ظهرت فكرة محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر الميلادي مع تزايد غطرسة الكنيسة الكاثوليكية واجتهادها في مراقبة ضمائر الناس في الدول التي كانت تحت سيطرتها، فكان بابا روما يكلف بعض الأساقفة بتعقب من كانت أفكاره مخالفة لتعاليم الكنيسة وطبق هذا النظام في البداية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا حيث كان يتجول مندوبو البابا في أنحاء البلاد لتقصي أخبار الناس واتهام كل مخالف بالكفر ثم القبض عليه ومعاقبته, وكانت تُعقَد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت بمثابة محاكم التفتيش المبدئية. ثم تحل المحكمة بعد مطاردة المتهمين والقضاء عليهم. وهكذا عذبت الكنيسة الكاثوليكية أجيالًا كاملة من المفكرين والعلماء في أنحاء أوربا بكل قساوة وبطرق إجرامية لا تمتُّ للإنسانية بصلة. كان الملك فرديناند ملك أراغوان والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة وقتذاك معنيين بالمتنصِّرين في الأندلس بصفة خاصة، آملين أن يأتي وقت يصبح فيه جميع سكان الأندلس من المسلمين مسيحيين مخلصين، وأجرت إيزابيلا مدرسة لأصول الدين لتعليمهم، ومع ذلك فقد احتفظ كثير منهم بعقيدته السالفة سرًّا ولقنوها أبناءهم. وسكنت كراهية الكاثوليك لليهود غير المعمَّدين إلى حين، بينما اشتد الحنق على "المسيحيين الجدد" ونشبت الفتن ضدهم في طليطلة (1467م) وبلد الوليد (1470م) وقرطبة (1472م) وسيجوفيا (1474م) وأصبحت المسألة الدينية عنصرية، ودبر الملك والملكة الوسائل التي تحول هذا المزيج المضطرب في الشعوب واللغات والمذاهب المتصارعة إلى وحدة منسجمة وسلام اجتماعي. ورأيَا أن خير وسيلة لبلوغ هذه الأهداف هي تأسيس محاكم التفتيش في إسبانيا. خاصة أن إيزابيلا التي عاشت في جو علماء الدين كانت تتبنى آراء دينية متشددة تجاه المخالفين للكاثوليكية من النصارى واليهود فضلًا عن المسلمين. ولعل فرديناند، الذي كان رجلًا صلبًا من رجال الدنيا قد ارتاب في بعض إجراءات هذه المحاكم، ولكن يبدو أنه اقتنع بأن توحيد العقيدة الدينية يجعل إسبانيا أيسر حكمًا، وأقدر في التغلب على أعدائها. ولقد أصدر البابا سكستوس الرابع، بناء على رغبة فردينان وإيزابيلا، قرارًا في هذه السنة 883 (أول نوفمبر 1478م) يفوض لهما أن يعينا ستة قسس، من ملة الإجازات العليا في علوم الدين والشريعة، ليؤلفوا هيئة محكمة التفتيش؛ ليحققوا تهم الهرطقة ويعاقبوا عليها. ووضعت الهيئة برُمَّتها بعد سنة 889 (1483م) تحت إمرة وكالة حكومية، ولم تمسَّ محاكم التفتيش في أول أمرها اليهود الذين لم يتنصروا، وإنما وجهت أهوالها إلى المتنصرين الذين يشكُّ أنهم ارتدوا إلى اليهودية أو إلى الإسلام، وإلى المسيحيين المتهمين بالهرطقة، وكان اليهودي غير المتنصر إلى سنة 900 (1492م) آمنًا على نفسه أكثر من المعمَّد، وطالب القس والرهبان والمتعبدون الإعفاء من التفتيش، ولكن مطالبهم رُفضت، وقاوم اليسوعيون تشريعَها نصف قرن، ولكنهم غُلبوا على أمرهم أيضًا, وكانت محاكم التفتيش تطالب بتعاون من جميع الموظفين المدنيين، وشرعت القوانين