أمر الناصِرُ ببناء مدينة الزَّهراء في قرطبة، وكان يصرف فيها من الصَّخرِ المنجور ستةَ آلاف صخرة في اليوم، سوى التَّبليطِ في الأساس وجَلَب إليها الرُّخام من قرطاجَنَّة إفريقية ومن تونس، وكان الأمناء الذين جلبوه عبد الله بن يونس، وحسن القرطبي، وعليُّ بنُ جعفر الإسكندراني، وكان الناصر يَصِلُهم على كلِّ رخامة بثلاثة دنانير، وعلى كلِّ سارية بثمانية دنانير. وكان فيها من السَّواري 4313 سارية، المجلوبة منها من إفريقية 1013 سارية. وأهدى إليه ملِكُ الروم 140سارية، وسائر ذلك من رخام الأندلس. وأما الحوضُ الغريب المنقوش المُذهَّب بالتماثيل، فلا قيمةَ تُقَدَّرُ له، جلَبَه ربيع الأسقف من القسطنطينية مِن مكانٍ إلى مكانٍ حتى وصل في البَحرِ، ووضعه الناصرُ في بيت المنام في المجلِس الشرقي المعروف بالمؤنس، وكان عليه اثنا عشر تمثالًا من الذهب الأحمر مرصَّع بالدرِّ النفيس العالي ممَّا صنعه بدار الصَّنعةِ بقَصرِ قُرطبة. وكان المتولِّي لهذا البنيان المذكور ابنُه الحكم، لم يتَّكِل الناصر فيه على أمينٍ غَيرِه، وكان يُخبَزُ في أيَّامِه كلَّ يومٍ ثمانمائة خبزة.
وجَّه أبو أحمد الموفَّق ولَدَه أبا العباسِ في نحوٍ مِن عشرة آلافِ فارس وراجلٍ، في أحسَنِ هيئةٍ وأكملِ تجَمُّل لقتال الزنج، فساروا نحوَهم فكان بينه وبينهم من القتالِ والنِّزال في أوقاتٍ متعدِّدة ووقعاتٍ مشهورةٍ، استحوذ أبو العباس بن الموفِّق فيها على ما كان استولى عليه الزنجُ ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شابٌّ حَدَثٌ لا خبرةَ له بالحرب، ولكِنْ سَلَّمَه الله وأعلى كلمَتَه وسَدَّد رَميَتَه وأجاب دعوتَه، وفتح على يديه وأسبَغَ نِعَمَه عليه، وهذا الشابُّ هو الذي وليَ الخلافةَ بعد عمه المعتمد، ثم ركب أبو أحمد الموفَّق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوشٍ كثيفة، فدخل واسط في ربيع الأوَّل منها، ثم سار بجميعِ الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسمَّاها المنيعة، فقاتل الزنجُ دونها قتالًا شديدًا فقهرهم ودخلها عَنوةً وهربوا منها، فبعث في آثارِهم جيشًا، فلَحِقوهم إلى البطائح يقتُلون ويأسرون، وغَنِمَ أبو أحمد من المنيعة شيئًا كثيرًا، واستنقذ من النساء المُسلمات خمسةَ آلافِ امرأة، وأمر بإرسالهنَّ إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدمِ سُورِ البلد وبطَمِّ خندقها وجعلها بلقعًا بعد ما كان للشَّرِّ مَجمعًا، ثم سار الموفَّق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها المنصورة، وبها سليمان بن جامع، فحاصروها وقاتلوه دونها فقُتِلَ خَلقٌ كثيرٌ من الفريقين، ورَمى أبو العباس بن الموفَّق بسهمٍ أحمدَ بن هندي أحدَ أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغِه فقَتَله، فشَقَّ ذلك على الزنجِ جِدًّا، وأصبح الناسُ محاصِرينَ مدينة الزنج يومَ السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوشُ المُوَفَّقية مُرتَّبة أحسنَ ترتيب، فتقدم الموفَّق واجتهد في حصارِها، فهزم