللهُ عليهم، ووَلَّى الكُفَّارُ الأدبارَ، ودخل المسلِمونَ الحديقةَ مِن حيطانِها وأبوابِها يقتُلونَ من فيها من المرتَدَّةِ من أهلِ اليمامةِ، حتى خَلَصوا إلى مُسَيلِمةَ، فتقَدَّم إليه وَحشِيُّ بنُ حَربٍ مولى جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ، فرماه بحَرْبتِه فأصابه وخَرَجَت من الجانِبِ الآخَرِ، وسارع إليه أبو دُجانةَ سِماكُ بنُ خَرشةَ، فضَرَبه بالسَّيفِ فسقط، فكان جملةُ مَن قُتِلوا في الحديقةِ وفي المعركةِ قريبًا مِن عَشرةِ آلافِ مُقاتِلٍ. وقيل: أحدٌ وعشرون ألفًا، وقُتِل من المسلمين سِتُّمائةٍ، وقيل: خمسُمائةٍ.
كان المُهَلَّب يُحارِب الأزارِقَة، فجَعلَهُ عبدُ المَلِك بن مَرْوان على خَراجِ الأهوازِ ومَعونَتِها، وسَيَّرَ أخاهُ عبدَ العزيز بن عبدِ الله إلى قَتْلِ الخَوارِج، وسَيَّرَ معه مُقاتِلَ بن مِسْمَع، فخَرَجا يَطلُبان الأزارِقَة، فأتت الخَوارِج مِن ناحِيَة كِرْمان إلى دارِ أبجرد، فأَرسَل قَطَرِيُّ بن الفُجاءَةِ المازنيُّ مع صالحِ بن مُخارِق تسعَمائة فارِسٍ، فأقبلَ يَسيرُ بهم حتَّى اسْتَقْبَل عبدَ العزيز وهو يَسيرُ مَهْلًا على غيرِ تَعْبِيَةٍ، فانْهزَم بالنَّاسِ، ونزَل مُقاتِلُ بن مِسْمَع فقاتَل حتَّى قُتِلَ، وانْهزَم عبدُ العزيز إلى رامَهُرْمُز، فأمَرَ عبدُ الملك أن يَسيرَ إليهم المُهَلَّبُ، وكتَبَ إلى بِشْرِ بن مَرْوان أن يَنْفُذَ له خمسةُ آلافِ رجلٍ، وجاءت الأزارِقةُ إلى الأهوازِ، وسار خالدٌ والمُهَلَّبُ وغيرُهم إليهم، وبقوا عِشرين ليلةً ثمَّ زَحَف خالدٌ إليهم بالنَّاسِ، فرأوا أَمْرًا هالَهُم مِن كَثْرَةِ النَّاسِ، فكَثُرَتْ عليهم الخَيْلُ وزَحَفت إليهم، فانْصَرفوا كأنَّهم على حامِيَةٍ وهُم مُوَلُّون لا يَرَوْن طاقةً بِقَتْلِ جَماعةِ النَّاسِ. فأَرسَل خالدٌ داودَ بن قَحْذم في آثارِهم، وانْصَرف خالدٌ إلى البَصْرَة، وسار عبدُ الرَّحمن إلى الرَّيِّ، وأقام المُهَلَّبُ بالأهوازِ، وكتَب خالدٌ إلى عبدِ الملك بذلك، وبعَث بِشْرٌ عَتَّابَ بن وَرْقاء في أربعةِ آلافِ فارِسٍ مِن أهلِ الكوفَةِ، فساروا حتَّى لَحِقوا داودَ فاجتمعوا، ثمَّ اتَّبَعوا الخَوارِجَ حتَّى هَلَكَتْ خُيولُ عامَّتِهم وأصابَهُم الجوعُ والجُهْدُ، ورجَع عامَّةُ الجَيْشَيْنِ مُشاةً إلى الأهوازِ.
