وقَعَت بين المُختارِ أبي عليِّ بنِ عبيد الله العَلَويِّ وبين الزكيِّ أبي علي النهرسابسي، وأبي الحَسَن عليِّ بنِ أبي طالب بن عمر مُباينةٌ، فاعتضَدَ المُختارُ بالعباسيِّينَ، فساروا إلى بغدادَ، وشَكَوا ما يَفعَلُ بهم النهرسابسي، فتقَدَّمَ الخليفةُ القادِرُ باللهِ بالإصلاح بينهم مراعاةً لأبي القاسمِ الوَزيرِ المغربيِّ؛ لأنَّ النهرسابسي كان صديقَه، وابنُ أبي طالبٍ كان صِهرَه، فعادوا، واستعان كلُّ فريق ببني خفاجةَ، فأعان كلُّ فَريقٍ مِن الكوفيِّينَ طائفةً مِن خفاجة، فجرى بينهم قتالٌ، فظهر العَلويُّونَ، وقُتِلَ مِن العباسيِّينَ سِتَّةُ نَفَر، وأُحرِقَت دُورُهم ونُهِبَت، فعادوا إلى بغداد، ومَنَعوا من الخُطبةِ يومَ الجمعة، وثاروا، وقَتَلوا ابنَ أبي العبَّاس العلَويِّ وقالوا: إنَّ أخاه كان في جُملةِ الفَتَكة بالكوفة، فبرَز أمرُ الخليفةِ إلى المرتضى يأمُرُه بصرفِ ابنِ أبي طالب عن نقابةِ الكُوفةِ، ورَدِّها إلى المختارِ، فأنكر الوزيرُ المغربيُّ ما يجري على صِهرِه ابنِ أبي طالبٍ مِن العزل، وكان عند قرواش صاحبِ المَوصِل, فأرسلَ الخليفةُ القاضيَ أبا جعفرٍ السمناني في رسالةٍ إلى قرواش يأمُرُه بإبعادِ المغربيِّ عنه، ففعل، فسار المغربيُّ إلى ابنِ مَروانَ بديارِ بكرٍ، وغَضِبَ الخليفةُ على النهرسابسي، وبَقِيَ تحت السَّخَط إلى سنة ثماني عشرة وأربعمِئَة، فشَفِعَ فيه الأتراكُ وغَيرُهم، فرَضِيَ عنه، وحَلَّفَه على الطاعةِ فحَلَف.
هو مَلِكُ العِراقِ وفارس، سُلطانُ الدَّولة، أبو شُجاع، فناخِسرو بنُ بهاءِ الدَّولةِ خُرَّة فيروز بن عَضُد الدَّولة أبي شُجاع بن رُكنِ الدَّولة حسن بن بُوَيه الديلميُّ الشِّيعيُّ. وَلِيَ إمرةَ واسط لأبيه وبرَعَ في الأدبِ والأخبار والعربيَّة، وأكَبَّ على اللَّهوِ والخَلاعةِ. تملَّك بعد أبيه سنة 403، وهو صبيٌّ، فقُرئَ عَهدُ أبي شجاع من القادِرِ بالله، ولَقَّبه سُلطانَ الدَّولة, ثم أُحضِرَت الخِلَعُ وهي سبعٌ على العادة: عِمامةٌ سَوداءُ، وتاجٌ مُرصَّعٌ، وسَيفٌ، وسِواران، وطَوْق، وفَرَسان، ولِواءان عَقَدَهما القادِرُ بِيَدِه، وتلَفَّظَ بالحَلِفِ له بمَسمعٍ مِن الوزير أبي غالبٍ، وكبار الدَّولة, ووزَرَ لسُلطانِ الدَّولة فَخرُ الملك أبو غالب، واستخلَفَ ببغداد أخاه مُشرف الدَّولة أبا علي، وجعَلَ إليه إمارةَ الأتراك خاصَّةً، فحَسَّنوا له العِصيانَ، فاستولى مُشَرف الدَّولة على بغداد وواسط، وترَدَّد الأتراكُ إلى الديوان، فأمَرَ بقَطعِ الخُطبة لأخيه سُلطان الدَّولة، وأن يُخطَبَ له. ثمَّ تناقَضَت أمورٌ على سلطان الدَّولة، فكان يواصِلُ الشُّربَ حتى فسَدَ خُلُقُه، وطلب طبيبًا لفَصدِه، ففَصَده، ونَفذ قَضاءُ الله فيه، فمات بشيراز في شوال سنة 415 وله ثلاث وعشرون سنة، وكانت مُدَّة ملكه اثنتي عشرةَ سنة وأشهرًا, ولَمَّا مات، نَهَبَت الديلمُ ما قَدَروا عليه، وأشار عليهم الأوحَدُ بابنِه أبي كاليجار، فخُطِبَ له بخوزستان.