والإجراءات الخاصة بها. وكانت قبل أن تقيم قضاتها في مدينة من المدن تذيع في الشعب عن طريق منابر الكنائس منشورًا دينيًّا "يطالب كل من له علم بهرطقة أن يكشف عنها لرجال التفتيش, وشجع كل امرئ على أن يكون شاهدًا، ليبلغ عن جيرانه وأصدقائه وأقاربه، وكان البابا ستيكوس الرابع أصدر الموافقة على طلب الملكة إيزابيلا ملكة مملكة قشتالة بإنشاء محاكم تفتيش لتزيد من سلطانها باسم الدين النصراني, كما أصدر الملك أنريكي الرابع، ملك قشتالة، سنة 863 (1459م) أمرًا ملكيًّا للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المارقين المضمرين لأفكار مخالفة للكثلكة. وهكذا ابتدأ الاضطهاد الكنسي ضد اليهود المتنصرين فأحرق منهم الجمَّ الغفير قبل سقوط غرناطة. ولم تشمل هذه المحاكم آنذاك المسلمين أو المدجنين- المداهنين- بعدُ، بل أرسل سكتوس الرابع- بابا روما- مرسولًا كلفه بالتحقيق والقبض على الخارجين على الكنيسة ومعاقبتهم. فخاف الملكان فراندو وإيزابيلا أول الأمر على سلطتِهما ووقفا ضد هذه المحاولة البابوية، فأوقفا القساوسة من متابعة النصارى من أصل يهودي. لكن مقاومة الملكين الكاثوليكيين لم تدم طويلًا؛ إذ أرسلا سفيرهما إلى البابا سنة 1478 م في هذا الأمر. فأصدر البابا مرسومًا في شهر نوفمبر من سنة 1478 م بإنشاء محكمة التفتيش في قشتالة وتعيين المفتشين لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين, وندب مفتشين إلى إشبيلية، عاصمة قشتالة آنذاك. وهكذا ابتدأت محاكم التفتيش عملها الجهنمي ضد المسلمين في إسبانيا. فكانت إجراءات هذه المحاكم تتم باسم الديانة الكاثوليكية وتقضي على المناوئين لها ولسياستها ومصادرة ممتلكاتهم، والأمر بتعذيبهم وإحراقهم، ثم انتقلت هذه المحاكم إلى غرناطة بعد سقوطها بيد الإسبان سنة 897 (1489م).
اتَّفَق في هذه السنة أمورٌ عجيبة، وذلك أنَّه وقع الخُلفُ بين الممالك كلِّها؛ اختلفت التتارُ فيما بينهم واقتتلوا فقُتِلَ منهم خلق كثير، واختلفت الفرنجُ في السواحِلِ وصال بعضهم على بعض وقتل بعضُهم بعضًا، وكذلك الفرنجُ الذين في داخل البحور وجزائرها، فاختلفوا واقتتلوا، وقَتَلت قبائلُ الأعراب بعضُها في بعض قتالًا شديدًا، وكذلك وقع الخلف بين العشير من الحوارنة وقامت الحرب بينهم على ساق، وكذلك وقع الخلفُ بين الأمراء الظاهرية بسبب أن السلطان الملك السعيد بن الظاهر لَمَّا بعث الجيش إلى سيس أقام بعده بدمشقَ وأخذ في اللَّهوِ واللعب والانبساط مع الخاصكية، وتمكَّنوا من الأمور، وبعد عنه الأمراء الكِبار، فغضبت طائفةٌ منهم ونابذوه وفارَقوه.
هو أبو بَكْرِ بن عبدِ الرَّحمن بن الحارِث بن هِشام أَحَد الفُقَهاء السَّبعَة بالمَدينَة، كان ثِقَةً، فَقِيهًا، عالِمًا سَخِيًّا، كَثيرَ الحَديثِ، حَدَّث عن عَدَدٍ مِن الصَّحابَة كأَبيهِ، وعائِشَةَ، وأبي هُريرَةَ، وعَمَّارِ بن ياسِر، وغَيرِهم، جَمَعَ العِلْمَ والعَمَل والشَّرَف، وكان ممَّن خَلَفَ أَباهُ في الجَلالَة، كان يُقالُ له: رَاهِب قُريشٍ. لِكَثْرَةِ صَلاتِه، وكان مَكْفوفًا كَثيرَ الصَّوْم، تُوفِّي في المَدينَة.
