خرج الأميرُ بَيدمر نائِبُ الشام عن الطاعة، وبموافقةِ جماعةٍ مِن الأمراء له على ذلك، منهم أسَنْدَمر أخو يَلبغا اليحياوي، والأمير مَنجَك وجماعة، وأنه قام لأخذ ثأر السُّلطانِ حسن، وأفتاه جماعةٌ من الفقهاء بجواز قتال قاتِلِه الذي تغَلَّب على المُلك- يعني الأمير يَلْبُغا- ومنع البريدَ أن يمُرَّ مِن الشام، وجَهَّزَ الأمير مَنجَك والأمير أَسَندَمُر الزيني في عسكَرٍ إلى غزة، فحاربوا نائِبَها ومَلَكوها، فنصب الأميرُ يَلبُغا السَنْجقَ السلطاني، وتقَدَّمَ إلى الأمراء بالتجهيز للسفر، وأخرج الأميرَ قَشَتمر نائب السلطة إلى جهة الصعيد في عسكَرس ليحفظ تلك الجِهةَ في مُدَّة الغيبة بالشام، وأُقيم الأمير شرف الدين موسى بن الأزْكَشي نائب الغيبة، وخَرَجت طلابُ الأمراء شيئًا بعد شيءٍ، وركب السلطانُ في أول شهر رمضانَ مِن قلعة الجبل، ونزل خارِجَ القاهرة، ثم رحل وصحبته الخليفةُ والأمراء، وتاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضى العسكر، وسراج الدين عمر الندى قاضي العسكر، فرحل الأميرُ منجَك بمن معه من غَزَّة، عائدًا إلى دمشق، فنزل بها السلطانُ بعساكره وجلس الأميرُ يلبغا لعَرضِ العسكر، ثم ساروا جميعًا إلى دمشق، وخيَّموا بظاهرها، فخرج إليهم أكثَرُ أمراء دمشق وعسكَرُها راغبين في الطاعة، حتى لم يبقَ مِن الأمراء مع بيدمر سوى مَنجَك وأسندمر- وقد امتنعوا بالقلعة- فترددت القضاةُ بين الفريقين في الصُّلحِ حتى تقرر، وحَلَف لهم الأميرُ يَلُبغا على ذلك، فاطمأنُّوا إليه ونزلوا من القلعة، فركبَ السلطانُ بعساكره صبحَ يوم الاثنين تاسع عشرين شهر رمضان، ودخَلَ إلى دمشق وقبض على الأمير بيدمر والأمير منجك والأمير أسندمر، وقُيِّدوا، فأنكر ذلك جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي الحنبلي قاضي دمشق، وصار إلى الأمير يَلْبُغا، وقال له: لم يقع الصلحُ على هذا فاعتذر بأنَّه ما قصد إلا إقامةَ حُرمةِ السلطان، ووعد بالإفراجِ عنهم، فلما انصرف بعث بهم إلى الإسكندريَّة، فسُجِنوا بها، وصَعِدَ السلطان إلى قلعة دمشق، وسكَنَها، واستبد الأميرُ يَلْبُغا بتدبير الأمورِ في الشام، على عادتِه في مصر، واستقَرَّ الأمير علاء الدين أمير علي نائب الشام عوضًا عن الأمير بَيدمر، واستقر الأميرُ قطْلُوبُغا الأحمدي رأس نوبة في نيابة حلب عوضًا عن الأمير أحمد بن القَشتمري، ثم سار السلطانُ بعساكره من دمشق في يوم الأحد، فلمَّا قرب من القاهرة دُقَّت البشائر بقلعة الجبل، وزُيِّنَت القاهرة ومصر زينة عظيمة، وصعد إلى قلعته في يوم الاثنين عشرين شوال، وفيه قدم الأمير قَشْتَمُر النائبُ مِن الوجه القبلي.
هو محمد جمال الدين بن صفدر -وتكتب صفتر- الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، كان فيلسوفًا سياسيًّا، وكاتبًا وخطيبًا وصحفيًّا، ولد في شعبان 1254هـ / أكتوبر 1838م بأسد آباد بالقربِ من همذان من أعمال فارس، وقيل إنه ولد بأسد آباد الأفغانية؛ ولذا اختُلِفَ في أصل نسب أسرتِه، هل هو فارسي إيراني أم أفغاني, وقيل إنه من أسرة أفغانية عريقة ينتهي نسَبُها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه, نشأ الأفغاني في كابول عاصمة الأفغان. وتعلَّم فيها بدايةَ تلقيه العلمَ اللغتينِ العربيةَ والفارسية، ودرَس القرآن وشيئًا من العلومِ الإسلامية، وفي سِنِّ الثامنة لفت أنظارَ من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والِدَه يحفِّزُه إلى التعلم، وفي أوائل سنة 1266هـ / 1849م وقد بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل به والده إلى طهران، وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبَرِ علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه "أقاسيد صادق" فتوجَّه مباشرةً إلى مجلسه، ودار حوارٌ بينهما في مسألةٍ علميةٍ، فأُعجِبَ الشيخ من علمه وجرأتِه مع صِغَرِ سنه، فأقبل عليه وضمَّه إلى صدره وقبَّلَه، ثم أرسَلَ إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتريَ له عباءةً وعمامة، ثم قام الشيخُ بلَفِّ العمامة ووضَعَها بيده فوقَ رأسه تكريمًا له، واعتزازًا بعلمِه. ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والدِه -إلى مركز الشيعية العلمي- في النَّجفِ بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربعَ سنوات درس فيها العلومَ الإسلامية وغيرها؛ فدرس التفسير والحديث، والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وأصول الفقه، والرياضة، والطب والتشريح، والنجوم. وقرأ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخ والتصوف، والشريعة، وظهر حُبُّه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، أتقن الأفغانيُّ الحديث باللغة العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكَلَّم بالعربية فلغتُه فصحى، وهو واسِعُ الاطِّلاع على العلومِ القديمة والحديثة، كريمُ الأخلاقِ كبيرُ العقل، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراستَه للعلوم، وظلَّ الأفغاني طوال حياته حريصًا على العلمِ والتعلُّم، وبرزت فيه هوايةُ التَّرحالِ والأسفار. فسافر إلى الهندِ لدراسة بعض العلوم العصرية، ثم عاد إلى أفغانستان. كان الأفغانيُّ يُظهِرُ في عمله السياسي مناهَضةَ استبداد الحكَّام ومناوأة الاستعمار عمومًا والإنجليزيِّ خصوصًا في كلِّ مكانٍ ينزِلُ فيه. حينما وقع خلافٌ بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان له بمثابةِ وزيرِ دولة، وحدث صدامٌ بين جمال الدين وبين الإنجليز، فرحل عن أفغانستان أو طرَدَه الإنجليزُ منها سنة 1285ه ـ/ 1868م، ومر بالهندِ في طريقِه فكان الإنجليز يمنعون العُلَماءَ وطلبة العلم الجلوسَ معه، فخرج منها إلى مصر حيث أقام بها مدةً قصيرة تردَّد في أثنائها على الأزهرِ، وكان بيته مزارًا لكثيرٍ مِن الطلاب والدارسين خاصةً السوريين. ثم دعاه السُّلطانُ العثماني عبد العزيز إلى زيارةِ الدولة العثمانية فأجاب الدعوة، وسافر إلى الأستانة في عهدِ الصدر عالي باشا، فعَظُم أمرُه بها، وذاعت شهرتُه وارتفعت منزلته، ثم عُيِّن جمالُ الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارِفِ الأعلى، وهناك لقِيَ معارضة وهجومًا من بعضِ علماء الأستانة وخطباءِ المساجد الذين لم يرُقْهم كثير من آرائِه وأقواله، وخاصة من شيخِ الإسلام حسين فهمي أفندي، فطُلب من الأفغاني أن يرحَلَ، فخرج من الأستانة عائدًا إلى مصر، فأقام فيها بضعَ سنوات خاض فيها غِمارَ السياسة المصرية، ودعا المصريِّين إلى ضرورةِ تنظيم أمورِ الحُكمِ، وتأثَّرَ به في مصر عددٌ من رموز الحركة الأدبيَّةِ والسياسية، منهم: محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وغيرهما، فقد أُعجِبوا بفكره وجرأتِه في مناهضة الاستبداد والاستعمار، ويُذكرُ أن للأفغان دورًا في إعطاء دفعةٍ قويةٍ للنَّهضةِ الأدبيَّةِ الحديثة بمصر، فلمَّا تولى الخديوي توفيق باشا حُكمَ البلاد أمَرَ بإخراجه مِن مِصرَ، فأُخرِجَ بطريقة عنيفةٍ بأمرٍ مِن الخديوي بعد أن أقام في مِصرَ نحوَ ثماني سنوات. انتقل إلى الهند سنة 1296هـ / 1879م، ثمَّ طُرِدَ من الهند بأمرٍ مِن الإنجليز، فاتَّجَه إلى أوروبا واختار أن يبدأ بلندن، ومنها انتَقَل