ظنَّ السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني أنَّه إذا تقرَّب إلى الروس فإن ذلك سيؤثِّرُ على الدول الأوربية الغربية لتقديمِ تساهلاتٍ أكثَرَ للدولة العثمانية، فخافت الدولُ الأوربية فأشاعت عنه التبذيرَ والإسرافَ، وتولى رئيسُ مجلس الشورى أحمد مدحت باشا فكرةَ عَزلِه، كما تواطأ معه شيخُ الإسلام حسن خير الله أفندي -المنتمي لحركة تركيا الفتاة- فأصدر فتوى شرعية تفيدُ بعَزلِه, فعُزِلَ السلطان عبد العزيز في هذا العام بعد أن أمضى في الحكم ست عشرة سنة وأربعة أشهر كان يسعى خلالها إلى تقويةِ الدولةِ، ثم قُتِلَ بعد ذلك وأُشيعَ أنَّه انتحر، وتولى الخلافةَ بعده ابنُ أخيه مراد الخامس بن عبد المجيد في اليوم السابع من هذا الشهر في هذه السنة.
تزعَّم المتوكِّلُ يحيى بن المنصور محمد بن حميد الدين اليمنيين؛ لمقارعة الأتراك، وتمكَّن من حصار صنعاء وأجبر الأتراك أخيرًا على الصلح المشهور بصلح دعان ضمن بنود كثيرة على الاعتراف به حاكمًا وحيدًا للطائفة الزيدية في اليمن مقابِلَ اعترافه بالسيادة العثمانية على اليمن، وهو ما جعل حربَه للأتراك تبدو وكأنها فقط لنيل الاعتراف بسلطته الدينية والسياسية على المناطق التي ينتشِرُ فيها المذهب الزيدي، وقد نفرت إثرَ ذلك قبائِلُ يمنية منه متهمةً إياه بأنَّه صار حليفًا للأتراك، واتجهت إلى منافِسِه محمد الإدريسي في صبيا بعسير، حيث كان محمد الإدريسي قد استثمر مكانة أسرته الدينية ليؤسِّسَ دولة الأدارسة في أعالي الشمال الغربي لليمن، وليبدأ بلعبِ دور في أحداث التاريخ اليمني الحديث.
ما إن اندملت جراحُ الدويش بعد موقعة السبلة وهو في الأرطاوية، وجاءته أخبار الإخوان في تجمُّعِهم بالوفرة جنوب الكويت، فتناسى عهده للملك عبد العزيز فخرج بمطير إلى الوفرة واشتَدَّ ساعده بنايف بن حثلين (الملقَّب بأبي الكلاب) فولوا فيصلَا رئاستهم، ولما تسامعت مطير وغيرها بانتفاضة الدويش وتزعُّمه الحركة أقبلوا إليه، فأخذ الدويشُ يشنُّ الغارات على نجد، ويقطع السبل، واستنفر القبائِلَ لنُصرتِه، وكانت لفيصل الدويش موقعةٌ في القاعية بالدهناء، وموقعة أخرى لابنه عزيز مع أمير حائل عبد العزيز بن مساعد في أم رضمة، وقُتِلَ فيها عزيز، فاتجه عبد العزيز إلى تقويةِ حامياته في الأحساء والقطيف وحائل، وأرسل الزحوف على عتيبة فقَضَت على عصاتها.
وُلِد الشيخُ محمد سليمان الأشقر في قريةِ بَرقَة التَّابعةِ لمُحافظة نابُلُس في الثلاثينات من القرن الماضي، وهو من بيتِ علمٍ، وكان رحمه الله المدرِّسَ الأولَ لأخيه الدكتور المعروف الشَّيخِ عمر سليمان الأشقر... وخَرَج الشيخُ الأشقر من فِلَسطين إلى المملكة العربية السعودية، وعَمِل مدرِّسًا في جامعةِ الإمام محمد بن سعود في الرِّياض مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، ثم انتَقَل إلى المدينةِ سنةَ (1382هـ) مع الشيخِ ابن باز أيضًا، ثم رَحَل إلى الأردُنِّ، ومنها إلى الكُوَيت قبلَ أن يَحُطَّ رحاله أخيرًا في عَمَّان حيث قُبض، رحمة الله عليه. وللشيخِ الأشقر تفسيرٌ مُختصَر للقرآن الكريم وهو ((زُبدة التفسير))، وكتاب ((الواضح في أصول الفقه))، وغيرُها من الكتب.
قُتِلَ الأميرُ الدمر جاندار بمكَّةَ في يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، وكان مِن خَبَرِه أنَّ أميرَ الرَّكبِ العراقيِّ في هذه السنة كان من أهل توريز يُعرَفُ بمحمد الحجيج، وكان يتقَرَّب من أولاد جوبان، فترقَّى بهم إلى معرفةِ السلطان أبو سعيد بن خربندا ملك التتار بالعراق، فعَظُمَ أمرُه وجعَلَه من نُدَمائِه، وبَعَثَه رسولًا إلى مصرَ غَيرَ مَرَّة، فأُعجِبَ به السلطانُ الناصِرُ ولاق بخاطِرِه إلى أن بلغه عنه أنَّه تعَرَّض في مجلس أبي سعيد لشيءٍ ذكر مما يكرَهُه السلطان، فتنكَّرَ له وأسَرَّ ذلك في نفسِه، فلمَّا بلَغَه أنَّه سار أميرُ الركب العراقي كتب إلى الشَّريفِ عُطَيفة بن أبي نمي سرًّا أن يتحَيَّلَ في قتله، فلم يجِدْ عطيفة بدًّا من امتثال ما أُمِرَ به، وأطلَعَ ولده مبارك بن عطيفة ومن يثِقُ به على ذلك، وتقَدَّم إليهم بإعمال الحيلة فيه، فلما قضى الحاجُّ النُّسُكَ عاد منهم الأمير علم الدين سنجر الجاولي إلى مصر ومعه جماعةٌ في يومِ الأربعاء ثاني عشر ذي الحجة، وتأخَّرَ الأمير سيف الدين خاص ترك أمير الحاج، والأميرُ الدمر جاندار، والأمير أحمد ابن خالة السلطان، ليُصَلُّوا بمكَّةَ صلاة الجمعة، ومعهم بقيَّةُ حجَّاج مصر، فلما حضروا للجمعة وصَعِدَ الخطيب المنبر، أراد الشَّريفُ عَمَل ما رُسِمَ له به، وأخَذَ العبيدُ في إثارةِ الفِتنةِ بين الناس ليحصُلَ الغَرَضُ بذلك، وأوَّل ما بدؤوا به أن عبثوا ببعضِ حاجِّ العراق، وخطفوا شيئًا من أموالِهم، وكان الشريفُ عطيفة جالسًا إلى جانب الأمير خاص ترك أميرِ الركب، فصرخ النَّاسُ بالأمير الدمر وليس عندَه عِلمٌ بما كَتَب به السلطانُ إلى الشَّريفِ عُطَيفة، وكان مع ذلك شُجاعًا حادَّ المزاجِ قَويَّ النفس، فنهض ومعه من المماليكِ، وقد تزايد صراخُ النَّاسِ، وأتى الشَّريفَ وسَبَّه، وقَبَض بعضَ قُوَّادِه وأخرَقَ به، فلاطفه الشريفُ فلم يَلِنْ، واشتد صياحُ الناس، فركب الشريف مبارك بن عطيفة في قوَّادِ مكة بآلة الحَربِ، وركب جندُ مِصرَ، فبادر خليلٌ ولد الأمير الدمر وضرب أحدَ العبيد، فرماه العبدُ بحَربةٍ فقَتَله، فاشتَدَّ حنَقُ أبيه وحَمَل بنفسه لأخذ ثأرِ ولَدِه فقُتِلَ هو أيضًا، ويقال بل صادف الشريف مبارك بن عطيفة، وقد