إنَّ المسجد البابري الواقعَ بمدينة "إيودهيا " في شمال الهندِ، يعودُ تاريخُه إلى القرن السادسَ عَشَرَ الميلاديِّ، عندما بناه "بابرُ" أولُ إمبراطورٍ مغوليٌّ حكَمَ الهندَ، وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين زعَم المتطرِّفون الهندوسُ أنه بُنيَ على أنقاض معبدٍ بمكان مَولِد "راما" الأسطوري المقدَّس لدى الهندوس، ولذا وجب نسفُه، والتخلصُ منه .. وجعلوها قضيةً شَعبيَّةً، وقضيَّةً عامَّةً للهندوس، وبدؤوا ينظُرون إلى هذا المسجدِ كأنَّه علامةً وشعارًا للغزوِ المسلِمِ لهذه البلاد، وكانت أحداثُه بالفعل بدايةَ مرحلة تصاعديَّةٍ جديدةٍ من تطرُّف الهندوس وعدائهم للمسلِمين، وكانت إيذانًا بحملة هندوسيَّةٍ دعائيَّةٍ، زعمَت أنَّ كلَّ مساجد المسلِمين العتيقةِ قد بُنيت على أنقاضِ معابِدِ الهندوس، وهي الحملةُ التي برَّرت هدمَ المسجد البابري في السادس من ديسمبر عام 1992/ 1413هـ، وما أعقبَه من صداماتٍ داميةٍ أوْدَت بحياة ألفَيْ مُسلمٍ، وتعود بدايةُ العُدوان على المسجد البابري إلى ما يَزيدُ عن نصفِ قرنٍ، ففي ليلة 22 ديسمبر 1949 هجمت عصابةٌ مكوَّنة من 50 -60 هندوسيًّا على المسجد البابري، ووضَعوا فيه أصنامًا لذاك الممجَّد لديهم المسمَّى "راما"، وادَّعَوْا أنَّ الأصنام ظهرَت بنفسِها في مكان ولادتِه! وقد سَمَح رئيس وزراء الهند "راجيف غاندي" للهندوس بوضع حَجَر أساس لمعبد هندوسي في ساحة المسجد، وتَبِع هذا حُكمٌ صادرٌ بمحكمة فايزباد بتاريخ 1 فبراير 1986 من طرف القاضي "ر.ك. باندي" -الذي أصبح عضوًا في الحزب الحاكم المسؤول عن هدم مسجد بابري- سمَحَ فيه بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم التعبديَّة فيه، وحذَّر السُّلطات المحليَّة من التدخل في هذا الشَّأنِ، وفي بداية الثمانينيَّات قام الهندوسي المتطرِّف "محنت راغوبير" برفع قضيةٍ أمام المحكمة بشأن كون المسجدِ البابري قد بُنيَ فوقَ معبدِ "راما" الأسطوري، إلَّا أنَّ هذه المزاعمَ تمَّ دَحْضُها بحكم القضاء في إبريل 1985 لفِقْدان أي دليلٍ تاريخيٍّ أو قانونيٍّ، ولكنَّ التَّحرُّكات الصادرة عن الحكومة العِلمانيَّة هناك قد شجَّعت المتطرِّفين الهندوس على ترتيب هدم المسجد بالكامل بتاريخ 6 ديسمبر 1992م، فقد قام عَشَرات الآلاف من الهندوس في مدينة أبوديا بالهند -يوم الأحد الحاديَ عَشَرَ من جمادي الآخرة 1413هـ- 6 ديسمبر 1992م، بتدميرِ مسجد بابري بالمدينة، بل ومَسحِه من الوجود، وهم يُرَدِّدونَ أهازيج الانتصار مُعلِنين العزمَ على البدء في بناء معبدٍ هندوسيٍّ مكانَ المسجدِ الذي يبلُغُ عمرُه ما يُناهزُ الأربعة قرونٍ ونصفَ قرنٍ، مُنادين في الوقت نفسِه بأنه قد آن الأوانُ لخروج المسلِمين من الهندِ.. وفي أعقاب هذه الجريمة