لم يزلْ أفتكين الشَّرابيُّ مولى مُعِزِّ الدولة بن بُوَيه طُولَ مُقامِه بدمشق يكاتِبُ القَرامِطةَ ويكاتِبونَه بأنَّهم سائرون إلى الشام، إلى أن وافَوا دمشق بعد موتِ المعِزِّ الفاطمي في هذه السنة، وكان الذي وافى منهم: إسحاقُ، وكِسرى، وجعفر، فنزلوا على ظاهرِ دمشق، ومعهم كثيرٌ مِن العجم أصحابِ أفتكين الذين تشَتَّتوا في البلاد وقتَ وَقعتِه مع الديلم، فلَقُوهم بالكوفة في الموقعات، فأركبوهم الإبِلَ، وساروا بهم إلى دمشق، فكساهم أفتكين؛ فقَوِيَ عسكَرُه بهم وتلَقَّى أفتكين القرامِطةَ وحَمَل إليهم وأكرَمَهم وفَرِحَ بهم، وأمِنَ مِن الخوف، فأقاموا على دمشق أيامًا ثم ساروا إلى الرملةِ وبها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فالتجأ إلى يافا، ونزل القرامطةُ الرملة، ونصبوا القتالَ على يافا حتى مَلَّ كُلٌّ مِن الفريقين القِتالَ، وصار يُحَدِّثُ بَعضُهم بعضًا. وجبى القرامطةُ المال فأمِنَ أفتكين من مصرَ، وظَنَّ أن القرامِطةَ قد كَفَوه ذلك الوجهَ، وعمِلَ على أخذ الساحل، فسار بمن اجتمَعَ إليه، ونزل على صيدا، وبها ابنُ الشيخ، ورؤساءُ المغاربة، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي، فقاتلوه قتالًا شديدًا، فانهزم عنهم أميالًا، فخرجوا إليه، فواقعهم وهَزَمهم وقتل منهم، وصار ظالمُ إلى صُور، فيقال إنَّه قتل يومئذٍ أربعة آلافٍ مِن عساكِرِ المغاربة، قُطِعَت أيمانُهم وحُمِلَت إلى دمشق، فطِيفَ بها. ونزل أفتكين على عكَّا، وبها جمَعَ مِن المغاربة، فقاتلوه، فسيَّرَ العزيز بالله القائِدَ جَوهرًا بخزائن السلاح والأموال إلى بلاد الشام في عسكرٍ عظيمٍ لم يَخرُجْ قَبلَه مثلُه إلى الشام، من كثرة الكراعِ والسِّلاح والمال والرجال، بلَغَت عِدَّتُهم عشرين ألفًا بين فارسٍ وراجل، فبلغ ذلك أفتكين وهو على عكَّا، والقرامطة بالرملة، فسار أفتكين مِن عكَّا ونزل طبَريَّة، وخرج القرامِطةُ مِن الرملة، ونزلها جوهرٌ. وسار إسحاق وكسرى مِن القرامطة بمن معهم إلى الأحساءِ؛ لقِلَّةِ مَن معهم من الرجالِ الذين يلقَونَ بها جوهرًا، وتأخَّرَ جعفر من القرامطة فلَحِقَ بأفتكين وهو بطبرية، وقد بعث في جمعٍ في حوران والبثنية، وسار جوهر من الرملة يريدُ طَبَريَّة، فرحل أفتكين، واستحَثَّ النَّاسَ في حَملِ الغَلَّة من حوران والبثنية إلى دمشقَ، وصار أفتكين إلى دمشقَ، ومعه جعفر القرمطي، فنزل جوهرٌ على دمشق لثمانٍ بَقِينَ مِن ذي القعدة فيما بين داريا والشماسية، فجمَعَ أفتكين أحداثَ البلد، وأمَّنَ مَن كان قد فزع منه، فاجتمع حُمَّال السِّلاح والذعار إليه، ورئيسُهم قسام التراب. وأخذ جوهرٌ في حفر خندقٍ عظيمٍ على عسكره، وجعل له أبوابًا، وكان ظالمُ بنُ موهوب معه، فأنزله بعسكَرِه خارج الخندق، وصار أفتكين فيمن جمعَ مِن الذعار، وأجرى لكبيرِهم قسَّام رِزقًا. ووقع النفيُ على قُبَّة الجامع والمنابر، وساروا فجرى بينهم وبين جوهرٍ وقائِعُ وحُروبٌ شديدة وقتالٌ عظيم، وقُتِلَ بينهم خلقٌ كثيرٌ مِن يوم عرفةَ، فجرى بينهم اثنتا عشرة وقيعةً إلى آخر ذي الحجة. ولم يزل إلى الحادي عشر من ربيع الأول سنة 367 فكانت بين الفريقينِ وقعةٌ عظيمة، انهزم فيها أفتكين بمَن معه، وهَمَّ بالهرب إلى أنطاكية، ثم إنَّه استظهر. ورأى جوهرٌ أنَّ الأموال قد تَلِفَت، والرجالَ قد قُتِلَت والشِّتاءَ قد هجم، فأرسل في الصُّلح،ِ فلم يُجِب أفتكين، وذلك أنَّ الحُسَين بن أحمد الأعصم القرمطيَّ بعَثَ إلى ابنِ عَمِّه جعفر المقيم عند أفتكين بدمشقَ: إنِّي سائِرٌ إلى الشام، وبلغ ذلك جوهرًا، فتردَّدَت الرسل بينه وبين أفتكين حتى تقرَّرَ الأمرُ أنَّ جوهرًا يرحل، ولا يتبَعُ عَسكَرَه أحد، فسُرَّ أفتكين بذلك، وبعَثَ إلى جوهرٍ بجِمالٍ ليَحمِلَ عليها ثِقْلَه؛ لقِلَّة الظهر عنده، وبقي من السلاح والخزائنِ ما لم يَقدِرْ جَوهرٌ على حَملِه، فأحرقه، ورحل عن دمشق في ثالث جمادى الأولى. وقَدِمَ البشيرُ مِن الحسن بن أحمد القرمطي إلى عمِّه جعفر بمجيئه، وبلغ ذلك جوهرًا، فجَدَّ في السَّيرَ، وكان قد هلك من عسكرِه ناسٌ كثير من الثَّلجِ، فأسرع بالمسيرِ مِن طبرية، ووافى الحسَنُ بنُ أحمد من البريَّة إلى طبرية، فوجد جوهرًا قد سار عنها، فبعث خلْفَه سريَّةً أدركَتْه، فقابلهم جوهرٌ، وقتل منهم جماعةً، وسار فنزل ظاهِرَ الرملة، وتَبِعَه القرمطي، وقد لَحِقَه أفتكين، فسارا إلى الرملة، ودخل جوهرٌ زيتون الرملة، فتحصَّنَ به، فلما نزل الحسنُ بنُ أحمد القرمطي الرملةَ هلك فيها، وقامَ مِن بعده بأمرِ القرامطةِ ابنُ عَمِّه أبو جعفر، فكانت بينه وبين جوهرٍ حروب كثيرة. ثم إنَّ أفتكين فسَدَ ما بينه وبين أبي جعفرٍ القرمطيِّ، فرجع عنه إلى الأحساءِ، وكان حسَّانُ بنُ علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي أيضًا مع أفتكين على محاربةِ جَوهرٍ، فلم يرَ منه ما يحِبُّ، وراسله العزيزُ فانصرف عن أفتكين، وقَدِمَ القاهرة على العزيز، واشتدَّ الأمر على جوهر، وخاف على رجالِه، فسار يريدُ عسقلان، فتَبِعَه أفتكين. واستولى قَسَّام التراب على دمشقَ وخطَبَ للعزيز، فسار أبو تغلِبَ بنُ حمدان إلى دمشق، فقاتله