قصد ركبَ العراق وعليه آلةُ حَربِه، فقال له: "ويلك تريدُ أن تثيرَ فِتنةً، وهمَّ أن يَضرِبَه بالدبوس، فضربَه مبارك بحَربةٍ كانت في يده أنفَذَها من صدره فخَرَّ صريعًا، وقُتِلَ معه رجلان من جماعته، فركب أميرُ الركب عند ذلك ونجا بنَفسِه، ورُمِيَ مُبارك بن عطيفة بسَهمٍ في يده فشُلَّت، واختبط الناسُ بأسرهم، وركب أهلُ مكة سطحَ الحَرَم، ورموا الأميرَ أحمد ابن خالة السلطان ومن معه بالحجارة، وقد أفرغ نشَّابه بين يديه هو ومن معه، ورمى بها حتى خلَصَ أيضًا، وفَرَّ أمير ركب العراق وتحيَّرَ الشريف عطيفة في أمره، وما زال يداري الأمرَ حتى خرج الحاجُّ بأجمعهم من مكة، وتوجَّهوا إلى بلادِهم، وتراجع الأمراءُ المصريُّونَ إلى مكة لطَلَبِ بعض الثأر فلم يُنتِجْ أمرُهم وعادوا فارِّينَ، ثم أمَرَ أمير المصريين بالرَّحيل، وعادوا إلى القاهرة وأخبروا المَلِكَ الناصر محمد بن قلاوون، فجهَّزَ إلى مكة عسكرًا كثيفًا وعليه جمعٌ من الأمراء، فتوَجَّهوا وأخفَوا بثأرِ أيدمر وابنه، وقتلوا جماعةً كثيرةً مِن العبيد وغيرهم، وأسرفوا في ذلك وخرجوا عن الحَدِّ إلى الغاية، وتشَتَّت أشرافُ مَكَّة والعبيد عن أوطانِهم وأُخِذَت أموالهم، وحَكَمَت التركُ مَكَّةَ من تلك السنة، وزال منها سَطوةُ أشراف مكة الرَّافضة والعبيد، وانقَمَع أهلُها وارتدعوا، وكَرِهَهم المَلِكُ الناصر ومَقَتَهم وأقصاهم، حتى إنَّه لما حج بعد ذلك كان إذا أتاه صاحِبُ مكَّة لا يقومُ له مع تواضُعِ المَلِك الناصِرِ للفقهاء والأشراف والصُّلَحاءِ وغَيرِهم.
هو الشيخُ الإمامُ العلَّامة الحافِظُ حُجَّة العصرِ، ومحَدِّثُ الشام ومصر وخاتمةُ الحُفَّاظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن علي بن عبد الملك بن أبي الزهر القضاعي الكلبي المزِّي الحلبي المولد، وُلِدَ بظاهر حَلَب في عاشر ربيع الآخر سنة 654، وكان إمامَ عَصرِه وأحَدَ الحُفَّاظ المشهورين، نشأ بالمزَّة بالقُربِ مِن دمشق, فحَفِظَ القرآن الكريم وعُنِيَ باللغةِ وبَرَع فيها وأتقَنَ النحو والتصريف، ثمَّ طلب الحديث سنة 675، فما ونى وما فَتَر ولا لها ولا قَصَّر، في الطلب والاجتهاد والرواية, وصَنَّف وأفاد، وكتب الكثير، لَمَّا وَلِيَ دار الحديث الأشرفي تمذهَبَ للشافعيِّ وأُشهِدَ عليه بذلك. وكان فيه حياءٌ وسكينة، وحِلمٌ واحتمال وقناعة، واطِّراحُ تكَلُّف وتَركُ التجَمُّل والتودُّد والانجماع عن الناسِ وقلة الكلام، إلا أنَّه يُسأل فيُجيب ويجيد، وكلَّما طالت مجالسةُ الطالب له ظهر له فضلُه. وكان لا يتكَثَّر بفضائله، كثيرَ السكوت لا يغتابُ أحدًا. وكان معتَدِلَ القامة مُشرَبًا بحُمرةٍ، قَوِيَّ التركيب مُتِّعَ بحواسِّه وذهنه. وكان قَنوعًا غيرَ متأنقٍ في ملبَسٍ أو مأكلٍ، يصعَدُ إلى الصالحية وغيرها ماشيًا وهو في عشر التسعينَ, وأما معرفته بالرجال فإليه تُشَدُّ الرِّحال؛ فإنه كان الغاية وحامِلَ الراية. ولما ولي دارَ الحديث قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: "لم يَلِ هذه المدرسةَ مِن حين بنائِها وإلى الآن أحَقُّ منه بشرطِ الواقِفِ، وقد وَلِيَها جماعة كبار مثل: ابن الصلاح، ومحيي الدين النواوي، وابن الزبيدي، لأنَّ الواقِفَ قال: فإن اجتمَعَ مَن فيه الروايةُ ومن فيه الدرايةُ قُدِّمَ مَن فيه الدرايةُ؛ قال الشيخ شمس الدين: لم أرَ أحفَظَ منه، ولم يَرَ هو مثلَ نَفسِه, ولم يسألْني ابن دقيق العيد إلَّا عنه. وكان قد اغتَرَّ في شبيبته وصَحِبَ عفيف الدين التلمساني، فلما تبيَّنَ له مذهبُه هَجَره وتبرَّأ منه, ثم قال الشيخ شمس الدين: قرأت بخطِّ الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس: ووجدت بدمشقَ الحافِظَ المقَدَّم، والإمامَ الذي فاق من تأخَّر وتقدم، أبا الحجَّاج المزِّيَّ؛ بحرَ هذا العلم الزاخر، القائِلَ من رآه: كم ترك الأوائِلُ للأواخِر، أحفَظَ النَّاسِ للتراجم، وأعلَمَهم بالرواة من أعارِبَ وأعاجم، لا يخصُّ بمعرفته مصرًا دون مصر، ولا ينفَردُ علمُه بأهل عصر دون عصر، معتمدًا آثارَ السلف الصالح، مجتهدًا فيما نِيطَ به في حفظ السنة من النصائح، مُعرِضًا عن الدنيا وأشباهِها، مُقبِلًا على طريقته التي أربى بها على أربابها، لا يبالي بما ناله من الأزل، ولا يخلط جِدَّه بشَيءٍ مِن الهَزل، وكان بما يصنعه بصيرًا، وبتحقيق ما يأتيه جديرًا، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام". من أهم مُصَنَّفاتِه تهذيب الكمال في أسماء الرجال في أربعة عشر مجلدًا، كشَفَ به الكتب القديمة في هذا الشأن، وسارت به الرُّكبان، واشتهر في حياته، وهو كتابٌ نافِعٌ جدًّا ليس له نظيرٌ في فنه، وألف كتاب " أطراف الكُتُب الستة " في تسعة أسفار, وكان سبَبُ موته هو أنه أصابه طاعون فمَرِضَ عِدَّة أيام حتى إذا كان يوم السبت من الثاني عشر من صفر توفِّيَ بعد صلاة الظهر، فلم يمكن تجهيزُه تلك الليلة، فلما كان من الغدِ يومَ الأحد ثالث عشر صفر صبيحة ذلك اليوم، غُسِّلَ وكُفِّنَ وصُلِّيَ عليه بالجامع الأموي، وحضر القضاةُ والأعيان وخلائِقُ لا يُحصَونَ كثرةً، وخرج بجنازته من باب النصر فصَلَّوا عليه خارج باب النصر، أمَّهم عليه القاضي تقي الدين السبكي الشافعي، وهو الذي صلى عليه بالجامِعِ الأموي، ثم ذهب به إلى مقابر الصوفية، فدفن هناك إلى جانب زوجتِه المرأةِ الصالحة الحافظةِ لكتاب الله: عائشةَ بنتِ إبراهيم بن صديق، غربيَّ قَبرِ شَيخِ الإسلام تقي الدين بن تيمية- رحمهم الله أجمعين.