إلى باريس، فشرع في تعلُّم الفرنسية فيها، وبذل كثيرًا من الجُهدِ والتصميمِ حتى خطا خطواتٍ جيدةً في تعلُّمِها، ثم اتصل بتلميذِه الشيخ محمد عبده المنفيِّ حينَها في بيروت، ودعاه إلى الحُضورِ إلى باريس، وأصدرا معًا جريدة "العُروة الوثقى"، ولكِنَّها ما لَبِثَت أن توقَّفَت عن الصدور بعد أن أُوصِدَت أمامَها أبوابُ كُلٍّ مِن مصر والسودان والهند، بأمرٍ مِن الحكومةِ الإنجليزيةِ, ثمَّ دعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحُضورِ إلى طهران، واحتفى به وقَرَّبه، وهناك نال الأفغانيُّ تقدير الإيرانيين وحَظِيَ بحُبِّهم، ومالوا إلى تعاليمِه وأفكارِه، ثمَّ ذهب إلى روسيا فأقام فيها ثلاثَ سنواتٍ تنَقَّل بين موسكو وعاصمتِها بطرسبرج آنذاك، وزار كييف، والتقى بقيصرِها ألكسندر الثالث، ثمَّ أمر القيصَرُ بطَردِه من روسيا، فعاد مرةً أخرى لإيران بطلَبٍ من الشاه ناصر الدين، ثم انقَلَب عليه فطَرَده من إيران، فرحل إلى البصرة، ومنها إلى لندن للمرَّة الثانية؛ حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهُجومِ على الشاه ناصر الدين، وكشف ما آلت إليه أحوالُ إيران في عَهدِه، انتظم جمالُ الدين في سِلكِ الماسونيَّةِ بطَلبٍ منه؛ زعم أنَّ ذلك يُفسِحُ له المجالَ أمامَ أعماله السياسيَّةِ، وقد انتُخِبَ رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة 1295هـ / 1878م، وقيل إنه استقال منه فيما بعدُ. يُعتَبَرُ الأفغانيُّ في نظرِ مُريديه وطنيًّا كبيرًا، بينما يَنظُرُ إليه خصومُه على أنَّه مهَيِّجٌ خطير، فقد كان له أثَرٌ كبير في الحركاتِ الحُرَّة والحركات الدستورية التي قامت في الدُّوَلِ العربية والإسلامية، وكان يَرمي من إثارة الخواطِرِ إلى تحريرِ هذه الدُّوَلِ من النفوذ الأوربي واستغلالِ الأوروبيِّين، ثم بعد ذلك النهوض بها نهوضًا ذاتيًّا من الداخل متوسِّلًا في ذلك بإدخالِ النظُمِ الحُرَّة إليها، كما كان يهدفُ إلى جمع كَلِمةِ الدول الإسلامية بما فيها فارس الشيعيَّة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ، وإقامةِ إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ قويةٍ تستطيعُ الوقوفَ في وجهِ التدَخُّلِ الأوربي؛ ولذلك دعاه السلطانُ عبد الحميد الثاني في عهدِه وقَرَّبه إليه وتعاون معه في تسويقِ فكرة الجامعة الإسلامية، ثم انقلب عليه السلطانُ عبد الحميد الثاني لَمَّا شك في علاقتِه بالإنجليز. لم يُكثِرِ الأفغاني من التصنيف اعتمادًا على ما كان يبُثُّه في نفوس العاملين، وانصرافًا إلى الدعوة بالسِّرِّ والعلن. له تاريخ الأفغان، ورسالة الرد على الدهريين، ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده, وجمع محمد باشا المخزومي كثيرًا من آرائه في كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني، ولمحمد سلام مدكور كتاب جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق. توفِّيَ الأفغاني في الأستانة بعد أن أُصيب بمرَضِ السرطان في فَكِّه، عن عمرٍ بلغ نحو ستين عامًا، وقد ثار الجدَلُ حول وفاته، وشكَّك البعضُ في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيلَ بالسمِّ. وكانت وفاته في 5 من شوال 1314هـ / 10 من مارس 1897م. قال عنه الفيلسوفُ إرنست رينان الذي التقى به وحاوَرَه: "قد خُيِّلَ إليَّ مِن حريَّةِ فِكرِه ونبالةِ شِيَمِه وصراحتِه وأنا أتحدث إليه، أنَّني أرى وجهًا لوجهِ أحدِ مَن عرفتُهم من القُدَماء، وأنني أشهَدُ ابنَ سينا أو ابنَ رشد, أو أحدَ أولئك الملاحدة العِظامِ الذين ظلُّوا خمسة قرون يعملونَ على تحريرِ الإنسانيةِ مِن الإسارِ" وتبقى شخصيةُ الأفغاني يحومُ حولَها كثيرٌ مِن الشُّكوكِ!
لَمَّا كَثُرَ جَمعُ الفرنج بصور؛ بسَبَبِ أن صلاح الدين كان كُلَّما فتح مدينةً أو قلعةً أعطى أهلَها الأمان، وسيَّرَهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم، فاجتمع بها منهم عالَمٌ كثير، ثم إنَّ الرهبان والقسوس وخلقًا كثيرًا من مشهوريهم وفرسانهم لَبِسوا السواد، وأظهروا الحُزنَ على خروج بيت المقدس من أيديهم، وأخَذَهم البطرك الذي كان بالقُدس، ودخل بهم بلادَ الفرنج يطوفها بهم جميعًا، ويستنجدون أهلَها، ويستجيرون بهم، ويحثُّونَهم على الأخذ بثأر بيت المقدس، وصَوَّروا المسيح، عليه السلام، وجعلوه مع صورةِ عربيٍّ يَضرِبُه، وقد جعلوا الدماءَ على صورة المسيح، عليه السلام، وقالوا لهم: هذا المسيحُ يَضرِبُه محمَّدٌ نبي المسلمين، وقد جَرَحه وقتَلَه، فعَظُمَ ذلك على الفرنج، فحَشَروا وحشدوا حتى النساء، ومن لم يستطع الخروجَ استأجر من يخرُجُ عِوَضَه، أو يعطيهم مالًا على قَدرِ حالهم، فاجتمع لهم مِن الرجال والأموال ما لا يتطَرَّق إليه الإحصاء، فهذا كان سببَ خروجهم، فلما اجتمعوا بصور تموج بعضُهم في بعض، ومعهم الأموالُ العظيمة، والبحرُ يَمُدُّهم بالأقوات والذخائر، والعُدد والرِّجال من بلادهم، فضاقت عليهم صور، باطِنُها وظاهِرُها، فأرادوا قَصدَ صيدا، فعادوا واتفقوا على قصد عكَّا ومُحاصرتها ومصابرتها، فساروا إليها وكان رحيلُهم ثامن رجب، ونزولهم على عكا في منتَصَفه، ولما كانوا سائرين كانت يزك- مقدمة الجيش- المسلمين يتخطَّفونَهم، ويأخذون المنفرِدَ منهم، ولَمَّا رحلوا جاء الخبَرُ إلى صلاح الدين برحيلهم، فسار حتى قارَبَهم، وساروا على طريق كفر كنا، فسبقهم الفرنجُ، وكان صلاح الدين قد جعل في مقابل الفرنجِ جماعةً مِن الأمراء يسايرونَهم ويناوشونَهم القتالَ ويتخطَّفونَهم، ولم يُقدِم الفِرنجُ عليهم مع قِلَّتِهم، ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنجَ قد نزلوا عليها من البَحرِ إلى البحر من الجانب الآخر، ولم يبق للمسلمينَ إليها طريق، وسَيَّرَ الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكِرِ، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار وغيرها من بلد الجزيرة، وأتاه تقيُّ الدين ابن أخيه، وأتاه مظفر الدين بن زين الدين، وهو صاحِبُ حران والرها، وكانت الأمدادُ تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنجَ في البحر، وكان بين الفريقين مُدَّة مُقامِهم على عكا حروبٌ كثيرةٌ ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليومُ المشهور، ومنها ما هو دون ذلك، ولما نزل السلطانُ عليهم لم يقدِرْ على الوصول إليهم، ولا إلى عكا، حتى انسلخ رجَب، ثم قاتَلَهم مُستهَلَّ شعبان، فحمل عليهم تقيُّ الدين وأخلوا نصف البلد، وملك تقيُّ الدين مكانهم، والتصق بالبلد، وصار ما أخلَوه بيده، ودخل المسلمونَ البلد، وخرجوا منه، واتَّصَلت الطرق، وزال الحَصرُ عَمَّن فيه، وأدخل صلاحُ الدين إليه من أراد من الرِّجال وما أراد من الذخائر والأموال والسلاحِ وغير ذلك، ثم إن جماعةً مِن العرب بلغهم أن الفرنجَ تَخرُجُ مِن الناحية الأخرى إلى الاحتطابِ وغَيرِه من أشغالِهم، فكَمَنوا لهم في معاطِفِ النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمعٌ مِن الفرنج على عادتِهم حَمَلَت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخِرِهم، وغَنِموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوسَ إلى صلاح الدين، أمَّا الوقعة الكبرى على عكا ففي العشرين من شعبان، كل يوم يُغادون