قَدِم الإمامُ الحافظ المتقِن قاضي قضاة الإسلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مِن مِصرَ على الإمام تركي بن عبد الله بعد أن بَقِيَ في مصر 9 سنوات منذ أن نفاه إليها إبراهيم باشا عام 1233، وكان معه ابنه عبد اللطيف صغيرًا, ففرح الإمامُ تركي به وأكرمه، واغتبط به المسلمون الخاصُّ والعامُّ، وبذل الشيخُ مِن نفسه للطالبين، فانتفع بعِلمِه كثيرٌ مِن المستفيدين.
تم توقيعُ معاهدة الصداقة "الأفغانية - السوفيتية الأولى" وهي أول معاهدة تعقِدُها أفغانستان بعد إعلان استقلالها في عام 1919؛ حيث نصَّت المعاهدة على إعادة منطقة "بنجده" -وهي التي كان الروس قد استولوا عليها في عام 1885م- والاعتراف باستقلال الولايات الإسلامية (بخارى وكييف) وعدم الاعتداء بين الطرفين 25 سنة، الأمر الذي لم يفعَلْه الاتحاد السوفيتي حتى سقوطِه في عام 1991. وقد عقَدَ هذه المعاهدةَ الملكُ أمان الله الذي ضاعف حجمَ التبادُلِ التجاري السوفيتي الأفغاني 9 مرات.
تمَّ إطلاق اسم الأردن رسميًّا على إمارة شرق الأردن، وقد تأسَّست هذه الإمارة سنة 1920 تحت الانتدابِ البريطاني بموجِبِ صَكِّ الانتداب الذي وقَّعَه عبد الله بن الحسين أمامَ وزير المستعمرات البريطاني تشرشل مقابِلَ تنصيبِه مَلِكًا على شرق الأردن، وقد حَصَلت الإمارة على استقلالِها في 25 مايو 1946م، واعتُبِرَ ذلك اليوم عيدًا للاستقلال، وتألَّفت في هذه الإمارة 18 وزارة قبل إعلانها مملكةً تحت اسم المملكة الأردنية الهاشمية.
كُلِّيَّةُ الشَّريعةِ بمكَّةَ المكَرَّمةِ أوَّلُ كُلِّيَّةٍ شَرعيَّةٍ تُؤَسَّسُ في المملَكةِ العَربيَّةِ السُّعوديَّةِ، وكان ذلك في عَهدِ المَلِكِ عبدِ العزيزِ رحمه الله، تغَيَّرَ اسمُها إلى كُلِّيَّةِ الشَّريعةِ والتَّربيةِ عام 1373هـ تحتَ إشرافِ وَزارةِ المعارِفِ، ثمَّ انفَصَلت عنها كُلِّيَّةُ التَّربيةِ عام 1382هـ، وأصبح اسمُها كُلِّيَّةَ الشَّريعةِ والدِّراساتِ الإسلاميَّةِ، وتحتَها ثلاثةُ أقسامٍ: الشَّريعةُ، واللُّغةُ العَربيَّةُ، والتَّاريخُ والحَضارةُ الإسلاميَّةُ. وهي الآنَ مِن كُبرى كُلِّيَّاتِ جامِعةِ أمِّ القُرى بمكَّةَ المكَرَّمةِ.
وقَّعَت حركتا فتح وحماس اتفاقَ مُصالحةٍ برعاية يمنيَّةٍ، وتعهَّدَتا بإحياء المحادثاتِ المباشِرةِ بعد شهور من الأعمالِ العدائية، ووقَّع كلٌّ من عزَّام الأحمد رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي الفِلَسْطيني، ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق الاتفاقَ الذي أُطلق عليه اسمُ "إعلان صنعاء"، بحضور الرئيس اليَمَني علي عبد الله صالح، والتوقيع شكَّلَ إطارًا لاستئناف الحوار من أجْل العودة بالأوضاع في الأراضي الفِلَسْطينية إلى ما قبلَ أحداث غزَّةَ.