النَّكْراء عمَّت حوادث الشغَب أنحاءَ الهند، وقُتِلَ فيها أكثرُ من ثلاثة آلافِ شخصٍ، وبعد وقوع جريمة الهدمِ بدأ الصراعُ على أرض المسجدِ، إلَّا أنَّ ستارًا من الصَّمْت قد أُسدل على هذه المأساة من الجانبَيْنِ معًا، فالجانبُ الهنديُّ يحرِصُ على التزام الصَّمْتِ حولَ قضية اعتداءٍ وحشيٍّ على المسلمين يكشِفُ ضراوةَ التيار الهندوسيِّ الذي نجحَ في الوصول برموزِه وقياداته إلى سُدَّة السلطة الاتِّحادية في نيودلهي، أما الجانب الإسلامي فثمَّةَ فريقٌ فيه يَدْعو إلى ابتلاع المسألة برُمَّتها، والتزام الصمت بشأنها؛ لأنَّ إثارتها لن تؤديَ إلا إلى مزيد من المشكلات للمسلِمين في الهند، ثم أعلنَ المجلس الهندوسيُّ العالميُّ الذي ينتمي إليه حزب رئيس الوزراء الهنديِّ "أتال بيهاري فاجابايي" في 20/5/2001 بأنه سيبدَأ قريبًا في بناء معبدٍ بالقرب من موقع المسجدِ البابري، واعتُبر هذا الإعلانُ بمثابة تَحَدٍّ للحكومة الهندية التي تعارِضُ بناءَ هذا المعبد، حيث صرَّح وزير الداخليَّة "لال كيرشنا أدفاني" بعدها بأنَّه لن يسمَحْ ببناء ذلك المعبد، والمعروف أن الحكوماتِ الهنديَّة المتعاقِبة وعدَت المسلمين بإعادة بناء المسجد المهدَّمِ، إلَّا أنها تقاعَسَت عن تنفيذ وعودها.
خرج المَلِكُ الظاهر برقوق مِن سجن الكرك، واستولى على مدينتِها ووافقه نائِبُها الأمير حسام الدين حسن الكجكني، وقام بخِدمتِه، وقد حضر إلى الملك الظاهر برقوق ابنُ خاطر أمير بني عقبة من عرب الكَركِ، ودخل في طاعته، وقَدِمَ هذا الخبر من ابن بأكيش نائب غزة، فلمَّا سمعه منطاش- الذي تغلب على الناصري وأصبح هو نائِبَ السلطنة- أرسل من يقتُلُ الظاهر برقوق في سجنه، واضطربت الديارُ المصرية، وكَثُرَت القالة بين الناس، واختلفت الأقاويلُ، وتشَغَّب الزعر، وكان مِن خَبَرِ الملك الظاهر برقوق أنَّ منطاش لَمَّا وثب على الأمر وقهر الأتابك يلبغا الناصري وحبسه وحَبَس عِدَّةً من أكابر الأمراء، عاجَلَ في أمر الملك الظاهر برقوق بأن بعث إليه شخصًا يُعرَفُ بالشهاب البريدي، ومعه كتُبٌ للأمير حسام الدين الكجكني نائب الكرك وغيره بقَتلِ الملك الظاهر برقوق من غير مراجَعةٍ، ووعده بأشياءَ غيرِ نيابة الكرك، وكان الشهابُ البريدي أصلُه من الكرك، فجَهَّزه منطاش لذلك سرًّا، فلما وصل الشهاب إلى الكرك أخرج الشهابُ إلى نائبها كتابَ منطاش الذي بقَتلِ برقوق، فأخذه الكجكني منه ليكونَ له حُجَّةً عند قَتْلِه السلطان برقوق، ووعَدَه بقضاء الشُّغلِ وأنزل الشهابَ بمكان قلعة الكرك قريبًا من الموضِعِ الذي فيه الملك الظاهر برقوق، بعد أن استأنَسَ به، ثم قام الكجكني من فَورِه ودخل إلى الملك الظاهر برقوق ومعه كتاب منطاش الذي بقَتلِه، فأوقفه على الكتابِ، فلمَّا سمعه الملك الظاهر كاد أن