القتال مع الفرنج ويروحونه، والفرنجُ لا يَظهَرونَ مِن معسكرهم ولا يفارِقونَه، وكان كثيرٌ من عسكر صلاح الدين غائبًا عنه، وكان هذا مما أطمَعَ الفرنج في الظهورِ إلى قتال المسلمين، فخرج الفرنجُ مِن معسكرهم كأنَّهم الجرادُ المنتَشِر، يدبُّون على وجه الأرض، قد ملؤوها طولًا وعرضًا، وطلبوا ميمنةَ المسلمين وعليها تقيُّ الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنجَ نحوه قاصدين حَذِرَ هو وأصحابه، فتَقَدَّموا إليه، فلما قَرُبوا منه تأخَّرَ عنهم، فلما رأى صلاحُ الدين الحالَ، وهو في القَلبِ، أمَدَّ تقي الدين برجالٍ مِن عنده ليتقَوَّى بهم، وكان عسكَرُ ديار بكر وبعض الشرقيين في جناحِ القلب، فلما رأى الفرنجُ قِلَّةَ الرجال في القلب، وأن كثيرًا منهم قد سار نحوَ الميمنة مَدَدًا لهم، عطفوا على القلب، فحَمَلوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكِرُ بين أيديهم منهزمينَ، وثَبَت بعضهم، ولم يبقَ بين أيديهم في القَلبِ مَن يرُدُّهم، فقصدوا التلَّ الذي عليه خيمةُ صلاح الدين، فقَتَلوا من مَرُّوا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعةً، وانحدروا إلى الجانِبِ الآخر من التل، فوضعوا السيفَ فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أنَّ الفرنجَ لم يلقوا خيمةَ صلاح الدين، ولو لَقُوها لَعَلِمَ الناس وصولهم إليها، وانهزم العساكِرُ بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون، ثم إن الفرنج نظروا وراءَهم، فرأوا أمدادَهم قد انقَطَعت عنهم، فرجعوا خوفًا أن ينقَطِعوا عن أصحابهم، وكان سَبَبُ انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلَتَهم، فاحتاج بعضُهم أن يقفَ مُقابِلَها، وحملت ميسرةُ المسلمين على الفرنج، فاشتغل المَدَدُ بقتال من بها عن الاتصالِ بأصحابهم، وعادوا إلى طرفِ خنادِقِهم، فحملت الميسرةُ على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجِعونَ، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر، وكان صلاح الدين لما انهزم القلبُ قد تبعهم يناديهم، ويأمُرُهم بالكَرَّة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعةٌ صالحة، فحَمَل بهم على الفرنج من وراء ظهورِهم وهم مشغولون بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوفُ اللهِ مِن كلِّ جانب، فلم يُفلِتْ منهم أحد، بل قُتِلَ أكثرهم، وأُخِذَ الباقون أسرى، وأما المنهَزِمون من المسلمين، فمنهم من رجعَ مِن طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، أمَّا رحيل صلاح الدين عن الفرنج وتمكُّنُهم من حصر عكا، فلما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرضُ مِن نتن ريحِهم، وفسد الهواء والجو، وحَدَث للأمزجة فساد، وانحرف مزاجُ صلاح الدين، وحدث له قولنج مُبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراءُ، وأشاروا عليه بالانتقالِ مِن ذلك الموضع، ووافقهم الأطباءُ على ذلك، فأجابهم إليه فرحلوا إلى الخروبة رابِعَ شهر رمضان، وأمر من بعكا من المسلمين بحِفظِها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمَهم بسبب رحيله. ثم وصلت عساكِرُ مِصرَ والأسطول المصري في البَحرِ في منتصف شوال، ومُقَدَّمُها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قَوِيَت نفوس الناس به وبمن معه، واشتَدَّت ظهورهم، وأحضَرَ معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئًا كثيرًا، ومعهم من الرجَّالة الجمُّ الغفير، وجمع صلاحُ الدين من البلاد الشامية راجلًا كثيرًا، وهو على عزمِ الزحف إليهم بالفارِسِ والراجل، ووصَلَ بعده الأسطولُ المصري، ومُقَدَّمه الأمير لؤلؤ، فوصل بغتةً، فوقع على سفينة كبيرة للفرنج، فغَنِمَها، وأخذ منها أموالًا كثيرةً وميرةً عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسَكَنت نفوسُ من بها بوصولِ الأسطول وقَوِيَ جنانُهم.
من أشهَرِ الثَّوراتِ التي قمَعها الحكَمُ بن هشام ثورة ُالربض، وهم قومٌ كانوا يعيشونَ في إحدى ضواحي قُرطُبة، وقد ثار أهلُها ثورةً كبيرة جدًّا عليه؛ بسبب ما عُرِفَ عنه من معاقرةِ الخَمرِ، وتشاغُلِه باللهوِ والصَّيد، وقد زاد من نقمةِ الشَّعبِ عليه قتلَه لجماعةٍ مِن أعيان قُرطبة، فكرهه الناسُ, وصاروا يتعرَّضون لجُندِه بالأذى والسَّبِّ، فشرعَ في تحصينِ قُرطبةَ وعِمارةِ أسوارِها وحَفْرِ خَنادِقِها، وارتبط الخيلَ على بابِه، واستكثَرَ المماليكَ، ورتَّب جمعًا لا يفارِقونَ بابَ قَصرِه بالسلاحِ، فزاد ذلك في حقدِ أهل قُرطبةَ، وتيقَّنوا أنه يفعلُ ذلك للانتقام منهم. ثم وضَعَ عليهم عُشرَ الأطعمةِ كُلَّ سنةٍ، مِن غيرِ خَرصٍ، فكرهوا ذلك، ثم عمدَ إلى عشرةٍ مِن رؤساء سفهائِهم، فقتَلَهم، وصَلَبهم، فهاج لذلك أهلُ الربض، وتداعى أهلُ قُرطبةَ من أرباضِهم وتألَّبوا بالسلاحِ وقصدوا القصرَ، فكان أوَّلَ مَن شهرَ السلاحَ أهلُ الربض، واجتمع أهلُ الربض جميعُهم بالسلاح، واجتمعَ الجندُ والأمويُّون والعبيدُ بالقصر، وفرَّقَ الحكمُ الخيلَ والأسلحة، وجعل أصحابَه كتائبَ، ووقع القتالُ بين الطائفتينِ، فغَلَبهم أهلُ الربض، وأحاطوا بقَصرِه، فنزل الحكَمُ من أعلى القصر، ولَبِسَ سلاحَه، ورَكِبَ وحَرَّضَ الناس، فقاتلوا بين يديه قتالًا شديدًا. ثم أمَرَ ابنَ عَمِّه عُبيد الله، فثلَمَ في السُّورِ ثُلمةً، وخرج منها ومعه قطعةٌ من الجيش، وأتى أهلَ الربض من وراء ظهورِهم، ولم يعلَموا بهم، فأضرموا النَّارَ في الربض، وانهزم أهلُه، وقُتلوا مقتلةً عظيمةً، وأخرجوا من وجَدوا في المنازلِ والدُّور، فأسروهم، فانتقى من الأسرى ثلاثَمائة من وجوهِهم، فقتَلَهم، وصَلَبَهم منكَّسِينَ، وأقام النَّهبَ والقتلَ والحريقَ والخرابَ في أرباض قرطبةَ ثلاثةَ أيام. ثم استشار الحكَمُ عبدَ الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث، فأشار عليه بالصَّفحِ عنهم والعفوِ، وأشار غيرُه بالقتل، فقَبِلَ قَولَه، وأمر فنودي بالأمانِ، على أنَّه من بقي من أهلِ الربض بعد ثلاثةِ أيَّامٍ قَتَلْناه وصَلَبْناه؛ فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيًا، وتحمَّلوا على الصَّعبِ والذَّلولِ خارجين من حضرةِ قُرطبة بنِسائِهم وأولادِهم، وما خَفَّ من أموالهم، وقعد لهم الجندُ والفَسَقةُ بالمراصِدِ يَنهبونَ، ومن امتنَعَ عليهم قتلوه. فلما انقَضَت الأيامُ الثلاثة أمر الحكَمُ بكَفِّ الأيدي عن حَرَمِ النَّاسِ، وجمعَهنَّ إلى مكان، وأمر بهدمِ الربضِ القبلي. فكانت وقعةً هائلة شنيعةً، قُتِل فيها عددٌ كثيرٌ زُهاءَ أربعين ألفًا من أهل الربض، وعاينوا البلاءَ وهُدِّمَت ديارُهم ومساجِدُهم، ونزل منهم ألوفٌ بطُليطِلة وخَلقٌ في الثغورِ، وجاز آخرون البحرَ ونزلوا بلادَ البربر، ومنهم من نزل بالإسكندرية في مصر. وكان بزيعُ مولى أميَّة ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشامٍ محبوسًا في حبسِ الدم بقرطبة، في رجليه قيدٌ ثقيلٌ، فلما رأى أهلَ قُرطبة قد غلَبوا الجندَ سأل الحرسَ أن يُفرِجوا له، فأخذوا عليه العهودَ إن سَلِمَ أن يعودَ إليهم، وأطلقوه، فخرج فقاتلَ قتالًا شديدًا لم يكُنْ في الجيشِ مِثلُه، فلما انهزم أهلُ الربض عاد إلى السِّجنِ، فانتهى خبَرُه إلى الحكم، فأطلقه وأحسَنَ إليه.