اعتُقِل الرئيسُ الموريتانيُّ سيدي ولد الشيخ عبد الله أولُ رئيسٍ منتخَب ديمقراطيًّا في نواكشوط إثرَ انقلابٍ قادَه قائدُ الحرسِ الرِّئاسي، كما اعتُقِل عددٌ من الوُزَراء المقرَّبين. ويأتي الانقلابُ بعدَ سنة ونصف من الانتخاباتِ الرئاسية مطلعَ (2007) وبعد ثلاثِ سنواتٍ من انقلابٍ عسكريٍّ في أغسطس (2005) أطاح بالرَّئيس معاوية ولد الطايع. وشكَّل الانقلابِيُّون مجلِسًا للحُكمِ برئاسةِ رئيسِ الأركانِ وقائدِ الحرسِ الرئاسيِّ الجنرال محمد ولد عبد العزيز.
تُوفِّي الشَّيخُ حامِدٌ البَيتاويُّ رئيسُ رابطةِ عُلَماءِ فِلَسطين والنَّائِبُ في المَجلسِ التَّشريعيِّ عن كُتلةِ التَّغييرِ والإصلاحِ التَّابعةِ لحماسٍ، في مشفَى المقاصِدِ بالقُدس المُحتلَّة. وقد منع الاحتلالُ الصِّهيونِيُّ النائبَ البيتاويَّ من السفرِ لتلقِّي العلاج بالأردنِّ، ما اضطَرَّه لإجرائِها في القدس. والشيخُ البيتاويُّ رحمه الله شَغَل منصِبَ خطيبِ المسجدِ الأقصى سابقًا، وكان قد نَجَح في انتخاباتِ المَجلسِ التشريعيِّ عن حركةِ حماسٍ في عام (2006م)، واعتُقِل عدَّةَ مرَّاتٍ على يدِ قوَّات الاحتلال الإسرائيليِّ.
نجا رئيسُ جمهوريةِ المالديف عبدُ الله يمين عبد القيوم من محاولةِ اغتيالٍ تَعرَّض لها في طريقِ عَودتِه من المملكةِ، بعد إتمامِه مَناسِكَ الحَجِّ. ولم يُصَبْ في الانفجار الذي وقَع بزَورقِه لدى اقترابِه من مالي عاصمةِ جُزُرِ المالديف الواقعةِ في المحيط الهنديِّ، وأُصيبت زوجتُه في الانفجارِ. وكان رئيسُ المالديف قد غادَر مطارَ الملكِ عبدِ العزيز بجُدَّةَ، ووصلتْ طائرتُه إلى المطار الدَّوليِّ الرئيسِ، والواقعِ في جزيرةٍ مُجاوِرةٍ بالمالديف، قَبْل أنْ يَستَقِلَّ الزَّورقَ لإكمال رحلتِه إلى العاصمةِ.
الشَّيخُ عبدُ المَجيدِ الزِّندانيُّ مُؤَسِّسُ كُلٍّ مِن جامعةِ الإيمانِ باليَمَنِ، والهيئةِ العالميَّةِ للإعجازِ العِلميِّ في القرآنِ والسُّنةِ في مكَّةَ المكَرَّمةِ، كان -رحمه اللهُ- رئيسَ مجلِسِ شُورى حزبِ التَّجمُّعِ اليَمَنيِّ للإصلاحِ، تُوفِّي في إسطنبول، عن عُمرٍ ناهَز اثنين وثمانين عامًا، ودُفِن في إسطنبول بعدَ الصَّلاةِ عليه في مَسجِدِ السُّلطانِ محمَّد الفاتِح بحُضورِ الرَّئيسِ التُّركيِّ رَجَب طَيِّب أردوغان وعَدَدٍ مِنَ السِّياسيِّينَ والعُلَماءِ المُسلِمين، وجموعٍ مِنَ المُصَلِّين من مختَلِفِ الجِنسيَّاتِ.