يَهلِكَ من الجزع، فحَلَف له الكجكني بكلِّ يمين أنَّه لا يُسَلِّمُه لأحد ولو مات، وأنَّه يطلِقُه ويقومُ معه، وما زال به حتى هدأ ما به، وطابت نفسُه، واطمأنَّ خاطِرُه، وقد اشتهر في مدينة الكرك مجيءُ الشهاب بقتل الملك الظاهر برقوق، وكان في خدمةِ الملك الظاهر غلامٌ مِن أهل الكرك يقال له عبد الرحمن، فنزل إلى جماعةٍ في المدينة وأعلَمَهم أن الشهابَ قد حضر لقَتلِ أستاذه الملك الظاهر، فلمَّا سمعوا ذلك اجتمعوا في الحال، وقَصَدوا القلعة وهجموها حتى دخَلوا إلى الشهاب وهو بسَكَنِه من قلعة الكرك، ووثَبوا عليه وقَتَلوه، ثم جَرُّوه برجله إلى الباب الذي فيه المَلِك الظاهر برقوق، وكان نائِبُ الكرك الكجكني عند الملك الظاهر، وقد ابتدؤوا في الإفطار بعد أذان المغرب، وهي ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة 791 فلم يشعر الملك الظاهر والكجكني إلَّا وجماعة قد هجموا عليهم، وهم يدعون للملك الظاهر بالنَّصرِ، وأخذوا الملك الظاهِرَ بيَدِه حتى أخرجوه من البرجِ الذي هو فيه، وقالوا له: دُسْ بقدمك عند رأس عدُوِّك، وأروه الشهابَ مقتولًا، ثم نزلوا به إلى المدينةِ فدُهِشَ النائب مما رأى، ولم يجِدْ بدًّا من القيامِ في خدمة الملك الظاهر وتجهيزِه، وانضَمَّ على الملك الظاهِرِ أقوام الكرك وأجنادُها، وتسامع به أهلُ البلاد، فأتَوه من كُلِّ فَجٍّ بالتقادم والخيول، كل واحدٍ بحَسَبِ حالِه، وأخذ أمرُ الملك الظاهر برقوق من يومِ ذلك في استظهارٍ، وأما أمر منطاش فإنه لما سَمِعَ هذا الخبر وتحقَّقَه، علم أنه وقع في أمرٍ عظيم، فأخذ في تدبيرِ أحوالِه، فأول ما ابتدأ به أن قَبَض على جماعةٍ كبيرة من المماليك الظاهرية، وسجنهم وقَتَل بَعْضَهم.
قُتِلَ الأميرُ الدمر جاندار بمكَّةَ في يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، وكان مِن خَبَرِه أنَّ أميرَ الرَّكبِ العراقيِّ في هذه السنة كان من أهل توريز يُعرَفُ بمحمد الحجيج، وكان يتقَرَّب من أولاد جوبان، فترقَّى بهم إلى معرفةِ السلطان أبو سعيد بن خربندا ملك التتار بالعراق، فعَظُمَ أمرُه وجعَلَه من نُدَمائِه، وبَعَثَه رسولًا إلى مصرَ غَيرَ مَرَّة، فأُعجِبَ به السلطانُ الناصِرُ ولاق بخاطِرِه إلى أن بلغه عنه أنَّه تعَرَّض في مجلس أبي سعيد لشيءٍ ذكر مما يكرَهُه السلطان، فتنكَّرَ له وأسَرَّ ذلك في نفسِه، فلمَّا بلَغَه أنَّه سار أميرُ الركب العراقي كتب إلى الشَّريفِ عُطَيفة بن أبي نمي سرًّا أن يتحَيَّلَ في قتله، فلم يجِدْ عطيفة بدًّا من امتثال ما أُمِرَ به، وأطلَعَ ولده مبارك بن عطيفة ومن يثِقُ به على ذلك، وتقَدَّم إليهم بإعمال الحيلة فيه، فلما قضى الحاجُّ النُّسُكَ عاد منهم الأمير علم الدين سنجر الجاولي إلى مصر ومعه جماعةٌ في يومِ الأربعاء ثاني