هو عُروَة بن الزُّبير بن العَوَّام، أَحَد الفُقَهاء السَّبعَة في المَدينَة، كان عالِمًا كَريمًا، رَوَى الحَديثَ عن كَثيرٍ مِن الصَّحابَة، تَفَقَّه على خالَتِه عائِشَة رَضِيَ الله عنها، انْتَقَل إلى البَصْرَة ثمَّ إلى مِصْرَ ثمَّ عاد إلى المَدينَة وتُوفِّي فيها، وهو الذي أُصِيبَت رِجْلُهُ بِمَرَضِ الآكال (الغرغرينا) فنُشِرَت وقُطِعَت وهو يَقرأُ القُرآن، وتُوفِّي له بِنَفْسِ اليَومِ أَحَبُ أوَّلادِه، فما تَسَخَّطَ ولا تَضَجَّرَ رَحِمَه الله تعالى.
أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر، وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين، وتواعدوا يومًا واحدًا تكون الغارة على البلدين فيه، ففعلوا ما استقرَّ بينهم، وأغاروا، واستاقوا المواشيَ، وأسَروا من وقع بأيديهم من المسلمين، فكانت قلعة جعبر والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب، سلَّمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين وأربعمائة.
قَدِمَ البريدُ بنُزولِ عِدَّةِ مراكب للإفرنج على طرابلس، فعندما أشرفوا على الميناءِ بَعَث الله عليهم ريحًا أغرَقَت مركبًا، وفَرَّقَت البقية، وكانت نحو السبعين، فرُدُّوا خائبين، قَدِم الخبَرُ من الإسكندرية بأنَّ الفرنج الذين مَزَّقَت الريحُ مراكِبَهم على طرابلس ساروا إلى إفريقيَّة وحاصروا المهدية، وبها وَلَدُ أبي العباس صاحِبُ تونس، فكانت حروبًا شديدةً، انتصر فيها المسلمونَ على الفرنج، وقَتَلوا كثيرًا منهم.
كلف ملك البرتغال مانويل الأول فاسكو دي جاما القيامَ برحلة للبحث عن طريق آخر يوصل بالهند دون المرور على بلاد المسلمين، فقام فاسكو بالسير جنوبًا بمحاذاة السواحل الغربية ووصل إلى رأس الزوابع في جنوب أفريقيا وسماها رأس الرجاء الصالح، ثم استدار شمالًا إلى السواحل الشرقية فوصل إلى موزمبيق وماليندي، وكانوا قد التقوا بسفن عربية أدهشتهم صناعتها، وكذلك أدوات الملاحة التي مع بحاريها من بوصلة وخرائط والمزاول، فأراد الاستفادة منهم للوصول إلى الهند، وكان من أبرز نتائجِ هذا الاكتشاف إضعافُ المسلمين اقتصاديًّا بانقطاع مرور التجارة ببلادهم بين الشرق والغرب؛ مما أدى إلى تدهورِ اقتصاد الدولة المملوكية، وكان أحدَ أسباب سقوطِها. أما ما أُشيع من أن ابن ماجد أرشد قائد الأسطول البرتغالي فاسكو دي غاما إلى طريق الهند، فهو باطل؛ قال أحمد علاونة: "هو قول باطل مدارُه على النهروالي في كتابه (البرق اليماني في الفتح العثماني)، وقد ذكر هذه الأسطورةَ بعد ثمانين سنة من حدوثها، ولم يذكر أيُّ مؤرخ بعد النهروالي هذه الأسطورةَ، ثم جاء المستشرق فران عام 1922 ونفخ فيها من روحه، وتابعه عليها كثيرون، منهم الزِّرِكْلي". وقد أورد العلاونة بعضَ الأدلةِ على بطلان إرشاد ابن ماجد لدي غاما، منها: أ / أن ابن ماجد أرشد دي غاما وهو سكران، وهذا غير معقول أن يطمَئِنَّ قائدٌ عسكري لفاقد الوعي ليدُلَّه على طريق محفوف بالمخاطر. ب/ لم تكن لابن ماجد خبرة في الساحل الأفريقي. ج/ لم يَرِدْ ذكرُ هذه الحادثة في أيٍّ من أعمال ابن ماجد النثرية والشعرية. د/ كان ابن ماجد يَعرِفُ حقَّ المعرفة نوايا البرتغاليين وما يضمرونه من شر للمسلمين. هـ/ لا يوجد مؤرخ برتغالي ممن عاصروا دي غاما وعُنُوا بتاريخ رحلاته، أو ممن جاؤوا على أثارهم ذكروا أحمد بن ماجد. و/ عاصر وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي عددٌ من المؤرخين العرب، ومنهم من عاصر ابن ماجد، ولم يذكر أيٌّ منهم صلةَ ابن ماجد بالبرتغاليين.ا.