في عاشر جمادى الآخرة خرجت التجريدة- جيش بدون رجالة- من مصرَ إلى قتال العشير والعُربان، وسببه كثرةُ فسادهم ببلاد القُدس ونابلس، وكان قد قُبِضَ على أدى بن فضل أمير جرم، وسُجِن بقلعة الجبل، ثم أُفرِجَ عنه بعناية الوزير منجك، فجمع أدى وقاتل سنجر بن علي أمير ثعلبة، فمالت حارثة مع أدى، ومالت بنو كنانة مع سنجر، وجرت بينهم حروبٌ كثيرة، قُتِلَ فيها خلائق، وفسدت الطرقاتُ على المسافرين، فخرجت إليهم عساكِرُ دمشق، فلم يَعبؤوا بهم، فلمَّا وَلِيَ الأمير يلجك غزة استمال أدى بعد أيام، وعَضَّده على ثعلبة، واشتدت الحروب بينهم، وفسدت أحوالُ الناس، فركب يلجك بعسكر غزة ليلًا، وطرَقَ ثعلبة، فقاتلوه وكَسَروه كسرةً قبيحة، وألقَوه عن فرسه إلى الأرض، وسَحَبوه إلى بيوتهم فقام سنجر بن علي أمير ثعلبة عليهم حتى تركوا قَتْلَ يلجك، بعد أن سَلَبوا ما عليه، وبالَغوا في إهانته، ثم أفرجوا عنه بعد يومينِ، فعاد يلجك إلى غزة، وقد اتَّضَع قَدرُه وتَقَوَّى العشير بما أخذوه من عسكره، وعَزَّ جانبهم، فقصدوا الغور، وكبسوا القصيرَ المعيني، وقتلوا به جماعةً كثيرة من الجبلية وعمال المعاصر، ونهَبوا جميعَ ما فيه من النقود والأعمال والعسكر وغيره، وذبحوا الأطفالَ على صدر الأمهات، وقطعوا الطُّرُقات، فلم يَدَعوا أحدًا يمر من الشام إلى مصر حتى أخَذوه، وقصدوا القدس، فخلى الناسُ منه ثم قصدوا الرملةَ ولِدَّ فانتهبوها، وزادوا في التعدي، وخرجوا عن الحد، فوقع الاتفاقُ على ولاية الأمير سيف الدين دلنجي نيابة غزة، وأبقى على إقطاعه بمصر، وخلع عليه وأخرج إليها وكَتَب بخروج ابن صبح من دمشق على ألفي فارس، وتجهَّز الوزير منجك ومعه ثلاثةُ أمراء من المقَدَّمين في يوم السبت الرابع عشر، وبينما الوزير ومن معه في أُهبة السفر إذ قدم الخبر أن الأمير قطيلجا توجَّه من حماة إلى نيابة حلب، عوضًا عن الأمير أرقطاي, وقد قَدَّم الوزير النجابةَ لكشف أخبار العشيرة، فلما رحل عن بلبيس عادت نجابتُه بأن ثعلبة ركبت بأجمعها، ودخلت بريَّة الحجاز، لَمَّا بلَغَهم مسير العسكر إليهم، فنهب أدى بن فضل كثيرًا منهم، وانفرد في البلاد بعشيرة، فعاد الوزيرُ بمن معه، وعبَرَ القاهرة في الثاني عشر بعد أربعة أيام، ثم في مستهَلِّ رجب قَدِمَ الخبر بأن الأمير دلنجي نائب غزة بلغه كثرةُ جميع العشيرة، وقَصْدهم نهب لد والرملة، فركب إليهم ولقيهم قريبًا من لد، منزل تجاههم، وما زال يراسِلُهم ويخدعهم حتى قدم إليه نحو المائتين من أكابِرِهم، فقبضهم وعاد إلى غزة، وقد تفَرَّق جمعهم، فقدم الأمير قبلاي غزة، واحتال على أدى حتى قدم عليه، فأكرمه وأنزله، ثم ردَّه بزوادة إلى أهلِه فاطمأنت العشرات والعُربان لذلك، وبقُوا على ذلك إلى أن أهلَّ رمضان، ثم حضر أدى في بنى عَمِّه لتهنئة قبلاي بشهر الصومِ، فساعة وصوله إليه قُبِضَ عليه وعلى بني عمه الأربعة، وقَيَّدَهم وسَجَنَهم، وكتب إلى سنجر بن علي: "بأني قد قبضت على عدوِّك ليكونَ لي عندك يدٌ بيضاء، فسُرَّ سنجر بذلك، وركب إلى قبلاي، فتلقَّاه وأكرمه، فضَمِنَ له سنجر درك البلاد، ورحل قبلاي من غده ومعه أدى وبنو عمه يريد القاهرة، فقدم في يوم الاثنين حادي عشر، فضربوا على باب القلة بالمقارع ضَربًا مبرحًا وألزم أدى بألفِ رجل ومائتي ألف درهم، فبَعَث إلى قومه بإحضارها، فلما أُخِذَت سُمِّرَ هو وبنو عمه في يوم الاثنين خامس عشر وقت العصر، وسُيِّروا إلى غزة صحبة جماعةٍ من أجناد الحلقة، فوُسِّطوا- قُتلوا- بها، فثار أخو أدى، وقَصَد كبس غزة، فخرج إليه الأميرُ دلنجي ولَقِيَه على ميل من غزة، وحاربه ثلاثة أيام، وقتَلَه في اليوم الرابع بسَهمٍ أصابه، وبعث دلنجي بذلك إلى القاهرة، فكتب بخروج نائب صفد ونائب الكرك لنجدته.
