بعدَ أن هُزِمَ الفُرْسُ في النَّمارِق وما بعدَها اجتمعوا إلى رُسْتُم فأرسل جيشًا كثيفًا ومعهم رايةُ كِسرى ورايةُ أفريدون فالتقوا مع المسلمين وبينهم جِسْرٌ فعَبَر أبو عُبيدِ بن مَسعودٍ الثَّقفيُّ الجِسْرَ إليهم وجَرَت المعركةُ، وكانت فِيَلَةُ الفُرْسِ تُؤذي المسلمين وتُؤذي خُيولَهم، فقُتِل عددٌ مِن قادَةِ المسلمين منهم أبو عُبيدٍ القائدُ، واسْتَحَرَّ القَتلُ في المسلمين فمَضَوْا نحوَ الجِسْر فقَطَعهُ أحدُ المسلمين وقال: قاتِلوا عن دِينِكُم. فاقْتَحَم النَّاسُ الفُراتَ فغَرِقَ ناسٌ كثيرٌ، ثمَّ عقَد المُثَنَّى الجِسْرَ وعَبَر المسلمون واسْتُشْهِد يَومئذٍ مِن المسلمين ألفٌ وثمانمائةٍ، وقِيلَ أربعةُ آلافٍ بين قَتيلٍ وغَريقٍ، وانحاز بالنَّاس المُثَنَّى بن حارِثةَ الشَّيبانيُّ.
لمَّا نزَل عُتبةُ بن غَزْوان الخُرَيْبَةَ -مَسالِح الفُرْسِ قَريبة مِن الأُبُلَّةِ- كتب إِلى عُمَر بن الخطَّاب يُعلِمه نُزولَه إيَّاها، وأنَّه لابُدَّ للمسلمين مِن مَنزلٍ يَشْتُون به إذا شَتَوْا، ويَكْنِسون فيه إذا انصرفوا مِن غَزوِهم، فكتب إليه: اجْمَع أصحابَك في مَوضِع واحد وليَكُنْ قريبًا مِن الماء والرَّعْي، واكْتُبْ إِلىَّ بصِفَتِه. فكتب: إليه إنِّي وجدتُ أرضًا كثيرةَ القَصَبَةِ -أي كثيرةَ الحَصَبَةِ- في طَرْفِ البَرِّ إِلى الرِّيفِ، ودونَها مَناقِعُ ماءٍ فيها قَصْباءُ. فلمَّا قرَأ الكِتابَ قال: هذه أرضٌ نَضِرَةٌ، قَريبةٌ مِن المَشارِب والمَراعي والمُحْتَطَب، وكتَب إليه: أن أَنْزِلْها النَّاسَ. فأنزلهم إيَّاها، فكان عُتبةُ هو أوَّل مَن مَصَّرَ البَصْرةَ.
هو سعدُ بن أبي وقَّاص مالكِ بن أُهَيْب، الزُّهريُّ القُرشيُّ، صَحابيٌّ مِن أوائلِ مَن دَخلوا في الإسلامِ، وكان في السَّابعة عشر مِن عُمُرهِ، ولم يَسبِقْهُ في الإسلامِ إلَّا أبو بكرٍ، وعَلِيٌّ، وزَيدٌ، وهو أحدُ العَشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّة، فكان مِن المُتَقَدِّمين في الإسلامِ، شَهِد المَشاهِدَ كُلَّها، أوَّلُ مَن رَمى بِسَهمٍ في سَبيلِ الله، وله قال النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (ارْمِ سعدُ فِداكَ أبي وأُمِّي). كان مُجابَ الدَّعوَة، وَلِيَ إِمْرَةَ الكوفَة لِعُمَر، لم يَحْضَرْ الجَملَ ولا صِفِّينَ ولا التَّحْكيمَ، قاتَل في سَبيلِ الله، وفتَح الله على يَديهِ الكَثيرَ مِن بِلادِ فارِسَ أيَّام عُمَر، تُوفِّي في العَقيقِ قُرْب المدينةِ، وحُمِلَ إلى البَقيعِ ودُفِنَ فيه، وكان آخرَ المُهاجرين مَوتًا.
