هو الشيخُ، الإمامُ، القُدوَةُ، المُجتَهِد، شيخُ الإسلامِ، أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن عليِّ بن يوسفَ الفيروزاباذي الشِّيرازيُّ، الشافعيُّ، الأشعريُّ, نَزيل بغدادَ، قِيلَ: لَقَبُه جَمالُ الدِّينِ، وُلِدَ سَنةَ 393هـ في قَريةِ فيروزباذ من قُرَى فارس، وقِيلَ: هي مَدينَة خوارزم، وهو شيخُ الشافعيةِ في عَصرِه, ومُدَرِّسُ النِّظاميَّةِ ببغداد، تَفَقَّه بفارس على أبي عبدِ الله البَيضاوي، ثم قدم بغداد سَنةَ خَمس عشرة وأربعمائة، فتَفَقَّه على القاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبريِّ، وبَرَعَ على يَدِه، وصار مُعيدَهُ، وكان يُضرَب المَثَلُ بفَصَاحَتِه وقُوَّةِ مُناظَرتِه. وسَمِعَ الحَديثَ من ابنِ شاذان والبرقاني، وكان عابِدًا وَرِعًا، مُتواضِعًا، ظَريفًا، كَريمًا، جَوَادًا، طَلْقَ الوَجْهِ، دائِمَ البِشْرِ، مَليحَ المُحاوَرَةِ، زاهِدًا، جاءَتهُ الدُّنيا صاغِرةً، فأَبَاهَا، واقتَصرَ على خُشونَةِ العَيْشِ أيامَ حَياتِه. كان كَبيرَ القَدْرِ مُعَظَّمًا مُحتَرمًا إمامًا في الفِقْهِ والأُصولِ والحَديثِ، وفُنونٍ كَثيرةٍ. رَحلَ الناسُ إليه من البلادِ، وقَصَدوهُ، وتَفَرَّدَ بالعِلمِ الوافرِ مع السِّيرَةِ الجَميلةِ، والطَّريقَةِ المَرْضِيَّةِ. قال السَّمعانيُّ: سَمعتُ جَماعةً يقولون: "لمَّا قَدِمَ أبو إسحاقَ نيسابور رَسولًا تَلَقَّوهُ، وحَملَ إمامُ الحَرمَينِ غاشِيَتَهُ، ومَشَى بين يَديِه وقال: أَفتَخِرُ بهذا". وكان عامَّةُ المُدَرِّسِينَ بالعِراقِ والجِبالِ تَلامِذتَهُ وأَتباعَهُ, وكان يُنشِد الأَشعارَ المَلِيحَةَ، ويُورِدُها، ويَحفَظ منها الكَثيرَ. قال محمدُ بن عبدِ المَلِكِ الهمذانيُّ: حَكَى أبي قال: "حَضرتُ مع قاضي القُضاةِ أبي الحَسنِ الماوردي عَزاءً، فتَكلَّم الشيخُ أبو إسحاقَ واجلا وأَجادَ، فلمَّا خَرَجنا، قال الماورديُّ: ما رَأيتُ كأبي إسحاقَ! لو رَآهُ الشافعيُّ لتَجَمَّلَ به" قال خَطيبُ المَوصِل أبو الفضلِ: "حَدَّثنِي أبي قال: تَوجَّهتُ من المَوصِل سَنةً إلى أبي إسحاقَ، فلمَّا حَضرتُ عنده رَحَّبَ بي، وقال: مِن أين أنت؟ فقلتُ: من المَوصِل. قال: مرحبًا أنت بَلدِيِّي. فشاهدتُ من حُسْنِ أَخلاقِه ولَطافَتِه وزُهدِه ما حَبَّبَ إليَّ لُزومَه، فصَحِبتُه إلى أن مات" له مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ نافعةٌ، كـ((المُهَذَّبِ)) في المَذهبِ، و((التنبيه))، و((النكت في الخِلاف))، و((اللمع في أصول الفقه))، و((التبصرة))، و((طبقات الشافعية)) وغيرِ ذلك، تُوفِّي لَيلةَ الأَحدِ الحادي والعشرين في دارِ أبي المُظَفَّرِ ابنِ رَئيسِ الرُّؤساءِ، وغَسَّلَهُ أبو الوَفاءِ بن عقيل الحنبليُّ وصَلَّى عليه ببابِ الفردوس من دارِ الخِلافةِ، وشَهِدَ الصلاةَ عليه المُقتدِي بأَمرِ الله، وتَقدَّم للصلاةِ عليه أبو الفَتحِ المُظفَّر ابنُ رَئيسِ الرُّؤساءِ، ثم صُلِّيَ عليه مَرَّةً ثانيةً بجامعِ القَصرِ، ودُفِنَ ببابِ إبرز في تُربَةٍ مُجاورةٍ للناحيةِ.
عاد جلال الدين بن خوارزم شاه من كرمان، إلى تفليس، وسار منها إلى مدينة آني، وهي للكرج، وبها إيواني مقدَّم عساكر الكرج فيمن بقي معه من أعيان الكرج، فحصره وسيَّرَ طائفةً مِن العسكر إلى مدينة قرس، وهي للكرج أيضًا، وكلاهما من أحصَنِ البلاد وأمنَعِها، فنازلهما وحصَرَهما، وقاتل من بهما، ونصَبَ عليهما المجانيقَ، وجدَّ في القتال على مدينتي آني وقرس، وبالغ الكرج في حفظِهما والاحتياطِ لهما لخوفِهم منه أن يفعَلَ بهما ما فعل بأشياعِهم مِن قبلُ بمدينة تفليس، وأقام عليهما إلى أن مضى بعضُ شوال، ثم ترك العسكَرَ عليهم يحصرونَهم وعاد إلى تفليس، وسار من تفليس مجدًّا إلى بلاد أبخاز وبقايا الكرج، فأوقعَ بمن فيها، فنهب وقتل وسبى، وخرَّب البلادَ وأحرقها، وغَنِمَ عساكرُه ما فيها، وعاد منها إلى تفليس، أما خلاط فإنَّ جلال الدين عاد من مدينة آني إلى تفليس ودخل بلاد أبخاز، وكان رحيلُه مكيدةً؛ لأنَّه بلغه أن النائِبَ عن الملك الأشرف، وهو الحاجب حسام الدين علي بمدينة خلاط، قد احتاط واهتم بالأمر وحفظ البلد لقُربِه منه، فعاد إلى تفليس ليطمَئِنَّ أهل خلاط ويتركوا الاحتياطَ والاستظهارَ ثم َّيقصِدَهم بغتة؛ وسار مجدًّا فوصل الخبَرُ إليهم قبل وصوله بيومين، ووصل جلالُ الدين فنازل مدينة ملازكرد يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة، ثم رحل عنها؛ فنازل مدينة خلاط يوم الاثنين خامس عشر ذي القعدة، فلم ينزل حتى زحف إليها، وقاتل أهلها قتالًا شديدًا، فوصل عسكرُه سور البلد، وقُتِلَ بينهم قتلٌ كثير، ثم زحف إليها مرة ثانية، وقاتل أهل البلد قتالًا عظيمًا، فعَظُمت نكايةُ العسكر في أهل خلاط، ووصلوا إلى سور البلد، ودخلوا الربضَ الذي له، ومدوا أيديَهم في النهب وسبي الحريم، فلمَّا رأى أهل خلاط ذلك تذامروا، وحَرَّضَ بعضهم بعضًا، فعادوا إلى العسكَرِ فقاتلوهم فأخرجوهم من البلد، وقُتِل بينهم خلق كثير، وأسر العسكرُ الخوارزمي من أمراء خلاط جماعةً، وقُتِلَ منهم كثيرٌ، ثمَّ إن جلال الدين استراح عدَّة أيام، وعاود الزحفَ مثل أول يوم، فقاتلوه حتى أبعدوا عسكره عن البلد، ثم أقام عليها إلى أن اشتَدَّ البرد، ونزل شيءٌ من الثلج، فرحل عنها يوم الثلاثاء لسبعٍ بَقِين من ذي الحجة من السنة، وكان سببُ رحيله مع خوف الثلج ما بلغه عن التركمان الإيوانية من الفسادِ ببلاده.