سار مسعودٌ يريدُ بلادَ الهندِ لِيشْتُوا بها، فلمَّا سار أخَذَ معه أخاه محمَّدًا مسمولَ العينينِ، واستصحَبَ الخزائِنَ، وكان عازمًا على الاستنجادِ بالهندِ على قتال السلجوقيَّة ثِقةً بعهودهم. فلمَّا عَبَرَ سيحون- وهو نهرٌ كبيرٌ نحو دِجلة- وعبَرَ بعض الخزائِنِ، اجتمع أنوشتكين البلخي وجمعٌ من الغلمانِ الداريَّةِ ونهبوا ما تخلَّفَ من الخزانةِ، وأقاموا أخاه محمَّدًا 13 ربيع الآخر، وسَلَّموا عليه بالإمارةِ، فامتنع من قَبولِ ذلك، فتهَدَّدوه وأكرهوه، فأجاب وبَقِيَ مسعودٌ فيمن معه من العسكَرِ وحَفِظَ نَفسَه، فالتقى الجمعانِ مُنتصَفَ ربيعٍ الآخر، فاقتتلوا، وعَظُمَ الخطبُ على الطائفتينِ، ثم انهزمَ عسكَرُ مسعود، وتحصَّن هو في رباطِ ماريكلة، فحصره أخوه، فامتنع عليه، فقالت له أمُّه: إنَّ مكانَك لا يَعصِمُك، ولَأنْ تخرُجَ إليهم بعهدٍ خَيرٌ من أن يأخذوك قهرًا. فخرج إليهم، فقَبَضوا عليه، فقال له أخوه محمد: واللهِ لا قابلْتُك على فِعلِك بي- كان مسعودٌ قد سمَلَ عينيه ونزع منه الحُكمَ-، ولا عامَلتُك إلَّا بالجميلِ، فانظُرْ أين تريدُ أن تقيمَ حتى أحمِلَك إليه ومعك أولادُك وحرَمُك. فاختار قلعة كيكي، فأنفذه إليها محفوظًا، وأمر بإكرامِه وصيانتِه، ثمَّ إن محمدًا فوَّضَ أمرَ دولتِه إلى ولَدِه أحمد، وكان فيه خبطٌ وهَوجٌ، فاتَّفق هو وابنُ عمه يوسف بن سبكتكين وابنُ علي خويشاوند على قَتلِ مسعود ليصفُوَ المُلكُ له ولوالِدِه، فقتلوه، فلمَّا عَلِمَ محمَّد بذلك ساءه، وشَقَّ عليه وأنكره، وقيل إنَّ محمَّدًا أغراه ولَدُه أحمد بقَتلِ عَمِّه مسعود، فأمر بذلك، وأرسل إليه مَن قتَلَه وألقاه في بئرٍ وسَدَّ رأسَها، وقيل: بل أُلقِيَ في بئرٍ حيًّا وسُدَّ رأسُها فمات، فلمَّا مات كتب محمَّدٌ إلى ابن أخيه مودود، وهو بخراسان، يقول: إنَّ والدك قُتِلَ قِصاصًا، قتله أولادُ أحمد ينالتكين بلا رضًا مني، وطَمِعَ جندُ محمد فيه، وزالت عنهم هيبتُه، فمَدُّوا أيديَهم إلى أموالِ الرَّعايا فنهبوها، فخَرِبَت البلاد، فلمَّا قُتِلَ الملكُ مسعود وصل الخبَرُ إلى ابنه مودود، وهو بخراسان، فعاد مجِدًّا في عساكِرِه إلى غزنةَ، فتصافَّ هو وعَمُّه محمد في ثالث شعبان، فانهزم محمَّدٌ وعسكَرِه وقُبِضَ عليه وعلى ولدِه أحمد، وأنوشتكين الخصِيِّ البلخي، وابنِ علي خويشاوند، فقَتَلَهم، وقتَلَ أولادَ عَمِّه جميعَهم إلَّا عبد الرحيم, وبنى موضِعَ الوقعةِ قريةً ورِباطًا، وسمَّاها فتح آباذ، وعاد إلى غُزنةَ فدخلها في ثالث وعشرين شعبان، وكان داودُ أخو طغرلبك قد ملك مدينةَ بلخ، واستباحها، فلمَّا تجدَّدَ هذا الظَّفَرُ لمودود ثار أهلُ هراة بمن عندهم من الغزِّ السلجوقيَّة، فأخرجوهم وحَفِظوها لمودود، واستقَرَّ الأمرُ لمودود بغزنةَ، ولم يبقَ له همٌّ إلا أمرُ أخيه مجدود؛ فإنَّ أباه قد سيَّرَه إلى الهند سنةَ ستٍّ وعشرين وأربعمِئَة، فخاف أن يخالِفَ عليه، فأتاه خبَرُه أنَّه قصَدَ لهاوور، وملتان، فملكهما، وأخذ الأموالَ، وجمع بها العساكِرَ، وأظهر الخلافَ على أخيه، فندب إليه مودودٌ جيشًا ليمنعوه ويقاتِلوه، وعَرَض مجدودٌ عَسكَرَه للمَسيرِ، وحضر عيدُ الأضحى، فبَقِيَ بعده ثلاثة أيام، وأصبح ميتًا بلهاوور لا يُدرى كيف كان مَوتُه، وأطاعت البلادُ بأسرِها مودودًا، ورَسَت قدمُه، وثَبَت مُلكُه، ولَمَّا سَمِعَت الغز السلجوقيَّةُ ذلك خافوه، واستشعروا منه، وراسله مَلِكُ التُّركِ بما وراء النَّهرِ بالانقيادِ والمتابعة.
اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحَصْرِها، فساروا إليها مع الملك بغدوين، صاحب القدس، وحشدوا وجمعوا ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب، عُلوُّ البرج سبعون ذراعًا، وفي كل برج ألف رجل، ونصبوا عليها المجانيق، وألصقوا أحدها إلى سور البلد، وأخلَوه من الرجال، وكانت صور للآمر بأحكام الله الفاطمي ونائبه بها عز الملك الأعز، فأحضر أهل البلد واستشارهم في حيلةٍ يدفعون بها شرَّ الأبراج عنهم، فقام شيخ من أهل طرابلس وضَمِنَ على نفسه إحراقها، وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام، ومع كل رجل منهم حِزمةُ حطب، فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة، فألقى الحطبَ من جهاته، وألقى فيه النار، ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار، ويتخلَّصوا، فرماهم بجربٍ كان قد أعدها مملوءة من العَذِرة، فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث، فتمكَّنت النار منه، فهلك كلُّ من به إلا القليلَ، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب، ثم أخذ سلال العنب الكبار، وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط والزفت والكتان والكبريت، ورماهم بسبعين سلة، وأحرق البرجين الآخرين، ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقُطَ فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم، ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم، فاستأمن نفرٌ من المسلمين إلى الفرنج، وأعلموهم بما عملوه، فحذروا منها، وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يستنجدونه ويطلبونه ليسلِّموا البلد إليه، فسار في عساكره إلى نواحي بانياس، وسَيَّرَ إليهم نجدة مائتي فارس، فدخلوا البلد فامتنع من فيه بهم، واشتد قتالُ الفرنج خوفًا من اتصال النجدات، ففني نشاب الأتراك، فقاتلوا بالخشب، وفني النفط، فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يُعلَم من خزنه، ثم إن عز الملك، صاحب صور، أرسل الأموالَ إلى طغتكين لِيُكثِرَ من الرجال ويقصدهم ليملك البلد، فأرسل طغتكين طائرًا فيه رقعةٌ لِيُعلِمَه وصول المال، ويأمره أن يقيم مركبًا بمكان ذكره لتجيءَ الرجال إليه، فسقط الطائر على مركب الفرنج، فأخذه رجلان: مسلم وفرنجي، فقال الفرنجي: نطلقه لعلَّ فيه فرجًا لهم، فلم يمكِّنْه المسلم، وحمله إلى الملك بغدوين، فلما وقف عليه سَيَّر مركبًا إلى المكان الذي ذكره طغتكين، وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور، فوصل إليهم العسكر، فكلموهم بالعربية، فلم ينكروهم، وركبوا معهم، فأخذوهم أسرى، وحملوهم إلى الفرنج، فقتلوهم وطمعوا في أهل صور، فكان طغتكين يُغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها، وقصَدَ حصن الحبيس في السواد من أعمال دمشق، وهو للفرنج، فحصره وملكه بالسيف، وقتل كل من فيه، وعاد إلى الفرنج الذين على صور، وكان يَقطَع الميرةَ عنهم في البر، فأحضروها في البحر، وخندقوا عليهم ولم يخرجوا إليه، فسار إلى صيدا وأغار على ظاهرها، فقتل جماعة من البحرية، وأحرق نحو عشرين مركبًا على الساحل، وهو مع ذلك يواصِلُ أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر، والفرنج يلازمون قتالهم، وقاتل أهل صور قتالَ من أيس من الحياة، فدام القتالُ إلى أوان إدراك الغلَّات، فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم، فساروا عن البلد عاشر شوال إلى عكا، وعاد عسكر طغتكين إليه، وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعَّث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طَمُّوه.