الله مقاتِلَتَها وانتهى إلى خَندقِها، فإذا هو قد حُصِّنَ غايةَ التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلدِ خمسةَ خنادقَ وخمسة أسوار، فجعل كلمَّا جاوز سورًا قاتلوه دون الآخَرِ، فيَقهَرُهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقًا كثيرًا وهرب بقيَّتُهم، وأسَرَ مِن نساءِ الزِّنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساءً كثيرةً وصِبيانًا، واستنقذ من أيديهم النساءَ المُسلِمات والصبيانَ مِن أهل البصرة والكوفة نحوًا من عشرة آلاف نسمةٍ فسَيَّرَهم إلى أهليهم، ثمَّ أمر بهدم أسوارِها ورَدْم خنادِقِها وأنهارِها، وأقام بها سبعةَ عشر يومًا، بعث في آثارِ مَن انهزم منهم، فكان لا يأتونَ بأحدٍ منهم إلَّا استماله إلى الحقِّ برِفقٍ ولِينٍ وصَفحٍ، فمن أجابه أضافه إلى بعض الأمراءِ - وكان مقصودُه رجوعَهم إلى الدينِ والحَقِّ- ومن لم يُجِبْه قتله أو حبَسَه، ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها وطرَدَهم منها وقتلَ خلقًا كثيرًا من أشرافهم؛ منهم أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري، وكان رئيسًا فيهم مُطاعًا، وغَنِم شيئًا كثيرًا من أموالهم، وكتب الموفَّق إلى صاحب الزنج- قبَّحَه الله- كتابًا يدعوه فيه إلى التوبةِ والرجوع عمَّا ارتكبه من المآثِمِ والمظالمِ والمحارمِ، ودعوى النبوَّةِ والرِّسالة، وخرابِ البُلدانِ واستحلالِ الفُروج الحرام، ونبَذَ له الأمانَ إن هو رجَعَ إلى الحق، فلم يَرُدَّ عليه صاحِبُ الزنج جوابًا، فسار أبو أحمد الموفَّق إلى مدينةِ صاحب الزنج وحصار المختارة، فلمَّا انتهى إليها وجدَها في غاية الإحكام، وقد حَوَّط عليها من آلات الحصار شيئًا كثيرًا، وقد التفَّ على صاحب الزنج نحوٌ من ثلثمائة ألفِ مقاتلٍ بسيفٍ ورُمحٍ ومِقلاعٍ، ومن يكثر سوادهم، فقَدَّم الموفَّق ولدَه أبا العباس بين يديه فتقَدَّم حتى وقف تحت قصرِ الملك فحاصَره محاصرةً شديدةً، وتعجَّبَ الزنج من إقدامِه وجرأتِه، ثم تراكمتِ الزِّنجُ عليه من كلِّ مكان فهزمهم وأثبتَ بهبوذ بن عبدالوهاب أكبَر أمراءِ صاحبِ الزنجِ بالسِّهام والحجارةِ، ثم خامر جماعةٌ من أصحاب أمراءِ صاحِب الزنج إلى الموفَّق فأكَرَمهم وأعطاهم خِلَعًا سَنِيَّة، ثم رَغِبَ إلى ذلك جماعةٌ كثيرون فصاروا إلى الموفَّق، ثم ركب أبو أحمد الموفَّق في يوم النصف من شعبان ونادى في الناسِ كلِّهم بالأمان إلى صاحبِ الزنج، فتحول خلقٌ كثيرٌ من جيش صاحب الزنج إلى الموفَّق، وابتنى الموفَّق مدينةً تجاه مدينة صاحب الزنج سمَّاها الموفَّقيَّة، ليستعينَ بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروبٌ عظيمة، وما زالت الحربُ ناشبةً حتى انسلخت هذه السنةُ وهم محاصِرونَ للخبيثِ صاحِبِ الزنج، وقد تحوَّل منهم خلقٌ كثيرٌ، فصاروا على صاحِبِ الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عددُ من تحول قريبًا مِن خمسين ألفًا من الأمراءِ الخواصِّ والأجناد، والموفَّق وأصحابُه في زيادةٍ وقوَّة ونصرٍ وظفَرٍ.