عاود التتر الخروج إلى الري، وجرى بينهم وبين جلال الدين حروب كثيرة، كان أكثرها عليه، وفي الأخير كان الظفر له وكانت أول حرب بينهم فيها عجائب غريبة، وكان هؤلاء التتر قد سخط ملكُهم جنكيزخان على مُقدَّمهم، وأبعده عنه، وأخرجه من بلاده، فقصد خراسان، فرآها خرابًا، فقصد الريَّ ليتغلب على تلك النواحي والبلاد، فلقيه بها جلال الدين، فاقتتلوا أشدَّ قتال، ثم انهزم جلال الدين وعاد ثم انهزم، وقصد أصفهان، وأقام بينها وبين الري، وجمع عساكره ومَن في طاعته، فكان فيمن أتاه صاحب بلاد فارس، وهو ابن أتابك سعد ملك بعد وفاة أبيه، وعاد جلال الدين إلى التتر فلَقِيَهم، فبينما هم مصطفون كلُّ طائفة مقابل الأخرى انعزل غياث الدين أخو جلال الدين فيمن وافقه من الأمراء على مفارقةِ جلال الدين، واعتزلوا، وقصدوا جهةً ساروا إليها، فلما رآهم التتر قد فارقوا العسكر ظنُّوهم يريدون أن يأتوهم من وراء ظهورهم ويقاتلوهم من جهتين، فانهزم التتر لهذا الظنِّ وتَبِعَهم صاحب بلاد فارس، وأمَّا جلال الدين فإنه لما رأى مفارقة أخيه إياه ومن معه من الأمراء ظنَّ أن التتر قد رجعوا خديعة ليستدرجوه، فعاد منهزمًا، ولم يجسر أن يدخل أصفهان؛ لئلا يحصره التتر، فمضى إلى سميرم، وأما صاحب فارس فلما أبعد في أثر التتر، ولم ير جلال الدين ولا عسكره معه، خاف التتر فعاد عنهم، وأما التترُ فلما لم يروا في آثارهم أحدًا يطلبُهم وقفوا، ثم عادوا إلى أصفهان، فلم يجدوا في طريقهم من يمنَعُهم، فوصلوا إلى أصفهان فحصروها، وأهلها يظنون أنَّ جلال الدين قد عدم، فبينما هم كذلك والتتر يحصرونَهم إذ وصل قاصد من جلال الدين إليهم يعرفُهم سلامته، ويقول: إني أدور حتى يجتَمِعَ إليَّ من سلم من العسكر وأقصدُكم ونتفق أنا وأنتم على إزعاج التتر وترحيلهم عنكم، فأرسلوا إليه يستدعونه إليهم، ويعدونه النصرةَ والخروج معه إلى عدوه، وفيهم شجاعة عظيمة، فسار إليهم واجتمع بها، وخرج أهل أصفهان معه، فقاتلوا التتر، فانهزم التترُ أقبَحَ هزيمة، وتبعهم جلال الدين إلى الريِّ يقتُلُ ويأسر، فلما أبعدوا عن الري أقام بها، وأرسل إليه ابن جنكيزخان يقول: إن هؤلاء ليسوا من أصحابنا، إنما نحن أبعدناهم عنا، فلمَّا أمن جانب ابن جنكيزخان أمن وعاد إلى أذربيجان.
هي رضية الدين بنت السلطان شمس الدين ألتمش المؤسس الحقيقي لدولة المماليك بالهند، وقد اشتهر ألتمش بالعدل وتحقيق الأمن في دولته. وكان ألتمش يحب ابنته ويقدمها على إخوانها الذكور لما يتوسم فيها من النجابة والهمة العالية, كما أنها كانت غاية في الحسن والجمال وعذوبة المنطق؛ لذا كان يسند إليها بعض المهام، حتى إنه فكَّر في أن يجعلها وليَّة للعهد دون إخوانها الذكور الذين انشغلوا باللهو والملذات، فلما مات ألتمش خلفه ابنه ركن الدين فيروز، غير أنه كان منشغلًا عن مسئولية الحكم وتبعاته باللهو واللعب، تاركًا تصريف أمور دولته إلى أمِّه التي استبدَّت بالأمر وهو ما جعل الأحوال تزداد سوءًا، وتشتعل المعارضة ضده، وانتهت الأزمة بأن بايع كثير من الأمراء رضية الدين بنت ألتمش، وأجلسوها على عرش السلطنة. وقد تحقق ما كان يراه أبوها ولا يراه سواه ممن كانوا يعترضون عليه إيثاره لها. جلست رضية الدين على عرش سلطنة دلهي نحو أربع سنوات 634-637 (1236-1369م) بذلت ما في وسعها من طاقة لتنهض بالبلاد التي خوت خزائنها من المال لإسراف أخيها، وسارت على خطا أبيها في سياسته الحكيمة العادلة في بداية الأمر، لكنها اصطدمت بالعلماء وكبار أمراء الملوك الذين يشكلون جماعة الأربعين، ويستأثرون بالسلطة والنفوذ، وحاولت الملكة جاهدة أن تسوسهم، وتحتال على تفريق كلمتهم، وتعقُّب المتمردين والثائرين عليها، وكانت تظهر بمظهر الرجال، وتجلس على العرش والعباءة عليها، والقلنسوة على رأسها وتقود جيشها وهي تمتطي ظهر فيلِها. ولما استقرت أحوال مملكتها انصرفت إلى تنظيم شؤونها، فعينت وزيرًا جديدًا للبلاد، وفوَّضت أمر الجيش إلى واحد من أكفأ قادتها هو سيف الدين أيبك، ونجحت جيوشها في مهاجمة قلعة رنتهبور وإنقاذ المسلمين المحاصرين بها، وكان الهنود يحاصرون القلعة بعد وفاة أبيها السلطان التمش. غير أن هذه السياسة لم تلق ترحيبًا من مماليك سلطنتها الذين أنِفوا أن تحكمهم امرأة، وزاد من بغضهم لهذا الأمر أن السلطانة رضية أخذت تتمرد على قيم الدين الإسلامي وحاربت الناصحين لها خاصة من العلماء. كما قرَّبت إليها رجلًا حبشيًّا مملوكا يُدعى جمال الدين ياقوت، كان يشغل منصب قائد الفرسان، ولم تستطع السلطانة أن تُسكت حركات التمرد التي تقوم ضدها، كما كانت تفعل في كل مرة، فاجتمع عليها المماليك وأشعلوا الثورة ضدها، وحاولت أن تقمعها بكل شجاعة، لكنها هُزمت، وانتهى الأمر بقتلها في 25 ربيع الأول 637 (25 أكتوبر 1239م) وتولِّي أخيها السلطان معز الدين عرش البلاد.