هو العلامةُ المجتهد السيد الحسني صاحب التصانيف: الأمير محمد بن إسماعيل الكحلاني، ثم الصنعاني. ولِدَ ليلة الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة 1099هـ بكحلان ثم انتقل مع أسرته إلى صنعاء سنة 1107هـ وأخذ عن علمائها، ووالده كان من الفضلاء الزاهدين في الدنيا الراغبين في العمل، وله شعر جيد، مات في ثالث شهر ذي الحجة سنة 1142هـ. رحل الصنعاني إلى مكة وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وأظهر الاجتهاد وعَمِل بالأدلة، ونفر عن التقليد وزيَّف ما لا دليلَ عليه من الآراء الفقهية، وجرت له مع أهل عصره خطوبٌ ومِحَنٌ، منها في أيام المتوكل على الله القاسم بن الحسين، ثم في أيام ولده الإمام المنصور بالله الحسين بن القاسم، ثم في أيام ولده الإمام المهدى العباس بن الحسين، وتجمع العوامُّ لقتلِه مرة بعد أخرى، وحفظه الله من كيدهم ومكرهم، وكفاه شرهَّم، وولاه الإمامُ المنصور بالله الخطابةَ بجامع صنعاء، فاستمر كذلك إلى أيام ولده الإمام المهدي، واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرِهم في الخطبة الأخرى، فثار عليه جماعةٌ من آل الإمام الذين لا أنسةَ لهم بالعلم، وعضَّدهم جماعة من العوام وتواعدوا فيما بينهم على قتلِه في المنبر يوم الجمعة المقبلة، ولم يفلحوا، واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا، وما زال في محَنٍ من أهل عصره، ووقعت له فِتَن كبار وقاه الله شَرَّها, وكان الصنعاني قد بدأ بعقد حلقات العلم ولَمَّا يُتِمَّ الرابعة والعشرين من عمره, فقد كان بارعًا في الفقه والأصول، ومؤلفاته تنمُّ عن سعة علمه وجودة ذهنه، واستحضاره للأدلة ومناقشتها، واستخراج الأحكام الفقهية، وكان يدعو إلى تجديد الدين والعودة إلى أصوله وحقيقته كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ ولذلك لَمَّا بلغته دعوةُ الشيخ المجدد أيَّدَها وأرسل للشيخ قصيدةً يثني فيها عليه وعلى دعوته، ومما قاله فيها: سلامي على نجدٍ ومن حلَّ في نجـدِ وإن كان تسليمي على البعدِ لا يُجدي وقد صدرت من سفحِ صنعا سقى الحيا رباهـا وحـياهـا بقهقهة الرعـدِ سرت من أسير ينشد الريح أن سرت ألا يا صبا نجـدٍ متى هِجتَ من نجـدِ قفي واسألي عن عالمٍ حَـَّل سوحها به يهتدي من ضَلَّ عن منهج الرشدِ محمَّـد الهـادي لسنة أحمـد فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرَت كلُّ الطوائف قولَهبلا صدَرٍ في الحقِّ منهم ولا وردِ وللإمام الصنعاني مؤلفات كثيرة، منها: التحبير لإيضاح معاني التيسير، وهو شرح كتاب تيسير الوصول لابن الديبع, والتنوير شرح الجامع الصغير، وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار, وثمرات النظر في علم الأثر, والعدة على شرح العمدة، وهو مليء بالفوائد الفقهية والأصولية، وتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد, وحاشية على البحر الزخار في الفقه الزيدي, وسبل السلام اختصره من البدر التمام للمغربي, ومنحة الغفار جعلها حاشية على ضوء النهار للجلال, وشرح التنقيح في علوم الحديث للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، وسماه التوضيح, ومنظومة الكافل لابن مهران في الأصول وشرحها شرحًا مفيدًا, وله مصنفات غير هذه، وقد أفرد كثيرًا من المسائل بالتصنيف بما يكون جميعه في مجلدات، وله شعر فصيح منسجم، جمعه ولده العلامة عبد الله بن محمد في مجلد، وغالبه في المباحث العلمية والتوجع من أبناء عصره والردود عليهم، وبالجملة فهو من الأئمة المجدِّدين لمعالم الدين. أما وفاته فقد أصيب بالحمى والإسهال الشديد حتى توفي في الثالث من شعبان من هذا العام, وقد بلغ من العمر ثمانين سنة. ونظم بعضُهم تاريخه، ورثاه شعراءُ العصر وتأسَّفوا عليه.
كان أبو ركوة من سُلالةِ هِشامِ بنِ عبدِ الملك بنِ مروان الأموي، واسمُه الوليد، هرب مِن الأندلُسِ وقصَدَ مِصرَ، بعد أن استبَدَّ المنصورُ ابنُ أبي عامرٍ بالحُكمِ في الأندلُس, وإنَّما لُقِّبَ بأبي رَكْوة؛ لرَكْوةٍ (سقاءٍ صغيرٍ) كان يصحَبُها في أسفارِه على طريقةِ الصُّوفيَّةِ، وقد سَمِعَ أبو رَكوةَ الحديثَ بالدِّيارِ المِصريَّة، ثمَّ أقام بمكَّةَ ثُمَّ رحَل إلى اليمَنِ ثمَّ دخل الشَّامَ، وهو في غُضونِ ذلك يبايِعُ مَن انقاد له، ممَّن يرى عنده هِمَّةً ونهضةً للقيام في نُصرةِ ولَدِ هِشامٍ، ثمَّ إنه أقام ببعضِ بلادِ مِصرَ في محلَّةٍ من محالِّ العَرَب، يُعَلِّمُ الصِّبيانَ ويُظهِرُ التقَشُّفَ والعبادةَ والوَرَع، ويخبِرُ بشَيءٍ مِن المُغَيَّبات، حتى خضعوا له وعَظَّموه جِدًّا، ثمَّ دعا إلى نَفسِه وذكَرَ لهم أنَّه الذي يُدعى إليه مِن الأُمَويِّين، فاستجاب له بنو قرَّةَ وغيرُهم، وسَبَبُ استجابتهم أنَّ الحاكمَ بأمرِ الله كان قد أسرَفَ في مِصرَ في قَتلِ القُوَّاد، وحَبْسِهم، وأخْذِ أموالِهم، وسائِر القبائِلِ معه في ضَنكٍ وضِيقٍ، ويودُّونَ خُروجَ المُلْك عن يَدِه، وكان الحاكِمُ في الوَقتِ الذي دعا أبو رَكوةَ بني قرَّةَ قد آذاهم، وحَبَس منهم جماعةً مِن أعيانِهم، وقتَلَ بَعضَهم، فلمَّا دعاهم أبو رَكوةَ انقادوا