هو أبو سعيدٍ الحسَنُ بنُ بهرام الجنابي القرمطي- قَبَّحه اللهُ- أخذ القرمطةَ عن حمدانَ بنِ قرمط, وهو رأسُ القرامطة، ظهر سنة 286 بالبحرين، فدعا الناسَ إلى مذهبِه القرمطي، واجتذب إليه اللُّصوصَ وقُطَّاعَ الطُّرُقِ، واشتَدَّ خَطَرُه، فاستولى على اليمامة وعمان وهَجَر والقَطيف، قاتَلَه جيشُ المعتَضِد فهَزَم الجيشَ وقَتَلَهم سوى قائِدِهم، ترَكَه ليُخبِرَ الخليفة بما رآه منه، كان موتُ أبي سعيد في الحمَّام، قتَلَه خادِمٌ صقلبيٌّ له كان قد أسَرَه فيمن أسَرَ، وكان شجاعًا قويًّا جَلْدًا, فحَسُنَت منزلتُه عنده حتى صار على طعامِه وشَرابِه. وكان الخادِمُ ينطوي على إسلامٍ، فلم يرَ أبا سعيدٍ يُصَلِّي صلاةً، ولا صام شهرَ رمضان. فأبغَضَه وأضمَرَ قَتْلَه، فخلَّاه وقد دخل حمامًا في الدار ووثب عليه بخِنجرٍ فذَبَحَه، ثم خرج ودعا بعضَ قُوَّادِ أبي سعيدٍ، فقال له: كَلِّم أبا سعيدٍ. فلمَّا دخل ذبَحَه، ثم استدعى آخَرَ، ففعل به كذلك حتى فعل ذلك بجماعةٍ مِن الكبارِ، ثم استدعى في الآخِرِ رجلًا، فدخل في أوَّلِ الحمام، فلما رأى الدماءَ تجري، أدبر مسرعًا وصاح، فصاح النساء واجتمعوا على الغُلامِ فقَتَلوه, دام حُكم أبي سعيد 16 عامًا, وقد خلَّف من الأموالِ شيئًا كثيرًا، فمن ذلك ألفُ ألفِ دينار، ومن آنية الذهب والفضة نحوُ مائة ألف دينار، ومن البقر ألف ثور، ومن الخيل والبغال والجمال ألفُ رأس, وكان قد عهِدَ بالأمر لابنه سعيدٍ، ولكنه كان ضعيفًا, فأوصى أبو سعيد أن يبقى سعيدٌ في الحكم حتى يكبر أخوه الأصغَرُ سُلَيمان أبو طاهرٍ، فيُسَلِّمُه الأمرَ، ففعل سعيد.
أوقَعُ يمينُ الدَّولةِ محمودُ بنُ سبكتكين بجيبال ملِكِ الهند وقعةً عَظيمةً، وسببُ ذلك أنَّه لَمَّا اشتغَلَ بأمر خراسان ومَلِكِها، وفرغ منها ومِن قتال خلَفِ بنِ أحمد، وخلا وجهُه مِن ذلك؛ أحَبَّ أن يغزوَ الِهندَ غزوةً تكونُ كَفَّارةً لِما كان منه من قتالِ المُسلِمينَ، فثنى عنانَه نحو تلك البلادِ، فنزل على مدينة برشور، فأتاه عدوُّ الله جيبال مَلِكُ الهند في عساكِرَ كثيرةٍ، فالتَقَوا في المحرَّمِ مِن هذه السنة، فاقتتلوا، وصبَرَ الفريقان، فلما انتصَفَ النَّهارُ انهزم الهندُ، وقُتِلَ فيهم مقتلة عظيمة، وأُسِرَ جيبال ومعه جماعةٌ كثيرة من أهلِه وعَشيرتِه، وغَنِمَ المسلمون منهم أموالًا جليلةً، وغَنِموا خمسَمئة ألف رأسٍ من العبيد، وفَتَح من بلادِ الهند بلادًا كثيرةً، فلَمَّا فرغ من غزواته أحَبَّ أن يُطلِقَ جيبال ليراه الهنودُ في شِعارِ الذُّلِّ، فأطلقه بمالٍ قرَّرَه عليه، فأدَّى المال، ومن عادةِ الهندِ أنَّهم مَن حصَلَ منهم في أيدي المُسلِمينَ أسيرًا لم ينعَقِدْ له بعدها رئاسةٌ، فلما رأى جيبال حالَه بعد خلاصِه حلَق رأسَه، ثم ألقى نفسَه في النَّارِ، فلمَّا فرَغَ يمينُ الدولة مِن أمرِ جيبال رأى أن يغزوَ غَزوةً أخرى، فسار نحو ويهند، فأقام عليها مُحاصِرًا لها، حتى فتحها قهرًا، وبلغَه أنَّ جماعةً مِن الهند قد اجتمعوا بشِعابِ تلك الجبال عازِمينَ على الفسادِ والعناد، فسيَّرَ إليهم طائفةً مِن عَسكَرِه، فأوقعوا بهم، وأكثَروا القتلَ فيهم، ولم ينجُ منهم إلَّا الشَّريدُ الفريدُ، وعاد إلى غزنةَ سالِمًا ظافِرًا.