قسَّام ومنعه، فسارَ إلى طبرية. وأدرك أفتكين جوهرًا، فكانت بينهما وقعةٌ امتدت ثلاثة أيام انهزم في آخرها جوهَرٌ، وأخذ أصحابَه السَّيفُ، فجَلوا عما معهم، والتحَقوا بعسقلان، فظَفِرَ أفتكين من عسكرِ جوهرٍ بما يَعظُمُ قَدرُه، واستغنى به ناسٌ كثيرون. ونزل أفتكين على عسقلانَ، فجَدَّ جوهرٌ حتى بلغ من الضُّرِّ والجَهدِ مَبلغًا عظيما، وغَلَت عنده الأسعارُ، فبلغ قفيزُ القمح أربعين دينارًا، وأخذت كتامة تسُبُّ جوهرًا وتنتَقِصُه، وكانوا قد كايَدوه في قتالهم، فراسل أفتكين يسألُه: ماذا يريدُ بهذا الحصار، فبعث إليه: لا يزولُ هذا الحصارُ إلا بمالٍ تؤدِّيه إليَّ عن أنفُسِكم. فأجابه إلى ذلك، وكان المالُ قد بقي منه شيءٌ يسير، فجمع من كان معه من كتامة، وجمع منهم مالًا، وبعث إليه أفتكين يقول: إذا أمَّنتُكم لابدَّ أن تخرجوا من هذا الحِصنِ مِن تحت السيفِ، وأمَّنَهم وعَلَّقَ السَّيفَ على باب عسقلان، فخرجوا من تحتِه. وسار جوهر إلى مصر، فكان مدَّة قتالهم على الزيتون وقَفلتِهم إلى عسقلان حتى خرجوا منها نحوًا من سبعة عشر شهرًا بقية سنة 366 إلى أن دنا خروجُ سنة 367. وقدم جوهرٌ على العزيز، فأخبره بتخاذُلِ كتامةَ، فغَضِبَ غضبًا شديدًا، وعذر جوهر في باطنه، وأظهر التنكير له، وعزَلَه عن الوزارة، وولَّى يعقوبَ بنَ كلس عوضَه في المحرم سنة 368.
هو العلامةُ المجتهد السيد الحسني صاحب التصانيف: الأمير محمد بن إسماعيل الكحلاني، ثم الصنعاني. ولِدَ ليلة الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة 1099هـ بكحلان ثم انتقل مع أسرته إلى صنعاء سنة 1107هـ وأخذ عن علمائها، ووالده كان من الفضلاء الزاهدين في الدنيا الراغبين في العمل، وله شعر جيد، مات في ثالث شهر ذي الحجة سنة 1142هـ. رحل الصنعاني إلى مكة وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وأظهر الاجتهاد وعَمِل بالأدلة، ونفر عن التقليد وزيَّف ما لا دليلَ عليه من الآراء الفقهية، وجرت له مع أهل عصره خطوبٌ ومِحَنٌ، منها في أيام المتوكل على الله القاسم بن الحسين، ثم في أيام ولده الإمام المنصور بالله الحسين بن القاسم، ثم في أيام ولده الإمام المهدى العباس بن الحسين، وتجمع العوامُّ لقتلِه مرة بعد أخرى، وحفظه الله من كيدهم ومكرهم، وكفاه شرهَّم، وولاه الإمامُ المنصور بالله الخطابةَ بجامع صنعاء، فاستمر كذلك إلى أيام ولده الإمام المهدي، واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرِهم في الخطبة الأخرى، فثار عليه جماعةٌ من آل الإمام الذين لا أنسةَ لهم بالعلم، وعضَّدهم جماعة من العوام وتواعدوا فيما بينهم على قتلِه في المنبر يوم الجمعة المقبلة، ولم يفلحوا، واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا، وما زال في محَنٍ من أهل عصره، ووقعت له فِتَن كبار وقاه الله شَرَّها, وكان الصنعاني قد بدأ بعقد حلقات العلم ولَمَّا يُتِمَّ الرابعة والعشرين من عمره, فقد كان بارعًا في الفقه والأصول، ومؤلفاته تنمُّ عن سعة علمه وجودة ذهنه، واستحضاره للأدلة ومناقشتها، واستخراج الأحكام الفقهية، وكان يدعو إلى تجديد الدين والعودة إلى أصوله وحقيقته كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ ولذلك لَمَّا بلغته دعوةُ الشيخ المجدد أيَّدَها وأرسل للشيخ قصيدةً يثني فيها عليه وعلى دعوته، ومما قاله فيها: سلامي على نجدٍ ومن حلَّ في نجـدِ وإن كان تسليمي على البعدِ لا يُجدي وقد صدرت من سفحِ صنعا سقى الحيا رباهـا وحـياهـا بقهقهة الرعـدِ سرت من أسير ينشد الريح أن سرت ألا يا صبا نجـدٍ متى هِجتَ من نجـدِ قفي واسألي عن عالمٍ حَـَّل سوحها به يهتدي من ضَلَّ عن منهج الرشدِ محمَّـد الهـادي لسنة أحمـد فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرَت كلُّ الطوائف قولَهبلا صدَرٍ في الحقِّ منهم ولا وردِ وللإمام الصنعاني مؤلفات كثيرة، منها: التحبير لإيضاح معاني التيسير، وهو شرح كتاب تيسير الوصول لابن الديبع, والتنوير شرح الجامع الصغير، وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار, وثمرات النظر في علم الأثر, والعدة على شرح العمدة، وهو مليء بالفوائد الفقهية والأصولية، وتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد, وحاشية على البحر الزخار في الفقه الزيدي, وسبل السلام اختصره من البدر التمام للمغربي, ومنحة الغفار جعلها حاشية على ضوء النهار للجلال, وشرح التنقيح في علوم الحديث للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، وسماه التوضيح, ومنظومة الكافل لابن مهران في الأصول وشرحها شرحًا مفيدًا, وله مصنفات غير هذه، وقد أفرد كثيرًا من المسائل بالتصنيف بما يكون جميعه في مجلدات، وله شعر فصيح منسجم، جمعه ولده العلامة عبد الله بن محمد في مجلد، وغالبه في المباحث العلمية والتوجع من أبناء عصره والردود عليهم، وبالجملة فهو من الأئمة المجدِّدين لمعالم الدين. أما وفاته فقد أصيب بالحمى والإسهال الشديد حتى توفي في الثالث من شعبان من هذا العام, وقد بلغ من العمر ثمانين سنة. ونظم بعضُهم تاريخه، ورثاه شعراءُ العصر وتأسَّفوا عليه.