قُتِلَ الفتح أحمدُ بن البققي بالدِّيار المصريَّة في يوم الاثنين الرابعَ والعشرين من ربيع الأول، حَكَم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثَبَت عنده من تنقيصِه للشَّريعةِ واستهزائِه بالآيات المحكماتِ، ومعارضةِ المُشتَبِهاتِ بَعضِها ببعض، فيُذكَرُ عنه أنه كان يحِلُّ المحَرَّمات من اللواطِ والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتَمِعُ به من الفَسَقةِ من الترك وغيرِهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغالٌ وهيئةٌ جميلة في الظاهر، وبزّتُه ولبستُه جيدة، وقد كان ذكيًّا حاد الخاطِرِ له معرفةٌ بالأدب والعلوم القديمة، فحُفِظَت عنه سقطاتٌ، منها أنه قال: لو كان لصاحِبِ مقامات الحريري حظٌّ لتُلِيَت مقاماتُه في المحاريبِ، وأنَّه كان يُنكِرُ على من يصوم شهر رمضانَ، ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناوَلَ حاجةً مِن الرَّفِّ صَعِدَ بقدميه على الربعةِ، وكان مع ذلك جريئًا بلسانِه، مستخفًّا بالقضاة يَطنُزُ بهم ويستجهِلُهم، ثم أكثَرَ من الوقيعة في حقِّ زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكيَّة وتنَقَّصَه وسَبَّه، فلما بلغه ذلك عنه اشتَدَّ حَنَقُه وقام في أمرِه، فتقَرَّبَ الناس إليه بالشَّهادةِ على ابن البققي، فاستدعاه وأحضَرَ الشهود فشَهِدوا وحكَم بقتله، وأراد مِن ابن دقيق العيد تنفيذَ ما حَكَم به فتوقَّفَ، وقام في مساعدةِ ابن البققي ناصرُ الدين محمد بن الشيخي وجماعةٌ من الكُتَّاب، وأرادوا إثباتَ جنِّه ليُعفى من القتل، فصَمَّمَ ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطانِ ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وما زالا به حتى أذِنَ في قتله، فنزلا إلى المدرسة الصالحيَّة بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجنِ في الحديد ليُقتَلَ، فصار يصيحُ ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربِّيَ اللهُ، ويتشَهَّد؟!! فلم يلتَفِتوا إلى ذلك، وضُرِبَ عُنُقُه وطيف برأسِه على رمح، وعُلِّقَ جَسَدُه على باب زويلة، وفيه يقولُ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحَرِّضُ على قتله، وكتَبَ بها إلى ابنِ دقيق العيد:
قل للإمامِ العادل المرتضي
وكاشِفِ المُشكِلِ والمبهَمِ
لا تمهِلِ الكافِرَ واعمَلْ بما
قد جاء في الكافِرِ عن مُسلمِ
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملةِ حماقاته:
يا لابسًا لي حُلَّةً مِن مَكْرِه
بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زردًا تضايقَ نَسجُه
وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أنَّ اللهَ لا يُمهِلُه لذلك.
هو الأمير سعود بن فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود، ثاني أبناء الإمام فيصل، لقِّبَ بـ (أبو هلا) لكرمِه وكثرة ترحيبِه بالضيف. وقد حكم في الدولة السعودية الثانية من 1288 إلى1291هـ (1871- 1875م) كان أبوه قد ولَّاه أميرًا على الخرج عام 1263هـ/ 1846م واستمرَّ في هذه الإمارة مدةً طويلة، وقد أكسبه ذلك قاعدةً شعبية في تلك المنطقة. أما أخوه عبد الله، الذي يكبرُه في السن، فقد كان أبوه قد عيَّنه وليًّا للعهد، وكان ساعِدَه الأيمن في قيادة المعارك وإدارة شؤون البلادِ، وفي أواخرِ حياة والده تسلَّمَ العبءَ الأكبر من السلطة؛ نتيجة مرض والده وكِبَر سِنِّه، وكان أخوه محمد بن فيصل يعاونُه في ذلك، أمَّا سعود فكان ينافِسُ أخاه دائمًا في حياةِ أبيهما، واستمَرَّ على هذا الحال حتى بعد وفاة والدهم الإمام فيصل. فعندما بويع عبدُ الله بن فيصل بعد وفاة والدِه في رجب 1282هـ/ نوفمبر 1865م خالفه سعود بعد عامٍ مِن توليه الحكمَ، وكان يرغَبُ في إزاحة أخيه وتولِّي الحكمِ بدلًا منه، وقد كان كثيرٌ من الحاضرة، وخاصةً علماء الدين، يقفون إلى جانب عبد الله؛ لأنَّه الوارِثُ الشرعي للإمامة سنًّا وعهدًا. وعلى الرغمِ مِن أن عبد الله يتمتَّعُ بشعبيةٍ كبيرة بين القبائل النجدية وتأييدِ العلماء له، فإن سعودًا تمكَّنَ مِن جمع أتباع له ومؤيدين، وكانت قبيلةُ العجمان، التي كان بينها وبين سعود صلة رحم، تكِنُّ لعبد الله العداءَ بسبب ضرباته الموجعة لهم في عهد أبيه، فاستغَلَّ سعود ذلك في حربه ضِدَّ أخيه، ونشبت بينهما بعضُ المعارك، واستفاد آلُ رشيد من تلك الفتنة الأهلية بين سعود وعبد الله فأخذوا يوسِّعون دائرة نفوذهم في البلدان النجدية. وبعد وفاة سعود بن فيصل، تولَّى بعده أخوه عبدالرحمن بن فيصل الحُكمَ، وكان سعود خلَّف أربعةً مِن الأبناء الذكور، وهم: محمد، وعبد الله، وسعد، وعبد العزيز، والثلاثة الأُوَل قتلهم ابن سبهان حاكِمُ الرياض من قِبَلِ محمد ابن رشيد، أما عبد العزيز فكان منفيًّا وقت قَتْلِهم، في حائلٍ مع عمِّه الإمام عبد الله، وعبد العزيز هذا هو والد سعود العرافة زوج نورة أخت الملك عبد العزيز، ويلقَّبُ أيضا بسعود الكبير، فيكون سعود بن فيصل هو جدُّ أبناء العرافة، رحمهم الله جميعا وغفر لهم.