له. وكان بينَ بني قرَّةَ وبين زناتةَ حُروبٌ ودِماءٌ، فاتَّفَقوا على الصُّلحِ ومَنْعِ أنفُسِهم من الحاكِمِ العُبَيديِّ، فاجتمعوا على بيعةِ أبي ركوة، وخاطَبوه بأميرِ المُؤمِنينَ، ولُقِّبَ بالثَّائِرِ بأمرِ اللهِ المُنتَصِر من أعداء الله، ودخَلَ برقةَ في جَحفلٍ عَظيمٍ، فجمع له أهلُها نحوًا مِن مِئَتي ألفِ دينار، ونقَشُوا الدَّراهِمَ والدَّنانيرَ بألقابِه، فالتَفَّ على أبي ركوة من الجنودِ نحوٌ مِن سِتَّةَ عَشَرَ ألفًا، فلما بلغَ الحاكِمَ أمْرُه وما آل إليه حالُه، عَظُمَ عليه الأمرُ، وأهمَّتْه نَفسُه ومُلكُه، وعاود الإحسانَ إلى النَّاسِ، والكَفَّ عن أذاهم، ثمَّ بعث إليه جيشًا بقيادةِ ينال الطويل التركي الذي انهزم أمامَ أبي ركوةِ، وقُتِلَ ينال، فانتشَرَ ذِكرُ أبي رَكوةَ، وعَظُمَت هَيبتُه، وأقام ببرقةَ، وترَدَّدَت سراياه إلى الصعيدِ وأرضِ مِصرَ، وقام الحاكِمُ مِن ذلك وقَعَد، وسُقِطَ في يَدِه، ونَدِمَ على ما فَرَّط، وفَرِحَ جُندُ مِصرَ وأعيانُها بأمرِ أبي ركوة، وعَلِمَ الحاكِمُ بذلك، فاشتَدَّ قَلَقُه، وأظهَرَ الاعتذارَ عن الذي فعَلَه، وكتب النَّاسُ إلى أبي رَكوةَ يَستدعونَه، ومِمَّن كتَبَ إليه الحُسَينُ بنُ جوهر المعروف بقائِدِ القُوَّاد، فسار حينئذٍ عن برقةَ إلى الصَّعيدِ، وعَلِمَ الحاكِمُ، فاشتَدَّ خَوفُه، وبلغ الأمرُ كُلَّ مَبلغٍ، وجمَعَ عساكِرَه واستشارهم، وكتَبَ إلى الشَّامِ يَستدعي العساكِرَ فجاءته، وفَرَّقَ الأموالَ والدَّوابَّ والسِّلاحَ، وسَيَّرَهم وهم اثنا عشرَ ألفَ رجلٍ بين فارسٍ وراجلٍ، سِوى العرب، بقيادة الفَضلِ بنِ عبد الله الذي استطاع بعد عدَّةِ وقائِعَ أن يَهزِمَ أبا ركوةَ، فأسَرَه وأكرَمَه حتى أدخَلَه مِصرَ، ثم حُمِلَ أبو رَكوةَ على جَملٍ مُشهَّرًا به وبأصحابِه، ثُمَّ قُتِلَ وصُلِبَ، ثمَّ أكرمَ الحاكِمُ الفَضلَ وأقطَعَه أقطاعًا كثيرة، ثمَّ اتَّفَق مَرَضُ الفَضلِ فعاده الحاكِمُ مَرَّتين، فلمَّا عوفِيَ قَتَلَه شَرَّ قِتلةٍ.
هو محمد علال ابنُ العلَّامة الخطيب عبد الواحد بنِ عبد السلام بنِ علال بنِ عبد الله بنِ المجذوب الفاسي الفِهريُّ نسبًا، ثم الفاسيُّ مولدًا ودارًا ومنشأ. أحد روَّاد الفكر الإسلامي الحديث، ومن كبار الخطباء في المغرب، ينحدِرُ من عائلة عربية عريقة نزحت من موطنها بديار الأندلس إلى المغرب الأقصى فرارًا بدينها وعقيدتها من محاكمِ التفتيشِ الإسبانية، واستوطنت بمدينة فاس تحت اسمِ بني الجدِّ واشتهرت بآل الفاسيِّ الفِهريِّ، وساهمت في جميع المجالات العلمية والمعرفية؛ وهو مؤسِّس حزب الاستقلالِ المغربيِّ، وأحد منظِّري فكرة المغرب العربي الكبير، وُلِدَ بمدينة فاس المغربية، في أواخر شوال عام1326هـ/ 1908م، أدخله والده إلى الكتَّاب لتلقي مبادئ الكتابة والقراءة، وحَفِظ القرآن الكريم في سنٍّ مبكرة، وبعد ذلك نقله والده إلى المدرسة العربيَّة الحرة بفاس القديمة؛ ليتعلَّم مبادئ الدين وقواعدَ اللغة العربيةِ، كان مبرزًا على أقرانه، مفخرة أسرته، بل مفخرة القَرويِّين والمغرب، عِلمًا ونبوغًا، وذكاء، وفي عام 1338هـ التحق بجامع القَرويِّين العامرِ، فدرس فيه المختصرَ بشرح الدرديرِ، والتُّحفةَ بشرح الشيخ التَّاودي بنِ سودة، وجمع الجوامع بشرح المحلِّي، والكامل في الأدب للمبَرِّد، ومقامات الحريري، وعيون الأخبار لابن قتيبةَ، وغيرها من الكتب، وسرد الكتب الستة على أبيه وعمِّه القاضي عبد الله الفاسيِّ، وعلى الشريف السلفيِّ علي الدرقاوي زاد المعاد في هدي خير العباد، وأدب الدنيا والدين، والشمائل المحمدية، وتابع دراستَه حتى حصل على الشهادة العالِميَّة، وفي عام 1380هـ عُيِّن وزيرًا للدولة مكلَّفًا بالشؤون الإسلامية، ثم انسحب منَ الحكومةِ في عام 1382هـ وعُيِّن أستاذًا بكلية الشريعة التابعة لجامعة القرويِّين بظهر المهراز، وكُلِّيتيِ الحقوق والآداب لجامعة محمد الخامس بالرباطِ، وبدار الحديثِ الحسنيَّة بنفس المدينة، وكان عضوًا مقررًا عامًّا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي التي شُكِّلت في فجر الاستقلال، ساهم في مقاومة المحتلِّ الفرنسيِّ وجاهد ضده، ودفعته هِمَّته إلى تأليف جمعيةٍ أُطلق عليها (جمعية القَرويِّين لمقاومة المحتلِّين)، تولى رئاسة حزب الاستقلال الذي أُنشئ من قبلُ، واختُير عضوًا رئيسًا في مجلس الدستورِ لوضع دستور البلاد، ثم انتُخِب رئيسًا له، وقدَّم مشروع القانون الأساسيِّ، وشارك في وضع الأُسس الأولى للدستور سنة 1382هـ ودخل الانتخاباتِ التي أُجريت سنة 1383هـ ودخل الوزارة، ومن مصنَّفاته كتاب: ((الحركات الاستقلالية في المغرب العربي))، و((المغرب العربي منذ الحربِ العالميَّة الأولى))، و ((مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها))، و ((دفاع عن الشريعة))، و ((المدخل للفقه الإسلامي))، و ((تاريخ التشريع الإسلامي))، و ((النقد الذاتي))، و ((معركة اليوم والغد))، و ((دائمًا مع الشعب))، وكتاب ((عقيدة وجهاد)). وكان شاعرًا نبغ في قَرْضه في سِنٍّ مبكرة، فنظم كثيرًا من القصائد: الدينية والسياسية، والاجتماعية والتاريخية.