هو الفيلسوفُ أبو عليٍّ محمَّدُ بنُ الحَسَن بن الهيثم البصري أصلُه بصري، سكن الديارَ المصريَّةَ إلى أن مات. كان من أذكياءِ بني آدم، عديمَ النظيرِ في عَصرِه في العلمِ الرياضي. وكان متزهِّدًا زُهدَ الفلاسفة. لخَّص كثيرًا من كتُبِ جالينوس، وكثيرًا مِن كتب أرسطوطاليس. وكان رأسًا في أصول الطبِّ وكليَّاتِه. وكان قد وَزَر في أوَّل أمرِه، ثمَّ تزهَّد وأظهر الجنونَ، وكان مليحَ الخطِّ يَنسَخُ في بعضِ السَّنةِ ما يكفيه لعامِه من إقليدس والمجسطي. قال عنه الذهبي: "صاحِبُ المصنَّفات الكثيرةِ في علوم الأوائِلِ، وكان مقيمًا بالجامِعِ الأزهر, وهو على اعتقادِ الأوائِلِ لا رَحِمَهم الله, وقد صَرَّحَ بذلك نسألُ اللهَ العافيةَ" وله مُصَنَّفات كثيرة مُعظَمُها في الرياضيَّات والهندسة، وباقيها في الإلهيَّات، وعامتها مقالاتٌ صغار. قال ابن خلدون: " أشهَرُ مَن ألَّف في عِلمِ المناظرةِ مِن فروعِ الهندسة ابنُ الهيثم, وهو عِلمٌ يتبيَّنُ به أسبابُ الغلَطِ في الإدراك البصريِّ بمعرفةِ كيفيَّة وقوعِها بناءً على أنَّ إدراكَ البصر يكون بمخروط شعاعيٍّ رأسُه نقطةُ الباصِرِ وقاعدتُه المرئيُّ. ثمَّ يقع الغلَطُ كثيرًا في رؤية القريبِ كبيرًا والبعيدِ صغيرًا. وكذا رؤية الأشباح الصَّغيرة تحت الماء ووراء الأجسامِ الشَّفَّافةِ كبيرةً، ورؤيةُ النُّقطة النَّازلة من المطَرِ خطًّا مستقيمًا والسّلقة دائرة وأمثال ذلك. فيتبيَّنُ في هذا العلم أسبابُ ذلك وكيفيَّاته بالبراهينِ الهندسيَّة، ويتبيَّن به أيضًا اختلافُ المنظَرِ في القمَرِ باختلاف العَروضِ الذي يُبنى عليه معرفةُ رؤية الأهِلَّة وحصول الكُسوفات.".
حَصَل اجتماعُ الأمراءِ والملوكِ، ببغداد، على خلافِ السُّلطانِ مسعود، والخُطبةِ للمَلِك داود بن أخيه السُّلطان محمود، فجمع السُّلطانُ مسعود العساكِرَ وسار إلى بغداد، ولَمَّا وصل السُّلطانُ نزل على بغداد وحَصَرها وجميعَ العساكِرِ فيها، وثار العيَّارون ببغداد وسائِرِ محالِّها، وأفسدوا ونَهَبوا، وقَتَلوا، وحصرهم السُّلطانُ نَيِّفًا وخمسين يومًا فلم يَظفَرْ بهم، فعاد إلى النهروان عازمًا على العَودِ إلى همذان، فوصله طرنطاي صاحِبُ واسط ومعه سفن كثيرة، فعاد إليها وعبَرَ فيها إلى غربيَّ دجلةَ، وأراد العَسكَرُ البغدادي مَنْعَه، فسبقهم إلى العبور، واختلفت كَلِمتُهم، فعاد الملك داودُ إلى بلاده وتفَرَّق الأمراء، وكان عماد الدين زنكي بالجانبِ الغربيِّ فعبَرَ إليه الخليفة الراشد بالله وسار معه إلى الموصِل في نفَرٍ يَسيرٍ مِن أصحابه، فلمَّا سَمِعَ السُّلطانُ مسعود بمفارقة الخليفة وزنكي بغداد سار إليها واستقَرَّ بها، ومنع أصحابَه من الأذى والنَّهبِ، وكان وصولُه مُنتصَفَ ذي القعدة، فسكنَ النَّاسُ واطمأنُّوا بعد الخوفِ الشَّديدِ، وأمَرَ فجُمِعَ القضاةُ والشُّهود والفُقَهاء وعَرَض عليهم اليمينَ التي حلف بها الراشِدُ بالله لمسعود، فأفتَوا بخروجه من الخلافةِ، فتقَدَّمَ السُّلطانُ بخَلعِه وإقامةِ مَن يَصلُحُ للخلافة، فخُلِعَ وقُطِعَت خُطبتُه في بغداد وسائِرِ البلاد، وكانت خلافتُه أحد عشر شهرًا وأحدَ عشر يومًا.