لمَّا قُتِلَ ابنُ الزُّبير واجتَمَع المسلمون على عبدِ الملك بن مَرْوان جَهَّزَ جيشًا كبيرًا واستَعْمل عليهم وعلى أفريقيا حسَّانَ بن النُّعمان الغَسَّانيَّ وسَيَّرَهُم إليها، فلم يَدخُلْ أفريقيا قَطُّ جَيشٌ مِثلُه، فلمَّا وَرَدَ القَيْروان تَجَهَّزَ منها وسار إلى قَرْطاجَنَّة، وكان صاحبُها أعظمَ مُلوكِ أفريقيا، ولم يكُن المسلمون قَطُّ حارَبوها، فلمَّا وصَل إليها رأى بها مِن الرُّومِ والبَرْبَر مالا يُحْصَى كَثْرةً، فقَتَلهم وحَصَرهُم، وقَتَلَ منهم كثيرًا، فلمَّا رأوا ذلك اجتَمَع رأيُهم على الهَربِ، فرَكِبُوا في مَراكِبِهم وسار بعضُهم إلى صِقِلِّيَّة، وبعضُهم إلى الأندلُس، ودخَلَها حَسَّانُ بالسَّيفِ فسَبَى ونَهَبَ وقَتَلَهم قَتلًا ذَريعًا، وأَرسَل الجُيوشَ فيما حَولَها، فأَسرَعوا إليه خَوفًا، فأَمَرَهم فهَدَموا مِن قَرْطاجَنَّة ما قَدَروا عليه، ثمَّ بَلَغَهُ أنَّ الرُّومَ والبَرْبَر قد أجمعوا له في شَطْفُورَة وبَنْزَرْت، وهما مَدِينتان، فسار إليهم وقاتَلَهم ولَقِيَ منهم شِدَّةً وقُوَّةً، فصَبَر لهم المسلمون، فانْهَزَمت الرُّومُ، وكَثُرَ القَتْلُ فيهم، واسْتَولوا على بِلادِهم، ولم يَترُكْ حَسَّانُ مَوضِعًا مِن بِلادِهِم إلَّا وَطِئَهُ، وخافَهُ أهلُ أفريقيا خَوفًا شَديدًا، ولجأ المُنْهَزِمون مِن الرُّومِ إلى مَدينةِ باجَة فتَحَصَّنوا بها، وتَحَصَّن البَرْبَر بمدينةِ بُونَة، فعاد حَسَّانُ إلى القَيْروان لأنَّ الجِراحَ قد كَثُرَت في أصحابِه، فأقام بها حتَّى صَحُّوا. وبعدَ ضَرْبِ الرُّومِ الْتَفَت حَسَّانُ إلى زَعامَةِ البَرْبَر، فقال: دُلُّونِي على أَعظمِ مَن بَقِيَ مِن مُلوكِ أفريقيا؟ فدَلُّوه على امْرأةٍ تَملِكُ البَرْبَر وتُعرَف بالكاهِنَة، والْتَقى حَسَّانُ بن النُّعمان بالكاهِنَة عند نَهْرٍ يُدْعَى نِينِي أو مِسْكِيانَة على مَرحلَةٍ مِن باغاي ومَجَّانَة، فانْتَصَرت الكاهِنَةُ وقُتِلَ مِن المسلمين خَلْقٌ كثيرٌ، وانْسَحَب حَسَّانُ إلى قابِس. وقامت الكاهِنَةُ بالهَيْمَنَةِ على المغربِ كُلِّهِ بعدَ حَسَّان، وقالت: إنَّ العربَ إنَّما يَطلُبون مِن أفريقيا المدائنَ والذَّهَبَ والفِضَّةَ، ونحن إنَّما نُريدُ منها المَزارِعَ والمَراعي، فلا نَرى لكم إلَّا خَرابَ بِلادِ أفريقيا كُلِّها. حتَّى ييأسَ منها العربُ فلا يكونُ لهم رُجوعٌ إليها إلى آخِر الدَّهْرِ, واسْتَجاب لها قَومُها مِن جُراوَة الذين كان يَغْلُب عليهم الطَّابعُ البَدَويُّ، فذهبوا إلى كُلِّ ناحِيَة يَقطَعون الشَّجرَ، ويَهدِمون الحُصونَ, فكانت أفريقيا مِن طرابلس إلى طَنْجَة ظِلًّا وقُرَىً مُتَّصِلة فأَخْرَجت جَميعَ ذلك، وقد أَضَرَّ هذا التَّخريبُ بالبرانس والأفارِقةِ حتَّى أَلجأَهُم إلى الفِرارِ وطَلَبِ المُساعدَةِ، وخرَج يَومئذٍ مِن النَّصارى والأفارِقة خَلْقٌ كثيرٌ مُسْتَغِيثين ممَّا نزَل بهم مِن الكاهِنَة، فيتَفَرَّقوا على الأندلُس وسائرِ الجُزُرِ البَحْريَّة, ومَلَكَت الكاهِنَةُ أفريقيا، وأَساءَت السِّيرةَ في أَهلِها وظَلَمَتْهُم.