هو الفقيهُ الشافعي الكبير أحمد بن عمر بن سُريج كان من عُظَماءِ الشَّافعيَّة، وأئمة المسلمين، وكان يقال له: "البازُ الأشهب"، ولي القضاءَ بشيراز، وكان يَفضُل على جميعِ أصحاب الإمام الشافعي، حتى على المُزَني، وإنَّ فِهرست كتُبِه تشتمل على أربعمائة مصنَّف، وقام بنُصرة مذهب الشافعي والرد على المخالفين، وفرَّع على كتُبِ محمد بن الحسن الحنفي. وقد عُدَّ من الفُقَهاءِ الذين أسهموا في نشرِ المذهب الشافعي في أكثرِ الآفاق، وله مؤلَّفاتٌ كثيرة لم يَصِلْ إلينا منها شيءٌ. تفَقَّه على يدِه أئمة أعلام، وحدَّث عنه أبو القاسم الطبراني، وأبو أحمد الغطريفي، وأبو الوليد حسان بن محمد، وآخرون. وكان يُقال له في عصره: "إنَّ الله بعثَ عُمَرَ بنَ عبد العزيز على رأسِ المائة من الهجرة، أظهر كُلَّ سُنَّة وأمات كلَّ بِدعة، ومَنَّ الله تعالى على رأس المائتينِ بالإمام الشافعي حتى أظهر السنَّة وأخفى البدعةَ، ومَنَّ الله تعالى بك على رأسِ الثلاثمائة حتى قَوِيَت كلُّ سُنَّة وضَعُفَت كلُّ بدعةٍ". قال الذهبي: " كان أبو العباس على مذهب السَّلَفِ، يؤمنُ بها ولا يُؤَوِّلها، ويُمِرُّها كما جاءت. وهو صاحب مسألة الدَّور في الحلف بالطلاق" قال الدارقطني: "كان فاضلًا لولا ما أحدَثَ في الإسلامِ مِن مسألةِ الدَّورِ في الطلاق" _ وتعني قولَ الرجل لامرأته: "إن وقعَ عليك طلاقي فأنت طالِقٌ قبله ثلاثًا"- وكان له مع فضائِلِه نظمٌ حَسَنٌ. توفي ببغداد، ودُفِنَ في حجرته بسويقة غالبٍ بالجانب الغربي بالقُرب من محلة الكرخ، وعمره سبع وخمسون سنة وستة أشهُر.
جرى في بلاد سواحِلِ الشام حريقٌ مِن بلاد طرابلس إلى آخِرِ معاملة بيروت إلى جميع كسروان، أحرق الجبالَ كُلَّها ومات الوحوش كلُّها، مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق، ما بقي للوحوشِ مَوضِعٌ يهربون فيها، وبقي الحريقُ عليه أيامًا، وهرب الناس إلى جانب البحر خوفًا من النار، واحترق زيتون كثير، فلما نزل المطرُ أطفأه بإذن الله تعالى، ومن العجب أن ورقة من شجرةٍ وقعت في بيتٍ مِن مدخنته، فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث والثياب وغير ذلك، ومن حلية حرير كثير، وغالب هذه البلاد للدروز والرَّافضة.
بعد أن توقَّف زحفُ الجيش السعودي على اليمن بقيادة الأمير سعود والأمير فيصل، استدعى الملكُ عبد العزيز عبدَ اللهِ ابنَ الوزير إلى الطائِفِ، وأطلَعَه على برقية الإمام يحيى -التي أرسلها بعد انهيار قوات جيشه- ثمَّ أملى الملك عبد العزيز على ابن الوزير ومن حضر من المستشارين السعوديين فقراتٍ أشبَهَ بالمواد التي تُبنى عليها معاهدةٌ للصلح، فتولى المستشارون وابن الوزير صياغتَها، فكانت معاهدة الطائف، ثم جرى توقيعها في جدة -بعد أن اطَّلع الإمامُ يحيى على نصها- في 6 صفر 1353ه - 21/ 5/ 1934م. على أن تكون الحُديدة لليمن، وجازان ونجران وعسير وتوابعها للسعودية، وقد وقَّعه نيابةً عن الملك عبد العزيز ابنُه الأمير خالد بن عبد العزيز، ونيابة عن الإمام يحيى عبدُ الله بن أحمد الوزير، وقد نصت المعاهدة على 23 مادة وملحق فيه خمس مواد، وممَّا ورد في هذه المعاهدة:
1/ تنتهي حالة الحرب القائمة بين البلدين بمجرَّد توقيع المعاهدة، وتنشأ فورًا بينهما حالةُ سلم دائم وصداقة وطيدة، وأُخوَّة إسلامية عربية دائمة.