عشر ذي الحجة، وتأخَّرَ الأمير سيف الدين خاص ترك أمير الحاج، والأميرُ الدمر جاندار، والأمير أحمد ابن خالة السلطان، ليُصَلُّوا بمكَّةَ صلاة الجمعة، ومعهم بقيَّةُ حجَّاج مصر، فلما حضروا للجمعة وصَعِدَ الخطيب المنبر، أراد الشَّريفُ عَمَل ما رُسِمَ له به، وأخَذَ العبيدُ في إثارةِ الفِتنةِ بين الناس ليحصُلَ الغَرَضُ بذلك، وأوَّل ما بدؤوا به أن عبثوا ببعضِ حاجِّ العراق، وخطفوا شيئًا من أموالِهم، وكان الشريفُ عطيفة جالسًا إلى جانب الأمير خاص ترك أميرِ الركب، فصرخ النَّاسُ بالأمير الدمر وليس عندَه عِلمٌ بما كَتَب به السلطانُ إلى الشَّريفِ عُطَيفة، وكان مع ذلك شُجاعًا حادَّ المزاجِ قَويَّ النفس، فنهض ومعه من المماليكِ، وقد تزايد صراخُ النَّاسِ، وأتى الشَّريفَ وسَبَّه، وقَبَض بعضَ قُوَّادِه وأخرَقَ به، فلاطفه الشريفُ فلم يَلِنْ، واشتد صياحُ الناس، فركب الشريف مبارك بن عطيفة في قوَّادِ مكة بآلة الحَربِ، وركب جندُ مِصرَ، فبادر خليلٌ ولد الأمير الدمر وضرب أحدَ العبيد، فرماه العبدُ بحَربةٍ فقَتَله، فاشتَدَّ حنَقُ أبيه وحَمَل بنفسه لأخذ ثأرِ ولَدِه فقُتِلَ هو أيضًا، ويقال بل صادف الشريف مبارك بن عطيفة، وقد قصد ركبَ العراق وعليه آلةُ حَربِه، فقال له: "ويلك تريدُ أن تثيرَ فِتنةً، وهمَّ أن يَضرِبَه بالدبوس، فضربَه مبارك بحَربةٍ كانت في يده أنفَذَها من صدره فخَرَّ صريعًا، وقُتِلَ معه رجلان من جماعته، فركب أميرُ الركب عند ذلك ونجا بنَفسِه، ورُمِيَ مُبارك بن عطيفة بسَهمٍ في يده فشُلَّت، واختبط الناسُ بأسرهم، وركب أهلُ مكة سطحَ الحَرَم، ورموا الأميرَ أحمد ابن خالة السلطان ومن معه بالحجارة، وقد أفرغ نشَّابه بين يديه هو ومن معه، ورمى بها حتى خلَصَ أيضًا، وفَرَّ أمير ركب العراق وتحيَّرَ الشريف عطيفة في أمره، وما زال يداري الأمرَ حتى خرج الحاجُّ بأجمعهم من مكة، وتوجَّهوا إلى بلادِهم، وتراجع الأمراءُ المصريُّونَ إلى مكة لطَلَبِ بعض الثأر فلم يُنتِجْ أمرُهم وعادوا فارِّينَ، ثم أمَرَ أمير المصريين بالرَّحيل، وعادوا إلى القاهرة وأخبروا المَلِكَ الناصر محمد بن قلاوون، فجهَّزَ إلى مكة عسكرًا كثيفًا وعليه جمعٌ من الأمراء، فتوَجَّهوا وأخفَوا بثأرِ أيدمر وابنه، وقتلوا جماعةً كثيرةً مِن العبيد وغيرهم، وأسرفوا في ذلك وخرجوا عن الحَدِّ إلى الغاية، وتشَتَّت أشرافُ مَكَّة والعبيد عن أوطانِهم وأُخِذَت أموالهم، وحَكَمَت التركُ مَكَّةَ من تلك السنة، وزال منها سَطوةُ أشراف مكة الرَّافضة والعبيد، وانقَمَع أهلُها وارتدعوا، وكَرِهَهم المَلِكُ الناصر ومَقَتَهم وأقصاهم، حتى إنَّه لما حج بعد ذلك كان إذا أتاه صاحِبُ مكَّة لا يقومُ له مع تواضُعِ المَلِك الناصِرِ للفقهاء والأشراف والصُّلَحاءِ وغَيرِهم.