لمَّا أصاب خالدٌ يومَ الوَلَجَةِ ما أصاب مِن نَصارى بكرِ بن وائلٍ الذين أعانوا الفُرْسَ غَضِبَ لهم نَصارى قَوْمِهم، فكاتَبوا الفُرْسَ، واجتمعوا على أَلَّيْس وعليهم عبدُ الأسودِ العِجْليُّ وكتَبَ أَرْدَشِير إلى بهمن جاذُوَيْهِ يأمُرهُ بالقُدومِ على نَصارى العربِ بأُلَّيْس، فقَدِمَ بهمن جاذُوَيْهِ جابانَ إليهم، فاجتمع على جابان نَصارى العربِ مِن أهلِ الحِيرَةِ. وكان خالدٌ لمَّا بَلغَهُ تَجَمُّعُ نَصارى بكرٍ وغيرِهم سار إليهم ولا يَشعُرُ بِدُنُوِّ جابان. فلمَّا طلَع جابانُ بأُلَّيْس قالت العَجَمُ له: أَنُعاجِلُهُم أم نغدي النَّاس ولا نُريهِم أَنَّا نَحْفَلُ بهم، ثمَّ نُقاتِلهم؟ فقال جابانُ: إن تَركوكُم فتَهاوَنوا بهم. فعَصَوْهُ وبَسَطوا الطَّعامَ، وانتهى خالدٌ إليهم وحطَّ الأثقالَ، فلمَّا وُضِعت تَوجَّه إليهم، وطلَب مُبارزةَ عبدِ الأسودِ وابنِ أَبْجَرَ ومالكِ بن قيسٍ، فبرَز إليه مالكٌ مِن بينهم، فقَتلَهُ خالدٌ وأَعجَل الأعاجمَ عن طعامِهم. فقال لهم جابانُ: حيث لم تَقدِروا على الأكلِ فسُمُّوا الطَّعامَ، فإن ظَفرتُم فأَيْسَرُ هالِكٍ، وإن كانت لهم هَلكوا بأَكْلِهِ. فلم يفعلوا، واقتتلوا قِتالًا شديدًا، والمشركون يَزيدُهم ثُبوتًا تَوقُّعُهم قُدومِ بهمن جاذُوَيْهِ، فصابَروا المسلمين، فقال خالدٌ: اللَّهمَّ إن هَزمتَهُم فعَلَيَّ أن لا أَسْتَبْقِي منهم مَن أَقدِر عليه حتَّى أُجري مِن دمائهِم نَهرَهُم. فانهزمت فارِسُ فنادى مُنادي خالدٍ: الأُسَراءُ الأُسَراءُ، إلَّا مَن امتنع فاقتلوه. فأقبل بهم المسلمون أُسَراء، ووَكَّل بهم مَن يَضرِب أعناقَهُم يومًا وليلةً. فقال له القَعْقاعُ وغيرُه: لو قتلتَ أهلَ الأرضِ لم تَجْرِ دِماؤهُم، فأَرْسِلْ عليها الماءَ تَبَرَّ يَمينُك، ففعَل فَسالَ النَّهرُ دَمًا عَبيطًا، فلذلك سُمِّيَ نَهْرَ الدَّمِ إلى اليومِ، ووقَف خالدٌ على الطَّعامِ وقال للمسلمين: قد نَفَّلْتُكُموه، فتَعشَّى به المسلمون، وجعَل مَن لم يَرَ الرِّقاقَ يقول: ما هذه الرِّقاقُ البِيضُ؟
كان العباسُ بنُ المأمون مع عَمِّه المعتَصِم في غزوةِ عَمُّورية، وكان عجيفُ بن عنبسة قد نَدَّمَه إذ لم يأخُذ الخلافةَ بعد أبيه المأمونِ، ولامَه على مبايعتِه عَمَّه المعتصِمَ ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمِّه وأخذِ البيعةِ من الأمراء له، وجهَّزَ رجلًا يقال له الحارِثُ السَّمَرقندي وكان نديمًا للعبَّاسِ، فأخذ له البيعةَ مِن جماعةٍ مِن الأمراء في الباطنِ، واستوثَقَ منهم وتقَدَّم إليهم أنَّه يلي الفتكَ بعَمِّه، فلما فتحوا عَمُّوريَّة واشتغل الناسُ بالمغانم، أشار عليه أن يقتُلَه، فوعده مَضِيقَ الدَّربِ إذا رجَعوا، فلما رجعوا فَطِنَ المعتَصِمُ بالخبَرِ، فأمر بالاحتفاظِ وقُوَّةِ الحَرَس وأخذَ بالحَزمِ، واجتهد بالعزمِ، واستدعى بالحارِثِ السَّمرقنديِّ فاستقَرَّه فأقَرَّ له بجُملةِ الأمر، وأخْذِ البيعةِ للعبَّاسِ بنِ المأمون من جماعةٍ مِن الأمراء أسماهم له، فاستكثَرَهم المعتَصِمُ واستدعى بابنِ أخيه العبَّاسِ فقَيَّده وغَضِبَ عليه وأهانه، ثم