قامَت الدعوةُ الصُّلَيحيَّة باليمنِ والتي أصلها إسماعيليٌّ عن طريق علي بن محمد الصليحي. كانت الدعوةُ الإسماعيليَّةُ قد انقطعت في اليمَنِ بعد اختلافِ عليِّ بن الفضل وابن حوشب؛ إذ سيطَرَ الأوَّلَ على المنطقةِ وأعلن كُفرَه الصَّريحِ حتى مات مسمومًا عام 303هـ على حين اعتزل ابن حوشب في مغارب اليمن. حتى قامت الدعوةُ مُجدَّدًا على يدِ عليٍّ الصليحيِّ الذي كان أبوه محمَّدٌ مِن قضاة اليمن سُنِّي المذهب, وكان داعي الباطنيَّة عامِرُ بنُ عبد الله الزواخي يتردَّدُ على القاضي محمَّد الصليحي؛ لِمَنزلتِه وسُؤدَدِه، وكان عليٌّ حَدَثًا فتفَرَّس به عامِرٌ النجابةَ فاستمال قلبَه وشَوقَّه للمال والحُكمَ، وأسَرَّ إليه أمورًا سِرًّا من أبيه وأهله وهو لا يزالُ حدثًا, ثم لم ينشبْ عامر أنْ هلك فأوصى بكُتُبِه لعلي، فعكف الصليحي على دراستِها ومطالعتها، وكان ذكيًّا, ففقِه وتميَّزَ في رأي العُبَيدين الإسماعيليَّة، ومهر في تأويلاتهم، وقَلْبِهم للحقائقِ, ولَمَّا كان في سنة 429 ثار في رأس مسار، وهو أعلى ذروةٍ في جبال اليمن، وكان معه ستونَ رجلًا قد حالَفَهم بمكة في موسم سنة 428 على الموت والقيامِ بالدعوة، وما منهم إلَّا مَن هو مِن قَومِه وعشائِرِه في مَنعةٍ وعددٍ كثيرٍ، ولم يكنْ برأس الجبل المذكور بناءٌ، فقط كان فيه قلعةٌ منيعة عالية، ولم تمضِ عليه أشهرٌ حتى بناه وحَصَّنه وأتقَنَه. واستفحل أمرُ الصليحيِّ شيئًا فشيئًا، وكان يدعو للمستنصرِ صاحِبِ مصر، ويخافُ من نجاح صاحِبِ تهامةَ، وظلَّ يلاطِفُه ويستكينُ لأمره، وفي الباطِنِ يَعمَلُ الحيلةَ في قتله، ولم يَزَل به حتى قَتَله بالسُّمِّ.