كان من جملة أمراء خوارزم شاه تكش والد خوارزم شاه محمد, أميرٌ اسمُه أبو بكر، ولقَبُه تاج الدين، وكان في ابتداءِ أمرِه جمَّالًا يكري الجمالَ في الأسفار، ثم جاءته السعادة، فاتصل بخوارزم شاه، وصار سيروانَ جمالِه، فرأى منه جلدًا وأمانةً، فقَدَّمَه إلى أن صار من أعيانِ أمراءِ عَسكَرِه، فولَّاه مدينة زوزن، وكان عاقلًا ذا رأي وحزمٍ وشجاعة، فتقَدَّم عند خوارزم شاه تقدمًا كثيرًا، فوَثِقَ به أكثَرَ مِن جميع أمراء دولتِه، فقال أبو بكر لخوارزم شاه: إنَّ بلاد كرمان مجاورةٌ لبلدي، فلو أضاف السلطانُ إليَّ عسكرًا لملكتُها في أسرع وقت، فسيَّرَ معه عسكرًا كثيرًا فمضى إلى كرمان، وصاحبها اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل الذي كان صاحِبَ سجستان أيَّامَ السلطان سنجر، فقاتَلَه، فلم يكُنْ له به قوة، وضَعُفَ، فملك أبو بكر بلادَه في أسرع وقت، وسار منها إلى نواحي مكرانَ فملكها كلها إلى السند، من حدودِ كابل، وسار إلى هرمز، مدينةٍ على ساحلِ بحر مكران، فأطاعه صاحبُها، واسمه ملنك، وخطَبَ بها لخوارزم شاه، وحملَ عنها مالًا، وخطبَ له بقلهات، وبعض عمان؛ لأن أصحابها كانوا يطيعون صاحِبَ هرمز. وقيل إنَّ ملك خوارزم شاه لكرمان ومكران والسند كان في السنةِ التي قبلها أو بعدها بقليلٍ.
بعد أن جاءت الأخبارُ بتحَرُّك المغول إلى الشام وبَعْثهم الرسائِلَ التهديديَّة للأمراء عقَدَ الأمير سيف الدين قطز في مصر اجتماعًا حضره الفُقَهاءُ وعلى رأسِهم العِزُّ بن عبد السلام بأخذ أموالٍ مِن العامَّة لتجهيز الجيوشِ, ثم قبض قطز على الملك نور الدين عليِّ بن المعز أيبك الملقَّب بالمنصور صاحب مصر، وذلك في غيبةِ أكثر الأمراءِ مِن مماليك أبيه وغيرِهم في الصيد، فلمَّا قبض على المنصور بَعَث به وبأخيه وأمِّه إلى دمياط، واعتَقَلَهم في برج عَمَرَه وسماه برجَ السلسلة، ثم سيَّرَهم إلى بلاد الأشكري وقبض على بعضِ الأمراء واعتقَلَهم وتسلطَنَ هو وسمَّى نفسَه بالملك المظفَّر، واعتذر إلى الفُقَهاءِ والقُضاة وإلى ابن العديم الرَّسول الذي جاء من الشامِ لمساعدتهم ضِدَّ المغول، فإنه قال: لا بدَّ للناسِ مِن سلطانٍ قاهرٍ يقاتِلُ عن المسلمين عَدُوَّهم، وهذا صبيٌّ صغير لا يعرفُ تدبير المملكةِ، فكانت مدَّة المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام، وكانت قد كثُرَت مفاسد الملك المنصور علي، واستهتر في اللَّعِب وتحكَّمَت أمُّه فاضطربت الأمور، فجلس المظفَّر سيف الدين قطز على سريرٍ بقلعة الجبل يوم السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة، وهو ثالثُ ملوك المماليك بمصر، وقطز بضم القاف والطاء المهملة وسكون الزاي، وهو لفظٌ مَغولي.