كانا الأميران نوروز وشيخ مشتركينِ في العصيان على السلطان الناصر فرج بن برقوق حتى تم لهما التغلب عليه، وقاما بسلطنة الخليفة المستعين بالله الذي فوض إلى الأمير نوروز كفالة الشام جميعه: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزة، وجعل له أن يعيِّنَ الأمراء والإقطاعات لمن يريده ويختاره، وأن يولي نواب القلاع الشامية والسواحل وغيرها لمن أراد من غير مراجعة في ذلك، غير أنه يطالع الخليفة، ثم إن الأمير شيخًا استطاع أن يتسلطن ويخلع الخليفة من السلطنة فهذا ما أثار حفيظة نوروز الذي استدعى جميع النواب بالبلاد الشامية، فخرج الأمير نوروز إلى ملاقاتهم، والتقاهم وأكرمهم، وعاد بهم إلى دمشق، وجمع القضاة والأعيان، واستفتاهم في سلطنة الملك المؤيد شيخ وحبسه للخليفة وما أشبه ذلك، فلم يتكلم أحد بشيء، وانفضَّ المجلس بغير طائل، وأخذ الأمير نوروز في تقوية أموره واستعداده لقتال الملك المؤيد شيخ، وطلب التركمان، وأكثر من استخدام المماليك، وبلغ الملك المؤيد شيخًا ذلك فخلع في ثالث ذي الحجة من السنة على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش المدعو سيدي الكبير باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير نوروز الحافظي، فلما وصل قرقماس سيدي الكبير إلى غزة، سار منها في تاسع صفر وتوجَّه إلى صفد واجتمع بأخيه تغري بردي سيدي الصغير، ثم خرج في أثرهما الأمير ألطنبغا العثماني نائب غزة، والجميع متوجِّهون لقتال الأمير نوروز فقرَّروا البدء بأخذ حلب لَمَّا بلغهم خروج نوروز منها إلى جهة دمشق، فعاد نوزوز من حلب إلى دمشق، فأقاموا بالرملة، ولما بلغ نوروز قدوم قرقماس بمن معه إلى الرملة سار لحربهم، وخرج من دمشق بعساكره، فلما بلغ قرقماس وأخاه ذلك عادا بمن معهما إلى جهة الديار المصرية عجزًا عن مقاومته حتى نزلا بالصالحية، ثم إن السلطان جهز جيشًا وسيَّره إلى الشام للقاء نوروز، ثم في شهر صفر في ثامنه من السنة 817 نزل السلطان شيخ على قبة يلبغا خارج دمشق، وقد استعد نوروز وحَصَّن القلعة والمدينة، فأقام السلطان أيامًا، ثم رحل ونزل بطرف القبيبات، وكان السلطان -من الخربة- قد بعث قاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي إلى الأمير نوروز ومعه قرا أول المؤيدي في طلب الصلح، فامتنع من ذلك، ووقعت الحرب، فانهزم نوروز، وامتنع بالقلعة في السادس والعشرين ونزل السلطان بالميدان، وحاصر القلعة، ورمى عليها بالمكاحل والمدافع والمنجنيق، حتى بعث نوروز بالأمير قمش الأمان، فأُجيبَ ونزل من القلعة، ومعه الأمراء: طوخ، ويشبك بن أزدمر، وسدن كستا، وقمش، وبرسبغا، وأينال، فقُبِض عليهم جميعًا في الحادي والعشرين شهر ربيع الآخر، وقُتِل من ليلته، وحُمِل رأسه على يد الأمير جرباش إلى القاهرة، وعلى يده كتب البشارة، وذلك أن الأمير كزل نائب طرابلس قَدِمَ في العشر الأخير من صفر، وقاتل عسكر نوروز، فركب السلطان بمن معه، فانهزم النوروزية إلى القلعة، وملك السلطان المدينة، ونزل بالإسطبل ودار السعادة، وحصر القلعة، وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى قدم رأس نوروز، فعُلِّقَ على باب القلعة!
سار عسكر المماليك من القاهرة لأخذ قلعة خرت برت، وقد مات متوليها، ونازلها عسكرُ قرا يلك صاحب آمد، فلما وصلوا إلى مدينة حلب ورد إليهم الخبر بأخذ قرا يلك قلعة خرت برت وتحصينها، وتسليمها لولده، فتوجه العسكر وقد انضم إليه الأمير سودن بن عبد الرحمن نائب الشام، وجميع نواب المماليك الشامية، ومضوا بأجمعهم إلى الرها، فأتاهم بالبيرة كتابُ أهل الرها بطلب الأمان، وقد رَغِبوا في الطاعة، فأمَّنوهم وكتبوا لهم به كتابًا، وساروا من البيرة، وبين أيديهم مائتا فارس من عرب الطاعة كشَّافة، فوصلت الكشافة إلى الرها في التاسع عشر من شوال، فإذا الأمير هابيل بن قرا يلك قد وصل إليها من قِبَل أبيه الأمير عثمان بن طور علي، المعروف بقرا يلك صاحب آمد، وحَصَّنها وجمع فيها عامة أهل الضِّياع بمواشيهم وعيالهم وأموالهم، فناولوها وهم يرمونهم بالنشاب من فوق الأسوار، ثم برز إليهم الأمير هابيل في عسكر نحو ثلاثمائة فارس، وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وعلق رؤوسهم على قلعة الرها، فأدركهم العسكر، ونزلوا على ظاهر الرها في يوم الجمعة العشرين من شوال، وقد ركب الرجال السور ورموا بالحجارة، فتراجع العسكر المصري والشامي عنهم، ثم ركبوا بأجمعهم بعد نصف النهار وأرسلوا إلى أهل قلعة الرها بتأمينهم، وإن لم تكفُّوا عن القتال وإلا أخربنا المدينة، فجعلوا الجوابَ رميهم بالنشاب، فزحف العسكر وأخذوا المدينة في لحظة، وامتنع الأكابر وأهل القوة بالقلعة، فانتشر العسكر وأتباعهم في المدينة ينهبون ما وجدوا، ويأسِرون من ظفروا به، فما تركوا قبيحًا حتى أتوه ولا أمرًا مستشنعًا إلا فعلوه! وكان فعلهم هذا كفعل أصحاب تيمورلنك لَمَّا أخذوا بلاد الشام! وأصبحوا يوم السبت محاصرين القلعة، وبعثوا إلى من فيها بالأمان فلم يقبلوا، ورموا بالنشاب والحجارة، حتى لم يقدر أحد على أن يدنوَ منها، وباتوا ليلة الأحد في أعمال النقوب على القلعة، وقاتلوا من الغد يوم الأحد حتى اشتد الضحى، فلم يثبت من بالقلعة، وصاحوا: الأمانَ، فكفوا عن قتالهم حتى أتت رسلهم الأمير نائب الشام، وقدم مُقَدَّم العساكر، فحلف لهم -هو والأمير قصروه نائب حلب- على أنهم لا يؤذونهم ولا يقتلون أحدًا منهم، فركنوا إلى أيمانهم، ونزل الأمير هابيل بن قرا يلك ومعه تسعة من أعيان دولته عند دخول وقت الظهر من يوم الأحد، فتسلمه الأمير أركماس الدوادار، وتقدَّم نواب المماليك إلى القلعة ليتسلموها، فوجدوا المماليك السلطانية قد وقفوا على باب القلعة ليدخلوا إليها، فمنعوهم فأفحشوا في الرد على النواب، وهمُّوا بمقاتلتهم، وهجموا على القلعة، فلم تُطِقِ النواب منعهم، ورجعوا إلى مخيماتهم، فمد المماليك أيديهم ومن تبعهم من التركمان والعربان والغلمان، ونهبوا جميع ما كان بها، وأسروا النساء والصبيان، وألقوا فيها النار، فأحرقوها بعد ما أخلَوها من كل صامت وناطق، وبعد ما أسرفوا في قتل من كان بها وبالمدينة حتى تجاوزوا الحد، وخربوا المدينة، وفَجَروا بالنساء علنًا من غير خوف لا من الله ولا من الناس!! وألقوا النار فيها فاحترقت، ثم رحلوا من الغد يوم الاثنين الثالث والعشرين، وأيديهم قد امتلأت بالنهوب والسبي، فتقطعت منهم عدة نساء من التعب، فمِتنَ عطشًا، وبِيعَت منهن بحلب وغيرها عدة، وكانت هذه الكائنة من مصائب الدهر!!
بعد سَيرِ القوات المصرية نحوَ الرياض وجدت التشجيعَ مِن سكَّانها الذين قَدِمَ منهم وفد؛ ليعلن ولاءَهم للجيش المصري، وفر منها المعارِضون من آلِ الشيخ إلى جهات الحلوة والحريق وحوطة بني تميم في جنوبي نجد. فأراد خالد بن سعود أن يُخضِعَ المناطِقَ الجنوبية من نجدٍ بالقوة، بعد أن رفضت طاعتَه، فكتب خالد إلى أمراء سدير والمحمل والوشم وبلدان العارض بالنفير معه لقتالِ مناطق الجنوب، فخرجوا جميعًا إلَّا أمير سدير أحمد بن محمد السديري، تخلَّف بسبب القَحطِ، واستنفر خالد أهلَ الرياض، فلما وصل الخرج استنفر أهلَها، فركب معهم فهد بن عفيصان، فاجتمع لخالد وإسماعيل 7000 مقاتِلٍ مِن الترك والعُربان وأهل البلدان المتابعين لهم، فقصدوا بلدة الحلوة. كان أهلُ الحلوة قد أخرجوا نساءهم وأبناءهم وأدخلوهم الحوطةَ، وكان الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ علي بن حسين، وعبد الملك بن حسين، وحسين بن حمد بن حسين -أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بعد أن أقبل عساكِرُ خالد وإسماعيل على الرياض؛ هربوا منه وسكنوا بلد الحوطة، وبعضهم نزل على تركي الهزاني في الحريق، فلما صارت هذه الحادثة جعل الله بسببهم ثباتًا لهم ويقينًا يشجعونهم ويأتمرون بأمرِهم ولا يقطعون أمرًا دون مشورتِهم، فلما دخل عسكر الترك حرة قرب بلدة الحلوة، صعد أهل الحلوة الجبَلَ لقتالِهم، فوقع القتال من أوَّلِ النهار إلى بعد الظهرِ، وهم في قتال وإقبال وإدبار، فأتى المدَدُ من أهل الحوطة والحريق وغيرهم، وحصلت مقتلة عظيمة على عسكر الترك وأتباعهم، فنزلت بهم هزيمةٌ ساحقة. يقول ابن بشر: وأول من انهزم الأعرابُ الذين مع العسكرِ، ثم وقعت الهزيمةُ العظيمة التي ما وقع لها نظيرٌ في القرون السالفة ولا في الخلوفِ الخالفة، على عساكِرِ التركِ وأعوانِهم، وهلكت تلك الجنودُ ما بين قتلٍ وظمأٍ، وذُكر لي أن الرجلَ من القرابة الذين ليس لهم خيلٌ لا ينهزِمُ أكثر من رميةِ بندقٍ، ولم ينجُ واحد منهم، وتفَرَّقت الخيالة في الشِّعابِ فهلكوا فيها ليس لهم دليل، ولا يهتدون إلى السبيل، ونجا خالدٌ بنفسِه ومن معه من أهل نجد، لما رأوا الهزيمة انهزموا وحدَهم، وتركوا عسكَرَهم وجندهم، وتزبن إسماعيل والمعاون وشرذمة معهم من الخيالة هزيمةَ خالد، فاجتمعوا به وساروا معه، وهربت الأعرابُ على رحايل العسكر، وتركوا جميعَ محلَّتِهم وأمتعتِهم، فغَنِمَ أهل الحوطة وأهل الحريق وأتباعُهم جميعَ ما معهم من الأموال والسلاح والخيام، وفيها من الذهب والفضة ما ليس له نظيرٌ، وذلك يوم الأربعاء منتصف ربيع الآخر، وكان معهم فهد بن عفيصان بغزوِ أهل الدلم، فهرب عنهم في الليل، فلما وصل بلده أخبرهم بالأمرِ، وأمرهم يخرُجون ويأخذون ما وجدوا منهم، فتلقَّاهم غزوان أهل نجد وهزموهم إلى بلدِهم ونزلوا عندها، وحصل بينهم وبين أهلِها مناوشة رميٍ بالبنادق، ووافاهم أحمد السديري بغزو أهل سدير فيها، ثم إن خالدًا وإسماعيل وأتباعَهم رحلوا من الدلم وقصدوا الرياضَ ودخلوها. قيل: إن الذي نجا من الخيَّالة مع إسماعيل قريبٌ من مائتين دخلوا معه الرياض، وكان قد أبقى في الرياضِ لَمَّا خرج إلى الحوطة أكثر من مائتين من المغاربة والترك في القصر".