2/ يعترف كل منهما للآخر باستقلالِ كُلٍّ من المملكتين استقلالًا تامًّا مطلقًا، ويُسقِطُ كلٌّ منهما أيَّ حَقٍّ يدعيه في قسم أو أقسام من بلاد آخر خارج الحدود القطعية المبينة في صلب هذه المعاهدة.
3/ خطُّ الحدود الذي يفصل بين بلاد كلٍّ مِن الفريقين المتعاقدين موضَّحٌ بالتفصيل الكافي كما هو في نص المعاهدة، ويعتبر هذا الخط حدًّا فاصلا قطعيًّا بين البلاد التي تخضع لكل منهما.
4/ نظرًا لرغبة الفريقين في دوام السلم والطمأنينة يتعهدان تعهدًا متقابلًا بعدم إحداث أي بناء لحصون في مسافة خمسة كيلومترات في كل جانب من جانبي الحدود في كل المواقع والجهات على طول خط الحدود.
5/ يتعهَّدُ كل من الفريقين بأن يسحب جندَه فورًا عن البلاد التي أصبحت بموجِبِ هذه المعاهدة تابعة للفريق الآخر، مع صون الأهلين والجند عن كل ضرر.
6/ يتعهد كل من الفريقين بأن يمنع كُلٌّ منهما أهاليَ مملكته عن كلِّ ضَررٍ وعدوان على أهالي المملكة الأخرى في كل جهةٍ وطريق، وبأن يمنعَ الغزوَ بين أهل البوادي من الطرفين، ويَرُدَّ كلَّ ما ثبت أخذه بالتحقيق الشرعي من بعد إبرام هذه المعاهدة، وضمان ما تَلَف وبما يلزم بالشَّرعِ فيما وقعَ من جناية قَتلٍ أو جرحٍ، بالعقوبة الحاسمة على من ثبت منهم العدوان.
7/ يتعهد كل من الفريقين تعهدًا متقابلًا بأن يمتنعا عن الرجوع للقوة لحلِّ المشكلات بينهما، وبأن يعملا جهدَهما لحلِّ ما يمكنُ أن ينشأ بينهما من الاختلاف، سواء كانت سببه ومنشؤه هذه المعاهدة، أو تفسير كل أو بعض موادها، أم كان ناشئًا عن أي سبب آخر بالمراجعات الودِّية.
خرج الخليفةُ الراضي وأميرُ الأمراءِ محمَّدِ بن رائق من بغداد قاصدينِ واسِطَ؛ لقتال أبي عبد الله البريدي نائبِ الأهواز، الذي قد تجبَّرَ بها ومنع الخَراج، فلما سار ابنُ رائق إلى واسِط خرجَ الحجريَّةُ فقاتلوه فسَلَّطَ عليهم بجكم فطحَنَهم، ورجع فَلُّهم إلى بغدادَ فتلقَّاهم لؤلؤ أميرُ الشرطة فاحتاط على أكثَرِهم ونُهِبَت دورهم، ولم يبقَ لهم رأسٌ يَرتَفِع، وقُطِعَت أرزاقهم من بيت المال بالكليَّة، وبعث الخليفةُ وابنُ رائق إلى أبي عبد الله البريدي يتهدَّدانه فأجاب إلى حَملِ كُلِّ سَنةٍ ثلاثمائة ألف وستين ألف دينار يقوم بها، تحمَلُ كُلَّ سَنةٍ على حدته، وأنه يجهِّزُ جيشًا إلى قتال عضُدِ الدولة بن بويه، فلما رجع الخليفةُ إلى بغداد لم يَحمِلْ شيئًا ولم يبعَثْ أحدًا، ثم بعث ابنُ رائق بجكم وبدرًا الحسيني لقتال البريدي، فجَرَت بينهم حروب وخطوب، ثم لجأ البريدي إلى عمادِ الدولة واستجار به، واستحوذ بجكم على بلادِ الأهواز، وجعل إليه ابنُ رائق خراجَها، وكان بجكم هذا شجاعًا فاتكًا، وفي ربيع الأول خلع الخليفةُ على بجكم وعقَدَ له الإمارةَ ببغداد، وولَّاه نيابة المشرق إلى خُراسان.