قام في ينبع الأمير دراج- جد الأشراف ذوي هجار القاطنين بينبع النخل- بدور نبيل في حفظ مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبث أميرِها حسن بن الزبير الذي تهجم على مخزون الحجرة الشريفة، ودخل المدينة في ربيع الأول سنة 901 وسيطر على الأوضاع بالمدينة، واطمأن الناس بوصوله إليها. إلا أن هذا الأمير دراج توفي سنة 902، وتنازع أبناؤه على إمرة ينبع، فبرز منافس قوي من الأشراف لأبناء دراج على الإمارة فتح بابًا لصراع سياسي وعسكري فترة من الزمن، هو يحيى بن سبع، وبالرغم من توليه الإمارة في جمادى الآخرة سنة 903 إلا أن ذلك لم يصدر من السلطان المملوكي إنما من أمير مكة، فحمل هذا الأمير الينبعي على المماليك، ودخل معهم في صراع مسلح مستعينًا بقبائل ينبع وما جاورها في قطع طريق قوافل أمراء حج المماليك. ودخل في حلبة هذا الصراع سنة 908 أمير مكي خارج على إخوته هو أحمد بن محمد بن بركات المعروف بالجازاني، وعاشت الحجاز فترة من الصراع الحامي حتى هُزِم ابن سبع سنة 912, وتواصلت الصراعات في مكة وما حولها بسبب الجازاني وابن سبع في هذا العام وما بعده، ونالت جُدَّة منها نصيبًا، فما إن يخرج أمير من مكة حتى يهاجم جُدَّة ليسيطر على تجارتها ويجبي مكوسها ويموِّل عسكره ورجاله استمرارًا للصراع المسلح, وقُتل الجازاني سنة 909 في شهر رجب وهو يطوف بالبيت العتيقِ.
قام الصِّدِّيقُ أبو بكرٍ رضِي الله عنه بعَقْدِ أربعةِ أَلوِيةٍ لفَتْح بِلادِ الشَّام بعدَ أن فَرَغَ مِن حُروبِ الرِّدَّةِ، وجعَل قِيادَتَها لأبي عُبيدةَ بن الجَرَّاحِ، ووِجْهَتُه حِمْصُ، وعَمرِو بن العاصِ ووِجْهَتُه فِلسطينُ، وشُرَحْبِيلِ بن حَسَنَةَ ووِجْهَتُه الأُرْدُنُّ، ويَزيدَ بن أبي سُفيانَ ووِجْهَتُه دِمشقُ. وقد أَدَّتْ هذه الجُيوشُ دورَها الفعَّالَ في مُقاتلةِ الرُّومِ وانتصروا في مَواقعَ كثيرةٍ، وكان الرُّومُ في جَميعِها أكثرَ عددًا وعُدَّةً.
بعدَ أن فَرَّ يزدجردُ مِن المدائنِ وسار بِاتِّجاهِ حُلوان، والْتَفَّ مَن الْتَفَّ حولَه خِلالَ مَسيرِه فأَمَّرَ عليهم مِهرانَ وأقاموا بجَلُولاء، وتَحَصَّنوا فيها، وحَفروا الخَنادِقَ حولَها، فبعَث سعدٌ إلى عُمَر يُخبِره بذلك، فأَمَرَهُ أن يُقيمَ بالمدائنِ، ويُرْسِل إليهم هاشمَ بن عُتبةَ بن أبي وَقَّاص، فسار إليهم هاشمٌ وحاصَرهُم، واشْتَدَّ القِتالُ، وكانت النَّجدات تَصِلُ إلى الطَّرفين حتَّى فتَح الله على المسلمين، وقد قتَلوا مِن الفُرْسِ الكثيرَ.
كانت قلعةُ بركوي المتاخِمةُ للأرمن في يَدِ أبي الهيجاء بن ربيب الدَّولة، ابنِ أخت وهسوذان بن مملان، فتنافَرَ هو وخاله، فأرسل خالُه إلى الرومِ فأطمعهم فيها، فسَيَّرَ مَلِكُ الروم إليها جمعًا كثيرًا فمَلَكوها، فبلغ الخبَرُ إلى الخليفة العباسي القائمِ بأمرِ الله، فأرسل إلى أبي الهيجاءِ وخالِه مَن يُصلِحُ بينهما ليتَّفِقا على استعادةِ القلعةِ، فاصطلحا، ولم يتمَكَّنا من استعادتِها، واجتمع إليهما خلقٌ كثيرٌ مِن المتطَوِّعة، فلم يقدروا على ذلك؛ لثباتِ قَدَمِ الرُّومِ بها.