لمَّا بُعِثَ عبدُ الرَّحمن بن محمَّد بن الأشعث على الجيشِ إلى بِلادِ رتبيل فدَخَلها وأَخَذ منها الغَنائِمَ والحُصونَ كَتَب إلى الحَجَّاج يُعَرِّفُه ذلك، وأنَّ رَأْيَه أن يَتْرُكوا التَّوَغُّلَ في بِلادِ رتبيل حتَّى يَعرِفوا طَريقَها ويَجْبُوا خَراجَها، فكَتَب إليه الحَجَّاجُ أن يَتَوَغَّلَ ويَسْتَمِرَّ في الحَربِ؛ ولكنَّ ذلك لم يَرُق لِعبدِ الرَّحمن، فحَرَّضَ النَّاسَ وبَيَّنَ لهم خُطورَة التَّوَغُّلِ، وأنَّ الحَجَّاج إنَّما يُريد أن يُقاتِلَ بِهِما مهما كانت النَّتائِج، فَرَضوا بِقَوْلِ ابنِ الأشعثِ وثاروا معه ضِدَّ الحَجَّاجِ، فصَالَح رتبيل على أنَّه إن اسْتَطاع أن يُزيلَ الحَجَّاج فليس على رتبيل شيءٌ مِن الخَراجِ، وإن هُزِمَ فعليه مَنْعُه، فسار ابنُ الأشعث بالجُنودِ الذين معه مُقْبِلًا مِن سجستان إلى الحَجَّاج لِيُقاتِلَه ويَأخُذ منه العِراقَ.
خرج محمَّدُ بنُ البعيث بن حلبس عن الطاعةِ في بلاده أذربيجان، وأظهر أن المتوكِّلَ قد مات، والتفَّ عليه جماعةٌ مِن أهلِ تلك الرساتيق، ولجأ إلى مدينةِ مرند فحصَّنَها، وجاءته البعوثُ مِن كلِّ جانبٍ، وأرسل إليه المتوكِّلُ جيوشًا يَتبَعُ بَعضُها بعضًا، فنصبوا على بلده المجانيقَ مِن كلِّ جانب، وحاصروه محاصرةً عظيمةً جِدًّا، وقاتلهم مُقاتلةً هائلة، وصبَرَ هو وأصحابُه صبرًا بليغًا، وقَدِمَ بغا الشرابي لمحاصرتِه، فلم يزَلْ به حتى أسَرَه واستباح أموالَه وحريمَه، وقتل خَلقًا مِن رؤوسِ أصحابِه، وأسَرَ سائِرَهم وانحَسَمت مادةُ ابن البعيث، وأُرسِلَ ابنُ البعيث إلى سامِرَّا وحُبِسَ، ثم شُفعَ له عند المتوكِّل، فلم يقتُلْه، ولكنه مات بعد شهر في سامرَّا.
سارت سريَّةٌ من المسلمين في صقليَّة مُقَدَّمُها رجلٌ يُعرَفُ بأبي الثور، فلقيهم جيشٌ من الروم، فأصيب المسلمون كلُّهم غيرَ سبعة نفر، وعُزِل الحسَنُ بن العباس عن صقلية، ووَلِيَها محمد بن الفضل، فبثَّ السرايا في كل ناحية من صقليَّة، وخرج هو في حشدٍ وجمعٍ عظيم، فسار إلى مدينة قطانية، فأهلك زرعَها، ثم رحل إلى أصحابِ الشلندية فقاتَلَهم، فأصاب فيهم فأكثَرَ القتلَ، ثم رحل إلى طبرمين فأفسَدَ زَرعَها، ثم رحل فلقيَ عساكر الروم، فاقتتلوا فانهزم الرومُ وقُتِلَ أكثَرُهم، فكانت عِدَّةُ القتلى ثلاثةَ آلاف قتيل، ووصلت رؤوسُهم إلى بلرم، ثم سار المسلمونَ إلى قلعة كان الروم بنوها عن قريبٍ، وسمَّوها مدينة الملك، فملكها المسلمونَ عَنوةً، وقَتَلوا مقاتليها وسَبَوا من فيها.