هو العلَّامة الفقيهُ المجتهدُ الربَّاني الحنفي، أبو الهذيل زُفَر بن الهذيل بن قيس بن سلم وُلد سنة 110 في العراق. وكانت أسرة زُفر على جانبٍ مِن سَعة الرزق وبُحبوحة العيش، وهو ما ساعَده على الانصراف إلى طلب العلمِ دون أن يشغَلَ نفسَه بأعباءِ الحياة، فحَفِظَ القرآنَ صغيرًا واستقام به لسانُه، وتفتَّحَت مواهِبُه واستعَدَّت لطلب العلم، ومالت نفسُه ورَغِبَت في تلقِّي الحديثِ النبوي، فتردَّدَ على حلقاتِه واتصل بشيوخِه الأبرار، وفي مقدِّمتِهم محدِّث الكوفة سليمان بن مهران المعروف بالأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعيد بن أبي عَروبة، وإسماعيل بن أبي خالد، ومحمد بن إسحاق، وأيوب السختياني في أصبهان. ثم ذهب إلى أصبهان مع والده، في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان أبوه قد تولَّى أمرَ أصبهان، وفي الفترة التي أقامها زُفَرُ في أصبهان أخذ عن عُلَمائها ومحدِّثيها المشهورين، حتى أصبحَ حافظًا مُتقنًا، وثِقةً مأمونًا. ولَمَّا رسخت قدمه في السُّنَّة أقبل عليه طلابُ العِلمِ يتعلَّمون على يديه، ويروونَ عنه أحاديثَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهَرِ هؤلاء: أبو نُعَيم الأصبهاني، وحسان بن إبراهيم، وأكثم بن محمد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، وخالد بن الحارث. وكان زُفَرُ محدِّثًا بصيرًا وخبيرًا بفنون الحديثِ، وناقدًا دقيقًا، ويصف أبو نُعَيم ذلك بقوله: "كنتُ أعرِضُ الحديثَ على زُفَر، فيقول هذا ناسِخٌ وهذا منسوخ، وهذا يؤخَذُ به وهذا يُرفَض". وبلغ من سَعةِ عِلمِه وتمكُّنه من فنون الحديث وقدرتِه على التمييز بين درجاتِ الحديث من حيثُ الصِّحةُ والضَّعفُ أنه كان يقول للحافظ أبي نعيم: "هاتِ أحاديثَك، أُغَرْبِلْها لك غَربلةً"، ولَمَّا عاد إلى الكوفة وكانت تموجُ بحلقاتِ العلماء، استأنف اتصالَه بكبار الأئمة، وانتظم في حلقاتِهم، ونهَل من عِلمِهم، حتى اتَّصل بأبي حنيفة النعمان، وكان قد انتهت إليه رئاسةُ الفِقه في العراقِ، واتَّسَعت شهرتُه، فلازمه ملازمةً لصيقةً، حتى غلب عليه الفقهُ وعُرِفَ به، فقيل: "كان صاحِبَ حديثٍ، ثم غلَبَ عليه الفِقهُ". ويذكرُ أبو جعفر الطحاوي أنَّ سبب انتقال زُفَر إلى حلقةِ أبي حنيفةَ مسألةٌ فقهيَّةٌ أعيَتْه وأعيَتْ أصحابَه من المحدِّثين، وعجزوا عن حَلِّها، فلما أتى بها إلى أبي حنيفة أجابه إجابةً شافيةً، فكان ذلك أحدَ الأسبابِ التي دفعت بزُفَرَ إلى الاشتغالِ بالفقه والإقبال عليه، فالتزم أبا حنيفةَ أكثر من عشرين سنة، ووجد فيه الفَهمَ العميقَ والفِكرَ السَّديد، ومالت نفسُه إليه. ولَمَّا توفِّي أبو حنيفة النعمان خلَفَه في حلقتِه زُفَرُ بن الهذيل بإجماعِ تلامذةِ الإمام دونَ مُعارضةٍ، وقد رفض منصِبَ القضاء حين عُرِضَ عليه، وظل منقطعًا إلى العِلمِ، وقد توفِّيَ وهو في الثامنة والأربعين. قال الذهبي: ذكَره يحيى بن مَعين، فقال: ثقةٌ مأمون