تُوفي وهو في بوخارست عاصمة رومانيا إِثْرَ نوبةٍ قلبيةٍ وهو يعرض على رئيسها انطباعاته عن زيارته التي قام بها وفدُ حزب الاستقلالِ المغربي برئاسته، ويشرح قضيَّة المغرب وصحراء المغرب، ونِضال الشَّعب الفلسطيني في سبيل نَيْل حُريته وأرضه، ونُقِل جثمانه إلى المغرب، فدُفِن بمقبرة الشهداء بحي العلو في مدينة الرباط.
لمَّا فَتَح يَزيدُ بن المُهَلَّب قُهِسْتان وجُرْجان طَمِعَ في طَبَرِسْتان أن يَفْتَحها، فَعَزَم على أن يَسيرَ إليها، فاسْتَعمَل عبدَ الله بن المُعَمَّر اليَشْكُرِيَّ على السَّاسان وقُهِسْتان، وخَلَّفَ معه أَربعةَ آلاف، ثمَّ أَقبَل إلى أَدانِي جُرجان مما يَلِي طَبَرِسْتان، فاسْتَعمَل على أَيْذُوسا راشِدَ بن عَمرٍو، وجَعَلَه في أَربعةِ آلاف، ودَخَل بِلادَ طَبَرِسْتان، فأَرسَل إليه الإِصْبَهْبَذ صاحِبُها يَسألُه الصُّلْحَ وأن يَخرُج مِن طَبَرِسْتان، فأَبَى يَزيدُ، ورَجَا أن يَفْتَتِحَها، ووَجَّه أَخاهُ أبا عُيَينَة مِن وَجْهٍ، وابنَه خالدَ بن يَزيدَ مِن وَجْهٍ، وأبا الجَهْم الكَلْبِيَّ مِن وَجْهٍ، وقال: إذا اجْتَمعتُم فأَبُو عُيينَة على النَّاس. فسار أبو عُيينَة وأقام يَزيدُ مُعَسْكِرًا, واسْتَجاش الإصْبَهْبَذ أَهلَ جِيلان والدَّيْلَم، فأَتوه فالْتَقوا في سَفْحِ جَبلٍ، فانْهَزَم المشركون في الجَبلِ، فاتَّبَعهُم المسلمون حتَّى انْتَهوا إلى فَمِ الشِّعْبِ، فدَخلَه المسلمون وصَعَد المشركون في الجَبلِ واتَّبَعَهم المسلمون يَرومُون الصُّعود، فرَماهُم العَدُوُّ بالنِّشابِ والحِجارَةِ، فانْهَزَم أبو عُيينَة والمسلمون يَركَب بَعضُهم بَعضًا، يَتَساقَطون في الجَبلِ حتَّى انْتَهوا إلى عَسْكَرِ يَزيدَ، وكَفَّ عَدُوُّهم عن اتِّباعِهم، وخافَهُم الإصْبَهْبَذ، فكان أَهلُ جُرجان ومُقَدِّمُهم المَرْزبان يَسأَلُهم أن يُبَيِّتُوا مَن عندهم مِن المسلمين، وأن يَقطَعوا عن يَزيدَ المادَّةَ والطَّريقَ فيما بينه وبين بِلادِ الإسلام، ويَعِدُهم أن يُكافِئَهم على ذلك، فثاروا بالمسلمين، فقَتَلوهُم أَجمعين وهُم غارُون في لَيلةٍ، وقُتِلَ عبدُ الله بن المُعَمَّر وجَميعُ مَن معه فلم يَنْجُ منهم أَحَدٌ، وكَتَبوا إلى الإصْبَهْبَذ بِأَخْذِ المَضايِق والطُّرُق. وبَلَغ ذلك يَزيدَ وأَصحابَه فعَظُمَ عليهم وهالَهُم، وفَزِعَ يَزيدُ إلى حَيَّان النَّبَطِي وقال له: لا يَمنَعك ما كان مِنِّي إليك مِن نَصيحَة المسلمين، وقد جاءَنا عن جُرجان ما جاءَنا، فاعْمَل في الصُّلْح. فقال: نعم. فأَتَى حَيَّانُ الإصْبَهْبَذ فقال: أنا رَجُلٌ منكم، وإن كان الدِّينُ فَرَّقَ بيني وبينكم، فأنا لكم ناصِح، فأنت أَحَبُّ إِلَيَّ مِن يَزيدَ، وقد بَعَث يَسْتَمِدُّ وأَمْدادُه منه قَريبَة، وإنَّما أصابوا منه طَرَفًا، ولست آمَن أن يأتيك مَن لا تقوم له، فأَرِحْ نَفسَك وصالِحْه، فإن صالَحتَه صَيَّرَ حَدَّهُ على أَهلِ جُرجان بِغَدْرِهِم وقَتْلِهم أَصحابَه. فصالَحَهُ على سَبعمائة ألف، وقِيلَ: خَمسمائة ألف، وأربعمائة وَقْرِ زَعْفَران، أو قِيمتِه مِن العَيْنِ، وأَربعمائة رَجُلٍ، على كُلِّ رَجُلٍ منهم تُرْسٌ وطَيْلَسان، ومع كُلِّ رَجُل جامٌ مِن فِضَّة وخِرْقَة حَرير وكُسْوَة. ثمَّ رَجَع حَيَّانُ إلى يَزيدَ، فقال: ابْعَث مَن يَحْمِل صُلْحَهُم. فقال: مِن عندهم أو مِن عندنا؟ قال: مِن عندهم. وكان يَزيد قد طابت نَفسُه أن يُعطِيَهم ما سَأَلوا ويَرجِع إلى جُرجان، فأَرسَل إلى يَزيد مَن يَقبِض ما صالَحَهم عليه حَيَّان.