هو أميرُ المُسلِمينَ تاشفينُ بنُ علي بن يوسف بن تاشفين صاحِبُ المَغرِب، وكانت وِلايتُه تزيد على أربعِ سِنينَ، تولَّى تاشفين غَزْوَ الأسبان أيامَ أبيه فافتتَحَ عِدَّةَ حُصونٍ، ولَمَّا توفِّيَ أبوه بويعَ له بالعَهدِ، وكان عبدُ المؤمن أميرُ الموحِّدينَ قد توغَّلَ بالمغرب فقاتَلَه تاشفين فكانت أيَّامُه حروبًا كُلُّها هزائِمُ وكان مَوتُه في إحدى المعارك، حيث كان فارًّا بفَرَسِه الذي كبا به فخَرَّ على وَجْهِه مَيتًا، وقيلَ إنَّ تاشفين قَصَدَ حِصنًا هناك على رابيةٍ، وله فيه بُستانٌ كبيرٌ فيه مِن كُلِّ الثِّمارِ، فاتَّفَق أنَّ عُمَرَ الهنتاتي، مُقَدَّم عَسكَرِ عبدِ المؤمن، سَيَّرَ سَريَّةً إلى الحِصنِ، يُعلِمُهم بضَعفِ مَن فيه، ولم يَعلَموا أنَّ تاشفين فيه، فألقَوا النَّارَ في بابه فاحتَرَق، فأراد تاشفين الهَرَب، فرَكِبَ فَرَسَه، فوَثَب الفَرَسُ من داخِلِ الحِصنِ إلى خارِجِ السور، فسَقَطَ في النار، فأُخِذَ تاشفين، وأرادوا حمَلْهَ إلى عبدِ المؤمن، فمات في الحالِ لأنَّ رَقَبَتَه كانت قد اندَقَّت، فصُلِبَ، وقُتِلَ كُلُّ مَن مَعه، وتفَرَّقَ عَسكَرُه ولم يَعُدْ لهم جماعةٌ، وكانت مُدَّةُ ولايتِه سنتين وشهرين وخَلَفه أخوه إسحاقُ بنُ عليٍّ، وكان صَبِيًّا, فضَعُفَ أمرُ المُلَثَّمينَ، وقَوِيَ عبدُ المؤمن.
ثار أهلُ عكَّا بتجَّار المسلمين وقتلوهم، فغَضِبَ السلطان قلاوون وكتب إلى البلاد الشاميَّة بعَمَلِ مجانيق وتجهيزِ زردخاناة- خزنة الأسلحة- لحصارِ عكا، وذلك أنَّ الظاهِرَ بيبرس كان قد هادَنَهم، فصاروا يحمِلونَ إليه هديَّتَهم في كلِّ سَنةٍ واستمَرُّوا في حَملِها إلى الملك المنصور قلاوون، إلَّا أنهم كثُرَ طَمَعُهم وفسادُهم وقَطعُهم الطريقَ على التجار، فأخرج لهم السلطانُ قلاوون الأميرَ شمس الدين سنقر المساح على عسكر، ونزلوا اللجونَ على العادة في كلِّ سنة، فإذا بفرسانٍ مِن الفرنج بعكا قد خرَجَت فحاربوهم، واستمَرَّت الحربُ بينهم وبين أهل عكا مُدَّة أيام، وكُتِبَ إلى السلطان بذلك، فأخذ في الاستعدادِ لحَربِهم، فشرع الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر في عمل ذلك، وقرَّرَ على ضياع المرج وغوطة دمشق مالًا على كلِّ رجلٍ ما بين ألفي درهمٍ إلى خمسمائة درهم، وجبى أيضًا من ضِياعِ بعلبك والبقاع، وسار إلى وادٍ بين جبال عكا وبعلبك لقطع أخشابِ المجانيق، فسقط عليه ثلجٌ عظيمٌ كاد أن يُهلِكَه، فركب وساق وتَرَك أثقالَه وخيامه لينجوَ بنفسه، فطَمَّها الثلجُ تحته إلى زَمَنِ الصيف، فتَلِفَ أكثَرُها.