قدم البريدُ مِن حَلَب بعبور قرا سنقر ومن معه من الأمراء إلى بلاد التتار، وأنهم بَعَثوا بأولادهم وحريمهم إلى مصر، فكان مِن خَبَرِهم أنهم لما وصلوا إلى الرحبة انقطع كثيرٌ ممن تَبِعَهم من المماليك والتركمان، فبعث قرا سنقر ولَدَه الأمير فرجًا، وبعث الأفرم ولده موسى مع بعض من يُوثَقُ به، وأُمِرَا بتقبيلِ الأرض بين يَدَيِ السلطان، وأنْ يُبَلِّغاه أنَّ الأمراء ما حملَهم على دخولِ بلاد العدو إلَّا الخوفُ، وأن الأولادَ والحريمَ وداعه، فلْيَفعَلِ السلطان معهم ما يليقُ به، فقَدِما إلى القاهرة، وبَقِيَا في الخدمة، وسار الأمراءُ إلى ماردين، وكتبوا إلى خربندا بقُدومِهم، فبعث أكابِر المغول إلى لقائهم، وتقَدَّم إلى ولاة الأعمال بخِدمتِهم والقيامِ لهم بما يليق بهم، فلما قاربوا الأرد وركب خربندا وتلقاهم، وترجَّل لهم لَمَّا ترجلوا له، وبالغ في إكرامِهم وسار بهم إلى مخيَّمِه، وأجلسهم معه على التخت، وضَرَبَ لكُلٍّ منهم خركاه- خيمة- ورَتَّب لهم الرواتب السَّنيَّة، ثم استدعاهم بعد يومين، واختلا بقرا سنقر، فحَسَّنَ له عبورَ الشَّام، وضَمِنَ له تسليمَ البلاد بغير قتال، ثم خلا بالأفرم فحَسَّنَ له أيضًا أخْذَ الشام، إلَّا أنَّه خَيَّلَه من قوة السلطان وكثرةِ عساكره، فأقطع خربندا مراغة لقرا سنقر، وأقطع همذان للأفرم، واستمَرُّوا هكذا.
أَسرَّ السلطانُ والأمراء مدَبِّرو الدولة إلى أمير الحاجِّ ومَن بصحبته من الأمراء أن يقبضوا على الشَّريفِ ثُقبة، ويقَرِّروا الشريفَ عَجلان بمُفردِه على إمارة مكَّة، فلمَّا قَدِمَ الحاج بطن مر، ومضى عجلانُ إلى لقائهم، شكا إلى الأمراءِ من أخيه ثقبة، وذكر ما فعلَه معه، وبكى، فطَمَّنوا قَلْبَه، وساروا به معهم حتى لَقِيَهم ثقبة في قوَّاده وعبيده، فألبسوه خِلعةً على العادة، ومَضَوا حافِّينَ به نحو مكَّةَ، وهم يحادثونَه في الصلح مع أخيه عجلان، ويحَسِّنونَ له ذلك، وهو يأبى موافقَتَهم حتى أيِسُوا منه، فمَدَّ الأمير كشلى يده إلى سَيفِه فقَبَض عليه، وأشار إلى من معه فألقَوه عن فرَسِه، وأخذوه ومعه ابنٌ لعُطَيفة، وآخَرُ من بني حسن، وكبَّلوهم بالحديد، ففَرَّ القوَّادُ والعبيد، وأُحضِرَ عَجلانُ، وأُلبِسَ التشريف، وعبروا به إلى مكة، فلم يختلف عليهم اثنانِ، وسُلِّمَ ثُقبةُ للأمير أحمد بن آل ملك، فسُرَّ الناس بذلك، وكَثُرَ جَلبُ الغلال وغيرها، فانحَلَّ السِّعرُ وقُبِضَ على إمام الزيدية أبي القاسم محمد بن أحمد اليمني، وكان يصَلِّي في الحرم بطائفَتِه ويتجاهَرُ، ونَصَب له منبرًا في الحَرَمِ يخطُبُ عليه يوم العيد وغيره، بمَذهبِه، فضُرِبَ بالمقارع ضربًا مبَرِّحًا ليرجِعَ عن مذهبه، فلم يرجِعْ وسُجِنَ، ففَرَّ إلى وادي نخلة، فلما انقضى موسِمُ الحاجِّ حُمِل الشريف ثقبة مُقَيَّدًا إلى مصرَ.