هو بِشرُ بنُ غِياثِ بنِ أبي كريمةَ العَدَويُّ، مولاهم، البغداديُّ، المِرِّيسيُّ. شيخُ المعتزلة، وأحدُ من أضَلَّ المأمونَ، كان والِدُ بِشرٍ يهوديًّا، وصنَّف بِشرٌ كِتابًا في التَّوحيدِ، وكِتابَ (الإرجاء)، وكِتابَ (الرَّدُّ على الخوارجِ)، وكِتاب (الاستطاعة)، و(الرَّدُّ على الرَّافضةِ في الإمامةِ)، وكِتاب (كُفرُ المُشَبِّهة)، وكِتاب (المعرفة)، وكِتابُ (الوعيد) .نظَر في الفقهِ أوَّلَ أمرِه فأخذ عن القاضي أبي يوسُفَ، وروى عن حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ. ثُمَّ نظر في عِلمِ الكلامِ، فغلب عليه، ودعا إلى القولِ بخلقِ القرآنِ، حتى كان عينَ الجَهْميَّةِ في عصرِه وعالِمَهم، فمقَتَه أهلُ العلمِ، وكفَّره عِدَّةٌ منهم، ولم يُدرِكْ جَهْمَ بنَ صَفوانَ، بل تلقَّف مقالاتِه من أتباعِه . ومات بِشرٌ سنةَ 218هـ.وقد وقَف العُلَماءُ منه موقفًا شديدًا، ونُقِل عن كثيرٍ تكفيرُه، ومنهم: سفيانُ بنُ عُيَينةَ، وعبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، وعبَّادُ بنُ العوَّامِ، وعليُّ بنُ عاصمٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ، ووكيعٌ، وأبو النَّضرِ هاشِمُ بنُ القاسِمِ، وشبابةُ بنُ سوارٍ، والأسودُ بنُ عامرٍ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وبِشرُ بنُ الوليدِ، ويوسُفُ بنُ الطَّبَّاعِ، وسُليمانُ بنُ حسَّانَ الشَّاميُّ، ومُحمَّدٌ ويَعلَى ابنا عُبَيدٍ الطَّنافسيَّانِ، وعبدُ الرَّزَّاقِ بنُ همَّامٍ، وأبو قتادةَ الحرَّانيُّ، وعبدُ الملِكِ بنُ عبدِ العزيزِ الماجِشونُ، ومُحمَّدُ بنُ يوسُفَ الفِريابيُّ، وأبو نُعَيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مَسلَمةَ القَعْنبيُّ، وبِشرُ بنُ الحارثِ، ومُحمَّدُ بنُ مُصعَبٍ الزَّاهِدُ، وأبو البَختريِّ وَهبُ بنُ وَهبٍ السَّوائيُّ المدنيُّ قاضي بغدادَ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ، وعبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ الحُمَيديُّ، وعليُّ بنُ المدينيِّ، وعبدُ السَّلامِ بنُ صالحٍ الهَرَويُّ، والحَسَنُ بنُ عليٍّ الحلوانيُّ .وسبَبُ هذا الموقِفِ الشديدِ تجاهَه أنَّ الأصولَ والمناهِجَ التي سلكها المِرِّيسيُّ أصولٌ ومناهِجُ كُفريَّةٌ تقومُ على التلبيسِ والخِداعِ اللَّفظيِّ، وذلك أنَّه قد توسَّع في بابِ التأويلاتِ وصَرفِ النُّصوصِ، وخاض فيها أكثَرَ ممَّن سبقه من الجَهْميَّةِ، فآراؤه ومقالاتُه تمثِّلُ المرحلةَ الثَّالثةَ من مراحلِ الجَهْميَّةِ وأطوارِها بَعدَ الجَعْدِ والجَهْمِ؛ لأنَّ المِرِّيسيَّ نهَج نهجًا أكثَرَ تلبيسًا وتمويهًا وخُبثًا من أسلافِه، حيث كان منهَجُ الجَعْدِ والجَهْمِ يصادِمُ النُّصوصَ بعُنفٍ، أمَّا المِرِّيسيُّ فقد سلك مسلَكَ التأويلِ، وعَرَض مَذهَبَ الجَهْميَّةِ بأسلوبٍ ماكرٍ، ولديه شيءٌ من العِلمِ والفقهِ، يُلبِّسُ به على النَّاسِ. ومن وُجوهِ خُطورةِ فِكرِه أنَّ توسُّعَه في بابِ التأويلاتِ صار نهجًا لكثيرٍ من المُتكلِّمين بَعدَه، كابنِ فُورَك، والبغداديِّ، والشَّهْرَستانيِّ، والجُوَينيِّ، والرَّازيِّ، والماتُريديِّ، وأتباعِهم من متأخِّري الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ.
تطَلَّعَ بنو بُوَيه الديلم الشِّيعيَّة إلى السيطرةِ على العراقِ مَقَرِّ الخلافة، وقيل: إنَّ أصلَهم يرجِعُ إلى ملوك ساسان الفارسيِّين الذين شُرِّدوا، فاتَّخَذوا من إقليمِ الديلم الواقع في المنطقة الجبليَّة جنوبيَّ بَحرِ قزوين ملجأً لهم ومقرًّا, وسُمُّوا بالدَّيلمة؛ لطُولِ مُجاورتِهم الدَّيلم. تزعَّم أبو شجاع بُوَيه قبائلَ البُويهيِّينَ سنة 322 - 329 والذى ينتهي نسَبُه إلى الملك الفارسي يزد جرد، وقد أنجب ثلاثة من الذكور، هم: أبو الحسن علي (عماد الدولة)، وأبو على الحسن (ركن الدولة)، وأبو الحسين أحمد (معز الدولة). وكانت بدايةُ الدولة البويهيَّة باستيلاءِ أبي الحسن عليِّ بن بويه على أرجان وغيرها، وقد دخل أبو الحسن علي على شيراز سنة 322، وجعلها عاصمةً لدولته الجديدة، كما دخل فارسَ، وأرسل إلى الخليفةِ الراضي أنَّه على الطاعة. واستولى أبو الحُسَين أحمد بن بويه سنة 326 على الأهواز، وكاتبه بعضُ قواد الدولة العباسيَّة، وزيَّنوا له التوجُّهَ نحو بغداد، وفى سنة 334هـ/ 946م، اتَّجه أبو الحسين أحمد بن بويه نحو بغداد بقُوَّة حربيَّة، فلما جاءت الأخبارُ بأنَّه قد أقبل في الجيوشِ قاصِدًا بغداد، اختفى ابن شيرزاد والخليفة المستكفي بالله، فأقبل أحمدُ بن بويه في جحافِلَ عظيمةٍ مِن الجيوش، فلمَّا اقترب من بغداد بعَثَ إليه الخليفة المستكفي بالله الهَدايا والإنزالات، وقال للرَّسول: أخبِرْه أني مسرور به، وأنِّي إنما اختفيتُ مِن شَرِّ الأتراك، وبعث إليه بالخِلَع والتُّحَف، ودخل أحمدُ بن بويه بغداد في جمادى الأولى وافتتَحَها في سهولةٍ ويُسرٍ، فلم تستطِعْ حامَيتُها التركيةُ مُقاومَتَه، ففَرَّت إلى الموصل، نزل الحسينُ بنُ احمد بن بويه بباب الشماسية، ودخَلَ مِن الغَدِ إلى الخليفة فبايعه, ولقَّبَه الخليفةُ المستكفي بمُعِزِّ الدولة، ولقَّبَ أخاه عليًّا عماد الدولة، ولَقَّبَ أخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تُكتَبَ ألقابهم على الدَّراهم والدنانير، ولكِنَّ أبا الحسين أحمد بن بويه مُعِزَّ الدولة لم يكتَفِ بهذا اللقب الذي لا يزيدُ على كونِه أميرَ الأمراء. وأصَرَّ على ذِكرِ اسمِه مع اسم الخليفةِ في خُطبةِ الجُمعة، وأن يُسَكَّ اسمُه على العملة مع الخليفة. نزل معزُّ الدولة بدار مؤنس الخادم، ونزل أصحابُه من الديلم بدور الناس، فلقِيَ الناس منهم ضائقةً شديدة، وأمَّنَ مُعِزُّ الدولة ابن شيرزاد، فلما ظهر استكتَبَه على الخَراجِ، ورتَّبَ للخليفة نفقاتِه خَمسةَ آلافِ درهم في كلِّ يومٍ.