استبدَّ شيخ مجيب الرحمن بالحكمِ وحلَّ التنظيماتِ السياسيةَ كلَّها سوى حزبه الحاكمِ حزب رابطة عوامي، وبدأ الفسادُ الإداريُّ والفقر ينتشران، وبقِيَت بنغلادش تحت الوصاية الهنديةِ، فخاف الرئيسُ من العسكريِّين فنظم جيشًا سريًّا هو واكي باهيتي لحمايتِه الشخصيَّة. لكن العسكر قاموا بانقلابٍ ضد مجيبِ الرحمن في 28 رجب / 15 أغسطس، فأطاحوا به وبنائبِه ورئيس وزرائه والنظام القائمِ كله، وقُتِل مجيب الرحمنِ، ثم نُصِّب وزير التجارة السابق خاندكار مشتاق أحمد رئيسًا للدولة، وكان ضد الشيوعية، وهو الذي غيَّرَ اسم الدولة الرسمي من بنغلادش إلى جمهورية بنغلادش الإسلامية.
لمَّا جمَع الله لمُعاويةَ بن أبي سُفيانَ الشَّامَ كلَّها فصار أميرَ الشَّامِ كان يَغزو الرُّومَ كلَّ عامٍ في الصَّيْفِ -وتُسَمَّى الصَّائِفَةَ- فيَفتَح الله على يَديهِ البِلادَ ويَغنَم الكثيرَ حتَّى وصَل عَمُّورِيَة -وهي اليوم في أنقرة- وكان معه مِن الصَّحابةِ عُبادةُ بن الصَّامِتِ، وأبو أيُّوبَ الأنصاريُّ، وأبو ذَرٍّ الغِفاريُّ، وشَدَّادُ بن أَوْسٍ، وغيرُهم وقد فتَح الله لهم مِن البِلادِ الكثيرَ, ثمَّ غَزا مُعاويةُ الرُّومَ حتَّى بلَغ المَضِيقَ مَضِيقَ القُسطنطينيَّة ومعه زوجتُه عاتِكةُ، ويُقالُ: فاطمةُ بنتُ قَرَظَةَ بن عبدِ عَمرِو بن نَوفلِ بن عبدِ مَنافٍ.
أمر المتوكِّلُ أهلَ الذِّمَّة بلُبسِ الطَّيالِسة العسليَّة، وشَدِّ الزنانيرِ، ورُكوبِ السُّروجِ بالركب الخشَب، وعَمَل كُرَتَين في مؤخَّرِ السروج، وعمَل رُقعَتَين على لباسِ مَماليكِهم مُخالِفَتينِ لِلَونِ الثوب، كلُّ واحدةٍ منهما قَدْرُ أربعة أصابِعَ، ولونُ كلِّ واحدةٍ منهما غيرُ لون الأخرى، ومن خرجَ مِن نسائهم تلبس إزارًا عسليًّا، ومنعهم من لباسِ المناطِقِ، وأمَرَ بهَدمِ بِيَعِهم المُحدَثة، وبأخْذِ العُشرِ مِن منازِلِهم، وأن يُجعَلَ على أبوابِ دُورِهم صُوَرُ شَياطينَ مِن خشَبٍ، ونهى أن يُستعانَ بهم في أعمالِ السُّلطانِ، ولا يُعَلِّمَهم مسلِمٌ، وأن يُظهِروا في شَعانينِهم صَليبًا، وأن يستعملوه في الطريقِ، وأمر بتسويةِ قبورِهم مع الأرضِ، وكتب في ذلك إلى الآفاقِ.
أقدمت القواتُ الاستعمارية بقيادة الجنرال بليسي السفَّاح على جريمة خطيرة ظلَّت طيَّ الكتمان، وهي محارِقُ في كلٍّ مِن النقمارية وأولاد رباح، وحسَبما تداول عن هذه المعارك أن القواتِ الاستعمارية كانت وراءَ كُلِّ أنواع التعذيب التي حدثت في المنطقة، ومنها ثلاثُ محارق في النقمارية وأولاد رباح، حيث تم حشدُ مئات المواطنين في شهر أوت من سنة 1845م داخِلَ مغارات وكهوف تحت الأرض وبعد الغَلقِ عليهم بالإسمنت المسلَّح، تم إبادة أكثر من 1000 مواطن (رجال ونساء وشيوخ وأطفال) عن طريق المحارِقِ! وكل هذه الإبادة الجماعية هي ردُّ فعل على انطلاق مقاومةٍ شعبية من طرَفِ السكان الذين لم يتقَبَّلوا وجود قوات الاستعمار بمنطقتِهم.