هو أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي، أميرُ الشعراء، ولد بالقاهرة سنة 1285 ونشأ بها، أمَّا أصلُه فأبوه تركي، وأمُّه يونانية. يقول شوقي عن نفسه: إني عربي، تركي، يوناني، جركسي، أصولٌ أربعة في فروع مجتمعة، تكفلها له مصر، وقد سمع أباه يردُّه إلى الأكراد فالعرب، ويقول: إنَّ والده قَدِمَ هذه الديار يافعًا يحمِلُ وصاةً من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد على باشا، فأدخَلَه في معيَّتِه، وظَلَّ يتقَلَّبُ في المناصب السامية حتى أقامه سعيد باشا أمينًا للجمارك المصرية. نشأ أحمد شوقي في بيئة مُترَفة؛ إذ عاش في قصر خديوي مصر؛ حيث كانت جدَّتُه من وصيفات القصر، ودخل كتَّابَ الشيخ صالح بحي السيدة زينب بالقاهرة وهو في الرابعة من عمره، ثم مدرسة المبتديان الابتدائية، ومنها إلى المدرسة التجهيزية، وقد مُنِحَ المجانية نظرًا لتفوُّقِه؛ قال الشعر في الرابعة عشرة من عمره، وأُعجِبَ به أستاذه الشيخ (حسين المرصفي).
وممَّا يدُلُّ على نبوغه الشعري المبكر أنَّ أستاذه في اللغة العربية، وكان شاعرًا فصيحًا بهر بشاعريَّتِه، فكان يجلِسُ منه مجلسَ التلميذ من أستاذه، وكان هذا الشيخُ يَنظِمُ القصائد الطوال في مدح الخديوي توفيق، كلما حلَّ موسم أو جاء عيد، وقبل أن يرسِلَها إلى القصر لكي تُنشَرَ في الصحف يَعرِضُها على شوقي، فيُصلِحُ شوقي فيها، فيمحو هذه الكلمة أو تلك، ويعدل هذا الشطر أو ذاك، أو يُسقِطُ بعض الأبيات، وبعد أن أتمَّ أحمد شوقي تعليمه الثانوي التحق بمدرسة الحقوق لدراسة القانون، وقضى بها سنتين، ثم انضمَّ إلى قسم الترجمة ونال بعد سنتين إجازة للترجمة. وبحُكم تربيته في قصر الخديوي فقد أخذ يُنشِدُ قصائده في مدح الخديوي توفيق، وقد نُشِرَت أولى قصائده في جريدة الوقائع المصرية، ونظرًا لصلة شوقي بالقصر فقد أرسله الخديوي على نفقته في بعثة إلى فرنسا لإتمام دراسته في الحقوق والآداب بجامعة مونبليه بباريس، وعاد شوقي إلى مصر، فعَمِلَ في قسم الترجمة بالقصر، وظلَّ يتدرَّجُ في المناصب حتى أصبح رئيسًا لهذا القسم، وأصبح قريبًا من الخديوي عباس حلمي الذي خلف الخديوي توفيق، وأنيسَ مجلِسِه ورفيق رحلته، وأخذ شوقي يمدحُه بقصائده، حتى سمِّيَ (شاعر الأمير) ولَمَّا شبَّت الحرب العالمية الأولى خلعت إنجلترا بقوةِ الاحتلالِ الخديوي عن عرش مصر، ورأى الإنجليز يومئذ أن يغادر أحمد شوقي البلادَ بسبب شدة ولائه للخديوي، فاختار شوقي برشلونة من أعمال إسبانيا مقرًّا له ولأسرته، ولم يَعُدْ إلى مصر إلا بعد أن عاد السلام إلى العالم، فجُعِلَ من أعضاء مجلس الشيوخ إلى أن توفي. عالج شوقي أكثَرَ فنون الشعر: مديحًا، وغزلًا، ورثاءً، ووصفًا، ثم تناول الأحداثَ السياسية والاجتماعية في مصر والشرق والعالم الإسلامي، فجرى شعرُه على كل لسان. وكانت حياتُه كلها (للشعر) يستوحيه من المشاهدات ومن الحوادث. اتسعت ثروته، وعاش مُترَفًا في نعمة واسعة، ودَعةٍ تتخَلَّلُها ليال (نواسية) وسمَّى منزله (كرمة ابن هاني) وبستانًا له (عشَّ البلبل) وكان يَغشى في أكثر العشيات بالقاهرة مجالِسَ من يأنس بهم من أصدقائه، يلبثُ مع بعضهم ما دامت النكتةُ تسود الحديث، فإذا تحوَّلوا إلى جدل في سياسة أو نقاش في (حزبية) تسلَّل من بينهم، وأَمَّ سواهم. وهو أوَّلُ من جوَّد القَصَص الشعري التمثيلي، بالعربية، وقد حاول قبله أفرادٌ فبَزَّهم وتفَرَّد. وأراد أن يجمَعَ بين عنصرَيِ البيان: الشعر والنثر، فكتب نثرًا مسجوعًا على نمط المقامات، فلم يلقَ نجاحًا، فعاد منصرفًا إلى الشعر، وكان شوقي شاعرًا ذا طبع دقيق، وحِسٍّ صادق، وذوق سليم، وقد عالج شوقي الشعرَ التمثيلي، فنَظَم رواياته المعروفة؛ ومن آثاره: مصرع كليوباترا قصة شعرية، ومجنون ليلى، وقمبيز، وعلي الكبير، والست هدى، وقد جُمِعَ شِعرُه في ديوانه الشوقيات، يقع في أربعة أجزاء. وله في الشعر أيضًا كتاب عظماء الإسلام، ولشوقي نثر مسجوع جمع طائفةً كبيرة منه في كتاب اسمه: أسواق الذهب. توفي في القاهرة.
عمِلَ الشاهُ ما سماه الثورة البيضاء والتي هدفُها إخضاعُ رجال الدينِ وأخْذ جزءٍ من ممتلكاتهم أيضًا، وكان الخمينيُّ قد سُجِن بسبب ردِّه على الشاه يوم رفَضَ تعدُّد الزوجات، ثم نُفيَ إلى تركيا، ثم إلى العراق، وعاش في النجف، ثم أُجبر على السفر من العراقِ، ورفضت الكويتُ استقباله فسافر إلى فرنسا، ومع ذلك كانت خُطبه وكلماتُه وحماسه يُنقَل إلى إيران فتحدُث بسببها أعمالُ شغب ومظاهرات، وحدثت عدَّة أعمال عنفٍ في عددٍ من المدن ووقعت الصِّدامات مع الشرطةِ، وكان يسقطُ الكثير من القتلى أثناءَ هذه الصداماتِ، وكلُّ هذه الأمور كانت مقدِّمةً للثورة، ثم أعلن الخمينيُّ من مكان إقامتِه في باريس في 9 ذي القعدة 1398هـ / 10 تشرين الأول 1978م أن الحكومةَ الإيرانيَّةَ قد دعته ليكفَّ عن نشاطه السياسيِّ، مما ألهب المظاهرات في اليوم التالي حتى اقترح حاكمُ طهران العسكري على الشاهِ تدميرَ مدينة قم كلِّها، وأما الخمينيُّ فاجتمعَ في باريس مع قادة المعارضةِ في سبيل التنسيقِ للحركةِ، وفي اليوم التالي لعاشوراء يوم حداد الرافضةِ تدفَّق مليونا متظاهرٍ يلبسون لباسَ الحداد، وهم يهتفون: الله أكبر، وكان الجيشُ على استعداد لأي عملٍ من المتظاهرين، ثم دعا الخمينيُّ الشعبَ إلى الجهادِ، واشتعلت نار الثورةِ وتحوَّلت من مظاهراتٍ إلى ثورة معارضةٍ تطالب بإسقاطِ النظامِ، وبدأ الشاه يسترضي الشعبَ حتى خرج في التلفازِ وقال: إنه سيعمَلُ ما يأمر به الشعبُ، وفي 7 صفر / 7 كانون الثاني 1979م صرَّح حسن منتظري بعد عودته من لقاءِ الخمينيِّ رفضه أية حكومة طالما بقِيَ الشاه، ولن تقبل سوى سقوطِ الشاهِ لإقامة جمهوريةٍ إسلاميةٍ، وذلك أن الشاهَ قد أعلن أنه يريد السفرَ خارجَ البلاد وترْك مجلس وصاية نيابةَ عنه، فغادرَ الشاه إيران في 7 صفر 1399هـ / 7 يناير إلى القاهرةِ، وأعلن الخمينيُّ أنه سيعودُ للبلاد وأنه لا يريد أن يكونَ رئيسًا عليها، ثم وصل الخمينيُّ إلى طهران في 4 ربيع الأول / شباط، وكان في استقبالِه في المطارِ ستَّةُ ملايين شخصٍ، وأحاطت هذه الجموعُ بالرجل ذي 80 عامًا، فاستقلَّ طائرة هليكوبتر ليُكمِلَ رحلته فوق رؤوس البشرِ الذين احتشدوا لاستقبالِه، ومع قدومه ذابتِ الدولةُ وسلطتُها وحكومتُها أمام شخصيتِه، وانضمَّت بعض وحدات الجيش إلى المتظاهرين، وأُعلِنَ أنَّ رحيلَ الشاه نهاية المطافِ؛ فالأهمُّ هو إنهاء التسلُّط الأجنبيِّ، ونقَلَ التلفاز وقائع وصولِه، وأعلن الخمينيُّ عدم شرعية الحكومةِ شهبور بختيار، وعين مهدي بازركان رئيسًا للوزراء، وأعلنت حكومة بختيار رئيس وزراء الشاه منع التجوُّل، لكنَّ الخمينيَّ ردَّ عليه بإعلان العصيان المدني، وكتب ورقةً نُقلت صورتُها على شاشة التلفازِ الذي استولى عليه أنصارُه، فيها: "تحدَّوا حظرَ التجول" فتدفَّق الشعب إلى الشارع، وتصاعدتْ حدَّة المواجهات، واستولى المتظاهرون على كميات كبيرةٍ من أسلحةِ الجيش، فجاء القائد الأعلى للقواتِ المسلَّحة الجنرال قرباغي إلى الخمينيِّ وأعلن استسلامَه وحيادَ الجيش في المواجهات التي تحدُث في المدن بين مؤيِّدي النظامين، وعادت القواتُ العسكريةُ إلى مواقِعها، وأعلن الخمينيُّ قيامَ الجمهورية الإسلاميَّة الإيرانية، وفرَّ شهبور بختيار إلى فرنسا؛ حيث اغتالَه هناك الحرسُ الثوريُّ الإيراني في 6 أغسطس عام 1991م. استمرَّت الثورة سنة كاملةً ذهب ضحيَّتها 76.311 قتيلًا وعشرات الآلافِ من الجرحى، ورفعت الثورةُ الإسلامية في إيرانَ الشعاراتِ التي يمكن أن يسيرَ الشعبُ وراءها ويقبلها؛ وذلك لكسبِ التأييد، فطرحت العملَ بالإسلام دون إعلان الانتسابِ الشيعيِّ المرفوض في العالم الإسلاميِّ، كما أعلنوا معاداةَ الدول الصليبيَّة وخاصَّة أمريكا، وأعلنوا التأييدَ للقضية الفلسطينيةِ وأنها ستعملُ على تخليص أرضِ الشام ممن دنَّسها، وصرَّح الخمينيُّ أنه سيقطع علاقاتِه مع إسرائيلَ، ثم بدا للعالم الإسلامي النوايا عندما أظهر الخميني والقادة معه العقيدةَ الرافضية فخَفَّ التأييد العالمي الإسلامي بل انعدم في أكثرها.
لَمَّا فعل الرُّومُ ما فعلوا بأهلِ زبطرة وغيرِها، وكانت فِتنةُ بابك قد انتهت، سار المعتَصِمُ بجَيشِه قاصدًا فتحَ عَمُّوريَّة؛ إذ كانت تعَدُّ من أقوى مُدُنِ الروم، بل ربما كانت بمكانةِ القُسطنطينيَّة، فكان أوَّلَ الأمرِ أن التقى الأفشينُ مع الروم وهَزَمَهم شَرَّ هزيمةٍ، ثم سار المعتَصِمُ والأفشين وأشنان، كلٌّ على رأس جيشٍ، متوجِّهينَ إلى عمُّورية وكانت حصينةً ذاتَ سورٍ منيعٍ وأبراجٍ تحَصَّنَ أهلُها فيها، فنصَبَ المنجنيقَ وهدَمَ السُّورَ مِن جهةٍ كانت ضعيفةً دلَّهم عليها أحدُ الأسرى، فبعث نائِبُ البلد لمَلِك الروم كتابًا يُعلِمُه بالأمرِ، ولكن الكتابَ لم يَصِلْ حيث قُبِضَ على الغلامينِ اللذين كان معهما الكتابُ، ثم زاد الضربُ بالمنجنيق حتى انهدم ذلك الجزءُ، لكنه لا يزالُ صَغيرًا على دخولِ الجَيشِ، ثمَّ إنَّ الموكَّلَ بحِفظِ ذلك البرجِ مِن الروم لم يستَطِع الصمودَ، فنزل للقتال ولم يعاوِنْه أحدٌ من الروم, فأمر المعتَصِمُ المسلمين أن يدخلوا البلدَ مِن تلك الثغرةِ التي قد خلت من المقاتِلة، فركب المسلِمونَ نَحوَها، فجَعَلَت الرومُ يُشيرون إليهم ولا يَقدِرونَ على دفاعِهم، فلم يلتَفِت إليهم المُسلِمون، ثم تكاثروا عليهم ودخَلوا البلد قهرًا، وتتابع المسلمونَ إليها يكَبِّرونَ، وتفَرَّقَت الرومُ عن أماكِنِها، فجعل المسلِمونَ يَقتُلونهم في كلِّ مكانٍ حيث وجدوهم، وقد حَشَروهم في كنيسةٍ لهم هائلةٍ ففتحوها قَسرًا وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم بابَ الكنيسةِ، فاحتَرَقت فأُحرِقوا عن آخِرِهم، ولم يبقَ فيها موضِعٌ محصَّنٌ سوى المكانِ الذي فيه نائب عمورية إلى ملك الروم واسمه مناطس في، ثم أُنزِلَ مُهانًا وأَخَذَ المسلمونَ من عمُّورية أموالًا لا تحَدُّ ولا تُوصَفُ، فحَمَلوا منها ما أمكن حمْلُه، وأمر المعتَصِمُ بإحراقِ ما بقيَ من ذلك، وبإحراقِ ما هنالك من المجانيقِ والدبَّابات وآلات الحربِ؛ لئلَّا يتقوَّى بها الرومُ على شيءٍ مِن حربِ المسلمين، ثم انصرف المعتَصِمُ راجعًا إلى ناحية طرسوس.
حصَلَت وقعةٌ بين محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي- الذي تغلَّبَ على فارس- وعبدالرحمن بن مفلح، فكسره ابنُ واصل وأسَرَه وقتَلَ مُعظَمَ جَيشِه فلم يُفلِتْ منهم إلَّا اليسيرُ، فلما وصل خبَرُهما إلى يعقوب الصفَّار وهو بسجستان، تجدَّدَ طَمَعُه في ملك بلاد فارس، وأخذ الأموالَ والخزائن والسِّلاح التي غَنِمَها من ابن مفلح، فسار مجدًّا, وبلغ ابنُ واصل خبَرَ قُربه منه وأنه نزل البيضاءَ من أرض فارس، وهو بالأهواز، فعاد عنها لا يلوي على شيءٍ، وأرسل خالَه أبا بلال مرداسًا إلى الصفَّار، فوصل إليه، وضَمِنَ له طاعةَ ابن واصل، فأرسل يعقوبُ الصفَّار إلى ابن واصلٍ كُتبًا ورُسلًا، فحبسهم ابنُ واصل، وسار يطلبُ الصَّفَّار والرسُل معه يريدُ أن يُخفي خبَرَه، وأن يصِلَ إلى الصفَّار بغتةً، فينال منه غرَضَه، ويوقِعَ به, فسار في يومٍ شديدِ الحر، في أرضٍ صعبة المسلك، وهو يظُنُّ أن خبَرَه قد خفي عن الصفَّار، فلما كان الظهرُ تَعِبَت دوابُّهم، فنزلوا ليستريحوا، فمات من أصحاب ابن واصل من الرَّجالة كثيرٌ؛ جوعًا وعطشًا، وبلغ خبَرُهم الصفَّار، فجمع أصحابَه وأعلمهم الخبر وسار إلى ابنِ واصل، فلمَّا قاربهم وعلموا به انخذلوا وضَعُفَت نفوسُهم عن مقاومته ومقاتَلتِه، ولم يتقَدَّموا خطوة، فلما صار بين الفريقين رميةُ سهم، انهزم أصحابُ ابن واصل من غير قتالٍ، وتَبِعَهم عسكر الصفَّار، وأخذوا منهم جميعَ ما غَنِموه من ابن مُفلح، واستولى على بلاد فارس، ورتَّبَ بها أصحابَه وأصلح أحوالَها, ومضى ابن واصلٍ مُنهزمًا فأخذ أموالَه من قلعته، وكانت أربعين ألف ألف درهمٍ، وأوقع يعقوبُ بأهل زم؛ لأنهم أعانوا ابن واصلٍ.
هو أميرُ المؤمنينَ أبو العَبَّاس أحمدُ بنُ طلحة الموفَّق بالله بن المتوكل على الله جَعْفَر بن المُعْتَصم بن الرشيد الهاشمي العباسي. ولد في ذي القَعدة سنة 242 في دولةِ جَدِّه، استخلف بعد عَمِّه المعتَمِد في رجبٍ سنة تسع وسبعين. وكان ملكًا شجاعًا مهيبًا، أسمرَ نحيفًا، معتدِلَ الخَلقِ، ظاهِرَ الجبروت، وافِرَ العقل، شديدَ الوطأة، من أفراد خلفاءِ بني العَبَّاس. وكان ذا سياسةٍ عظيمة. وكان المُعْتَضِدُ يبخل ويجمَعُ المال، وقد وليَ حَربَ الزِّنجِ وظَفِرَ بهم، وفي أيَّامِه سكنت الفتَنُ لفَرطِ هيبتِه. وكان غلامُه بدرٌ على شرطتِه، وعبيد الله بن سُلَيْمَان على وزارته، ومحمَّد بن سِياه على حرسه، وكانت أيامُه أيامًا طيبة كثيرةَ الأمن والرخاء. وكان قد أسقط المُكوسَ، ونشَرَ العدل، ورفع الظُّلمَ عن الرعية. وكان يُسمَّى السفاحَ الثانيَ؛ لأنَّه جدَّد مُلكَ بني العباس، وكان مُلْكُهم قد خلقَ وضعُف وكاد يزولُ. أصيب المعتَضِد في آخر أيامه بمرضٍ واشتدَّ به المرض حتى توفِّيَ، فتولى غَسلَه محمَّدُ بن يوسف، وصلَّى عليه الوزيرُ عبيد الله بن سُلَيمان، ودُفِنَ ليلًا في دار محمَّد بن طاهر، وجلس الوزيرُ في دار الخلافة للعزاء، وجدَّد البيعة للمُكتفي, وكانت مُدَّةُ خلافة المعتَضِد سبعَ سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يومًا. لَمَّا توفِّيَ المعتَضِد كتب الوزيرُ إلى أبي محمد علي بن المُعتَضِد، وهو المكتفي باللهِ، يعَرِّفُه بذلك وبأخذِ البيعة له، وكان بالرقَّة، فلما وصله الخبَرُ أخذ البيعةَ على مَن عِندَه من الأجناد، ووضع لهم العطاءَ وسار إلى بغداد، ووجَّه إلى النواحي من ديارِ ربيعةَ ومُضَرَ ونواحي العرَبِ مَن يحفظُها ودخل بغدادَ لثمانٍ خَلَونَ مِن جمادى الأولى.