بعد فَتحِ العُثمانيين أدرنةَ وغيرَها من المدن الأوروبية، خاف الأمراءُ الأوربيون فكتبوا إلى ملوك أوروبا الغربيَّة وإلى البابا يستنجدون بهم ضِدَّهم، حتى إمبراطور القسطنطينية ذهب إلى بابا الفاتيكان في روما وركع أمامَه وقَبَّل يديه ورجليه ورجاه الدعمَ رَغْمَ الخلاف المذهبي بينهما، فلبَّى البابا النداء وكُتِبَ إلى ملوك أوروبا عامة يُطلَبُ منهم الاستعدادُ للقيام بحرب صليبية جديدة حفاظًا على النصرانيَّة من التقَدُّم الإسلامي الجديد، ولكِنَّ ملك الصرب أورك الخامس الذي خلف اصطفان دوشان لم يتوقَّعْ هذا الدعم السريع من البابا وملوك أوروبا؛ لذا استنهض همَّة الأمراء المجاورين له والذين أصبحوا على مقربةٍ مِن الخطر على حَدِّ زَعمِهم، فلبى دعوتَه أمراءُ البوسنة والأفلاق جنوبي رومانيا وأعداد من الجند المرتزقة، مستغلِّينَ انشغال مراد الأول ببعض حُروبِه في آسيا الصغرى، غيرَ أن الجيش العثماني قد أسرع للقاء أعدائِه فاصطدم بهم على نهرِ مارتيزا غربيَّ بلغاريا فهزمهم هزيمةً مُنكَرةً ولَّوا فيها الأدبارَ لا يَلوُون على شيءٍ! واضطرت إمارةُ نصرانية صغيرة على بحر الإدرياتيك على ساحل يوغوسلافيا اليوم وهي إمارة راجوزه أن ترسِلَ وفدًا إلى السلطان وتعقِدَ معه صلحًا تدفع الإمارةُ بموجبه للدولة العثمانيَّة خمسمائة دوكا ذهبيَّة كجِزيةٍ سَنَوية.
هو زين الدين أبو البركات محمد بن أحمد بن إياس المصري الحنفي، شركسي الأصل، وُلِد في القاهرة سنة 852 وكان جده ووالده من أمراء المماليك، ومع ذلك لم يتصِلْ بالبلاط المملوكي، بل انصرف للتأليف، وهو من تلاميذِ جلال الدين السيوطي، كتب تاريخًا لمصر وصل فيه إلى سنة 928، اشتهر بحياده في التأليف، وبتحرِّيه الدقةَ فيما يكتب، وفيما يصدر من أحكامٍ على معاصريه من السلاطين والأمراء, وكان يقِفُ عند كل حادثة بالشرح والتعقيب، مع شيء من القوة في الحكم والجرأة في التقدير، كما كان له اهتمام بالجغرافيا، فله كتاب نشق الأزهار في عجائب الأقطار، وله في التاريخ عقود الجمان في وقائع الأزمان، وله نزهة الأمم في العجائب والحِكَم، وله بدائع الزهور في وقائع الدهور.
سار يوسُفُ بن عبد المؤمن إلى إفريقيَّةَ، وملك قفصة، وكان سبب ذلك أنَّ صاحِبَها علي بن عبد المعز بن المعتز لَمَّا رأى دخولَ الترك إلى إفريقيَّة واستيلاءهم على بعضها، وانقياد العرب إليهم؛ طَمِعَ أيضًا في الاستبدادِ والانفراد عن يوسف وكان في طاعته، فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العِصيان، ووافقه أهلُ قفصة، فقتلوا كلَّ من كان عندهم مِن الموحِّدين أصحابه، وكان ذلك في شوال سنة 572، فأرسل والي بجاية إلى يوسفَ بن عبد المؤمن يخبِرُه باضطراب أمور البلاد، واجتماعِ كثيرٍ من العرب إلى بهاء الدين قراقوش القائد الأيوبي الذي دخل إلى إفريقيَّة, فشرع يوسف بن عبد المؤمن في سدِّ الثغور التي يخافُها بعد مسيره، فلما فرغ من جميع ذلك جهَّز العسكر وسار نحو إفريقيَّة سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحَصَرها ثلاثة أشهر وهي بلدة حصينة، وأهلها أنجاد، وقطَعَ شَجَرَها، فلما اشتد الأمرُ على صاحبها وأهلها خرج منها مستخفيًا وطلب عفوَ أمير المؤمنين واعتذر، فَرَقَّ له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد، وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسيَّرَ علي بن المعز صاحِبَها إلى بلاد المغرب، فكان فيها مُكرمًا عزيزًا، وأقطعه ولايةً كبيرة؛ ورتَّب يوسف لقفصة طائفةً من أصحابه الموحِّدين.