هو أبو الأغر -وقيل: الأعز- دبيس بن سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي الناشري الشيعي، الملقب نور الدولة ملك العرب صاحب الحلة المزيدية -حلة بني مزيد، وهي مدينة كبيرة بين الكوفة وبغداد كانت تسمى الجامعين- كان دبيس جوادًا كريمًا عنده معرفة بالأدب والشعر، وتمكَّن في خلافة الإمام المسترشد، واستولى على كثير من بلاد العراق، وهو من بيت كبير. كان دبيس في خدمة السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي، وهم نازلون على باب المراغة من بلاد أذربيجان ومعهم الإمام المسترشد بالله, وقيل: "إن السلطان مسعودًا دس على الخليفة المسترشد بالله جماعة من الباطنية فهجموا عليه في خيمته فقتلوه, وخاف أن يُنسَب القتل إليه، وأراد أن تُنسَب إلى دبيس، فتركه إلى أن جاء إلى الخدمة وجلس على باب خيمته، فسير بعض مماليكه، فجاءه من ورائه وضرب رأسه بالسيف فأبانه، وأظهر السلطان بعد ذلك أنه إنما فعل هذا انتقامًا منه بما فعل في حق الخليفة، وكان ذلك بعد قتل الخليفة بشهر". وكان دبيس قد عزم على الهرب مرارًا، وكانت المنية تثبِّطه. ولما قُتِل دبيس حُمِل إلى ماردين إلى زوجته كهارخاتون، فدُفِن بالمشهد عند نجم الدين إيلغازي. ذكره الذهبي فقال: "كان أديبًا جوادًا ممدَّحًا من نجباء العرب، ترامت به الأسفار إلى الأطراف، وجال في خراسان، واستولى على كثير من بلاد العراق، وخيف من سطوته، وحارب المسترشد بالله، ثم فر من الحلة إلى صاحب ماردين نجم الدين، وصاهره، وصار إلى الشام، وأمرُها في شدة من الفرنج، ثم ردَّ إلى العراق، وجرت له هناة، ففر إلى سنجر صاحب خراسان، فأقبل عليه، ثم أمسكه من أجل الخليفة مدة، ثم أطلقه، فلحق بالسلطان مسعود، فقتله غدرًا بمراغة في ذي الحجة سنة تسع وعشرين، وأراح الله الأمة منه؛ فقد نهب وأرجف وفعل العظائم، ولما هرب في خواصه قصد مري بن ربيعة أمير عرب الشام، فهلكوا في البرية من العطش، ومات عدة من مماليكه، فحصل في حلة مكتوم بن حسان، فبادر إلى متولي دمشق تاج الملوك فأخبره به، فبعث خليلا فأحضروه إلى دمشق، فاعتقله مكرمًا، ثم أطلقه للأتابك زنكي ليُطلِقَ مِن أسْرِه ولَدَه سونج بن تاج الملوك، وكان دبيس شيعيًّا كآبائه" قَتَل السلطانُ مسعود دبيسَ بن صدقة على باب سرادقه بظاهر خونج، أمر غلامًا أرمنيًّا بقتله، وأمر السلطان مسعود بك أبه أن يأخذ الحلة، فسار بعض عسكره إلى المدائن، وأقاموا مدة ينتظرون لحاق بك أبه بهم، فلم يسِرْ إليهم جبنًا وعجزًا عن قصد الحلة؛ لكثرة العسكر بها مع صدقة. وبقي صدقة بالحلة إلى أن قدم السلطان مسعود إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فقصده وأصلح حالَه معه ولزم خدمتَه.
هو أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ، شيخ الديار المصرية في الحديث، ولد سنة 546. كان يذكر أنه من ولد دحية الكلبي، وأنه سبطُ أبي البسام الحسيني الفاطمي. كان بصيرًا بالحديث معتنيًا بتقييده، مكبًّا على سماعه، حسنَ الحَطِّ معروفًا بالضبط، له حظٌّ وافر من اللغة، ومشاركة في العربية وغيرها. وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكامليَّة بها، وقد كان يتزيد في كلامه، فترك الناس الرواية عنه وكذَّبوه، وقد كان الكامِلُ مقبلًا عليه، فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه، توفي بالقاهرة ودفن بقرافة مصر، قال ابن خلكان: وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقنًا لعلم الحديث وما يتعلَّقُ به، عارفًا بالنحو واللغة وأيَّام العرب وأشعارها، اشتغل ببلادِ المغرِب، ثمَّ رحل إلى الشام ثم إلى العراق، واجتاز بإربل سنة 604، فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب " التنوير في مولد السراج المنير " وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار، ولي قضاء دانية مرتين، ثم صُرِف عن ذلك لسيرة نُعِتَت عليه، فرحل منها. روى عنه الدبيثي فقال: "كان له معرفة حسنة بالنحو واللغة، وأنسة بالحديث، فقيهًا على مذهب مالك، وكان يقول: إنه حفظ " صحيح مسلم " جميعه، وأنه قرأه على بعض شيوخ المغرب من حفظه، ويدعي أشياء كثيرة. قلت (الذهبي): كان صاحب فنون، وله يد طولي في اللغة، ومعرفة جيدة بالحديث على ضعف فيه. قرأت بخط الضياء الحافظ قال: لقيت الكلبيَّ بأصبهان، ولم أسمع منه شيئًا، ولم يعجبني حالُه، وكان كثير الوقيعة في الأئمة، وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب، وأن مشايخ المغرب كتبوا له جرحه وتضعيفَه. وقد رأيتُ منه أنا غير شيء ممَّا يدل على ذلك" قال ابن نقطة: "كان موصوفًا بالمعرفة والفضل، ولم أره إلَّا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها. ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - ثقة - قال: نزل عندنا ابنُ دحية، فكان يقول: أحفظ " صحيح مسلم "، و" الترمذي "، قال: فأخذت خمسة أحاديث من " الترمذي "، وخمسة من " المسند " وخمسة من الموضوعات فجعلتها في جزء، ثم عرضتُ عليه حديثًا مِن " الترمذي "، فقال: ليس بصحيح، وآخر فقال: لا أعرفه. ولم يعرف منها شيئًا. قلت (الذهبي): ما أحسن الصدق، لقد أفسد هذا المرءُ نَفسَه". قال ابن كثير: وقد تكلَّمَ الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضعِ حديثٍ في قَصرِ صلاة المغرب، ولابن دحية مصنفات منها: المطرب في أشعار أهل المغرب، ونهاية السول في خصائص الرسول، والنبراس في خلفاء بني العباس، وغيرها.