أظهَرَ له أنه قد رَضِيَ عنه وعفا عنه، فأرسَلَه مِن القيدِ وأطلق سراحَه، فلما كان من اللَّيلِ استدعاه واستحكاه عن الذي كان قد دبَّرَه من الأمر، فشرَحَ له القضيَّةَ، وذكر له القِصَّةَ، فإذا الأمرُ كما ذكر الحارِثُ السمرقندي. فلما أصبح استدعى بالحارثِ فأخلاه وسأله عن القضيَّة ثانيًا فذكَرَها له كما ذكرها أوَّلَ مَرَّة، فقال: وَيحَك، إنِّي كنتُ حريصا على ذلك، فلم أجِدْ إلى ذلك سبيلًا بصِدقِك إيَّأي في هذه القِصَّة. ثم أمر المعتَصِمُ حينئذٍ بابن أخيه العبَّاسِ فقُيِّدَ وسُلِّمَ إلى الأفشين، وأمر بعجيف وبقيَّة الأمراءِ الذين ذكرهم فاحتفظَ عليهم، ثم أخَذَهم بأنواعِ النِّقْمات التي اقتَرَحها لهم، فقتَلَ كُلَّ واحدٍ منهم بنوعٍ لم يَقتُل به الآخرَ، ومات العباسُ بنُ المأمون بمنبج، فدفن هناك، وكان سبَبُ موتِه أنَّه أجاعه جوعًا شديدًا، ثم جيءَ بأكلٍ كثيرٍ، فأكلَ منه وطلَبَ الماءَ فمُنِعَ حتى مات، وأمر المعتَصِمُ بلَعْنِه على المنبرِ وسمَّاه اللَّعينَ.
ارتحل زكرَوَيه من نهر المثنية يريد الحاجَّ، فبلغ السَّلمان، وأقام ينتَظِرُهم، فبلغت القافلةُ الأولى واقصةَ سابِعَ المحرَّم، فأنذرهم أهلُها وأخبَروهم بقرب القرامطة، فارتحلوا لساعتِهم، وسار القرامطةُ إلى واقصة، فسألوا أهلَها عن الحاجِّ، فأخبَروهم أنَّهم ساروا فاتَّهَمهم زكرويه، فقتل العلافةَ، وأحرق العلَف، وتحصَّن أهل واقصة في حِصنِهم، فحصرهم أيامًا ثم ارتحل عنهم نحو زبالة، ولقيَ زكرَوَيه القرمطيُّ قافلةَ الخراسانية بعُقبة الشيطان راجعينَ مِن مكة، فحاربهم حربًا شديدةً، فلما رأى شدةَ حَربِهم سألهم: هل فيكم نائبُ للسلطان؟ فقالوا: ما معنا أحَدٌ. قال: فلستُ أريدكم؛ فاطمأنُّوا وساروا، فلما ساروا أوقع بهم، وقتَلَهم عن آخِرِهم، ولم ينجُ إلَّا الشريد، وسَبَوا من النَّاسِ ما أرادوا وقَتَلوا منهم، وكتب من نجا من الحُجَّاج من هذه القافلةِ الثانية إلى رؤساءِ القافلة الثالثة من الحُجَّاج يُعلِمونهم ما جرى من القرامطة، ويأمرونَهم بالتحَذُّر، والعدولِ عن الجادَّة نحو واسط والبصرة، والرجوعِ إلى فيد والمدينةِ إلى أن تأتيَهم جيوش السلطان، فلم يسمعوا ولم يُقيموا، وسارت القرامطةُ مِن العَقَبة بعد أخذِ الحاجِّ، وقد طموا الآبار والبِرَك بالجِيَف، والأراب، والحجارة، بواقصة، والثعلبية، والعقبة، وغيرها من المناهِل في جميع طريقِهم، وأقام بالهيبر ينتظر القافلةَ الثالثة، فساروا فصادفوه هناك، فقاتَلَهم زكرويه ثلاثة أيام، وهم على غيرِ ماء، فاستسلموا لشدةِ العطش، فوضع فيهم السَّيفَ وقتلهم عن آخرهم، وجمع القتلى كالتَلِّ، وأرسل خلف المنهزمينَ مَن يبذلُ لهم الأمان، فلما رجعوا قتَلَهم، وكان نساء القرامطة يَطُفنَ بالماء بين القتلى يَعرِضْنَ عليهم الماء، فمن كلَّمَهنَّ قَتَلْنَه، فقيلَ إنَّ عدة القتلى بلغت عشرين ألفًا ولم ينجُ إلَّا من كان بين القتلى فلم يُفطَنْ له فنجا بعد ذلك، ومن هرب عند اشتغالِ القرامطة بالقتل والنهب، فكان من مات من هؤلاء أكثَرُ ممَّن سلم ومن استعبدوه، وكان مبلغُ ما أخذوه من هذه القافلة ألفي ألف دينارٍ.