هو الأميرُ عبدُ القادر ناصِرُ الدين بن محيي الدين الحسني المعروف بعبد القادر الجزائري, اشتهرَ بمناهضته للاحتلالِ الفرنسيِّ للجزائر. وُلِدَ في 23 رجب 1222هـ / مايو 1807م، بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة معسكر "المغرب الأوسط" بالجزائر، ثم انتقل والِدُه إلى مدينة وهران. كان لوالِدِه محيي الدين صِدامٌ مع الحاكِمِ العثماني لمدينة "وهران"، وأدَّى هذا إلى تحديدِ إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرُجَ من الجزائر كلها في رحلةٍ طويلة. وكان الإذنُ له بالخروج لفريضةِ الحَجِّ عام 1241هـ/ 1825م، فخرج مصطحبًا ابنَه عبدالقادر معه، وفي رحلتِهم للحجِّ تعَرَّفوا على الطريقة الشاذلية والقادرية، فالتَقَوا في دمشق وبغداد ببعض شيوخِ الطريقتين وقرؤوا كتُبَهم، ثمَّ عادوا إلى الجزائِرِ عام 1244هـ/ 1828م، فلمَّا تعَرَّضت الجزائرُ لحَملةٍ عسكرية فرنسية شرسة، وتمكَّنَت من احتلال العاصمة. بحث أهالي وعلماء "غريس" عن زعيمٍ يأخذ اللواء ويبايعونه على الجهادِ تحت قيادته، استقَرَّ الرأيُ على "محيي الدين الحسني" والدِ عبد القادر، وعَرَضوا عليه الأمر، ولكِنَّ الرجل اعتذر عن الإمارة وقَبِلَ قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحبِ المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقَبِلَ السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابنَ عمه "علي بن سليمان" ليكونَ أميرًا على وهران، وقبل أن تستقِرَّ الأمور تدخَّلَت فرنسا مهَدِّدةً سلطان المغرب بالحرب، فانسحَبَ السلطان واستدعى ابنَ عَمِّه فعاد، ولَمَّا كان محيي الدين قد رضِيَ بمسؤولية القيادة العسكرية، والتفَّتْ حوله الجموعُ مِن جديد، وخاصةً أنَّه حقَّق عدَّةَ انتصاراتٍ على العدوِّ، وكان عبد القادر على رأس الجيشِ في كثير من هذه الانتصارات، اقترح الوالِدُ أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصِبِ، فقَبِلَ الحاضرون، وقبل الشابُّ ذلك، وتمت البيعةُ، ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطانًا" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود "الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني"، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ الموافق 20 نوفمبر 1832. فلمَّا بايعه الجزائريون وولَّوه القيامَ بأمرِ الجهاد، نهَضَ بهم، وقاتَلَ الفرنسيين خمسةَ عشر عامًا، ضرب في أثنائها نقودًا سَمَّاها " المحمَّدية " وأنشأ معامِلَ للأسلحة والأدوات الحربية وملابِسِ الجند. وعَقَدت فرنسا اتفاقيةَ هدنة معه، وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأميرِ عبد القادر، وبذلك بدأ الأميرُ يتَّجِهُ إلى أحوال البلاد وتنظيم شؤونها. وقبل أن يمُرَّ عام على الاتفاقية نقضَ القائد الفرنسي الهدنةَ، وناصره في هذه المرة بعضُ القبائل في مواجهةِ الأمير عبد القادر، ونادى الأميرُ في قومِه بالجهادِ ونَظَّم الجميعُ صُفوفَ القتال، حتى نجح في إحراز النصر؛ مما أجبر الفرنسيين على عقد معاهدةِ هُدنةٍ جديدة عُرفت باسم "معاهد تافنة" في عام 1837م. وعاد الأميرُ لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدَثَته المعارك بالحصون والقلاع، وتنظيم شؤون البلاد، ثمَّ كرر الفرنسيون نقضَ المعاهدة في عام 1839م، ورأى بعد حينٍ أنَّ من الصواب الجنوحَ للسِّلمِ، وشاور أعيانَ المجاهِدينَ في ذلك، لكِنَّ الفرنسيين أسَرُوه سنة 1263هـ/1847م وأنهَوا دورَه القياديَّ، توفي رحمه الله ليلة 19 رجب عام 1300هـ، 1883م عن عمر يناهز 76 عامًا.
هو جَمال عبد الناصرِ بن حُسين بن خَليل بن سُلْطان عبْد الناصر، رئيسُ الجُمهورية العربيَّة المتحِدة، وقائدُ ثَورة يُوليو 52 العسكرية (ثَورة الضُّباط الأحرار). وُلِدَ في قَرية بني مُر بمحافظةِ أسيوطَ سنة 1336هـ / 1918م، وانتقَلَ إلى القاهرةِ وعُمره ثمانِ سنواتٍ، فعاش مع عمٍّ له اسمه خَليل. وتعلَّم بها ثم بالإسكندريةِ، وحصَل على البكالوريوسِ سنةَ 1936، وشارَك في المظاهَرات المعاديةِ للإنجليزِ، وجُرِح مرَّتين سنةَ 1933 و1935، وتخرَّج من الكُلِّية الحربية سنةَ 1938، ودرَّس بها. وتخرَّج بكُلِّية أركانِ الحرب، وشارَك في حرْب فِلَسطين 48، وجُرِح وشُفِي، وعاد وحُوصِر في الفالوجة بفِلَسطين 4 أشهر، وخرَجَ مع زُملائه من الفالوجةِ ناقمينَ على الحُكْم في مصرَ، فقاموا سنةَ 1952م بثَورة الضُّباط الأحرار على الملِكِ فاروق آخِرِ مُلوك مصرَ، فنزَل عن العرشِ لابنه أحمدَ فؤاد، ثم لم يَلبَثوا أن خَلَعوه وأعْلَنوا الجُمهورية، وسمَّوا لرئاستِها أحدَ كبارِ الضُّباط محمَّد نجيب، وتولَّى جمالٌ رئاسةَ الوزراء. وأُذِيعَ أنَّ نَجيب يُريد إبعادَ الجيش عن الحُكْم وإعادتَه إلى المدنيينَ، فحجَزه جمالٌ في بَيته وتسلَّم زِمامَ السُّلطة عامَ 1954م، وفي 1956م انتُخِب عبد الناصر رئيسًا للجُمْهورية العربيَّة المتحِدة، وفي عهْدِه تمَّت اتِّفاقية جَلاء الإنجليزِ مِن الأراضي المصرية، وأمَّمَ شَركة قناة السُّويس، وترتَّب على ذلك العُدوان الثُّلاثي على مصرَ؛ حيث قامت بِريطانيا وفرنسا وإسرائيلُ بالاعتداءِ على مصرَ 1956م، فاحتلَّت إسرائيلُ أجزاءً من مصرَ وسُورية والأردنَّ، وأعلَنَ الوَحدةُ المصرية السُّورية 1958م، ثم انفصَلَت في عام 1961م، وحوَّل مصرَ إلى النِّظام الاشتراكيِّ 1961م، وبنى السَّدَّ العالي 1959 – 1970م، وخاض حرْبَ اليمنِ الأهليةِ بيْن عاميْ 1963 - 1968م عندما دعَم ثَورة العقيدِ عبد الله السلالِ ضِدَّ الملكيِّين المدعومينَ من السُّعودية، وفي حُزَيران 1967م قاد الأمَّةَ العربيَّة إلى نَكسة حُزيران بسِياساته المتعجرفةِ الإعلاميةِ أمام إسرائيلَ، بدَأت عَلاقة عبدِ الناصر بالمخابراتِ الأمريكية منذُ آذار / مارس 1952م، أي: قبْل قِيام الثورة بأربعةِ أشهرٍ، كما اعترَف بذلك أحدُ رِفاقه، وهو خالد مُحيي الدِّين، وتحدَّث اللِّواء محمَّد نجيب أولُ رئيسٍ لمصرَ بعد الثَّورة عن هذه العَلاقة في مُذكِّراته، وأنهم همُ الذين كانوا يَرسُمون له الخُطط الأمْنيةَ، ويَدعُمون حرَسَه بالسياراتِ والأسلحةِ الجديدةِ. نشَأَت في عهْدِه الناصريةُ، وهي حركةٌ قوميةٌ عربيةٌ استمرَّت بعدَ وفاتِه، واشتُقَّت اسمُها من اسمِه، وتبنَّت الأفكارَ التي كان يُنادي بها، وهي: الحرِّية، والاشتراكيةُ، والوَحدة، وهي نفْس أفكار الأحزابِ القومية اليَساريةِ العربيَّة الأخرى. أما عن وَفاته ففي أثناءِ تَوديعِه لرُؤساء الدُّول العربيَّة بعدَ مؤتمرِ القِمة العربيَّة الطارئِ الذي عُقِد في القاهرة، وأثناءَ تَوديعه لآخِرِ المسافرين أميرِ الكويتِ في يوم الاثنين 28 رجب 29 سبتمبر؛ تُوفِّي جمالُ عبد الناصر بعدَ أن دامَت رِئاسته أكثرَ من أربعةَ عشَرَ عامًا، وتسلَّم أنور السادات النائبُ الأولُ لرئيس الجُمهورية منصِبَ الرِّئاسةِ بالنِّيابة حتى تتَّفق الهيئاتُ العليا على رئيس جديدٍ، ثم رشَّح الساداتُ نفْسَه مِن قِبَل الاتِّحاد الاشتراكيِّ لتولي المنصبِ، وتمَّ الاستفتاءُ في شعبان / 15 تشرين الأول 1970م، وانتُخِب الساداتُ رئيسًا لمصرَ.