في يوم الاثنين آخر جمادى الآخرة كانت وقعةُ المماليك الظاهرية الجقمقية مع الملك الأشرف إينال، وسببُ هذه الفتنة ثورةُ المماليك الأجلاب أولًا، وأفعالُهم القبيحة بالناس، ثم عقب ذلك أنَّ السلطان كان عيَّنَ تجريدة إلى البحيرة، نحوًا من خمسمائة مملوك، وعليهم من أمراء الألوف الأمير خشقدم المؤيدي أمير سلاح، والأمير قرقماس رأسُ نوبة النوب، وعِدَّةٌ من أمراء الطبلخانات والعشرات، ورسم لهم السلطانُ بالسفر، ولم يفرِّقْ على المماليك المكتوبة للسفر الجمالَ على العادة، فعَظُم ذلك عليهم، وامتنَعوا إلى أن يأخذوا الجِمالَ، فسافر الأمير خشقدم في صبيحة يوم الاثنين المذكور، وتبعه الأمير قرقماس في عصر نهاره، وأقاما ببر منبابة تجاه بولاق، فلم يتبَعْهم أحد من المماليك المعيَّنة معهم، بل وقف غالبُهم بسوق الخيل تحت القلعة ينتظِرونَ تفرقةَ الجِمال عليهم، إلى أن انفَضَّ الموكب السلطاني ونزلت الأمراءُ إلى جهة بيوتهم، فلما صار الأميرُ يونس الدوادار بوسط الرميلة احتاطت به المماليك الأجلاب، وتحقق الغدرَ، فأمر مماليكه بإشهار سيوفِهم ففعلت ذلك، ودافعت عنه، وجرَحَ من المماليك الأجلاب جماعةً، وقطع أصابِعَ بعضِهم، وشقَّ بطنَ آخر على ما قيل، فعند ذلك انفرجت ليونس فرجةٌ خرج منها فارًّا إلى جهة داره، ونزل بها، ورمى عنه قماش الموكِبِ، ولَبِسَ قماشَ الركوبِ، وطلع من وقتِه إلى القلعةِ من أعلى الكبش، ولم يشق الرميلة، وأعلم السلطانَ بخبَرِه، فقامت لذلك قيامةُ المماليك الأجلاب، وقالوا: نحن ضربناهم بالدبابيس فضربونا بالسيوفِ، وثاروا على أستاذِهم ثورةً واحدةً، وساعدهم جماعةٌ من المماليك القرانيص وغيرِهم لِما في نفوسهم من السلطانِ لعدم تفرقةِ الجِمالِ وغيرها، ووقفوا بسوق الخيل وأفحشوا في الكلامِ في حقِّ السلطان، وهددوه إن لم يسلِّم لهم الأميرَ يونس، ثم ساقوا غارةً إلى بيت يونس الدوادار، فمنعهم مماليكُه من الدخول إلى داره، فجاؤوا بنار ليحرقوا الباب، فمنعوهم من ذلك أيضًا، فعادوا إلى سوق الخيل، فوافَوا المنادي ينادي من قبل السلطانِ بالأمان، فمالوا على المنادي بالدبابيس، فسكت من وقته، وهرب إلى حالِ سبيله، وقد طلعت جميعُ أمراء الألوف إلى السلطانِ، وهو على حالة السكوتِ غير أنه طلب بعضَ مماليكه الأجلاب الأعيان، وكلَّمه بأنَّه يعطي من جُرِحَ من الأجلاب ما يكفيه، وأنه يعطي للذي قُطِعَت أصابعه إقطاعًا ومائة دينار، فلم يقع الصلحُ، وانفضَّ الأمر على غير طائلٍ؛ لشدة حر النهار، ولما تفرقت المماليك نزلت الأمراءُ إلى دورهم ما خلا الأمير يونس الدوادار؛ فإنه بات في القلعة، فلما تضحى النهارُ أرسل إليهم السلطان بأربعة أمراء، وهم: الأمير يونس العلائي أحد