خرج السلطانُ صلاح الدين الأيوبي من دمشق في ثالث ربيع الأول, ونازل لشقيف أرنون, وكان منزعجًا لقرب انقضاء الهدنة مع بيمند صاحِبِ أنطاكيةَ، ولاجتماع الفرنجِ بصور، واتِّصال الأمداد بهم، فكانت للمُسلمين مع الفرنجِ في بلادهم الساحليَّة عِدَّةُ وقائع، قُتِلَ فيها من الفريقين عِدَّةٌ، وكثُرَ القتل في المسلمين، واشتدت نكايةُ الفرنج فيهم، فرحل السلطانُ إلى عكا، وقد سبقه الفرنجُ ونزلوا عليها. ونزل السلطان بمرج عكا وصار محاصِرًا للفرنج، والفرنجُ محاصرين للبلد. وتلاحقت به العساكِرُ الإسلامية، والأمداد تصل إلى الفرنجِ مِن البحر. فلم يقدِر السلطانُ على الوصول إلى البلد، ولا استطاع أهلُ عكا أن يصلوا إلى السُّلطان. وشرع السلطانُ في قتال الفرنج من أول شعبان، إلى أن تمكَّنَ من عكا، ودخلها في ثانيه، فما زالت الحربُ قائمةً إلى رابع رمضان. فتحَوَّل إلى الخروبة، وأغلق مَن في عكا من المسلمين أبوابَها، وحفر الفرنج خندقًا على مُعسكَرِهم حول عكا من البحرِ إلى البحر، وأداروا حولهم سورًا مستورًا بالستائر، ورتَّبوا عليه الرجال، فامتنع وصولُ المسلمين إلى عكا. وقدم العادل بعسكرِ مِصرَ في نصف شوال، ثم قَدِمَ أسطول من مصر إلى عكا في خمسين قطعة، وعليه الحاجِبُ لؤلؤ في منتصف ذي القعدة، فبدَّدَ شمل مراكب الفرنج، وظفِرَ المسلمون بطستين- سفينتين كبيرتين- للفرنج. فاستظهر المسلمون الذين بعكا، وقَوِيَ جأشهم بالأسطول، وكانوا نحو العشرة آلاف. وبعث السلطان إلى الأطراف يحثُّ الناس على الجهاد، وأرسل إلى أخيه سيف الإسلام طغتكين باليمن، يطلب منه الإعانةَ بالمال، وإلى مظفَّر الدين قر أرسلان صاحب العجم، وكتب إلى الخليفة. ووصلت الأمدادُ إلى الفرنج، وورد الخبَرُ من حلب بخروج ملك الألمان من القسطنطينيَّة في عِدَّة عظيمة تتجاوز الألف ألف، يريدون البلاد الإسلاميَّة، فاشتد الأمرُ على السلطان ومَن معه من المسلمين.