هو الحاجُّ محمد أمين بنُ محمد طاهر بن مصطفى الحُسيني مفتي القدس. وُلد في القدسِ سنة 1897م، تربَّى في بيت والدِه الشيخِ طاهر الحسينيِّ مفتي القدس، عُرِف بالحاج أمين الحسينيِّ بعد أن حجَّ برفقة والدتِه. تلقَّى علومه الابتدائيَّة والثانوية في مدارسِ القدسِ، ثم التحق بكلية الفرير بالقدس لتعلُّم اللغةِ الفرنسية، بعدها التحق بجامعة الأزهر، وكان يتردَّد على (دار الدعوة والإرشاد) التي أنشأها الشيخُ محمد رشيد رضا حيث تأثَّر به وبفكره الإصلاحيِّ، ومن خلال معرفته به عرف الكثير عنِ الصهيونية وأطماعِها في فلسطين، وبعدَ نُشوب الحرب العالمية الأولى التحق بكلية الأستانةِ العسكرية وتخرَّج منها ضابطًا، والتحق بالجيش العثماني في ولاية أزمير، وعمل فيه حتى نهاية الحرب؛ مما أكسبه خبرة جيِّدة كان لها الأثرُ الأكبر في شخصيتِه وحياتِه. بعدَ نهاية الحرب عاد الحسينيُّ إلى القدس وهو برتبة ضابطٍ، ملِمًّا بالفكر الإسلاميِّ، والعلوم المفيدةِ، والخبرة العسكريةِ، ويعرفُ منَ اللغات الأجنبية التركيةَ والفرنسيةَ، بالإضافة إلى ذلك كلِّه كان بحكم انتمائه إلى أسرة آل الحسيني مهيَّأً ليكون زعيمًا وداعيةً مسموع الكلمةِ. عندما احتلَّ الإنجليز فلسطين انصرف الحُسينيُّ إلى تنظيم الفلسطينيين في حركة وطنية شاملة ضدَّ الاستعمار والصهيونية، فكوَّنوا في القدس أوَّل منظمة سياسيَّة عرفتها فلسطين هو (النادي العربي)، وانتُخب الحسينيُّ رئيسًا له، وكان لهذا النادي أثر كبير في انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية، وقيام المظاهرات ضد الاحتلالِ. تسلَّم الحسينيُّ منصبَ الإفتاء رسميًّا، فأعاد تنظيم المحاكم الشرعية، واختار لها القضاة، ونظَّم الأوقاف، وأخذ يعمل على تقوية المدارس الإسلامية وتنظيم أمورها، كما شارك في تأسيس مجلس شرعي إسلامي لفلسطين تألَّف من مجموعة من العلماء، وعُين الحسيني رئيسًا لهذا المجلس الذي سُمي (المجلس الإسلامي الأعلى) الذي أصبح على مرِّ الأيام أقوى قوة وطنية إسلامية فلسطينية. كان الحاج أمين القوة الدافعة للحركة الوطنية، ومركز الثقل في المقاومة الفلسطينية؛ مما حفَّز الإنجليز واليهود إلى مقاومته والتخلُّص منه، فخرج الحاجُّ من فلسطين إلى لبنانَ بعد رفضه لقرار التقسيم 1937م وتحريضه للفلسطينيين ضدَّ الاحتلالِ، ومكث في لبنان عامين، ثم فرَّ منها إلى العراق، ولما سمع الحاج بالمآسي التي حلَّت بالشعب البوسني المسلم اجتمع بزعماءِ البوسنة والهرسك في ألمانيا؛ للعمل على منع وقوع المذابحِ فيهم، فحصَل على موافقةِ الحكومة الألمانية على تجنيدِ الشبَّان منهم وتسليحِهم للدفاع عن أنفسهِم وعائلاتهم، وكذلك اتَّفق مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة؛ لتوزيعِهم على وَحدات الفرق البوسنيَّة الذين زاد عددُهم عن 100 ألف مقاتل مع دول المحورِ، ولما زحف الحلفاء على ألمانيا عام 1945م انتقل الحاج أمين إلى باريس، ومنها إلى مصر، وفي مصر شكَّل الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسته؛ حيثُ نظَّم الحركة الوطنية الفلسطينية تنظيمًا حديثًا، بل ومدَّ نشاطه إلى الدائرة الإسلامية؛ حيث كان يرأس مؤتمرات إسلامية في مكة نشأت عنها مؤسسة دائمة باسم (مؤتمر العالم الإسلامي) برئاسته، وظل يشغل هذا المنصب طيلة حياته إلى أن تُوفي رحمه الله في بيروت ودُفن في مقبرة الشهداء بالحرج.
هو خيرُ الدين بنُ محمود بنِ محمد بنِ علي فارس الزِّرِكلي وُلِد في بيروت في ليلة 9 من ذي الحجَّة 1310هـ، ونشَأَ في دِمَشقَ حيث موطنُ أبيه وأمِّه، وتعلَّم في إحدى مدارسها الأهليَّة، وأخذ عن عُلَمائها على الطريقة القديمة التي كانت سائدةً آنذاك في التعليم، وأقبَلَ على قراءة كُتُب الأدب، وجرى لسانُهُ بنَظْم الشِّعر، وصحب مخطوطات المكتبة الظاهريَّة، فكان لا يُفارقها إلا لساعاتٍ قليلة. أصدر مجلةً أُسبوعية بعنوان "الأصمعي"، والتحَقَ بمدرسة "اللاييك" أستاذًا للتاريخ والأدب العربي وهو دون الخامسةِ والعِشرينَ، وأصدر في دمشق جريدةً يوميةً باسم "المفيد"، وفي أثناء ذلك كان يَنظِمُ القصائدَ الحماسيَّة التي تتغنَّى بأمجاد الوطن، ويتعلَّق بآمال الحرية والاستقلال حتى دخل الفرنسيُّون دمشق، فغادر إلى عمان. وبعد مغادرته البلاد قرَّر المجلس العسكري التابع للفِرْقة الثانية في الجيش الفرنسي الحُكم غيابيًّا بقتل خير الدين ومُصادرة أملاكه، وفي عمان عُيِّن الزركليُّ مفتشًا عامًّا للمعارف سنة 1340هـ، ثم تولَّى رئاسة ديوان الحكومة. ثم عاد إلى دمشق بعد إيقاف تنفيذ حُكم القتل عليه، وأخذ عائلته واتَّجه إلى القاهرة سنة 1342هـ، وأنشأ بها المطبعة العربيَّة، وطبع بها كتبًا كثيرة. ثم ذهب إلى القُدس سنة 1349هـ وأصدر مع زميل له جريدةَ "الحياة اليومية"، لكنَّ الحكومة الإنجليزية عطَّلَتها، واتفق مع أصدقاء آخرين على إصدار جريدةٍ يوميَّةٍ في يافا، وأعدَّ لها مطبعة، لكن الجريدة لم يصدُرْ منها سوى عددٍ واحدٍ، وأُغلقت أبوابها بسبب التحاقه بالعمل الدُّبلوماسي في الحكومة السُّعودية سنة 1353 هـ؛ حيث عمل مُستشارًا بالوكالة في المفوضيَّة العربية للسعودية بمصر، وكان أحدَ المندوبين السُّعوديين في المُداولات التي سبقت إنشاء جامعة الدُّوَل العربية، وفي التوقيع على ميثاقِها، ومثَّل الحكومة السعودية في عدَّة مؤتمراتٍ دوليةٍ، وانتُدِب في سنة 1366هـ لإدارة وزارة الخارجية بجدة متناوبًا مع الشيخ يوسف ياسين وزير الخارجية بالنيابة، ثم عُين وزيرًا مُفوَّضًا ومندوبًا دائمًا لدى الجامعة العربية في سنة 1371هـ، ثم عمل سفيرًا للسعودية بالمغرب سنة 1377هـ. ومن مُؤلَّفاته: ((ما رأيتُ وما سمعتُ))، و ((عامانِ في عمان))، و ((الملك عبد العزيز في ذمَّة التاريخ))، و ((صفحة مجهولة من تاريخ سوريا في العهد الفيصلي))، و ((الأعلام)) وهو أشهر كُتُبه. انتُخب عضوًا بالمجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1349هـ، واختُير عضوًا مراسلًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1366هـ، وبالمجمع العلمي العراقي سنة1380هـ، وظلَّ بعد خروجه من العمل الدبلوماسي مقيمًا بالقاهرة التي عاش فيها أغلب حياته، وفي إحدى زياراته إلى دِمَشقَ أصابته وَعْكة صحيَّة ألزمته الفِراش بضعة أسابيع، فلمَّا قرُبَ على الشفاء رحل إلى القاهرة للاستِجْمام، لكن الحياة لم تطُلْ به فوافته المنيَّة على ضفاف النيل في الثالث من ذي الحجة. بدأ خيرُ الدين الزِّرِكْلي الكتابةَ في كتابِه المشهورِ ((الأعلام)) عام 1912م بعد الإعداد له قبل ذلك بسنواتٍ، ولم ينفُضْ يده منه طيلةَ ستِّين عامًا، باذلًا فيه ما قدَّره الله عليه من مساعٍ لتطويره، واستمرَّ في بذلها إلى العشية التي وافته فيه المنية، وقد ترجم فيه الزِّرِكْلي لـ 13.435 شخصية من القديم والحديث، ولكِنْ غلبت عليه نزعته القومية العربية، فلم يترجم لأعلام العثمانيين؛ لكراهيتِه للأتراك، في حين وضع تراجِمَ للعديد من المستشرقين!