هو الإمامُ العلَّامةُ الأوحد الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، الثِّقةُ الثَّبتُ, التقي الوَرِعُ المجاهد المحتَسِب, ذو الهمة العالية والشجاعة المتناهية, الذي خَلَف والِدَه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مؤازرة الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخَلَفه في بثِّ العلم والقيام بدعوة التوحيد ونَشْرها، والدفاع عنها بالقلَمِ واللسان، والحُجَّة والبيان، وهو عالمُ نجد بعد أبيه ومُفتيها، ومَن له الفتاوى السديدة والأجوبة العديدة، والرُّدود العظيمة، ومن ضُرِبَت إليه أكبادُ الإبل مِن سائِرِ بلدان نجد، وتوالت عليه الأسئلةُ من جميع قرى نجد ومدُنِها. ولِدَ في الدرعية سنة 1165هـ ونشأ بها في كَنَف والده، وقرأ القرآنَ حتى حَفِظه ثم شرع في القراءةِ على والده، فتفَقَّه في المذاهب الإسلامية، ومهَرَ في علمي الفروع والأصول، وكان مع هذا عالِمًا بارزًا في علم التفسير والعقائد وأصول الدين، عارفًا بالحديث ومعانيه، وبالفِقهِ وأصوله، وعلم النحو واللغة، وله اليدُ الطولي في جميع العلوم والفنون، كرَّس جُهدَه وأوقف حياته على تحصيلِ العلم وتعليمه ونَشْره تدريسًا وتأليفًا، فأخذ عنه العِلمَ خلقٌ كثيرٌ من فطاحلة عُلماء نجد وجهابِذتِهم، وكان مَرجِعَ القضاة في عهد الإمامِ عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنِه الإمام سعود، وابنِه الإمام عبد الله، وقد ألَّف مؤلفات كثيرة، منها: جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية، ردَّ به على بعض عُلماء الزيدية الذين اعترضوا على دعوةِ التوحيد السَّلَفية، وألَّف مختَصَر السيرة النبوية في مجلَّدٍ ضخمٍ، والكلمات النافعة في المكفِّرات الواقعة، وألَّف منسكًا صغيرًا للحج، وكتب رسائِلَ وفتاوى كثيرة، وكان له دروسٌ خاصة يحضُرُها الإمام سعود عبد العزيز، وابنه الإمام عبد الله بن سعود، في الدرعية، وقد صَحِبَ الأمير سعودَ بن عبد العزيز في دخوله مكَّةَ سنة 1218، وكتب حالَ دخوله مكة المكرمة مع الأمير سعود رسالةً وإجابةً منه لِمن سأله عمَّا يعتقدونه ويدينون للهِ به، وكان مع هذا شجاعًا مِقدامًا، وقف في باب البجيري المعروف -أثناء حصار إبراهيم باشا للدرعيَّة- وشهَرَ سَيفَه وقاتل قِتالَ الأبطال قائلًا كلمته المشهورة: "بطنُ الأرض على عِزٍّ خيرٌ من ظهرِها على ذُلٍّ" وقاتَلَ حتى رد العساكِرَ وزحزحهم عن مواقِفِهم، وذلك في آخر حرب الباشا على الدرعية، ثم نقله باشا إلى مصرَ بعد ما استولى على الدرعية، وذلك سنة 1242هـ, ونقل معه ابنه عبد الرحمن، وبقي بمصر محدودَ الإقامة حتى توفِّيَ بمصر، وقد أنجب ثلاثةَ أبناء عُلَماء، هم: الشيخ سليمان، الذي قتله إبراهيم باشا في الدرعية، وعليٌّ قُتِلَ فيما بعد على يد بعض عساكرِ الترك بنجد، وعبد الرحمن نُقِلَ مع أبيه إلى مصر صغيرًا وتعلَّم بها ودرَّس برُواق الحنابلةِ.