خرج الأميرُ بَيدمر نائِبُ الشام عن الطاعة، وبموافقةِ جماعةٍ مِن الأمراء له على ذلك، منهم أسَنْدَمر أخو يَلبغا اليحياوي، والأمير مَنجَك وجماعة، وأنه قام لأخذ ثأر السُّلطانِ حسن، وأفتاه جماعةٌ من الفقهاء بجواز قتال قاتِلِه الذي تغَلَّب على المُلك- يعني الأمير يَلْبُغا- ومنع البريدَ أن يمُرَّ مِن الشام، وجَهَّزَ الأمير مَنجَك والأمير أَسَندَمُر الزيني في عسكَرٍ إلى غزة، فحاربوا نائِبَها ومَلَكوها، فنصب الأميرُ يَلبُغا السَنْجقَ السلطاني، وتقَدَّمَ إلى الأمراء بالتجهيز للسفر، وأخرج الأميرَ قَشَتمر نائب السلطة إلى جهة الصعيد في عسكَرس ليحفظ تلك الجِهةَ في مُدَّة الغيبة بالشام، وأُقيم الأمير شرف الدين موسى بن الأزْكَشي نائب الغيبة، وخَرَجت طلابُ الأمراء شيئًا بعد شيءٍ، وركب السلطانُ في أول شهر رمضانَ مِن قلعة الجبل، ونزل خارِجَ القاهرة، ثم رحل وصحبته الخليفةُ والأمراء، وتاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضى العسكر، وسراج الدين عمر الندى قاضي العسكر، فرحل الأميرُ منجَك بمن معه من غَزَّة، عائدًا إلى دمشق، فنزل بها السلطانُ بعساكره وجلس الأميرُ يلبغا لعَرضِ العسكر، ثم ساروا جميعًا إلى دمشق، وخيَّموا بظاهرها، فخرج إليهم أكثَرُ أمراء دمشق وعسكَرُها راغبين في الطاعة، حتى لم يبقَ مِن الأمراء مع بيدمر سوى مَنجَك وأسندمر- وقد امتنعوا بالقلعة- فترددت القضاةُ بين الفريقين في الصُّلحِ حتى تقرر، وحَلَف لهم الأميرُ يَلُبغا على ذلك، فاطمأنُّوا إليه ونزلوا من القلعة، فركبَ السلطانُ بعساكره صبحَ يوم الاثنين تاسع عشرين شهر رمضان، ودخَلَ إلى دمشق وقبض على الأمير بيدمر والأمير منجك والأمير أسندمر، وقُيِّدوا، فأنكر ذلك جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي الحنبلي قاضي دمشق، وصار إلى الأمير يَلْبُغا، وقال له: لم يقع الصلحُ على هذا فاعتذر بأنَّه ما قصد إلا إقامةَ حُرمةِ السلطان، ووعد بالإفراجِ عنهم، فلما انصرف بعث بهم إلى الإسكندريَّة، فسُجِنوا بها، وصَعِدَ السلطان إلى قلعة دمشق، وسكَنَها، واستبد الأميرُ يَلْبُغا بتدبير الأمورِ في الشام، على عادتِه في مصر، واستقَرَّ الأمير علاء الدين أمير علي نائب الشام عوضًا عن الأمير بَيدمر، واستقر الأميرُ قطْلُوبُغا الأحمدي رأس نوبة في نيابة حلب عوضًا عن الأمير أحمد بن القَشتمري، ثم سار السلطانُ بعساكره من دمشق في يوم الأحد، فلمَّا قرب من القاهرة دُقَّت البشائر بقلعة الجبل، وزُيِّنَت القاهرة ومصر زينة عظيمة، وصعد إلى قلعته في يوم الاثنين عشرين شوال، وفيه قدم الأمير قَشْتَمُر النائبُ مِن الوجه القبلي.
كان قد رُسِم لتغري بردي بنيابة دمشق، ثم في محرم سنة 804 كتب الأمراء بمصر لأمراء دمشق بالقبض على الأمير تغري بردي، فكَتَب له بذلك بعضُ أعيان أمراء مصر، فسبق كتابُه كتابَ الأمراء، فركب من دار السعادة بدمشق في نفرٍ من مماليكه في ليلة الجمعة ثاني عشرين المحرم وخرج إلى حلب، فتعيَّن لنيابة دمشق عوضًا عنه الأمير آقبغا الجمالي الأطروش أتابك دمشق، وكتب بانتقال دقماق نائب صفد إلى نيابة حلب عوضًا عن دمرداش المحمدي بحُكم عصيانه وانضمامه إلى تغري بردي لَمَّا قدم عليه من دمشق، واستقر الأمير تمربغا المنجكي في نيابة صفد عوضًا عن دقماق، وأما تغري بردي فإنه لما سار إلى حلب وجد الأمير دمرداش نائب حلب قد قبض على الأمير خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التركمان، فأمره تغري بردي بإطلاقه، فأطلقه، واتفق الجميعُ على الخروج عن طاعة السلطان بسبب مَن حوله من الأمراء، واجتمع عليهم خلائِقُ من التركمان وغيرهم؛ فإن دقماق جمع جموعَه من العساكر والتركمان لقتال تغري بردي ودمرداش نائب حلب، وسار إلى جهة حلب، فخرج إليه تغري بردي وعلى مقدمته دمرداش، وصدموه صدمة واحدة انكسر فيها بجموعه وولَّوا الأدبار، ونهب ما معهم، وعاد دقماق منهزمًا إلى دمشق، واستنجد بنائبها الأمير آقبغا الجمالي الأطروش، وكتب أيضًا دقماق لجميع نواب البلاد الشامية بالحضور والقيام بنصرة السلطان، وجمع من التركمان والعربان جمعًا كبيرًا، وخرج معه غالب العساكر الشامية، وعاد إلى جهة حلب بعساكر عظيمة، وتغري بردي ودمرداش في مماليكهم لا غير، مع جدب البلاد الحلبية، وخراب قراها؛ فإنه كان عقيب توجه تيمورلنك بسنة واحدة وأشهر، فلما قارب دقماق بعساكره حلب أشار دمرداش على تغري بردي بالتوجه إلى بلاد التركمان من غير قتال، فقال تغري بردي: لا بد من قتالنا معه، فإن انتصرنا وإلا توجهنا إلى بلاد التركمان بحقٍّ، فبرزا لدقماق بمماليكهما، وقد صفَّ دقماق عساكره، واقتتلا قتالًا شديدًا، وثبت كل من الفريقين، وقد أشرف دقماق على الهزيمة، وبينما هو في ذلك خرج من عسكر تغري بردي ودمرداش جماعة إلى دقماق، فانكسرت عند ذلك الميمنة، ثم انهزم الجميع إلى نحو بلاد التركمان، فلم يتبعهم أحد من عساكر دقماق، وملك دقماق حلب، واستمر تغري بردي ودمرداش ببلاد التركمان، وكانت الأخبار وردت بجمع التركمان ونزولهم مع دمرداش إلى حلب، وأن دقماق نائب حلب اجتمع معه نائب حماة والأمير نعير، ثم في السنة التالية في محرم قدم تغري بردي إلى دمشق بأمان كان كُتِبَ له من قِبَل السلطان مع كُتُب جميع الأمراء، وقد فارق دمرداش ورغب في الطاعة، ثم انتقل منها إلى مصر فوصلها في آخر الشهر.