لَمَّا استقَرَّ المعِزُّ الفاطميُّ بالدِّيارِ المصرية وابتنى فيها القاهرةَ والقصرينِ وتأكَّدَ مُلكُه، سار إليه الحُسَين بن أحمد القرمطي من الأحساءِ في جمعٍ كثيفٍ مِن أصحابه، والتَفَّ معه أميرُ العرب ببلادِ الشَّامِ وهو حَسَّان بنُ الجراح الطائي، في عربِ الشَّامِ بكَمالِهم، فلمَّا سَمِعَ بهم المعِزُّ أُسقِطَ في يده لكَثرتِهم، وكتب إلى القرمطيِّ يَستَميلُه ويقولُ: إنَّما دعوةُ آبائك كانت إلى آبائي قديمًا، فدَعْوتُنا واحدةٌ، ويذكُرُ فيه فَضلَه وفَضل َآبائه، فردَّ عليه الجواب: وصل كتابُك الذي كثُرَ تفضيلُه وقَلَّ تَحصيلُه، ونحن سائِرونَ إليك على إثْرِه. والسَّلامُ، فلمَّا انتَهَوا إلى ديار مصرَ عاثُوا فيها قتلًا ونَهبًا وفسادًا، وحار المعِزُّ فيما يصنَعُ وضَعُفَ جَيشُه عن مقاومتِهم، فعدل إلى المَكيدةِ والخديعة، فراسَلَ حَسَّان بن الجرَّاحِ أميرَ العرب ووَعَده بمائةِ ألف دينارٍ إن هو خذَّلَ بين النَّاسِ، فبعث إليه حسَّان يقولُ: أنِ ابعَثْ إليَّ بما التزمْتَ وتعالَ بمَن معك، فإذا لَقِيتَنا انهَزَمْتُ بمن معي، فلا يبقى للقَرمطيِّ قُوَّةٌ، فتأخذُه كيف شِئتَ، فأرسل إليه بمائةِ ألفِ دينارٍ في أكياسِها، ولكِنَّ أكثَرَها زغلٌ ضَربُ النُّحاسِ وألبَسَه ذهبًا وجعَلَه في أسفَلِ الأكياسِ، وجعل في رؤوسِها الدنانيرَ الخالصةَ، ولَمَّا بعَثَها إليه رَكِبَ في إثرِها في جيشِه، فالتقى النَّاسُ فانهزم حسَّانُ بمن معه، فضَعُفَ جانِبُ القرمطي وقَوِيَ عليه الفاطميُّ فكَسَره، وانهزمت القرامطةُ ورجعوا إلى أذرِعاتٍ في أذَلِّ حالٍ وأرذَلِه، وبعث المعِزُّ في آثارهم القائِدَ أبا محمود بن إبراهيم في عشرةِ آلاف فارس، ليحسِمَ مادَّةَ القرامطة ويُطفِئَ نارَهم عنه.
كانت فِتنةُ الجُندِ الأَتراكِ ببغداد، وكان سَببُها أنهم تَخَلَّفَ لهم على الوزيرِ الذي للمَلِكِ الرَّحيم مَبلَغٌ كَثيرٌ مِن رُسومِهم، فطالبوهُ، وأَلَحُّوا عليه، فاختَفَى في دارِ الخِلافةِ، فحَضَر الأتراكُ بالدِّيوانِ وطالبوهُ، وشَكَوْا ما يَلقَوْنَه منه من المَطْلِ بمالِهم، فلم يُجابوا إلى إظهارهِ، فعَدَلوا عن الشَّكوَى منه إلى الشَّكوَى من الدِّيوان، وقالوا: إنَّ أربابَ المُعاملات قد سَكَنوا بالحَريمِ، وأَخَذوا الأموالَ، وإذا طَلَبناهُم بها يَمتَنِعون بالمَقامِ بالحَريمِ، وانتَصَب الوَزيرُ والخَليفةُ لِمَنعِنا عنهم، وقد هَلكنا، فتَردَّد الخِطابُ منهم، والجوابُ عنه، فقاموا نافِرينَ، فلمَّا كان الغَدُ ظَهَرَ الخَبَرُ أنَّهم على عَزْمِ حَصْرِ دارِ الخِلافةِ، فانزَعَج النَّاسُ لذلك، وأَخْفَوْا أَموالَهم، وحَضرَ البساسيري دارَ الخِلافةِ، وتَوصَّل إلى مَعرفةِ خَبرِ الوَزيرِ، فلم يَظهَر له على خَبرٍ، فطُلِبَ من دارهِ ودُورِ مَن يُتَّهَمُ به، وكُبِسَت الدُّور، فلم يَظهَروا له على خَبرٍ، ورَكِبَ جَماعةٌ مِن الأَتراكِ إلى دارِ الرُّومِ فنَهبوها، وأَحرَقوا البِيَعَ والقَلَّايات، ونَهَبوا فيها دارَ أبي الحسنِ بن عُبيدٍ، وَزير البساسيري، ونَهبَ الأَتراكُ كُلَّ مَن وَرَدَ إلى بغداد، فغَلَت الأَسعارُ، وعُدِمَت الأَقواتُ، وأَرسلَ إليهم الخَليفةُ يَنهاهُم، فلم يَنتَهوا، فأَظهَر أنَّه يُريدُ الانتِقالِ عن بغداد، فلم يُزجَرُوا، هذا جَميعهُ والبساسيري غيرُ راضٍ بِفِعلِهم، وهو مُقيمٌ بدارِ الخليفةِ، وتَردَّدَ الأمرُ إلى أن ظَهرَ الوَزيرُ، وقام لهم الباقي بالباقي مِن مالِهم مِن مالِه، وأَثمانِ دَوابِّهِ، وغَيرِها، ولم يَزالوا في خَبْطٍ وعَسَفٍ، فعاد طَمَعُ الأَكرادِ والأَعرابِ أَشَدَّ منه أَوَّلًا، وعاوَدوا الغارةَ والنَّهْبَ والقَتْلَ، فخُرِّبَت البلادُ وتَفَرَّق أَهلُها، فازداد خَوفُ النَّاسِ من العامَّةِ والأَتراكِ، وعَظُمَ انحلالُ أَمرُ السَّلطَنةِ بالكُلِّيَّةِ، وهذا من ضَررِ الخِلاف.