كان أبو بكرٍ قد أَمَر خالدَ بن الوَليد بعدَ أن انتهى مِن الفِراض بالانتقالِ إلى الشَّامِ؛ لِمُساندةِ جُيوشِ الفَتحِ هناك، فسار خالدٌ مِن الفِراض حتَّى وصل اليَرْموكَ وجاء كِتابُ عُمَر بعدَ اليَرْموك: أن ابْدَؤوا بِدِمشقَ فإنَّها حِصْنُ الشَّام. ولمَّا وصلت جُيوشُ المسلمين دِمشقَ شَدَّدوا الحِصارَ عليها سبعين يومًا، طَوَّقوها مِن جِهاتِها كُلِّها، ومَنعوا المَدَدَ إليها، فانْكَسرت حَمِيَّتُهم وفُتِحَت المدينةُ بعدَ أن تمَّ احْتِلال الغُوطةِ منعًا للإمدادات، ووُلِّيَ عليها يَزيدُ بن أبي سُفيانَ، ثمَّ سار المسلمون إلى فِحْلٍ، ثمَّ إلى حِمْصَ، ثمَّ إلى قِنَّسْرِينَ واللَّاذِقِيَّةِ وحَلَب.
في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبَبُ عودهم أنَّهم كانوا ينقلون ما يريدونَه مِن الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجونَ على مَن يجلِبُ لهم الميرةَ فيَقطَعونَ الطريق ويَغنَمونَ ما معهم، ثم إنَّ ملك الإنكليز قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صَوِّروا لي مدينةَ القدس؛ فإني ما رأيتُها، فصوروها له، فرأى الواديَ يُحيطُ بها ما عدا موضِعًا يسيرًا من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عُمقِه، فأُخبِرَ أنه عميق، وَعرَ المسلك، فقال: هذه مدينةٌ لا يُمكِنُ حَصرُها ما دام صلاح الدين حيًّا وكَلِمةُ المسلمين مجتمعةً، فأشاروا عليه بالعَودِ إلى الرملة، فعادوا خائبينَ خاسرين.
خرج كثيرٌ من الفرنج في البحر إلى الشام، وسَهَّلَ الأمرَ عليهم بذلك مُلْكُهم للقُسطنطينيَّة، فأرسوا بعكَّا، وعزموا على قَصدِ بيت المقدس، واستنقاذه من المسلمين، فلما استراحوا بعكَّا ساروا فنهبوا كثيرًا من بلادِ الإسلام بنواحي الأردن، وسَبَوا، وفتكوا في المسلمين، وكان الملك العادل بدمشقَ، فأرسل في جمع العساكِرِ مِن بلاد الشام ومصر، وسار فنزل عند الطور بالقربِ مِن عَكَّا؛ لمنع الفرنج من قصد بلاد الإسلام، ونزل الفِرنجُ بمرج عكا، وأغاروا على كفركنا، فأخذوا كلَّ من بها وأموالهم، والأمراء يحثُّون العادِلَ على قصد بلادِهم ونَهْبِها، فلم يفعل، فبَقُوا كذلك إلى أن انقَضَت السنة.
قَدِمَ إلى طرابلس يوم الاثنين العاشر من صفر مركب فيه عدةٌ من الفرنج، فخرج الناسُ لحربهم، وكان بالميناء مراكِبُ لتجَّار الفرنج، فاجتمعوا على مراكب المسلمين التي قد شُحِنَت بالبضائع لتسيرَ إلى أرض، وأخذوا منها مركبين فيهما مال كبير، وأسروا خمسة وثمانين مسلمًا بعدما قاتلوا قتالًا شديدًا وغرق جماعةٌ وفرَّ جماعة، وأصبحوا من الغدِ على الحرب، فوقع الاتفاقُ على فكاك من أسروه بمالٍ يُحمَلُ إليهم، فلما حُمِل إليهم بعضُ المال أسروا الرجلَ، ومضوا في ليلة الخميس الخامس عشر، ونزلوا على قرية هناك فقاتلهم أميرُها، وقبضهم وجاء بهم إلى طرابلس، فسُجِنوا، وأخذ المسلمون مركَبَهم.