كان سَببُ ذلك أنَّه لمَّا قَدِمَ الأندَلُس أَميرًا أَظهَر العَصبِيَّة لليَمانِيَّة على المُضَرِيَّة، فاتَّفَق في بعضِ الأيَّام أنَّه اختَصَم رَجلٌ مِن كِنانَة ورَجلٌ مِن غَسَّان، فاسْتَعان الكِنانيُّ بالصُّمَيلِ بن حاتِم بن ذي الجَوْشَن الضَّبابي، فكلَّم فيه أبا الخطَّار، فاسْتَغلَظ له أبو الخطَّار، فأجابه الصُّمَيل، فأُمِرَ به فأُقِيمَ وضُرِب قَفاهُ، فمالَت عِمامتُه، فلمَّا خرَج قِيلَ له: نَرَى عِمامَتك مالَت! فقال: إن كان لي قومٌ فسَيُقِيمُونَها. وكان الصُّمَيْلُ مِن أَشرافِ مُضَر، فلمَّا جَرى له ذلك جَمَعَ قَومَه وأَعلمَهم، فقالوا له: نحن تَبَعٌ لك. قال: أُريدُ أن أُخرِجَ أبا الخَطَّار مِن الأندَلُس. فقال له بعضُ أَصحابِه: افْعَل واسْتَعِن بمَن شِئتَ ولا تَسْتَعِن بأبي عَطاء القَيسي. وكان مِن أَشرافِ قَيس، وكان يَنظُر الصُّميلَ في الرِّياسَة ويَحسُده. وقال له غيرُه: الرَّأيُ أنَّك تأتي أبا عَطاء وتَشُدُّ أَمرَك به فإنَّه تُحرِّكُه الحَمِيَّة ويَنصُرك، وإن تَركتَه مال إلى أبي الخَطَّار وأَعانَه عليك لِيَبلُغ فيك ما يُريد، والرَّأيُ أيضًا أن تَستَعِينَ عليه بأَهلِ اليَمن فَضلًا عن مَعْد. ففَعَل ذلك وسار مِن لَيلتِه إلى أبي عَطاء، وكان يَسكُن مَدينَة إسْتِجَة، فعَظَّمَه أبو عَطاء وسَألَه عن سَببِ قُدومِه، فأَعلمَه، حتَّى قام فرَكِبَ فَرسَه ولَبِسَ سِلاحَه وقال له: انهَض الآنَ حيث شِئتَ فأنا معك. وأَمَر أَهلَه وأَصحابَه باتِّباعِه، فساروا إلى مَرْو، وبها ثَوابَة بن سَلامَة الحُداني، وكان مُطاعًا في قَومِه، وكان أبو الخطَّار قد استَعمَله على إشبيلية وغيرها، ثمَّ عَزلَه ففَسَد عليه، فدَعاهُ الصُّمَيل إلى نَصرِه ووَعَدَهُ أنَّه إذا أخرجوا أبا الخطَّار صار أَميرًا، فأجاب إلى نَصرِه ودَعا قَومَه فأجابوه فساروا إلى شدونة، وسار إليهم أبو الخطَّار مِن قُرطُبة، فالتقوا واقْتَتَلوا في رَجب مِن هذه السَّنَة، وصَبَر الفَريقان ثمَّ وَقَعت الهزيمةُ على أبي الخطَّار وقُتِلَ أَصحابُه أَشدَّ قَتْلٍ وأُسِرَ أبو الخطَّار. ولمَّا انهَزَم أبو الخطَّار سار ثَوابةُ بن سَلامَة والصُّمَيل إلى قُرطُبة فمَلكاها، واسْتَقَرَّ ثَوابةُ في الإمارة فثارَ به عبدُ الرحمن بن حَسَّان الكلبي وأَخرَج أبا الخطَّار مِن السِّجْن، فاسْتَجاش اليَمانِيَّة فاجْتَمَع له خَلْقٌ كثيرٌ، وأَقبلَ بهم إلى قُرطُبة، وخَرَج إليه ثَوابةُ فيمَن معه مِن اليَمانِيَّة والمُضَريَّة مع الصُّمَيل. فلمَّا تَقاتَل الطَّائفتان نادى رَجلٌ مِن مُضَر: يا مَعشرَ اليَمانِيَّة، ما بالُكُم تَتَعرضون للحَربِ على أبي الخطَّار وقد جعلنا الأَميرَ منكم؟ يعني ثَوابَة، فإنَّه مِن اليَمَن... فلمَّا سَمِع النَّاسُ كَلامَه قالا: صَدَق والله، الأَميرُ مِنَّا فما بالُنا نُقاتِل قَومَنا؟ فتَركوا القِتالَ وافتَرقَ النَّاسُ، فهرَب أبو الخطَّار فلَحِقَ باجة، ورَجَع ثَوابةُ إلى قُرطُبة، فسُمِّيَ ذلك العَسكَر عَسكَر العافِيَة.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العامِلُ، القُدوةُ سيد القراء: أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، من طبقات الشافعية, ولد سنة 538 ببلدة شاطبة- وهي مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء- كان الشاطبي يتوقد ذكاءا، مع الورع والتقوى والتأله والوقار. وهو مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يُسبَق إليها ولا يُلحَق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كلُّ ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير. قال عنها ابن خلكان: " الشاطبي هو صاحب القصيدة التي سمَّاها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعِدَّتُها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقَلَّ مَن يشتَغِلُ بالقراءات إلا ويُقَدِّمُ حِفظَها ومعرفتها، وهي مشتَمِلةٌ على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها". وله قصيدة دالية في خمسمائة بيت مَن حَفِظَها أحاط علمًا بكتاب التمهيد لابن عبد البر. كما له الباعُ الأطول في فن القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث. قرأ القرآن الكريم ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، ورحل إلى بلنسية، فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل. وقراءة بالسبع على غيرهما, فقد كان عالِمًا بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرًا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبَرَّزًا فيه، وكان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تُصحَّحُ النسخُ من حفظه، ويُملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدَ في علم النحو واللغة، عارفًا بعلم الرؤيا، حَسَن المقاصِدِ. كان دَيِّنًا خاشعًا ناسكًا كثير الوقار، لا يتكَلَّمُ فيما لا يعنيه. يجتَنِبُ فُضولَ الكلام ولا ينطقُ إلا على طهارةٍ في هيئةٍ حَسَنةٍ وتخَشُّع واستكانة، وكان يعتَلُّ العلةَ الشديدةَ فلا يشتكي ولا يتأوَّه. انتقل من بلده إلى مصر، قال السخاوي: "سببُ انتقاله من بلده أنَّه أريد على الخطابة، فاحتج بالحَجَّ، وترك بلده، ولم يعُدْ إليه تورُّعًا مما كانوا يُلزِمونَ الخُطَباء مِن ذِكرِهم الأمراءَ بأوصافٍ لم يَرَها سائغة، وصَبَرَ على فقرٍ شديد". سمع بمصرَ من السِّلَفي، وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته في مصر، فأجاب على شروطٍ، فتصَدَّر وعَظُمَ شأنه، وبَعُدَ صِيتُه، وانتهت إليه رياسةُ الإقراء بمصر، وقد انتفع به وبعِلمِه خَلقٌ كثير. زار بيت المقدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاتُه بها في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضليَّة، وله أولاد رووا عنه، منهم أبو عبد الله محمد, وهذا الإمام الشاطبي صاحب الشاطبية يختلف عن الشاطبي صاحب المُوافقات الذي توفي سنة 970.
هو هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان ملك التتار بن ملك التتار، وهو والِدُ مُلوكِهم، والعامَّةُ يقولون هولاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكًا جبارًا فاجرًا كفَّارًا- لعنه الله- قتل من المسلمين شرقًا وغربًا ما لا يَعلَمُ عَدَدَهم إلَّا الذي خلقهم، وسيجازيه على ذلك شَرَّ الجزاء، كان لا يتقيَّدُ بدين من الأديان، وإنما كانت زوجتُه تنصَّرَت وكان هو يترامى على محبَّة المعقولات، ولا يتصوَّر منها شيئًا، قال الشيخ قطب الدين: "كان من أعظَمِ ملوك التتار، وكان شجاعًا حازمًا مدبِّرًا، ذا همة عالية، وسطوةٍ ومهابة، ونهضةٍ تامة، وخبرة بالحروب، ومحبَّة في العلوم العقلية من غير أن يتعقَّل منها شيئًا، وكان أهلُها من أفراخ الفلاسفة لهم عنده وجاهة ومكانة، اجتمع له جماعة من فضلاء العالم، وجمع حُكماء مملكته، وأمَرَهم أن يرصدوا الكواكب. وكان يطلق الكثيرَ من الأموال والبلاد. وهو على قاعدةِ المغول في عدم التقيدِ بدين، لكن زوجته ظفر خاتون قد تنصَّرَت، وكانت تفضِّلُ النصارى على سائر الخلق، وكان سعيدًا في حروبه وحصاراته. طوى البلاد، واستولى على الممالكِ في أيسرِ مدة، وهزم الجيوش، وأباد الملوك، وقتل الخليفةَ، وأمراء العراق، وصاحبَ الشام، وصاحب ميافارقين". كانت همته في تيسير مملكتِه وتملك البلاد شيئًا فشيئًا، قال النجم أحمد بن البواب النقاش: "عزم هولاكو على زواجِ بنت ملك الكرج، فقالت له: حتى تُسلِمَ، فقال: عرفوني ما أقولُ, فعرضوا عليه الشهادتينِ فأقَرَّ بهما، وشَهِدَ عليه بذلك الفيلسوف الخواجة نصير الدين الطوسي، وفخر الدين المنجم. فلما بلغها ذلك أجابت. فحضر القاضي فخر الدين الخلاطي، فتوكَّل لها النصير، وللسلطان الفخر المنجم، وعقدوا العقدَ باسم تامار خاتون بنت الملك داود بن إيواني على ثلاثين ألف دينار، قال لي ابن البواب: وأنا كتبت الكتابَ في ثوب أطلس أبيض، فعَجِبتُ مِن إسلامه. قلت(الذهبي): إن صحَّ هذا فلعله قالها بفمه لعَدَمِ تقيُّدِه بدين، ولم يدخُلِ الإسلامُ إلى قلبه، فالله أعلم". هلك بمرض الصَّرعِ واجتمعت التتار على ولده أبغا، كان هلاكُه في سابع ربيع الآخر بعلَّة الصرع، فإنه حصل له الصرعُ منذ قتل الملك الكامل صاحب ميافارقين، فكان يعتريه في اليوم المرَّة والمرتين, ولما عاد من كسرةِ ابن عمه بركة خان له أقام يجمع العساكر، وعزم على العَودِ لقتال بركة خان، فزاد به الصرعُ، ومرض نحوًا من شهرين، وهلك، فأخفَوا موته، وصبروه، وجعلوه في تابوت، ثم أظهروا موتَه. وكان موته بمدينة مراغة، ودفن بقلعة تلا, وبنيت عليه قبة, وكان ابنه أبغا غائبًا فطلبوه ثمَّ مَلَّكوه، وقيل كان موتُه في سنة 664هـ.
فتح المُسلِمونَ مَدينةَ قصريانة، وهي المدينةُ التي بها دارُ المُلْك بصقلية، وكان المَلِكُ قبلها يسكُنُ سرقوسة، فلما مَلَك المسلمونَ بعضَ الجزيرة نقل دارَ المُلك إلى قصريانة لحصانَتِها. وسبَبُ فَتحِها أنَّ العبَّاسَ بنَ الفَضلِ- أميرَ صقلية- سار في جيوشِ المسلمين إلى مدينة قصريانة، وسرقوسة، وسيَّرَ جيشًا في البحر، فلَقِيَهم أربعون شلندي للرُّوم، فاقتتلوا أشَدَّ قتال، فانهزم الرومُ، وأخذ منهم المسلمون عَشرَ شلنديات برجالِها، وعاد العباس بنُ الفضل إلى مدينته. فلما كان الشتاءُ سَيّرَ سرية، فبلغت قصريانة، فنهبوا وخَرَّبوا، وعادُوا ومعهم رجلٌ كان له عند الرومِ قَدْرٌ ومَنزِلةٌ، فأمر العبَّاسُ بقَتلِه، فقال: استَبْقِني، ولك عندي نصيحةٌ، قال: وما هي؟ قال: أُمَلِّكُك قصريانةَ، والطريقُ في ذلك أنَّ القَومَ في هذا الشتاءِ وهذه الثلوجِ آمِنونَ مِن قَصدِكم إليهم، فهم غيرُ مُحتَرِسينَ، تُرسِلُ معي طائفةً مِن عسكَرِكم حتى أُدخِلَكم المدينةَ. فانتخب العبَّاسُ ألفَي فارسٍ أنجادٍ أبطالٍ، وسار إلى أن قارَبَها، وكمن هناك مستَتِرًا وسيَّرَ عَمَّه رباحًا في شُجَعانِهم، فساروا مستخفِينَ في الليل، فنَصَبوا السَّلاليمَ، وصَعِدوا الجبل، ثم وصَلوا إلى سور المدينةِ، قريبًا من الصُّبحِ، والحَرَسُ نيام، فدخلوا من نحوِ بابٍ صغيرٍ فيه، فدخل المُسلِمونَ كُلُّهم، فوَضَعوا السيفَ في الروم، وفَتَحوا الأبواب. وجاء العباسُ في باقي العسكَرِ، فدخلوا المدينةَ وصَلَّوا الصبحَ يومَ الخميس منتصَفَ شوال، وبنى فيها في الحالِ مَسجِدًا ونصَبَ فيه مِنبرًا وخطب فيه يومَ الجمعة، وقَتَل من وَجَد فيها من المُقاتِلة، وأخذوا ما فيها من بناتِ البَطارقةِ بحُليهِنَّ، وأبناء الملوك، وأصابوا فيها ما يَعجِزُ الوصفُ عنه، وذَلَّ الشِّركُ يومئذٍ بصَقَلِّيَّة ذلًّا عَظيمًا. ولَمَّا سمع الروم أرسَلَ مَلِكُهم بِطريقًا من القُسطنطينية في ثلاثِمائة شلندي وعسكَرٍ كثيرٍ، فوصلوا إلى سرقوسة، فخرج إليهم العبَّاسُ من المدينة، ولَقِيَ الرُّومَ وقاتَلَهم، فهَزَمهم، فرَكِبوا في مراكِبِهم هاربين، وغَنِمَ المُسلِمونَ منهم مائةَ شلندي، وكَثُرَ القتلُ فيهم، ولم يُصَبْ من المسلمينَ ذلك اليومَ غيرُ ثلاثةِ نَفَرٍ بالنشاب.