بعد أن تولى محمد خدابنده مُلكَ الصفويين وبقي إلى هذا العام؛ حيث خلعه عباسُ بن طهماسب المعروف بعباس الكبير، وعمره كان سبعة عشر عامًا، فسعى عباس إلى إقامة صلح مع العثمانيين، تنازل بمقتضاه عن تلك الأماكن التي أصبحت بيَدِ العثمانيين عام 993 كما تعهَّد بعدم سبِّ الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، في أرض مملكته، وبعث بابن عمٍّ له يدعى حيدر ميزرا رهينةً إلى إستانبول؛ لضمان تنفيذ ما اتفقا عليه.
تم توقيعُ معاهدة الصداقة "الأفغانية - السوفيتية الأولى" وهي أول معاهدة تعقِدُها أفغانستان بعد إعلان استقلالها في عام 1919؛ حيث نصَّت المعاهدة على إعادة منطقة "بنجده" -وهي التي كان الروس قد استولوا عليها في عام 1885م- والاعتراف باستقلال الولايات الإسلامية (بخارى وكييف) وعدم الاعتداء بين الطرفين 25 سنة، الأمر الذي لم يفعَلْه الاتحاد السوفيتي حتى سقوطِه في عام 1991. وقد عقَدَ هذه المعاهدةَ الملكُ أمان الله الذي ضاعف حجمَ التبادُلِ التجاري السوفيتي الأفغاني 9 مرات.
تُوفِّي الشَّيخُ حامِدٌ البَيتاويُّ رئيسُ رابطةِ عُلَماءِ فِلَسطين والنَّائِبُ في المَجلسِ التَّشريعيِّ عن كُتلةِ التَّغييرِ والإصلاحِ التَّابعةِ لحماسٍ، في مشفَى المقاصِدِ بالقُدس المُحتلَّة. وقد منع الاحتلالُ الصِّهيونِيُّ النائبَ البيتاويَّ من السفرِ لتلقِّي العلاج بالأردنِّ، ما اضطَرَّه لإجرائِها في القدس. والشيخُ البيتاويُّ رحمه الله شَغَل منصِبَ خطيبِ المسجدِ الأقصى سابقًا، وكان قد نَجَح في انتخاباتِ المَجلسِ التشريعيِّ عن حركةِ حماسٍ في عام (2006م)، واعتُقِل عدَّةَ مرَّاتٍ على يدِ قوَّات الاحتلال الإسرائيليِّ.
كَثُرَ عَبَثُ العُربان ببلاد الصعيد بقيادة الأحدب محمد بن واصل شيخ عرك، فجمع جمعًا كبيرًا، وتسمَّى بالأمير، فقَدِمَ الخبر في شعبان بأنهم كَبَسوا ناحيةَ ملوي، وقتلوا بها نحو ثلاثمائة رجل، ونهبوا المَعاصِرَ، وأخذوا حواصِلَها وذَبحوا أبقارَها، وأنَّ عَرَب منفلوط والمراغة وغيرهم قد نافقوا، وقَطَعوا بعض الجسور بالأشمونين، فوقع الاتفاقُ على الركوب عليهم بعد تخضيرِ الأراضي بالزراعة، وكُتِبَ إلى الولاة بتجهيز الإقامات برًّا وبحرًا، فأخذَ العرب حِذْرَهم، فتفَرَّقوا واختَفَوا، وقَدِمَت طائفة منهم إلى مصر، فأُخِذوا، وكانوا عشرة، فقُبِضَ ما وجد معهم من المال، وحَمل الأمير جندار، فإنهم كانوا فلَّاحيه، وأُتلِفوا، فلما برز الحاجُّ إلى بركة الحجَّاج ركب الأمير شيخو، وضرب حلقةً على الركب، ونادى مَن كان عنده بدويٌّ وأخفاه، حَلَّ دَمُه، وفَتَّش الخيام وغيرها، فقَبض على جماعة، فقتل بعضهم وأفرج عن بَعضٍ، ثمَّ لما عاد السلطان إلى الجيزة كُبِسَت تلك النواحي، وحُذِّرَ الناس من إخفاء العربان، فأُخِذَ البحري والبري، وقُبِضَت خيول تلك النواحي وسيوفُ أهلها بأسْرِها، وعُرِضَت الرجال، فمن كان معروفًا أُفرج عنه، ومن لم يعرف أقِرَّ في الحديد وحُمِل إلى السجنِ، ورُسِمَ أنَّ الفلاحين تبيعُ خُيولَهم بالسوق، ويوردون أثمانَها ممَّا عليهم من الخراجِ فبِيعَت عِدَّةُ خيول، وأُورِدَ أثمانها للمُقطِعين، والفَرَس الذي لم يُعرَف له صاحِبٌ حُمِلَ إلى إسطبل السلطان، وكُتِبَ للأمير عز الدين أزدمر، الكاشِفِ بالوجه البحري، أن يركَبَ ويكبِسَ البلادَ التي لأرباب الجاه، والتي يأويها أهلُ الفسادِ، فقَبَض على جماعةٍ كثيرة ووسَّطَهم، وساق