هو القاسِمُ بن محمَّد بن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق، أَحَدُ الفُقَهاء السَّبعَة بالمَدينَة، مِن سادات التَّابِعين, كان ثِقَةً عالِمًا، مات أَبوهُ وعُمُرُه سَبعُ سَنوات, تَرَبَّى في حِجْرِ عَمَّتِه عائِشَة رَضِيَ الله عنها فتَفَقَّهَ عليها، فكان فَقيهًا إمامًا وَرِعًا كَثيرَ الحَديثِ، قال أبو الزِّناد: ما رَأيتُ أَحَدًا أَعلمَ بالسُّنَّةِ مِن القاسِم بن محمَّد، وما كان الرَّجُل يُعَدُّ رَجُلًا حتَّى يَعرِفَ السُّنَّة، وما رَأيتُ أَحَدًا أَحَدَّ ذِهْنًا مِن القاسِم. قِيلَ: إنَّه مات بقُدَيْد، فقال: كَفِّنُونِي في ثِيابِي التي كُنتُ أُصَلِّي فيها، قَميصي ورِدائي، هكذا كُفِّنَ أبو بَكرٍ. وأَوْصَى أن لا يُبْنَى على قَبرِه.
لَمَّا وَلِيَ إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس إمارةَ مِصرَ لم يرضَ بما كان يأخُذُه قبله الأمراءُ، وزاد على المُزارعين زيادةً أفحَشَت بهم فسَئِمَته الناسُ وكَرِهَته وخرج عليه جماعةٌ مِن أهل الحوفِ مِن قيس وقضاعة، فحاربَهم إسحاقُ، وقُتل من حواشيه وأصحابِه جماعةٌ كبيرة، فكتب إسحاقُ يُعلِمُ الرَّشيدَ بذلك، فعَظُمَ على الرشيدِ ما ناله من أمرِ مِصرَ، وصَرَفه عن إمرَتِها وعقَدَ الرَّشيدُ لهرثمة بن أعيَن على إمرة مصرَ، وأرسله في جيشٍ كبير إلى مصرَ، فتلقَّاه أهلُ مِصرَ بالطاعةِ وأذعنوا له، فقَبِلَ هرثمة منهم ذلك، وأمَّنَهم وأقَرَّ كُلَّ واحدٍ على حاله.
حَجَّ بالنَّاسِ مِن العراقِ أبو الحارِثِ محمَّدُ العَلَويُّ، فاعتَرَض الرَّكبَ الأُصيفِرُ الشِّيعيُّ الأعرابيُّ، وعَوَّل على نهبِهم، فقالوا: مَن يكَلِّمُه ويقَرِّرُ له ما يأخُذُه مِن الحاجِّ؟ فقَدَّموا أبا الحُسَينِ بنَ الرفاء وأبا عبد الله بن الدجاجيَّ، وكانا من أحسَنِ النَّاسِ قراءةً، فدخلا عليه وقرآ بينَ يديه، فقال لهما: كيف عَيشُكما ببغداد؟ قالا: نِعمَ العَيشِ، تَصِلُنا الخِلَعُ والصِّلاتُ. فقال: هل وهَبوا لكما ألفَ ألفِ دينارٍ في مرَّةٍ واحدةٍ. قالا: لا، ولا ألفَ دينارٍ؟ فقال: قد وهبْتُ لكما الحاجَّ وأموالَهم، فدَعَوا له وانصَرَفوا وفَرِحَ النَّاسُ، فكان ذلك سبَبَ سَلامةِ الحَجيجِ مِن هذا الأعرابيِّ
حاول الباطنية الإسماعيلية الاستيلاءَ على حصن شيزر مستغلين خروج أصحابه بني منقذ منه، ولكنَّ بني منقذ أدركوهم وقاتلوهم حتى أخرجوهم من الحصن وقُتل من الطرفين الكثير، كما قام الباطنية الإسماعيلية باغتيال عدد من القضاة، منهم: قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي، وقتلوا قاضي نيسابور صاعد بن محمد أبو العلاء البخاري، وقتلوا أيضًا قاضي آمد عبد الواحد بن إسماعيل الروياني الشافعي، وقام في السنة التالية بعض الباطنية على الوزير أبي نصر بن نظام الملك لقتله، فضربوه بالسكاكين فجرحه أحدُهم في رقبته، ثم أُخِذ الباطني فسُقِيَ الخمر فأقرَّ على جماعة من الباطنية، فأُخذوا فقُتلوا.