هو أبو عُبادةَ الوليدُ بنُ عبيدِ بنِ يحيى الطائي البُحتري المنبجي القحطاني، صاحِبُ الديوان المعروف، شاعرٌ كبيرٌ يقال لِشعِرِه سلاسِلُ الذَّهَبِ، كان أحدَ أشعَرِ أهلِ عَصرِه، وُلِدَ بمَنبج إحدى قرى حلب عام 206ه وهو أحدُ الثلاثة الذين كانوا أشعَرَ أبناءِ عَصرِهم: هو، والمتنَبِّي، وأبو تمَّام، قيل إنَّ أبا تمام لَمَّا سمع شِعرَه قال: نُعِيَت إليَّ نَفسي، رحلَ البُحتري إلى العراق متكسِّبًا بشِعرِه، فكان يمدحُ ويهجو على حسَبِ ذلك، اتُّهِم بالبخلِ وقِلَّة الوفاء؛ بسبب ذلك التقلُّبِ بالمديح والهجاء، أمَّا شِعرُه فغلب عليه الوصفُ وسُهولةُ التراكيبِ، مع براعةٍ في الوصف والخيال، اعتزل في آخِرِ أيامِه في مدينة مولده منبج، حتى مات فيها عن 78 عامًا.
أراد الشِّيعةُ أن يصنَعوا ما كانوا يصنعونَه من الزينة يومَ غديرِ خُمٍّ، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحِجَّة فيما يزعمونَه، فقاتلهم جهَلَةٌ آخرون في المنتَسِبينَ إلى السُّنَّة بعد أن ادَّعَوا أنَّ في مثل هذا اليوم حُصِرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ في الغار فامتنعوا من ذلك، وهذا أيضًا جَهلٌ من هؤلاء، ولَمَّا كان الشِّيعةُ يصنعون في يوم عاشوراء مأتمًا يُظهِرونَ فيه الحُزنَ على الحُسَين بن علي، قابلَتْهم طائفةٌ أخرى مِن جَهَلةِ أهلِ السُّنَّة ادَّعَوا أن يوم الثاني عشر من المحرَّم قُتِلَ فيه مُصعَب بن الزبير، فعَمِلوا له مأتمًا كما تَعمَلُ الشِّيعةُ للحسين، وزاروا قَبرَه كما زاروا قبر الحسين، وهذا من بابِ مُقابلةِ البِدعةِ ببِدعةٍ مِثلِها، ولا يَرفَعُ البِدعةَ إلَّا السُّنَّةُ الصَّحيحةُ.
أمَرَ الخليفةُ القادِرُ بالله بالبيعةِ لِوَلَدِه أبي الفَضلِ بولايةِ العَهدِ، وأحضَرَ حُجَّاجَ خُراسان وأعلَمَهم ذلك، وكان سبَبُ هذه البيعةِ أنَّ رَجُلًا يقال له عبدُ الله بن عثمان الواثقيُّ من ولَدِ الواثِقِ بالله أحدِ الخُلَفاء السَّابقين، كان مِن أهلِ نصيبينَ، ذهَبَ إلى بعضِ الأطرافِ من بلادِ التُّركِ، وادَّعى أنَّ القادِرَ بالله جعَلَه وليَّ العَهدِ مِن بَعدِه، فخَطَبوا له هنالك، فلمَّا بلغ القادِرَ أمرُه عَظُمَ عليه، فبَعَث يتطَلَّبُه فهرب في البلادِ وتمَزَّق، ثم أخذه محمودُ بن سبكتكين فسَجَنَه في قلعةٍ إلى أن مات؛ لهذا بادر القادِرُ إلى هذه البيعةِ, فبايع لِوَلدِه أبي الفَضلِ بولاية العهد, ولقَّبَه الغالِبَ باللهِ، وكان عُمرُه حينئذ ثماني سنين وشهورًا.
هو أحمديل بن إبراهيم بن وهسوذان الروادي، الكردي، صاحب مراغة وغيرها من أذربيجان. في أول المحرم حضر أتابك طغتكين، صاحب دمشق، دارَ السلطان محمد ببغداد، وحضر جماعة من الأمراء ومعهم أحمديل وهو جالس إلى جانب طغتكين، فأتاه رجل متظلِّم، وبيده رقعة، وهو يبكي، ويسأله أن يوصِلَها إلى السلطان، فأخذها من يده، فضربه الرجلُ بسكين فجذبه أحمديل فبرك فوقَه، فوثب رفيق للباطني وضرب أحمديل سكينًا أخرى، فأخذَتْهما السيوف، وأقبل رفيق لهما وضرب أحمديل ضربة أخرى، فعجب الناس من إقدامِه بعد قَتلِ صاحِبَيه، وظن طغتكين والحاضرون أن طغتكين كان المقصود بالقتل، وأنه بأمرِ السلطان، فلما علموا أنهم باطنية زال هذا الوهم.