هو أبو الحارثِ أرسلانُ بن عبدِ الله البساسيري مَملوكٌ تُركيٌّ، مُقَدَّمُ التُّركِ ببغداد، وهو الذي خَرجَ على الخَليفةِ القائمِ بأَمرِ الله ببغداد، وكان قد قَدَّمَهُ على جَميعِ التُّركِ، وقَلَّدَهُ الأمور بأَسرِها، وخُطِبَ له على مَنابرِ العِراقِ وخوزستان، فعَظُمَ أَمرُه وهابَتهُ المُلوكُ، ثم خَرجَ على الخَليفةِ القائمِ، في فِتنةٍ عَظيمةٍ شارَكهُ فيها قُريشُ بنُ بَدران العُقيليُّ، وخَطبَ البساسيري للمُستَنصِر العُبيدي الفاطِمي صاحبِ مِصر، ثم أَخرَج الخَليفةَ القائمَ بالله القائم بأمر الله إلى أَميرِ العَربِ مُحيي الدِّين أبي الحارثِ مهارش بن مجلي النَّدوي صاحبِ الحَديثَةِ وعانَة –أخو قُريشِ بنِ بَدران- فآواهُ وقام بجَميعِ ما يَحتاجُ إليه مُدَّةَ سَنَةٍ كاملةٍ حتى جاء طُغرلبك السلجوقي, فقاتل البساسيري, وقَتلهُ وعاد القائمُ بأَمرِ الله إلى بغداد، وكان دُخولُه إليها في مِثلِ اليَومِ الذي خَرجَ منها بعدَ حَوْلٍ كاملٍ، ثم حَملَ عَسكرُ طُغرلبك على البساسيري،حتى سَقطَ عن الفَرَسِ، ووَقعَ في وَجهِه ضَربةٌ، ودَلَّ عليه بَعضُ الجَرْحَى، فأَخذهُ كمشتكين دواتي عَميدُ المُلْكِ الكندريُّ وقَتلَهُ، وحَملَ رَأسَه إلى السُّلطانِ طُغرلبك، ودَخلَ الجُنْدُ في الظَّعْنِ، فساقُوهُ جَميعَه، وأُخذِت أَموالُ أَهلِ بغداد المَنهوبةُ وأَموالُ البساسيري مع نِسائِه وأَولادِه، وهَلكَ مِن النَّاسِ الخَلْقُ العَظيمُ، وأَمرَ السُّلطانُ بِحَملِ رَأسِ البساسيري إلى دارِ الخِلافةِ، فحُمِلَ إليها، فوَصلَ مُنتصفَ ذي الحجَّةِ سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة، فنُظِّفَ وغُسِلَ وجُعِلَ على قَناةٍ وطِيفَ به، وصُلِبَ قُبالةَ بابِ النوبي، وكان في أَسْرِ البساسيري جَماعةٌ مِن النِّساءِ المُتَعَلِّقات بدارِ الخِلافةِ، فأُخِذْنَ، وأُكرِمْنَ، وحُمِلْنَ إلى بغداد. كان البساسيري من مماليك بهاءِ الدَّولةِ بن عَضُدِ الدَّولةِ البويهي، تَقَلَّبت به الأُمورُ حتى بلغَ هذا المقامَ المشهورَ، وهو مَنسوبٌ إلى بَسَا مدينةٍ بفارس.
كان صنجيل الفرنجي قد لقي قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية، وكان صنجيل في مائة ألف مقاتل، وكان قلج أرسلان في عدد قليل، فاقتتلوا، فانهزم الفرنجُ وقُتِلَ منهم وأُسِرَ الكثير، وعاد قلج أرسلان بالغنائم والظَّفَر الذي لم يحسَبْه. ومضى صنجيل مهزومًا في ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، إلى الأمير ياخز، خليفة جناح الدولة على حمص، يقول: من الصواب أن يُعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسيَّرَ دقاق ألفي مقاتل، وأتتهم الأمداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس، وصافُّوا صنجيل هناك، فأخرج مائةً من عسكره إلى أهل طرابلس، ومائة إلى عسكر دمشق، وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين. فأما عسكر حمص فإنهم انكسروا عند المشاهدة، وولَّوا منهزمين، وتبعهم عسكر دمشق. وأما أهل طرابلس فإنهم قاتلوا المائة الذين قاتلوهم، فلما شاهد ذلك صنجيل حمل في المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس، وقتلوا منهم الكثير، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها. وأتاه أهلُ الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد، وأكثرهم نصارى، فقاتل مَن بها أشدَّ قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة، ثم إنَّه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، وهي من أعمال طرابلس، فحصرها وفتحها وقتل مَن بها من المسلمين، ورحل إلى حصن الطوبان، وهو يقارب رفنية، ومُقَدَّمُه يقال له ابن العريض، فقاتلهم، فنُصِر عليه أهل الحصن، وأسر ابن العريض منه فارسًا من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير، فلم يجِبْه ابن العريض إلى ذلك.
كان الخليفة العباسي قد ولَّى السلطان محمدًا المُلكَ، واستنابه في جميع ما يتعلَّقُ بأمر الخلافة دون ما أغلق عليه الخليفةُ بابَه، ثم خرج السلطانُ محمد ومعه أخوه سنجر قاصدًا قتال أخيه بركيارق، وفي هذه السنة ثامن جمادى الآخرة كان المصاف الخامس بين السلطان بركيارق والسلطان محمد, فأقبل بركيارق في خمسة عشر ألفًا فحاصره في أصبهان وعددُ أصحاب محمد قليل، فضاقت الميرةُ على محمد، فقسط على أهل البلد على وجه القرض فأخذ مالًا عظيمًا، ثم عاود عسكره الشغب، فأعاد التقسيطَ بالظلم والعذاب، وبلغ الخبز عشرةَ أَمْناء بدينار، ورطل لحم بربع دينار، ومائة منًا تبنًا بأربعة دنانير، وقُلِعت أخشاب المساجد وأبواب الدكاكين، هذا والقتالُ على أبواب البلد، وينال صاحِبُ محمد يحرق الناسَ بالمصادرة، وعسكر بركيارق في رُخصٍ كثير، فاجتمع على أهل أصبهان الخوف والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم خرج السلطان محمد من أصبهان هاربًا فأرسل أخوه في أثره مملوكَه إياز، فلم يتمكَّن من القبض عليه، ونجا بنفسه سالمًا، وعاد إياز فأخبر بركيارق فلم يَسُرَّه سلامة أخيه, وفي يوم الاثنين ثالث عشرين ربيع الأول أعيدت الخطبة لبركيارق فخطب في الديوان، ثم تقدم إلى الخطباء في السابع والعشرين من هذا الشهر بأن يقتصروا على ذِكرِ الخليفة، ولا يذكروا أحدًا من السلاطين المختلفين, ثم التقى السلطان محمد وبركيارق في يوم الأربعاء في جمادي الآخرة، فوقعت الحربُ بينهما فانهزم محمد إلى بعض بلاد أرمينية على أربعين فرسخًا من الوقعة، ثم سار منها إلى خلاط ثم عاد إلى تبريز، ومضى بركيارق إلى زنجان، ثم في العام التالي صار الصلحُ بينهما بعدما تحوَّل الأمن إلى خوفٍ، وبدا السلبُ والنهب والقتلُ والضعفُ.