منهم إلى القاهرةِ نحو ثلاثمائة وخمسين رجلًا، ومائة وعشرين فرسًا، وسلاحًا كثيرًا، ثم أحضَرَ الأميرُ أزدمر من البحيرة ستمائة وأربعين فرسًا، فلم يبقَ بالوجه البحري فرس، ورُسِمَ لقضاة البر وعُدولِه بركوب البغال والأكاديش، ثم كُبِسَت البهنسا وبلاد الفيوم، فركِبَ الأميران طاز وصرغتمش، بمن معهما إلى البلاد، وقد مَرَّ أهلها، واختفى بعضهم في حفائِرَ تحت الأرض، فقبضوا النِّساء والصبيان، وعاقبوهم حتى دلوهم على الرجال، فسَفَكوا دماء كثيرين، وعُوِقَب كثيرٌ من الناس بسبب من اختفى، وأُخِذَت عدة أسلحة، فحَشَد الأحدب بن واصل شيخ عرك جموعَه، وصَمَّم على لقاء الأمراء، وحَلَف أصحابه على ذلك، وقد اجتمع معه عرَبُ منفلوط، وعَرَبُ المراغة وبني كلب وجهينة وعرك، حتى تجاوزت فرسانُه عشرة آلاف فارس تحمِلُ السلاح، سوى الرجَّالة المعَدَّة، فإنَّها لا تعَدُّ ولا تحصى لكثرتِها، ثم رحل الأمير شيخو عن أسيوط، وبعث الأمير مجد الدين الهذبانى ليؤمِّنَ بنى هلال أعداء عرك، ويُحضِرَهم ليقاتلوا عرك أعداءَهم، فانخدعوا بذلك، وفَرِحوا به، وركبوا بأسلحتِهم، وقَدِموا في أربعمائة فارس، فما هو إلا أن وصلوا إلى الأمير شيخو فأمر بأسلحَتِهم وخيولهم فأُخِذَت بأسْرِها، ووضَعَ فيهم السَّيفَ، فأفناهم جميعًا، ثم قاتلوا العَرَبَ الباقين على دفَعات يقتلونهم، وأسَروا منهم الكثيرَ واستَرَقُّوا الأولادَ والحريم، وهلك من العرب خلائقُ بالعطش، ما بين فرسان ورجَّالة وجَدَّ المجَرَّدون في طلبهم، فسَلَبوهم، وصَعِدَ كثيرٌ منهم إلى الجبال، واختَفَوا في المغائر، فقَتَلَ العسكرُ وأَسَر، وسبى عددًا كثيرًا، وارتَقَوا إلى الجبال في طَلَبِهم، وأضرَموا النيران في أبواب المغائر، فمات بها خلقٌ كثير من الدخان، وخرج إليهم جماعةٌ، فكان فيهم من يُلقي نَفسَه من أعلى الجبل ولا يُسَلِّم نَفسَه، ويرى الهلاكَ أسهَلَ مِن أخذ العدوِّ له، فهلك في الجبالِ أُمَمٌ كثيرة وقُتِلَ منهم بالسيف ما لا يُحصى كثرةً، حتى عُمِلَت عدة حفائر ومُلِئَت من رمَمِهم، وأَنتَنَت البرِّيَّةُ من جِيَفِ القتلى ورِمَمِ الخَيلِ، وكان الأحدَبُ قد نجا بنفسِه، فلم يُقدَرْ عليه، ومن حينئذ أَمِنَت الطرقات برًّا وبحرًا، فلم يُسمَعْ بقاطع طريق بعدها، ووقع الموتُ فيمن تأخَّرَ في السجون من العُربان، فكان يموتُ منهم في اليوم من عشرين إلى ثلاثين، حتى فَنُوا إلا قليلًا، وفي شهر ربيع الأول قَدِمَ الأحدب محمد بن واصل، شيخ عرك من بلاد الصعيد، طائعًا، وكان من خَبَرِه أنه لما نجا وقت الهزيمة، وأُخِذَت أمواله وحَرَمُه، ترامى بعد عَودِ العسكر على الشَّيخِ المعتقد أبى القاسم الطحاوي، فكتب الشيخ في أمره إلى الأمير شيخو، يسأل العفوَ عنه وتأمينَه، على أنَّه يقومُ بدَركِ البلاد، ويلتَزِمُ بتحصيل جميع غِلالِها وأموالِها، وما يحدُثُ بها من الفَسادِ فإنَّه مُؤاخَذٌ به، وأنَّه يقابِلُ نواب السلطان من الكُشَّاف والولاة، فكُتِب له أمانٌ سُلطاني، وكُوتِبَ بتطييب خاطِرِه وحضوره آمنًا، فسار ومعه الشيخ أبو القاسم، فأكرم الأمراءُ الشَّيخَ، وأكرموا لأجله الأحدَبَ، وكان دخولُه يومًا مشهودًا، وتمثَّل الأحدَبُ بين يدي السلطان، وأنعم عليه السلطانُ وألبسه تشريفًا وناله من الأمراءِ إنعامٌ كثيرٌ، وضَمِنَ منهم درك البلاد على ما تقدَّمَ ذِكرُه، فرُسِمَ له بإقطاعٍ، وعاد الأحدب إلى بلاده بعد ما أقام نحو شهرٍ.