غزا الرُّومَ إبراهيم ينال أخو طغرل بك لأمه وأحد قادة السلاجقة، فظَفِرَ بهم وغَنِمَ، وكان سببُ ذلك أنَّ خلقًا كثيرًا من الغزِّ بما وراء النهر قَدِموا عليه، فقال لهم: بلادي تضيقُ عن مُقامِكم والقيامِ بما تحتاجون إليه، والرأيُ أن تَمضُوا إلى غَزوِ الروم، وتُجاهِدوا في سبيل الله، وتغنَموا، وأنا سائِرٌ على أثَرِكم، ومساعِدٌ لكم على أمْرِكم. ففعلوا، وساروا بين يديه، وتَبِعَهم، فوصلوا إلى ملازكرد، وأرزن الروم، وقاليقلا، وبلغوا طرابزون وتلك النواحيَ كلَّها، ولَقِيَهم عسكَرُ عَظيمِ الروم والأبخاز يبلغونَ خمسين ألفًا، فاقتتلوا، واشتد القتالُ بينهم، وكانت بينهم عِدَّةُ وقائِعَ، تارةً يظفَرُ هؤلاء، وتارة هؤلاء، وكان آخِرَ الأمر الظَّفَرُ للمسلمين، فأكثروا القتلَ في الروم وهزموهم، وأسَروا جماعةً كثيرةً مِن بطارقتهم، وممَّن أُسِرَ قاريط ملِكُ الأبخاز، فبذل في نفسِه ثلاثَمِئَة ألف دينار، وهدايا بمِئَة ألفٍ، فلم يجبه ينال إلى ذلك، ولم يَجُس تلك البلادَ وينهَبْها إلى أن انهزموا وبَقِيَ بينه وبين القُسْطَنطينية خمسةَ عشر يومًا، واستولى المسلمونَ على تلك النواحي فنهبوها، وغَنِموا ما فيها، وسَبَوا أكثَرَ مِن مِئَة ألف رأس، وأخذوا من الدوابِّ والبغالِ والغنائم والأموال ما لا يقَعُ عليه الإحصاءُ، وقيل: إن الغنائِمَ حُمِلَت على عشرة آلاف عجلة، وإنَّ في جملة الغنيمةِ تِسعةَ عشر ألف درع، وكان قد دخل بلدَ الروم جمعٌ مِن الغز يَقدُمُهم نسيب طغرلبك، فلم يؤثِّرْ كَبيرَ أثَرٍ، وقُتِلَ من أصحابه جماعة، وعاد، ودخل بعده إبراهيم ينال، فانتصر عليهم.
هو السُّلطانُ الكبيرُ، رُكْنُ الدِّين، أبو طالبٍ، طُغرلبك محمدُ بن ميكائيل بن سَلجوق بن دقاق أوَّلُ مُلوكِ السَّلاجِقة, وأَصلُ السَّلاجِقة مِن بَرِّ بُخارى؛ لهم عددٌ وقُوَّةٌ وإِقدامٌ، وشَجاعةٌ وشَهامةٌ وزَعارةٌ، فلا يَدخُلون تحتَ طاعةٍ، وإذا قَصدَهُم مَلِكٌ دَخَلوا البَرِّيَّة, ثم إن طُغرلبك عَظُمَ سُلطانُه، وطَوَى المَمالِكَ، واستولى على العِراقِ في سنة 447هـ، وتَحبَّبَ إلى الرَّعيَّةِ بِعَدْلٍ مَشُوبٍ بِجَوْرٍ، وكان حَليمًا كَثيرَ الاحتمالِ، شَديدَ الكِتمانِ للسِّرِّ، مُحافِظًا على الصَّلواتِ، وعلى صَومِ الاثنينِ والخَميسِ، مُواظِبًا على لُبْسِ البَياضِ، ويبني المَساجِد، ويَتصدَّق، سار السُّلطانُ طُغرلبك من بغداد، في رَبيعٍ الأوَّل، إلى بلدِ الجَبَلِ، فوَصلَ إلى الرَّيِّ واستَصحَب معه أرسلان خاتون ابنةَ أَخيهِ، زَوجةَ الخليفةِ، لأنَّها شَكَت إطراحَ الخليفةِ لها، فأَخذَها معه، فمرضَ، فلمَّا كانت ليلةُ الأحدِ الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبرُ بأنَّه تُوفِّي في ثامنِ الشهرِ، فثار العَيَّارُون فقَتَلوا وَزيرَ السُّلطانِ عَميدَ المُلْكِ الكندريَّ وسبعمائة من أصحابِه، ونَهَبوا الأموالَ، وجَعَلوا يأكلون ويشربون على القَتْلَى نهارًا، حتى انسلخَ الشهرُ وأُخِذَت البَيْعَةُ بعدَه لِوَلَدِ أخيهِ سُليمان بن داودَ، وكان طُغرلبك قد نَصَّ عليه وأَوصَى إليه، لأنَّه كان قد تَزَوَّج بأُمِّهِ، واتَّفَقَت الكَلمةُ عليه، ولم يبق عليه خَوْفٌ إلَّا مِن جِهَةِ أَخيهِ المَلِكِ عَضُدِ الدَّولةِ ألب أرسلان محمد بن داود، وكان مُدَّةُ مُلْكِ طُغرلبك بحَضرةِ القائمِ بأمرِ الله سبعَ سنين وإحدى عشر شهرًا، واثني عشر يومًا وكان عُمُرُهُ يومَ مات سبعين سنة.