جمع أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عساكِرَه، وسار من إشبيلية إلى الغزو، فقصد بلاد الفرنج، ونزل على مدينة رندة، وهي بالقرب من طليطلة شرقًا منها، وحصرها، واجتمعت الفرنجُ على بن الأذفونش ملك طليطلة في جمع كثير، فلم يَقدِروا على لقاء المسلمين، فاتَّفَق أن الغلاء اشتدَّ على المسلمين، وعَدِمت الأقوات عندهم، وهم في جمع كثير، فاضطُروا إلى مفارقة بلاد الفرنج، فعادوا إلى إشبيلية، وأقام أبو يعقوب بها سنة 571، وهو في ذلك يجهز العساكِرَ ويُسَيِّرُها إلى غزو بلاد الفرنج في كل وقت، فكان فيها عدة وقائع وغزوات ظهر فيها من العرب من الشجاعة ما لا يُوصَف، وصار الفارس من العرب يَبرُز بين الصفين ويطلُب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج، فلا يبرُز إليه أحد، ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش.
جمع كَنزُ الدولة والي أسوان العَرَبَ والسودانَ، وقَصَد القاهرةَ يريدُ إعادةَ الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالًا جزيلة، وانضم إليه جماعةٌ ممَّن يهوى هواهم، فقَتَلَ عدَّةً من أمراء صلاح الدين، وخرج في قريةِ طود رجلٌ يُعرَفُ بعباس بن شادي، وأخذ بلادَ قوص، وانتهب أموالَها، فجهز السلطانُ صلاح الدين أخاه المَلِكَ العادل في جيشٍ كثيف، ومعه الخطيرُ مهذب بن مماتي، فسار وأوقع بشادي وبدَّدَ جموعَه وقتَلَه، ثم سار فلقيه كنزُ الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروبٌ فَرَّ منها كنزُ الدولة، بعدما قُتِلَ أكثَرُ عَسكَرِه، ثم قُتل كنزُ الدولة في سابع صفر، وقَدِمَ العادلُ إلى القاهرة في ثامن عشر من صفر.
أخذ عَرَبُ برية عيذاب رسُلَ صاحب اليمن وعِدَّة من التجار وجميع ما معهم، فبعث السلطانُ الناصر محمد بن قلاوون العسكَرَ وهم خمسمائة فارس، عليهم الأميرُ علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، في العشرين من شوال، فساروا إلى قوص، ومَضَوا منها في أوائل المحرم سنة سبع عشرة إلى صحراء عيذاب، ومضوا إلى سواكِنَ حتى التَقَوا بطائفةٍ يقال لها حيُّ الهلبكسة، وهم نحو الألفي راكب على الهجن بحِرابٍ ومزاريقَ، في خلقٍ مِن المشاة عرايا الأبدان، فلم يثبتوا لدقِّ الطبول ورمي النشَّاب، وانهزموا بعد ما قُتِلَ منهم عدد كبير، وسار العسكَرُ إلى ناحية الأبواب، ثم مَضَوا إلى دنقلة، وعادوا إلى القاهرة تاسع جمادى الآخرة سنة سبع عشرة، وكانت غيبتهم ثمانيةَ أشهُرٍ.
هو زين الدين أبو البركات محمد بن أحمد بن إياس المصري الحنفي، شركسي الأصل، وُلِد في القاهرة سنة 852 وكان جده ووالده من أمراء المماليك، ومع ذلك لم يتصِلْ بالبلاط المملوكي، بل انصرف للتأليف، وهو من تلاميذِ جلال الدين السيوطي، كتب تاريخًا لمصر وصل فيه إلى سنة 928، اشتهر بحياده في التأليف، وبتحرِّيه الدقةَ فيما يكتب، وفيما يصدر من أحكامٍ على معاصريه من السلاطين والأمراء, وكان يقِفُ عند كل حادثة بالشرح والتعقيب، مع شيء من القوة في الحكم والجرأة في التقدير، كما كان له اهتمام بالجغرافيا، فله كتاب نشق الأزهار في عجائب الأقطار، وله في التاريخ عقود الجمان في وقائع الأزمان، وله نزهة الأمم في العجائب والحِكَم، وله بدائع الزهور في وقائع الدهور.