في ثامِنَ عشر رجب قَدِمَت طائفة كبيرة من جيش المصريِّين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأميرُ حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأميرُ سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفةٌ أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقَوِيَت القلوبُ واطمأنَّ كثير من الناس، وكان الناسُ في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيشُ الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهَمَهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرجَ يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتارُ إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقَلِقَ الناس قلقًا عَظيمًا، وخافوا خوفًا شديدًا، واختبطَ البَلَدُ لتأخُّرِ قدوم السلطان ببقيَّة الجيش، وقال النَّاسُ: لا طاقة لجيشِ الشام مع هؤلاء المصريين بلقاءِ التتار لكثرَتِهم، وإنما سبيلُهم أن يتأخَّروا عنهم مرحلةً مرحلة، وتحَدَّث الناسُ بالأراجيف فاجتمع الأمراءُ في يوم الأحد خامس شعبان بالميدان وتحالَفوا على لقاء العدو، وشَجَّعوا أنفُسَهم، ونودِيَ بالبلد أنْ لا يرحل أحدٌ منه، فسكن النَّاسُ وجلس القضاةُ بالجامِعِ وحَلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامَّة على القتال، وتوجَّهَ الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة إلى العسكَرِ الواصِلِ من حماة فاجتمع بهم في القطيعةِ فأعلَمَهم بما تحالف عليه الأمراءُ والنَّاسُ من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحَلَفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يَحلِفُ للأمراءِ والنَّاسِ إنَّكم في هذه الكَرَّة منصورون، فيقولُ له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقولُ: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأوَّلُ في ذلك أشياءَ مِن كتاب اللهِ منها قَولُه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] ولَمَّا كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكِرُ الشاميَّة فخَيَّمَت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاةُ، فصار الناسُ فيهم فريقين: فريقٌ يقولونَ إنَّما ساروا ليختاروا موضِعًا للقتالِ؛ فإنَّ المرج فيه مياهٌ كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة لِيَهرَبوا وليلحقوا بالسلطان، فلما كانت ليلةُ الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقَوِيَت ظنون الناسُ في هَرَبِهم، وقد وصلت التتارُ إلى قارة، وبلغ الأمراءَ قُدومُ السلطانِ فتَوَجَّهوا إليه من مَرجِ راهط، فلَقُوه على عقبة الشحورا في يومِ السبت ثانيَ عَشَر رمضان، ثمَّ وَرَدَ عند لقائِهم به الخبَرُ بوصول التتار في خمسينَ ألفًا مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكَرُ بأجمعه السلاح، واتَّفَقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب (وهي من الطرف الشمالي لمرج الصفر)، فلما تمَّ الترتيبُ زَحَفت كراديس التتار كقِطَع الليل، وكان ذلك وقتَ الظهر من يوم السبتِ ثاني رمضان, وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين، وحملوا على الميمنة فثَبَتَت لهم الميمنة وقاتلوهم أشدَّ قِتالٍ، ثم قُتِلَ مِن الميمنة الكثيرُ فأدركَتْهم الأمراءُ مِن القَلبِ ومِن المَيسَرة واستمَرُّوا في القتال إلى أن كَشَفوا التتارَ عن المسلمينَ واستمَرَّ القتالُ بين التتار والمسلمينَ إلى أن وقفَ كل من الطائفتينِ عن القتال، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبَلٍ قريب منه، وصَعِدَ عليه وفي نفسه أنَّه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمينَ مِن المسلمين، فلمَّا صَعِدَ الجبَلَ رأى السَّهلَ والوَعرَ كُلَّه عساكِرَ، والميسرةَ السُّلطانيةَ ثابتةً وأعلامها تخفُق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحيَّرَ واستمَرَّ بمَوضِعِه حتى كَمُلَ معه جمعُه وأتاه مَن كان خلف المنهزمينَ مِن الميمنةِ السُّلطانيَّة ومعهم عِدَّةٌ من المسلمينَ قد أسروهم، فعند ذلك جمَعَ قطلوشاه أصحابَه وشاوَرَهم فيما يفعَلُ، وإذا بكوسات- قطعتان من نحاس تشبهان الترسَ الصغير يدقُّ بأحدها على الآخِرِ بإيقاعٍ مخصوص- السُّلطانِ والبوقات قد زَحَفَت وأزعجت الأرضَ وأرجفت القلوبَ بحِسِّها، فلم يثبت بولاي وخرج من تجاهِ قطلوشاه في نحوِ العشرين ألفًا من التتار، ونزل مِن الجَبَل بعد المغرب ومَرَّ هاربًا، وبات السلطانُ وسائِرُ عساكره على ظهور الخيل والطبولُ تُضرَبُ، وتلاحقَ بهم من كان انهَزَمَ شيئًا بعد شيءٍ، وهم يَقصِدونَ ضَربَ الطبول السلطانيَّة والكوسات؛ وأحاط عسكَرُ السُّلطانِ بالجبَلِ الذي بات عليه التتارُ وشرع قطلوشاه في ترتيبِ مَن معه، ونزلوا مشاةً وفرسانًا وقاتلوا العساكِرَ، فبرزت المماليكُ السلطانية بمقَدَّميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعمِلوا في قتالهم عملًا عظيمًا، فصاروا تارةً يرمونهم بالسِّهامِ وتارة يواجهونَهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضًا بقتال من في جهتِهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميرًا بعد أمير، وألحَّت المماليك السلطانيَّةُ في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعةِ والفروسية ما لا يوصَفُ، حتى إن بعضَهم قُتِلَ تحته الثلاثةُ من الخيل، وما زال الأمراءُ على ذلك حتى انتصف نهارُ الأحد، صعد قطلوشاه الجبل وقد قُتِلَ من عسكره نحو ثمانين رجلًا، وجُرح الكثير واشتَدَّ عَطَشُهم، واتفق أنَّ بعضَ من كان أسَرَه التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعَرَّفه أنَّ التتارَ قد أجمعوا على النزولِ في السَّحَرِ لمصادمة العساكرِ السُّلطانية، وأنَّهم في شدة من العَطَشِ، فاقتضى الرأيُ أن يُفرِجَ لهم عند نزولِهم ويركَبَ الجيشُ أقفيتَهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهارَ الاثنين، ركب التتارُ في الرابعة من النَّهارِ ونزلوا من الجبل فلم يتعَرَّض لهم أحدٌ وساروا إلى النهر فاقتَحَموه، فعند ذلك رَكِبَهم بلاءُ الله من المسلمين وأيَّدَهم الله تعالى بنَصرِه حتى حَصَدوا رؤوسَ التتار عن أبدانِهم ووضعوا فيهم السَّيفَ ومَرُّوا في أثرهم قتلًا وأسرًا إلى وقت العصر، وعادوا إلى السُّلطانِ وعَرَّفوه بهذا النصر العظيم، واستمَرَّت الأمراء وبَقِيت العساكرُ في طلب التتار إلى القريتينِ، وقد كَلَّت خيولُ التتار وضَعُفَت نفوسُهم وألقَوا أسلحَتَهم واستسلموا للقَتلِ، والعساكِرُ تقتلُهم بغير مدافعةٍ، حتى إن أراذِلَ العامَّة والغِلمان قتلوا منهم خلقًا كثيرًا وغَنِموا عندئذ غنائِمَ، وقتل الواحِدُ من العسكر العشرينَ من التتار فما فوقها، ثم أدركت عُربانُ البلاد التتارَ وأخذوا في كيدهم، فيجيء منهم الاثنانُ والثلاثة إلى العِدَّة الكثيرة من التتار، كأنهم يهدونَهم إلى طريقٍ قريبةٍ مفازة، فيوصلونهم إلى البَرِّيَّة ويتركونهم بها فيموتون عطشًا، ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامَّةُ دِمشقَ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبَشَّروا النَّاسَ بالنصرِ.