سَمِعَ ألب أرسلان أن شهابَ الدَّولةِ قُتلمش السلجوقي، قد عَصَى عليه، وجَمعَ جُموعًا كَثيرةً، وقَصدَ الرَّيَّ ليَستَولي عليها، فجَهَّزَ ألب أرسلان جَيشًا عَظيمًا وسَيَّرَهُم على المَفازَةِ إلى الرَّيِّ، فسَبَقوا قُتلمش إليها، وسار ألب أرسلان من نيسابور أَوَّلَ المُحرَّم من هذه السَّنَةِ، فلمَّا وَصلَ إلى دامغان أَرسَل إلى قُتلمش يُنكِر عليه فِعلَه، ويَنهاهُ عن ارتكابِ هذا الحالِ، ويَأمرُه بِتَركِها، فإنَّه يَرعَى له القَرابةَ والرَّحِمَ، فأجابَ قُتلمش جوابَ مُغْتَرٍّ بمَن معه مِن الجُموعِ، ونَهَبَ قُرَى الرَّيِّ، وأَجرَى الماءَ على وادي المِلْحِ، وهي سَبِخَةٌ، فتَعَذَّرَ سُلوكُها، وقَرُبَ السُّلطانُ من قُتلمش، فلَبِسَ المَلِكُ السِّلاحَ، وعَبَّأَ الكتائِبَ، واصطَفَّ العَسكرانِ فقَصدَ قُتلمش المحاجزة، وجَعلَ السَّبِخَة بينه وبين ألب أرسلان لِيَمتَنِعَ من اللِّقاءِ, فسَلكَ ألب أرسلان طَريقًا في الماءِ، وخاضَ غَمْرَتَهُ، وتَبِعَهُ العَسكرُ، فطَلَعَ منه سالِمًا هو وعَسكرُه، فصاروا مع قُتلمش واقتَتَلوا، فلم يَثبُت عَسكرُ قُتلمش لِعَسكرِ السُّلطانِ، وانهَزَموا لِساعَتِهم، ومَضَى مُنهَزِمًا إلى قَلعةِ كردكوه، وهي مِن جُملةِ حُصونِه ومَعاقِلِه، وكَثُرَ القَتلُ والأَسْرُ في عَسكرِه، وأراد السُّلطانُ قَتلَ الأَسْرَى، فشَفَعَ فيهم نِظامُ المُلْكِ فعَفَا عنهم وأَطلقَهم، ولمَّا سَكَنَ الغُبارُ، ونَزلَ العَسكرُ، وُجِدَ قُتلمش مَيِّتًا مُلقًى على الأرضِ لا يُدرَى كيف كان مَوتُه، قيلَ: إنَّه مات من الخَوفِ، والله أَعلمُ، فبَكَى السُّلطانُ لِمَوتِه، وقَعَدَ لِعَزائِه، وعَظُمَ عليه فَقْدُهُ، فسَلَّاهُ نِظامُ المُلْكِ، ودَخلَ ألب أرسلان إلى مدينة الرَّيِّ آخرَ المُحرَّم من السَّنَةِ.