في هذه السنة عَظُم أمر الإسماعيلية بالشام، وقَوِيت شوكتهم، وملكوا بانياس في ذي القعدة منها، وسببُ ذلك أن بهرام بن أخت الأسداباذي، داعيَ الباطنية بحلب والشام، لَمَّا قُتِل خالُه ببغداد هرب إلى الشام، وصار داعيَ الإسماعيلية فيه، وكان يتردد في البلاد، ويدعو أوباش الناس وطغامَهم إلى مذهبه، فاستجاب له منهم من لا عقلَ له، فكثُر جمعه، إلا أنه يُخفي شخصَه فلا يُعرَف، وأقام بحلب مدة، ونفر إلى إيلغازي صاحبها، وأراد إيلغازي أن يعتَضِدَ به لاتقاء الناس شَرَّه وشر أصحابه؛ لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم، وقصد من يتمسَّك بهم، وأشار إيلغازي على طغتكين، صاحب دمشق، بأن يجعلَه عنده لهذا السبب، فقبل رأيه، وأخذه إليه، فأظهر حينئذ شخصه -بهرام داعية الباطنية الإسماعيلية- وأعلن دعوته، فكثر أتباعُه من كل من يريد الشرَّ والفساد، ووافقه الوزيرُ طاهر بن سعد المزدقاني، وإن لم يكن على عقيدته؛ قصدًا للاعتضاد به على ما يريد، فعَظُم شَرُّه واستفحل أمره، وصار أتباعه أضعافَ ما كانوا، فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذهب أهل السنة، وأنهم يشدِّدون عليه فيما ذهب إليه، لَمَلَك البلدَ، ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظةً وغلظةً عليه، فخاف عاديتَهم، قال الذهبي: "كان طغتكين سيفًا مسلولًا على الفرنج، ولكن له خرمة كان قد استفحل البلاءُ بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائنَ والقلاع متخفيًا، ويُغوي الأغتام والشطَّار، وينقاد له الجهَّال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرَّره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يُكرِمُه، ويبالِغُ اتقاء لشَرِّه، فتَبِعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكثُروا، ووافقه الوزير طاهر المزدقاني، وبث إليه سره، ثم التمس من الملك طغتكين قلعةً يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعَظُم الخطب، وتوجَّع أهلُ الخير، وتستَّروا مِن سَبِّهم، وكانوا قد قتلوا عدةً من الكبار، فتصدى لهم تاج الملوك بوري بن طغتكين، فقتل الوزير كمال الدين طاهر بن سعد المزدقاني، ونصب رأسه، وركب جندَه، فوضعوا السيفَ بدمشق في الملاحدة الإسماعيلية، فكبسوا منهم في الحال نحوًا من ستة آلاف نفس في الطرقات، وكانوا قد تظاهروا، وتفاقم أمرهم، وراح في هذه الكائنة الصالحُ بالطالح. وأما بهرام فتمرَّد وعتا وقَتَل شابًّا من أهل وادي التيم اسمه برق، فقام عشيرته، وتحالفوا على أخذ الثأر، فحاربهم بهرام، فكَبَسوه وذبحوه، وسَلَّمَت الملاحِدةُ بانياس للفرنج، وذَلُّوا. وقيل: إن المزدقاني كان قد كاتب الفرنج ليُسَلِّمَ إليهم دمشق، ويعطوه صور، وأن يهجموا البلد يوم جمعة، ووكل الملاحدةَ تغلق أبواب الجامع على الناس، فقتله لهذا تاج الملوك، وقد التقى الفرنجَ وهزمهم، وكانت وقعةً مشهودة. وفي سنة 520 أقبلت جموع الفرنج لأخذ دمشق، ونزلوا بشقحب، فجمع طغتكين التركمانيين وشطار دمشق، والتقاهم في آخر العام، وحَمِيَ القتال، ثم فرَّ طغتكين وفرسانه عجزًا، فعطفت الرجَّالةُ على خيام العدو، وقَتَلوا في الفرنج، وحازوا الأموالَ والغنائم، فوقعت الهزيمةُ على الفرنج، ونزل النصرُ".
سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك بلاد الروم إلى ولاية حلب؛ قصدًا للتغلُّب عليها، ومعه الأفضلُ بن صلاح الدين يوسف، حيث كان أشار عليه ذوو الرأيِ من أصحابه، وقالوا له: لا يتِمُّ لك هذا إلا بأن يكون معك أحدٌ من بيت أيوب لِيسهلَ على أهل البلاد وجُندِها الانقياد إليه؛ وهذا الأفضَلُ بن صلاح الدين هو في طاعتك، فأحضر الأفضل من سميساط إليه، واستقَرَّت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل، وهو في طاعة كيكاوس، والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصِدون ديارَ الجزيرة، فما يفتحونَه مِمَّا بيد الملك الأشرف مثل: حران والرَّها من البلاد الجزرية، تكون لكيكاوس، وجرت الأيمانُ على ذلك، وجمعوا العساكِرَ وساروا، فملكوا قلعة رغبان، فتسَلَّمَها الأفضل، فمال الناسُ حينئذ إليهما، ثم سارا إلى قلعةِ تل باشر، وفيها صاحِبُها ولَدُ بدر الدين دلدرم الياروقي، فحصروه، وضَيَّقوا عليه، وملكوها منه، فأخذها كيكاوس لنفسِه، ولم يسَلِّمها إلى الأفضل، فاستشعر الأفضَلُ من ذلك، وقال: هذا أوَّلُ الغدر، وخاف أنَّه إن ملك حلب يفعل به هكذا، فلا يحصُلُ إلَّا أن يكون قد قلع بيتَه لغيره، ففترت نيَّتُه، وأعرض عمَّا كان يفعله، وكذلك أيضًا أهل البلاد، وأما صاحِبُ حلب فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصُروه، وربَّما سَلَّم أهلُ البلد والجند المدينةَ إلى الأفضل لمَيلِهم إليه، فأرسل إلى المَلِك الأشرف بن الملك العادل، صاحبِ الديار الجزرية وخلاط وغيرها، يستدعيه إليه لتكونَ طاعتُهم له، ويخطُبون له، ويجعل السكةَ باسمه، ويأخُذ من أعمال حلب ما اختار، فجمع عسكَرَه وأحضر إليه العربَ من طيئ وغيرهم، ونزل بظاهِرِ حلب، ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضَلُ يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماعِ العساكر بها، وقبل أن يحتاطوا ويتجَهَّزوا، فعاد عن ذلك، وصار يقولُ: الرأي أننا نقصد منبج وغيرها؛ لئلا يبقى لهم وراء ظهورِنا شيء، قصدًا للتمادي فتوجَّهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدَّم الأشرف نحوهم، وسارت العربُ في مقدِّمته، وكان طائفة من عسكر كيكاوس، نحو ألف فارس، قد سبقت مقدمته له، فالتقوا هم والعربُ ومن معهم من العسكر الأشرفي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر كيكاوس، وعادوا إليه منهزمينَ، وأكثر العرب الأسرَ منهم والنهبَ؛ لجودة خيلهم ودبر خيل الرومِ، فلما وصل إليه أصحابُه منهزمين لم يثبت، بل ولى على أعقابِه يطوي المراحِلَ إلى بلاده خائفًا يترقَّبُ، فلما وصل إلى أطرافها أقام، فسار حينئذ الأشرف، فملك رغبان، وحصر تل باشر، وبها جمعٌ مِن عسكر كيكاوس، فقاتلوه حتى غُلِبوا، فأُخِذَت القلعة منهم، وأطلَقهم الأشرف، وسَلَّم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهابِ الدين أتابك، صاحب حلب، وكان عازمًا على اتباعِ كيكاوس، ودخول بلاده، فأتاه الخبَرُ بوفاة أبيه الملك العادل، فاقتضت المصلحةُ العودَ إلى حلب.