هو أبو عبدالله محمَّد بن إدريس بن العبَّاس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمامُ عالِمُ العَصرِ ناصِرُ الحديثِ، فقيه المِلَّة، ثم المطَّلبيُّ الشافعيُّ، المكِّي، الغزي القرَشِيُّ، أحَدُ الأئمَّة الأربعة المشهورينَ في الفقه، ولِدَ في غزَّة عام 150هـ فعادت به أمُّه إلى مكة، وهو ابن سنتين، فنشأ بها، وأقبل على الأدبِ والعربيَّة والشعر، فبرع في ذلك. وحُبِّبَ إليه الرميُ حتى فاق الأقرانَ، وصار يصيبُ من العِشرةِ تِسعةً. ثم كتَبَ العِلمَ. قال الشافعي: "أقمتُ في بطونِ العَرَب عشرينَ سنةً آخُذُ أشعارَها ولغاتِها، وحَفِظتُ القرآنَ، فما علِمتُ أنَّه مَرَّ بي حرفٌ إلَّا وقد عَلِمتُ المعنى فيه، ما خلا حرفينِ، إحداهما: دسَّاها" وكان من أفصَحِ النَّاسِ وأحفَظِهم، رحل إلى المدينةِ وسَمِعَ من الإمام مالك, قال الشافعي: "أتيتُ مالِكًا وأنا ابنُ ثلاث عشرة سنة، وكان ابنُ عمٍّ لي واليَ المدينة، فكلَّمَ لي مالكًا فأتيته. فقال: اطلُبْ من يقرأُ لك، فقلت: أنا أقرأُ، فقرأت عليه. فكان ربَّما قال لي لشيء: أعِدْه, فأُعيدُه حِفظًا, وكأنَّه أعجَبَه". ثم رحل لليمَنِ، ثمَّ سُيِّرَ إلى العراق إلى الرشيدِ وبَقِيَ فيها وتفَقَّه، وتكررت رحلتُه إلى العراق أكثَرَ مِن مرَّة، ثم إلى مصرَ، وله مِن المؤلَّفات: الرِّسالة، والأم، واختلاف الحديث، وله ديوان شعر، انتشر مذهبُه بسبب كثرة ترحُّلِه وجَمْعِه بين طريقةِ المحَدِّثين وطريقة الفقهاء، وكان أحمدُ بن حنبل يدعو له في صلاتِه نحوًا من أربعينَ سنةً، قال يونس الصدفي: "ما رأيتُ أعقَلَ من الشافعيِّ؛ ناظرتُه يومًا في مسألةٍ ثمَّ افتَرَقنا ولَقِيَني، فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيمُ أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتَّفِقْ في مسألةٍ؟ قلت: هذا يدُلُّ على كمالِ عَقلِ هذا الإمامِ وفِقهِ نفسِه، فما زال النُّظَراءُ يَختَلِفونَ". توفِّيَ في مصر ودُفِنَ بالقرافة الصغرى، وله أربعٌ وخمسون سَنةً.
كانت حملات التنصير قد وصلت إلى البحرين عام 1893م وتأسَّست أولُ مدرسة للتعليم بالأسلوب الغربي الحديث في البحرين على يدِ البعثة، وفي عام 1894 افتتحت الإرساليةُ الأمريكية مكتبةً عامةً لها بالمنامة وبدأت عمَلَها في تقديم بعضِ الصُّحُفِ والكتُبِ لروَّادِها، ثم أنشأت الإرساليةُ الأمريكيةُ مستشفى ماسون التذكارية، ودكانًا لبيع الإنجيل، وحينها كان مجلِسُ الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة ابن حاكم البحرين يُعَدُّ من أهم المنتديات الثقافية في البحرين آنذاك، كما كان مُقبِل بن عبد الرحمن الذكير واحدًا من أهمِّ مُثقَّفي البحرين المشاركين والفعَّالين في المجلس، وحينها رأى كلٌّ مِن مقبل الذكير، ويوسف كانو ضرورةَ تأسيس نادي أدبي إسلامي، واستضافة أحد العلماء الكبار؛ لمقاومة هذه الحَمَلات التخريبية في البلادِ، من خلال أنشطة هذا النادي، فتوصَّلا بعد تحرٍّ إلى أن أفضَلَ من يمكنه تسلم إدارة النادي هو الشيخ العلامة محمد بن عبد العزيز المانع الوهيبي التميمي، وأنه لا بدَّ من العمل على إحضاره من مقر إقامته بالبصرة، وبعد أسابيع من المراسلات حضر الشيخ المانع من البصرة حاملًا معه خبرةَ أساتذته في مقاومة التبشير، الذين تتلمذ على أيديهم في مِصرَ والعراق، أمثال الشيخ محمد رشيد رضا. تسلم الشيخ المانع منصِبَه كمدير للنادي الأدبي الإسلامي بمجرد وصوله، وقد عَرَض عليه مقبل الذكير أن يجعَلَ له مدرسة للتعليم الإسلامي تكون مُلَحقةً بالنادي الإسلامي، فكان النادي في بداية تأسيسه عبارةً عن صفين دراسيين لتدريس العلوم الشرعية وبعض العلوم الحديثة، كما توفر في النادي غرفةُ مطالعة ومكتبة، فكان للشيخ المانع دورٌ فاعل في نشر العلوم الإسلامية في المنامة، وظلَّ الشيخ هناك أربع سنوات يدرِّس شباب "النادي الإسلامي" جُلَّ العلوم الإسلامية؛ مِن قرآنٍ، وفقه، ولغة، ورياضية كالعلوم الفلكية والفرائض، وأصبح النادي ملتقًى لرواد العلم والمثقفين في المنامة والبلدان المجاورة لها، كما أصبح مكانًا يتدارس فيه الأهالي أساليبَ التبشير وسُبُلَ مقاومته، ولم يكن النادي الإسلامي مجردَ مكان للثقافة والنقاشات الأدبية فحسب، بل كان مقرًّا للتواصل الفكري والعلمي مع الشعوب الإسلامية، والمراسَلات بين المفكِّرين والمثقَّفين والعلماء في البحرين والشارقة والقاهرة.