اضطربت أحوال الدولة المرينية بفاس وتسلَّط بها اليهود, بعد تعيين السلطان عبد الحق هارون اليهودي رئيسًا لدولته كما عين عددًا منهم في حكومته، وكانوا قد أظهروا الإسلام, فاجتمع رؤساءُ فاس عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى الورياكلي وكانت له صلابة في الحقِّ وجَلادة عليه بحيث يلقي نفسَه في العظائم ولا يبالي، وقالوا له: ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلَّة والصغار وتحكُّم اليهود في المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت، فأثر كلامهم فيه, وللحينِ أغراهم بالفتك باليهودِ وخلع طاعة السلطانِ عبد الحق وبيعة الشريفِ أبي عبد الله الحفيد، فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف الحفيد فبايعوه والتفَّت عليه خاصَّتُهم وعامَّتهم وتولى كِبْرَ ذلك أهل حومة القلقليين منهم ثم تقدم الورياكلي بهم إلى فاس الجديد فصمدوا إلى حارة اليهود فقتلوهم واستلبوهم واصطلموا نعمَتَهم واقتسموا أموالهم، وكان السلطان عبد الحق يومئذ غائبًا في حركة له ببعض النواحي, وقيل إن السلطان عبد الحق خرج بجيشه إلى جهة القبائل الهبطية وترك اليهودي يقبض من أهل فاس المغارم فشَدَّ عليهم حتى قبض على امرأةٍ شريفة وأوجعها ضربًا وحكى ما تقدَّمَ فاتصل بعبد الحق خبَرُ خلعه فانفضَّ مُسرعًا إلى فاس واضطرب عليه أمر الجند ففسدت نيَّاتُهم وتنكَّرت وجوهُهم، وصار في كل منزلة تنفض عنه طائفة منهم فأيقن بالنكبةِ وعاين أسبابَ المنية، ولما قَرُب من فاس استشار هارون اليهوديَّ فيما نزل به فقال اليهودي له: لا تَقدَم على فاس لغَلَيان قِدرِ الفتنة بها، وإنما يكون قدومنا على مكناسة الزيتون؛ لأنها بلدنا وبها قوَّادنا وشيعتنا، وحينئذ يظهر لنا ما يكون، فما استتمَّ اليهودي كلامه حتى انتظمه بالرمحِ رجلٌ من بني مرين يقال له تيان، وعبد الحق ينظر، وقال: وما زلنا في تحكم اليهود واتِّباعِ رأيهم والعمل بإشارتِهم، ثم تعاورت اليهوديَّ الرماحُ من كل جانب وخرَّ صريعًا، ثم قالوا للسلطان عبد الحق: تقدم أمامَنا إلى فاس؛ فليس لك اليوم اختيار في نفسِك، فأسلم نفسه وانتُهِبت محلَّتَه وفيئَت أموالُه وحلَّت به الإهانة وجاؤوا به إلى أن بلغوا عين القوادس خارج فاس الجديد، فاتصل الخبر بأهل فاس وسلطانهم الحفيد، فخرج إلى عبد الحق وأركبه على بغل بالبردعة، وانتزع منه خاتم المُلك وأدخله البلد في يومٍ مشهود حضره جمعٌ كبير من أهل المغرب، وأجمعوا على ذمه، وشكروا الله على أخذِه، ثم جُنِّب إلى مصرعه، فضُربت عنقه صبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين رمضان من هذه السنة, ودفن ببعض مساجد البلد الجديد ثم أُخرج بعد سنة ونُقِل إلى القلعة، فدفن بها وانقرضت بمَهلِكِه دولةُ بني عبد الحق من المغرب.
عزم شارل الخامس (شارلكان) ملكُ إسبانيا على القيام بحملة عسكرية تستهدفُ القضاء على حركةِ الجهاد الإسلامي في الحوضِ الغربيِّ للبحر المتوسط، وقبل أن يشرَعَ في تنفيذها حدث هدوءٌ نسبيٌّ ساد القارةَ الأوربية إثرَ عقدِ هُدنة نيس في محرم 945 (يونيو 1538م) مع فرنسا، والتي كانت مدتها عشر سنوات. ومما شجع شارلكان على هذه الحملة علمُه بأن القائد التركي خير الدين بربروسا قد ذهب إلى إستانبول للَّقاء بالسلطان العثماني وأسند قيادةَ الأسطول العثماني للقائد حسن آغا الطواشي. رسا شارلكان بسُفُنه أمام مدينة الجزائر في يوم 28 جمادى الآخر من هذه السنة, وعندما شاهده الطوشي اجتمع في ديوانه مع أعيان الجزائر وكبار رجال الدولة، وحثَّهم على الجهاد والدِّفاع عن الإسلام والوطن، ثم بدأ حسن آغا في إعدادِ جيوشِه والاستعداد للمعركةِ، من ناحية أخرى بدأ الإسبانُ في تحضير متاريسِهم، وتعجَّب شارل الخامس لاستعداداتِ حسن آغا وأراد أن يستهزئَ به، وفي الليلة ذاتها وصل إلى معسكر شارلكان رسولٌ مِن قِبَل والي الجزائر يطلُبُ إذنًا للسماح بحُرية المرور لمن أراد من أهل الجزائر- وخاصَّةً نساءَها وأطفالَها- مغادرةَ المدينة عبرَ باب الواد، وعرف شارلكان أن حامية الجزائر مصَمِّمة على الدفاع المستميت، وأنَّه من المُحال احتلال الجزائر إلا إذا تم تدميرُها تدميرًا تامًّا، ولم يكن شارلكان قد أنزل مدفعيةَ الحصار حتى تلك الساعة، فلم يتمكن بذلك من قصفِ الجزائر بالمِدفعية، وفي الوقت نفسِه كان المجاهدون يوجِّهون ضرباتِهم الموجعة إلى القوات الإسبانية في كل مكان، وكانت أعداد المجاهدين تتعاظم باستمرار بفضل تدفُّق مقاتليهم من كل مكان، بمجرد سماعِهم بإنزال القوات الإسبانية، وكان المجاهدون يستفيدون في توجيههم لضرباتهم من معرفتهم الدقيقةِ بالأرض واستخدامهم لمميزاتها بشكلٍ رائع، وسخر الله لجنود الإسلام الأمطارَ والرياحَ والأمواجَ، وهَبَّت ريحٌ عاصِفٌ استمرَّت عِدَّةَ أيام واقتلعت خيام جنود الحملة وارتطمت السفنُ بعضُها ببعض؛ مما أدى إلى غرق كثير منها، وقذفت الأمواج الصاخبةُ ببعض السفن إلى الشاطئ، وهجم عليها المدافعون المسلمون واستولوا على أدواتِها وذخائرها، أما الأمطار فقد أفسدت مفعولَ البارود، وفي وسط هذه الكوارث حاول شارلكان مهاجمةَ مدينة الجزائر إلا أنَّ كلَّ محاولاته باءت بالفشل، واضطُرَّ إلى الانسحاب مع بقية جنوده على ما تبقَّى لهم من سفن، واتجه بأسطوله إلى إيطاليا بدلًا من إسبانيا بعد أن قُتِلَ من جيشه في المعركة أكثر من 20 ألفًا وانتشرت جثثهم لعدة كيلو مترات على ساحل البحر، وأُسِر حوالي 130 سفينة! ويُعَدُّ هذا الانتصارُ من الانتصارات الكبرى في تاريخ العثمانيين والجزائريين، ولم تفكِّرْ أي قوة صليبية بعدها في احتلال الجزائر إلَّا في عام 1830م.