مقدَّمي الألوف، وسودون الإينالي المؤيدي قراقاش رأس نوبة ثان، ويلباي الإينالي المؤيدي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة، وبردبك البجمقدار أحد الطبلخانات أيضًا ورأس نوبة، فنزلوا إليهم من القلعة؛ فما كان إلَّا أن وقع بصر المماليك الأجلاب على هؤلاء الأمراء احتاطوا بهم، وأخذوهم بعد كلامٍ كثير، ودخلوا بهم إلى بيتِ الأمير خشقدم أمير سلاح تجاه باب السلسلة، ورسموا عليهم بعضَهم، كلُّ ذلك والمماليك الظاهرية الجقمقية وقوفٌ على بُعدٍ، لا يختلفون بهم، لينظروا ما يصيرُ من أمرهم، فلما وقع ما ذُكِرَ تحققوا خروجَهم على أستاذهم، وثار ما عندهم من الكمائنِ التي كانت كامنةً في صدورهم من الملك الأشرف إينال لِما فَعَل بابن أستاذِهم الملك المنصور عثمان، وحَبْسِ خشداشيَّتِهم- زملائهم- وتقريب أعدائهم الأشرفية مماليك الأشرف برسباي، فانتهزوا الفرصة، وانضافوا إلى المماليك الأجلاب، وعرَّفوهم أن الأمر لا يتم إلا بحضرة الخليفةِ ولبس السلاح، فساق قاني باي المشطوب أحد المماليك الظاهريَّة من وقته إلى بيت الخليفة القائم بأمر الله حمزة، وكان في الخليفةِ خِفَّةٌ وطَيشٌ، فمال إليهم ظنًّا أنه يكون مع هؤلاء وينتَصِرُ أحدُهم ويتسلطنُ، فيستفحلُ أمره ثانيًا أعظَمَ من الأول، ولما حضر الخليفة عندهم، تكامل لُبسُهم السلاح، وانضافت إليهم خلائقُ من المماليك السيفية، وأوباش الأشرفية، وغيرُهم من الجياع الحرافيش، فلما رأت الأجلابُ أمر الظاهرية حسبوا العواقب، وخافوا زوالَ ملك أستاذهم، فتخلَّوا عن الظاهرية قليلًا بقليلٍ، وتوجه كل واحد إلى حالِ سبيله، فقامت الظاهريةُ بالأمر وحدهم، وما عسى يكونُ قيامهم من غير مساعدة، وقد تخلَّى عنهم جماعة من أعيانهم وخافوا عاقبةَ هذه الفتنة، وقد تعبَّأ السلطان لحربهم، ونزل من القلعة إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، وتناوش القومُ بالسهام، وأرادوا المصاففة، فتكاثر عليهم السلطانيةُ، وصدموهم صدمةً واحدة بدَّدوا شملهم، بل كانوا تشتَّتوا قبل الصدمة أيضًا، وهجم السلطانيةُ في الحال إلى بيت الأمير خشقدم أمير سلاح، وأخذوا الأمراءَ المرسَّم عليهم، وأخذوا فيمن أخذوا الخليفةَ معهم، وطلعوا بهم إلى السلطانِ، فلما رأى السلطان الخليفةَ وبَّخه بالكلام الخَشِن، وتفرقت من يوم ذاك أجلابُ السلطان فرقتين: فرقةٌ وهم الذين اشتراهم من كتابية الظاهر جقمق وابنه، وفرقةٌ اشتراهم هو في أيام سلطنته، وقويت الفرقةُ الذين اشتراهم على الفرقةِ الظاهرية، ومنعوهم من الطلوعِ إلى القلعة، والسكنى بالأطباق، ولما انتهت الوقعة أمسك جماعةً من المماليك الظاهرية وحبسهم بالبرج من قلعة الجبل، ونفى بعضَهم واختفى بعضُهم.