هو المَلِكُ العادِلُ سَيفُ الدين أبو منصور عليُّ بنُ إسحاق المعروف بابن السلار، وزيرُ الظَّافِرِ العُبَيدي صاحِبِ مِصرَ، كان من أمراء الأكراد، وكان تربيةَ القَصرِ بالقاهرة، وتقَلَّبَت فيه الأحوالُ في الولايات بالصَّعيدِ وغَيرِه إلى أن تولى الوزارةَ للظَّافِرِ في رَجَب سنة 543. بعد أن تغَلَّبَ على ابنِ مصال وانتزَعَ منه الوزارةَ واستَمَرَّ العادِلُ في الوزارة إلى أن قُتِلَ، وكان ابنُ السلار مِن الأبطالِ المَشهورينَ شَهمًا مِقدامًا، عَمَرَ بالقاهرة مساجِدَ، وكان سُنِّيًّا مُسلِمًا حَسَنَ المُعتَقَدِ شافعيًّا، خَمَدَ بولايته ثائِرةَ الرَّفضِ بمِصرَ، مائلًا إلى أرباب الفَضلِ والصَّلاحِ؛ فقد احتَفَلَ بالحافِظِ أبي طاهرٍ السَّلفي لَمَّا ورد عليه بثغر الإسكندريةِ، وزاد في إكرامه، وعَمَرَ له هناك مدرسةً فَوَّضَ تَدريسَها إليه، وكان مع هذه الأوصافِ ذا سيرةٍ جائرةٍ، وسَطوةٍ قاطِعةٍ، يُؤاخِذُ النَّاسَ بالصَّغائِرِ والمُحَقَّراتِ، وكان قد وصَلَ مِن إفريقيَّةَ إلى الدِّيارِ المِصريَّة أبو الفتوح بن يحيى سنة 509، فسار إلى الديارِ المِصريَّة ومعه زوجته بلارة ابنةُ القاسم بن تميم بن المعز بن باديس، وولَدُه عباس وهو صَغيرٌ يَرضَعُ. نزل أبو الفتوح بالإسكندرية، فأقام بها مُدَّةً يسيرة، ثم توفِّيَ فتَزَوَّجَت امرأتهُ بلارة بابنِ السَّلار وأقامت عنده زمانًا، ثمَّ تَزَوَّجَ ابنُها العباس بمصرَ ورُزِقَ ولدًا سَمَّاه نصرًا، فكان عند جَدَّتِه بلارة في دار العادِلِ، والعادِلُ يحنو عليه ويُعِزُّه، ونَصرًا هذ هو الذي قَتَلَ العادِلَ على فِراشِه يومَ الخميس سادس المحرم بدار الوَزارة بالقاهرة بتدبيرٍ مِن والِدِه العَبَّاس وأسامة بن منقذ، وقيل: إنه قتل يوم السبت حادي عشر المحرم, وهذا نَصرُ بنُ عباس هو الذي قَتَلَ أيضًا حاكِمَ مِصرَ الظَّافِرَ إسماعيلَ بنَ الحافِظِ العُبَيدي.
عَمِلَ البرنسُ صاحب الكرك أسطولًا، وفَرَغ منه بالكرك، ولم يبقَ إلَّا جمعٌ قطَعَه بعضُها إلى بعض، وحملها إلى بحر أيلة، وجمعها في أسرع وقت، وفرغَ منها وشحَنَها بالمقاتِلة وسَيَّرَها، فساروا في البحر، وافترقوا فرقتين: فرقةٌ أقامت على حِصنِ أيلة وهو للمسلمينَ يَحصُرونه، ويمنَعُ أهلَه من ورود الماء، فنال أهله شدةٌ شديدة وضِيقٌ عظيم؛ وأما الفرقةُ الثانية فإنَّهم ساروا نحو عيذاب، وأفسدوا في السواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوا من المراكبِ الإسلامية ومَن فيها من التجَّار، وبغتوا الناسَ في بلادهم على حين غفلةٍ منهم؛ فإنهم لم يعهدوا بهذا البحرِ فرنجيًّا قطُّ لا تاجرًا ولا محاربًا، وكان بمصرَ الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوبُ عن أخيه صلاح الدين، فعمرَ أسطولًا وسيَّرَه، وفيه جمعٌ كثير من المسلمين، ومُقَدَّمُهم الحاجب حسام الدين لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، فسار لؤلؤ مجِدًّا في طلبهم، فابتدأ بالذين على أيلة فقاتلهم، فقتل بعضَهم، وأسر الباقيَ، وسار من وقته بعد الظَّفَر يقُصّ أثَرَ الذين قصدوا عيذاب، فلم يَرَهم، وكانوا قد أغاروا على ما وجدوه بها، وقتلوا من لَقُوه عندها، وساروا إلى غير ذلك المرسى؛ ليفعلوا كما فعلوا فيه، وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة، فأدركهم بساحلِ الجوزاء، فأوقع بهم هناك، فلما رأوا العطبَ وشاهدوا الهلاكَ خرجوا إلى البَرِّ، واعتصموا ببعض تلك الشعاب، فنزل لؤلؤٌ من مراكبه إليهم، وقاتلهم أشدَّ قِتالٍ، فظَفِرَ بهم وقَتَل أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضَهم إلى مِنًى ليُنحِروا بها عقوبةً لِمن رام إخافةَ حَرَمِ الله تعالى وحَرَمِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وعاد بالباقين إلى مصر، فقُتِلوا جميعُهم.
توالت الغارةُ من ابن ليون الأرمني، صاحِبِ الدروب، على ولايةِ حَلَب، فنَهَب وحرق، وأسر وسبى، فجمع المَلِكُ الظاهر غازي بن صلاح اِلدين الأيوبي، صاحِبُ حلب، عساكِرَه واستنجد غيرَه من الملوك، فجمع كثيرًا من الفارِسِ والراجِل، وسار عن حَلَب نحو ابن ليون، وكان ابنُ ليون قد نزل في طرف بلادِه مما يلي بلد حلب، فليس إليه طريقٌ؛ لأن جميع بلاده لا طريقَ إليها إلَّا مِن جبال وعرة، ومضايق صعبة، فلا يقدِرُ غيره على الدخول إليها، لا سيما من ناحية حَلَب؛ فإن الطريق منها متعَذِّرٌ جدًّا، فنزل الظاهر على خمسة فراسخ من حَلَب، وجعل على مقَدِّمَته جماعةً مِن عسكره مع أميرٍ كبير من مماليك أبيه اسمُه ميمون، فأنفذ الظاهِرُ ميرةً وسلاحًا إلى حِصنٍ له مجاور لبلاد ابنِ ليون، اسمُه دربساك، وأنفذ إلى ميمون ليرسِلَ طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك، ففعل ذلك، وسيَّرَ جماعة كثيرة من عسكَرِه، وبَقِيَ في قلة، فبلغ الخبَرُ إلى ابن ليون، فجَدَّ فوافاه وهو مخِفٌّ من العسكرِ، فقاتله واشتد القتال بينهم، فأرسل ميمون إلى الظاهِرِ يُعَرِّفُه، وكان بعيدًا عنه، فطالت الحربُ بينهم، وحمى ميمون نفسَه وأثقالَه على قِلَّةٍ مِن المسلمين وكثرةٍ مِن الأرمن، فانهزم المسلمون، ونال العدوُّ منهم، فقتل وأسَر، وكذلك أيضًا فَعَل المسلمون بالأرمن مِن كثرةِ القَتلِ، وظَفِرَ الأرمنُ بأثقال المسلمين فغَنِموها وساروا بها، فصادَفَهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذَّخائِرِ إلى دربساك، فلم يَشعُروا بالحال، فلم يَرُعْهم إلَّا العدو وقد خالطهم ووضع السيفَ فيهم، فاقتتلوا أشَدَّ قتال، ثم انهزم المسلمون أيضًا، وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غَنِموا، واعتصموا بجبالهم وحصونهم.