في العشرين من شعبان عُقِدَت بين المسلمين والفرنج هدنةٌ لِمُدَّة ثلاث سنين وثمانية أشهر، ويوافِقُ أوَّلَ أيلول 1192م، وكان سبب الصلح أن ملك الإنكليز المعروف بريتشارد قلب الأسد لَمَّا رأى اجتماع العساكر، وأنَّه لا يُمكِنُه مفارقةُ ساحِلِ البحر، وليس بالساحِلِ للمسلمين بلدٌ يَطمَعُ فيه، وقد طالت غيبتُه عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصُّلحِ، وأظهر من ذلك ضِدَّ ما كان يطلبُ منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجيُّ رُسُلَه مَرَّةً بعد مرَّة، ونزل عن تَتِمَّة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقريرِ هذه القاعدة، فأشار هو وجماعةُ الأمراء على صلاح الدين بالإجابة إلى الصُّلح، وعرفوه ما عند العسكَرِ مِن الضَّجَرِ والملل، وما قد هلك من أسلحتِهم ودوابِّهم، ونَفِدَ مِن نفقاتهم، وقالوا: إنَّ هذا الفرنجي إنما طلب الصلحَ ليركَبَ البَحرَ ويعود إلى بلاده، فإن تأخَّرَتْ إجابته إلى أن يجيءَ الشتاء وينقَطِع الركوبُ في البحر، نحتاج للبقاء هاهنا سنةً أخرى، وحينئذٍ يَعظُمُ الضَّررُ على المسلمين، وأكثَروا القول له في هذا المعنى، فأجاب السلطانُ صلاح الدين حينئذٍ إلى الصلح، فحضر رسلُ الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدةِ، وبعد أن تمت الهدنة سار صلاح الدين إلى بيت المقدس، وأمَرَ بإحكام سوره، وعَمِلَ المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوفَ، وصام رمضان بالقُدسِ، وعزم على الحَجِّ والإحرام منه، فلم يُمكِنْه ذلك، فسار عنه خامِسَ شوال نحو دمشق، واستناب بالقُدسِ الأمير عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية، ولَمَّا سار عنه جعل طريقَه على الثغور الإسلامية، كنابلس وطبرية وصفد وتبنين، وقصد بيروت، وتعهد هذه البلادَ، وأمر بإحكامها، فدخل دمشقَ في الخامس والعشرين من شوال، وكان يومُ دُخولِه إليها يومًا مشهودًا، وفَرِحَ النَّاسِ به فرحًا عظيمًا لطول غيبتِه، وذَهابِ العَدُوِّ عن بلاد الإسلامِ.
هو السُّلطانُ الملك العزيز أبو الفتح عماد الدين عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب ديار مصر، وُلِدَ سنة 567، جمادى الأولى. وحدَّث عن أبي طاهر السِّلَفي، وابنِ عوف. قال الذهبي: "وتمَلَّك بعد أبيه، وكان لا بأسَ بسيرتِه، قَدمَ دمشق وحاصَرَ أخاه الأفضل. نَقَلْتُ من خط الضياء الحافظ، قال: خرجَ إلى الصيد، فجاءته كُتُبٌ مِن دمشق في أذيَّة أصحابِنا الحنابلةِ في فِتنةِ الحافظ عبد الغني المقدسي, فقال: إذا رَجَعْنا من هذه السَّفرةِ، كُلُّ مَن كان يقولُ بمقالتهم أخرجناه مِن بلَدِنا. قال: فرماه فَرَسٌ، ووقع عليه، فخسَف صَدرَه، كذا حدثني يوسف بن الطفيل، وهو الذي غسَّلَه"وقيل: كان سبب موته أنَّه خرج إلى الصيد، فوصل إلى الفيومِ متصَيِّدًا، فرأى ذئبًا فركَضَ فرَسَه في طَلَبِه، فعثر الفرسُ فسَقَطَ عنه في الأرض ولَحِقَته حُمَّى، فعاد إلى القاهرة مريضًا، فبَقِيَ كذلك إلى أن توفي، عاش ثمانيًا وعشرين سنة، ومات في العشرين من المحرم، ودُفِنَ بقبة الشافعي, وأُقيمَ بعده ولدٌ له صبيٌّ, فلم يَتِمَّ له ذلك, وقيل: لَمَّا مات العزيز كان الغالِبُ على أمره مملوكَ والده فخر الدين جهاركس، وهو الحاكِمُ في بلده، فأحضَرَ إنسانًا كان عندهم من أصحابِ الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأراه العزيزَ ميِّتًا، وسَيَّرَه إلى العادل وهو يحاصِرُ ماردين، ويستدعيه ليمَلِّكَه البلاد، وكان الأفضَلُ مُحَبَّبًا إلى الناس يريدونه، فراسله الأمراءُ مِن مِصرَ يَدعونَه إليهم ليُمَلِّكوه، فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر، متنكرًا في تسعة عشر نَفسًا؛ لأن البلادَ كانت للعادل، ويَضبِطُ نُوَّابُه الطرق؛ لئلَّا يجوز إلى مصرَ ليجيءَ العادِلُ ويَملِكَها، ثم دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول، وأصلَحَ الأمور، وقَرَّرَ القواعِدَ والمرجِعَ في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج.