يعتبَرُ أول مؤتمر قمة عربي عُقِدَ هو مؤتمر قمة أنشاص هذا العام من 29 إلى 30 يوليو، (وهو مؤتمر قمة غير عادي) عُقِدَت هذه القمَّةُ بدعوة من الملك فاروق في قصرِ أنشاص بالشرقية في مِصرَ، وضَمَّت الدولَ السبع المؤسِّسة للجامعة العربية (22 آذار 1945م)، وهي: مصر، وشرق الأردن، والسعودية، واليمن، والعراق، ولبنان، وسوريا، وطالب المجتَمِعون بالحفاظ على عروبة فلسطين، ووقْف الهجرة اليهودية إليها، ولم يَصدُرْ عن مؤتمر القمة بيانٌ ختامي، وإنما مجموعةٌ من القرارات أهمها: - مساعدة الشعوب العربية المستعمَرة على نيل استقلالها.- قضية فلسطين قلبُ القضايا القومية، باعتبارها قطرًا لا ينفصل عن باقي الأقطار العربية.- ضرورةُ الوقوف أمامَ الصهيونية باعتبارها خطرًا لا يداهمُ فلسطين وحسب، وإنما جميع البلاد العربية والإسلامية.- الدعوةُ إلى وقف الهجرة اليهودية وقفًا تامًّا، ومَنْع تسرب الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين.- اعتبارُ أي سياسة عدوانية موجَّهة ضد فلسطين تأخذُ بها حكومتا أمريكا وبريطانيا هي سياسة عدوانية تجاه كافة دول الجامعة العربية.- الدفاع عن كيان فلسطين في حالة الاعتداء عليه.- مساعدة عرب فلسطين بالمالِ وبكل الوسائل الممكنة.- ضرورة حصول طرابلس الغرب على الاستقلال.- العمل على إنهاض الشعوب العربية وترقية مستواها الثقافي والمادي؛ لتمكنها من مواجهة أي اعتداء صهيوني داهم!!
انضمَّ البكر إلى الأكاديميةِ العسكريةِ العراقية عامَ 1938م، بعدَ أن عمِلَ مُعلِّمًا لمدةِ 6 سنواتٍ، واشترَكَ البكر في بداياتِ حياتِه العسكريةِ في حركةِ رَشيد عالي الكيلاني ضِدَّ النُّفوذ البريطانيِّ في العراق عامَ 1941م، التي باءت بالفشَلِ، فدخَل على إثرِ ذلك السجنَ، وأُجبِرَ على التقاعدِ، ثم أُعيدَ إلى الوظيفةِ عامَ 1957م. وانضمَّ إلى تَنظيمِ الضُّباط الوطنيينَ الذي أطاح بالملَكِية في العراق عامَ 1958م، وأُجبِرَ على التقاعُدِ مرةً أُخرى عامَ 1959م بسببِ ضُلوعه في حركةِ الشوافِ في الموصلِ ضِدَّ عبد الكريم قاسم. كان البكر عضوًا بارزًا في حِزب البعثِ، ونظَّم في 8 فبراير 1963م حركةً مسلَّحة بالتعاونِ مع التيَّارات القوميةِ وعسْكريينَ مُستقلِّين؛ مما أدَّى إلى الإطاحةِ بالحكومةِ العسكريةِ لرئيس الوُزراء عبد الكريم قاسم. أصبَح البكر رئيسًا للوُزراء لمدةِ 10 أشهرٍ بعد حركةِ عام 1963م؛ حيث أطاح عبد السلام عارف بحكومةِ حِزبِ البعثِ في حركةِ 18 تشرين، بعدَ سلسلةٍ مِن الإخفاقات والانشقاقاتِ تعرَّض لها حِزب البَعثِ على خَلفيةِ أعمال العُنفِ التي مارسَتْها مليشيا حِزبُ البَعثِ الحرس القَومي. ثم قام البكرُ بتَنظيمِ حركةِ 17 تموز 1968م، التي أطاحت بالرئيسِ العراقي. ومع تقدُّم البكر في العُمرِ أصبح نائبُه صدَّامُ حسين الرئيسَ الفعليَّ للعراقِ عام 1979م؛ حيث استقال البكرُ في 16 تموز 1979 م مِن رئاسة العراق بحُجَّة ظُروفه الصِّحيةِ.
هو الخليفة الصالحُ أميرُ المؤمنين أبو إسحاق، وقيل أبو عبدالله محمَّد بن هارون الثاني الواثق بالله بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد, وأمُّه أم ولدٍ اسمُها قرب, ولدَ في خلافة جدِّه الواثق سنة 219ه, وبويع بالخلافةِ في رجب سنة 255ه، وما قَبِلَ بيعةَ أحد حتى بايعه المعتز بالله، بعد أن أقرَّ بتنازله عن الخلافة له، وأشهَدَ على نفسِه بعجزه عن تولِّي مهامِّها. كان المهتدي أسمرَ رقيقًا، مليح الوجه، حسَنَ اللِّحية, مِن أحسنِ الخُلَفاء مذهبًا وأجودِهم طريقةً وأكثَرِهم ورَعًا وعبادةً وزَهادةً, وكان عادلًا، قويًّا في أمر الله، شُجاعًا، صوَّامًا قوَّامًا، لم تُعرَف له زلَّةٌ, وكان سهلَ الحِجاب كريمَ الطَّبع يخاطِبُ أصحابَ الحوائجِ بنفسِه ويجلِسُ للمظالم بنفسه, وكان يلبَسُ القميصَ الصُّوفَ الخَشِن تحت ثيابِه على جلدِه, وكان يقول: لو لم يكُن الزهد في الدنيا والإيثارُ لِما عند الله مِن طبعي لتكلَّفتُه وتصنَّعتُه؛ فإنَّ منصبي يقتضيه، فإنِّي خليفةُ الله في أرضِه والقائِمُ مقامَ رَسولِه، النائِبُ عنه في أمته، وكان له سفطٌ فيه جبَّة صوف وكساء كان يلبَسُه بالليل ويصلِّي فيه, وكان قد اطَّرَح الملاهيَ، واعتزل الغِناءَ، ومنع أصحابَ السلطان عن الظُّلم، وكان شديدَ الإشرافِ على أمر الدواوين ومحاسبةِ عُمَّاله. كان يحبُّ الاقتداءَ بما سلكه عمرُ بن عبد العزيز في خلافتِه من الورع والتقشُّف وكثرة العبادة وشدَّة الاحتياط، ولو عاش ووجَد ناصرًا لسار سِيرَتَه ما أمكَنَه، لَمَّا ذُكِّرَ بما حدث للإمامِ أحمد بن حنبل على يدِ أسلافه، قال: رحِمَ الله أحمدَ بن حنبل، واللهِ لو جاز لي أن أتبَرَّأ من أبي لتبَرَّأت منه. كان سفيان الثوريُّ يقول: "الخلفاء الراشدون خمسةٌ، ويعدُّ فيهم عمر بن عبد العزيز, ثمَّ أجمع الناسُ في أيام المهتدي مِن فَقيهٍ ومُقرئ وزاهد وصاحِبِ حديثٍ أن السادِسَ هو المهتدي باللَّه". وكان من عَزْمِه أن يُبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاءَ وأذلوهم، وانتهكوا منصِبَ الخلافة. فلما أراد أن يخالِفَ بين كلمة الأتراك ليُضعِفَ تسلُّطَهم على الخلافة، كتب إلى بايكباك أن يتسَلَّم الجيشَ من موسى بن بغا ويكون هو الأميرَ على الناس وأن يُقبِلَ بهم إلى سامرَّا، فلما وصل الكتاب بايكباك أقرأه موسى بن بغا فاشتَدَّ غَضَبُه على المهتدي واتَّفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرَّا، وتركا ما كانا فيه، فلمَّا بلغ المهتدي ذلك ركب في جيش ٍكثيفٍ واتَّجه لملاقاتِهما, فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريقِ خُراسان وأظهر بايكباك السمعَ والطاعة, فأمر المهتدي عند ذلك بضَربِ عُنُق بايكباك، ثم ألقى رأسَه إلى الأتراك، فلما رأوا ذلك أعظَموه وأصبحوا من الغدِ مجتمعين على أخي بايكباك ظغوتيا فخرج إليهم الخليفةُ فيمن معه، فلما التقوا تمالأ الأتراكُ الذين مع الخليفة إلى أصحابِهم وصاروا إلبًا واحدًا على الخليفة، فحمل الخليفةُ عليهم فقتل منهم نحوًا من أربعة آلاف، ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة فعاجله أحمد بن خاقان فرماه بسهمٍ في خاصرتِه، ثم حُمل على دابةٍ وخَلْفَه سائسٌ وعليه قميصٌ وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونَه ويبزقون في وجهِه، وسلَّموه إلى رجلٍ، فلم يزل يجأُ خصيتيه ويطأُهما حتى مات- رحمه الله- وكانت خلافتُه أقلَّ مِن سنة بخمسة أيام، وصلَّى عليه جعفر بن عبد الواحد، ودُفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل رحِمَه الله.
هو الإمامُ العلَّامةُ المفَسِّر، شيخُ الإسلام، مَفخَر العراق، الحافِظُ الواعِظُ جمالُ الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي الجوزي- نسبة إلى فرضة نهر البصرة- المشهور بابن الجوزي، القُرَشي التيمي البكري البغدادي الفقيهُ الحنبلي. ينتهي نسبُه إلى أبي بكر الصديقِ رَضِيَ الله عنه. كان علَّامة عصره وإمامَ وَقتِه في الحديث وصناعة الوعظ. ولد سنة تسع- أو عشر- وخمسمائة، كان والده واعظًا ويعمَلُ في الصفر بنهر القلايين. برز أبو الفرج في علوم كثيرة. وقد جمع من المصنَّفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلَّدة وتفَرَّد بفن الوعظ الذي لَمْ يُسْبَقْ إليه ولا يُلحَق شأوُه فيه، وفي طريقتِه وشَكلِه، وفي فصاحته وبلاغتِه وعذوبتِه وحلاوةِ ترصيعِه ونفوذِ وعظِه، وغَوصِه على المعاني البديعة، وتقريبِه الأشياءَ الغريبة، هذا وله في العلومِ كُلِّها اليدُ الطولى، والمشاركاتُ في سائِرِ أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب، والنظر في النجوم، والطب والفقه، وغير ذلك من اللغة والنحو. قال الذهبي: "كان رأسًا في التذكير بلا مُدافعة، يقول النَّظمَ الرائق، والنثرَ الفائق بديهةً، ويُسهِب ويعجب ويطرب ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثلُه، فهو حامِلُ لواء الوعظ، والقَيِّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحُسن السيرة، وكان بحرًا في التفسير، علَّامةً في السير والتاريخ، موصوفًا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهًا عليمًا بالإجماع والاختلاف، جيِّدَ المشاركة في الطب، ذا تفنُّن وفَهمٍ وذكاء وحِفظٍ واستحضار، وإكبابٍ على الجمع والتصنيف، مع التصوُّن والتجمُّل، وحسن الشارة، ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل، والأوصاف الحميدة، والحُرمة الوافرة عند الخاص والعام، ما عرفتُ أحدًا صَنَّفَ ما صنف". ومن مصنفاته كتابُه في التفسير المشهور بزاد المسير، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله جامع المسانيد استوعب فيه غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب المنتظم في تواريخِ الأُمَم من العرب والعَجَم، وله الأحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وغير ذلك، وبالجملة فكُتُبه أكثر من أن تُعَدُّ, وكَتَب بخطه شيئًا كثيرًا. كانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمعُ كثيرًا جِدًّا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد، وكان يومًا مشهودًا. كان له من الأولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز- وهو أكبرهم- مات شابًّا في حياته سنة 554، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقًّا له إلبًا عليه في زمن المحنةِ وغيرها، وقد تسَلَّط على كتُبِه في غيبته بواسط فباعها بأبخَسِ الأثمان، ثمَّ محيي الدين يوسف، وكان أنجَبَ أولادِه وأصغَرَهم، جلس للوعظ بعد أبيه، واشتغل وحَرَّر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر محيي الدين الحِسبةَ ببغداد، وتولى التدريسَ بالمدرسة المستنصريَّة لطائفة الحنابلة، ثم صار رسولَ الخلفاء إلى الملوك بأطرافِ البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام، وصار أستاذ دار الخلافة، وتوفي في وقعة التتر قتيلًا سنة 653. وكان لابنِ الجوزي عدة بنات منهن رابعة أم سبطِه شمس الدين أبي المظفر بن قزغلي الواعظ المشهور والمعروف بسبط ابن الجوزي، وهو حنفي المذهب، وله صيت وسمعة في مجالس وعظه، وقبول عند الملوك وغيرهم، وصنف تاريخًا كبيرًا في أربعين مجلدًا سماه مرآة الزمان.
كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
جهز الأميرُ أيتمش المحمدي على عسكرٍ إلى برقة، ومعه فايد وسليمان أمراءُ العُربان لجباية زكاةِ الأغنام على العادة، فسار في ثلاثمائةِ فارسٍ من أجناد الحلقة ومعه من الأمراءِ عِدَّةٌ، وذلك في آخِرِ يومٍ من المحرَّم، ونزل بالإسكندرية، ثم سار أيتمش يريدُ بلاد جعفر بن عمر من برقة، ومسافتُها من الإسكندرية على الجادة نحو شهرين، فدَلَّه بعض العرب على طريقٍ مسافتُها ثلاثة عشَرَ يَومًا يُفضي به إلى القَومِ مِن غيرِ أن يعلموا به، وطَلَب في نظير دَلالتِه على هذه الطريقِ مائةَ دينار وإقطاعاتٍ مِن السلطانِ بعد عودِ العسكرِ إلى القاهرة، فعَجَّل له أيتمش المائة، والتزم له بالإقطاعِ مِن السلطان، وكتب له بعشرةِ أرادِبَ قمحًا لعياله، وأركبه ناقةً، وكتم ذلك كلَّه عن العسكَرِ مِن الأمراء والأجناد والعُربان، وسار بمسيرِه، حتى إذا مضت ثلاثَ عشرة ليلة أشرف على منازِلِ جَعفرِ بنِ عمر وعُرْبانه، فدُهِشوا لرؤيةِ العَسكَرِ، وأرسل إليهم أيتمش بسليمان وفايد يدعوهم إلى الطاعةِ، فأجابوا مع رسُلِهم: إنَّا على الطاعةِ، ولكن ما سبب قدومُ هذا العسكرِ على غفلةٍ مِن غير أن يتقَدَّمَ لنا به علمٌ؟ فقال لهم أيتمش: حتى يحضُرَ الأمير جعفر ويسمَعَ مَرسومَ السلطان، وأعادهم، وتَقَدَّم أيتمش إلى جميع من معه ألَّا ينزِل أحدٌ عن فرسه طولَ ليلتِه، فباتوا على ظهورِ الخيل، فلما كان الصباحُ حضر أخو جعفر ليسمَعَ المرسوم، فنهَرَه أيتمش وقال له ولمن معه: ارجعوا إلى جعفرٍ فإن كان طائعًا فلْيَحضُر، وإلَّا فلْيُعَرِّفْني، وبعث معه ثلاثةً مِن مُقَدَّمي الحلقة، فامتنع جعفرٌ من الحضور، فللحالِ لَبِسَ العسكر السلاحَ وتَرَتَّب، وأفرد سليمان وفايد، بمن معهما من العسكرِ ناحية، واستعد جعفرٌ أيضًا وجمع قومَه وحمل بهم على العَسكَر، فرموهم بالنشَّاب فلم يبالُوا به، ودقُّوا العسكرَ برماحِهم، وصَرَعوا الأميرَ شُجاعَ الدين غرلوا الجوكندار بعدما جَرَحوه ثلات جراحات، فتداركه أصحابُه وأركبوه، وحملوا على العرب فكانت بين الفريقينِ تِسعَ عشرة وقعة آخِرُها انهزم العربُ إلى بيوتهم، فقاتلهم العسكرُ عند البيوتِ ساعةً وهزموهم إليها، وكانت تلك البيوتُ في غابةِ قَصَب، فكفَّ العسكَرُ عن الدخول إليهم، ومنعهم أيتمش عن التعرُّضِ إلى البيوتِ وحماها، وأباح لهم ما عداها، فامتَدَّت الأيدي، وأُخِذَت من الجمالِ والأغنامِ ما لا ينحَصِرُ عدده، وبات العسكَرُ محترسين، وقد أَسَروا نحوَ السِّتِّمائة رجل سوى من قُتِل، فلما أصبح الصبحُ منَّ أيتمش على الأسرى وأطلَقَهم، وتفَقَّد العسكرَ فوجد فيه اثني عشر جريحًا، ولم يُقتَل غيرُ جندي واحد، فرحل عائدًا عن البيوتِ بأنعامٍ تَسُدُّ الفضاء، وبِيعَ ما معهم فيما بينهم الرأسُ الغَنَمُ بدِرهمٍ، والجَمَلُ ما بين عشرين إلى ثلاثين درهمًا، وسار أيتمش ستةَ أيام في الطريق التي سلكها والعسكَر بالسِّلاح، خشيةً مِن عَودِ العرب إليهم، وبعث أيتمش بالبشارةِ إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فبعث الأميرَ سيفَ الدين ألجاي الساقي لتلَقِّي العسكر بالإسكندرية وإخراج الخُمُس مِمَّا معهم للسلطان، وتَفرِقة ما بَقِيَ فيهم، فخُصَّ الجنديُّ ما بين أربعةِ جمالٍ وخمسةٍ، ومِنَ الغَنَم ما بين العشرينَ إلى الثلاثين، وحَضَروا إلى القاهرة، فخَلَع السلطان على أيتمش، وبعد حضورهم بأسبوع قدم جعفرُ بنُ عمر إلى القاهرة، ونزل عند الأمير بكتمر الساقي مُستجيرًا، فأكرمه ودخل به على السلطانِ، فاعترف بالخطأِ، وسأل العفوَ، وأن يقَرِّرَ عليه ما يقومُ به، فقَبِلَ السلطانُ قَولَه وعفا عنه، وخلع عليه ومضى، وصار يحمِلُ القودَ في كلِّ سَنَةٍ.
ركب إبراهيم باشا من أشيقر بخيلِه وقصد بلد شقراء، فأتاها واستدار فيها، وقاسَها وعَرَف موضِعَ منزلِه ومنزل عسكرِه وقبوسيه؛ لأنه يعلم أنَّ أهلها محاربون أشداءُ وأهلُ صدق في الحرب مجرِّبون، وكان قد أتى إليه أمدادٌ من العساكر والقبوس، وصار في قوَّةٍ عظيمة، فنزل أسفلَ البلد وشمالَه، فخرج إليه أهلُها فساق الباشا عليهم الرومَ، فوقع بينهم قتال شديد في وسطِ النخيل وخارجه، فقُتِل من الروم قتلى كثيرٌ وجُرح كثيرٌ منهم، فتكاثرت عليهم أفزاعُ الروم وجُرح الأمير حمد بن يحيى جرحًا شديدًا فدخلوا البلد واحتصروا فيها، ثم إنَّ الباشا جرَّ القبوس والقنابر والمدافع وجعلها فوقَ المرقب الجبل الشمالي، فرمى البلد فيه رميًا هائلًا أرهب ما حولَه من القرى والبلدان من أهل مدبر ومنيخ والمحمل وغيرهم، حتى سمعه من كان في العرمة ومجزل وما حوله. فلما احتصر أهلُ البلد فيها أنزل قبوسَه ومدافعه وقنابره من رأسِ الجبلِ وقَرَّبها من السور، وحَقَّق عليهم الحرب والرميَ المتتابع حتى قيل إنه رماها في ليلة واحدة بثلاثمائة حمل من الرصاص والبارود، وذُكِرَ أن رصاص القبوس والمدافع والقنابر والبنادق يتضارب بعضُها ببعض في الهواء فوق البلدِ وفي وسطها، ثم إنَّه هدم ما يليه من سورِها وقطع نخيلَها إلَّا قليلَها، هذا وأهل البلد ثابتون، وفي أكنافِها يقاتلون، فقرَّب الباشا القبوسَ من السور وهدَمَ ما يليه من الدُّورِ والقصور، فحماهم الله سبحانه وكفَّ أيديَ الروم عنهم؛ وذلك لصِدقِهم في مواطِنِ اللقاء بالسيف، فلما همَّ الروم بالحملة عليهم أثنى عزمَهم الخندقُ وما ذاقوه من شدة القتال أوَّلَ نزولِهم على شقراء، فصار الخندقُ من الأسباب لثباتِ أهلها لأنَّه لا يُرام، وفي كلِّ يوم وليلة والباشا يناديهم ويدعوهم إلى المصالحةِ ويأبون عليه، فلما كان يومُ الخميس وقَعَت المصالحة بين الباشا وبينهم؛ خرج إليه رجلان من رؤساء أهلِها فصالحوه على دمائِهم وأموالِهم وما احتوت عليه بلادُهم، وكان جميعُ بلدان الوشم أعطوه الطاعةَ لَمَّا نزل شقراء، فلما استقَرَّ الصلح بعث الباشا عساكِرَ من الترك رئيسُهم رشوان أغا إلى ناحية سدير ومنيخ، فنزل رشوان بلد جلاجل وفرَّق العساكر في البلدان وأخذوا ما فيها من الخيل الجِياد الثمينة وحنطة وعليقًا للخيل، وأقاموا عندهم إلى أن أراد الرحيلَ من بلد شقراء، فرحلوا من بلد سدير إلى الوشم، ولَمَّا كان بعد أيام من مصالحةِ أهل شقراء وشى بهم رجالٌ عند الباشا من أهل نجد ممن يساعده وسار معه وقال إنَّه ارتحل منهم عدَّةُ رجال من أعيانهم وعامَّتِهم إلى الدرعية، وأنَّهم يريدون أن ينقُضوا العهد بعدما ترتحل عنهم ويقطعوا سبلك، فأفزع ذلك الباشا وأهمه فدخل البلدَ مُغضَبًا بعددٍ كثير من عساكره، فلما دخل جعل العسكرَ في المسجد فأوقدوا فيه النيران، وذلك وقتَ الشتاء.ثم دخل الباشا بيت إبراهيم بن سدحان المعروف جنوبَ المسجِدِ، وأرسل إلى الأمير حمد وهو جريحٌ فجيء به بين رجلين، فتكلم الباشا عليه بكلامٍ غليظ.ثم أرسل إلى الشيخ عبد العزيز الحصين الناصري، وكان قد كَبِرَ وثقل فجيءَ به محمولًا فأكرَمَه وأعظمَه، فذكَرَ لهم ما حدث من أهل البلد.فعلوا وفعلوا وكان قصدُه أن يفتك بهم، فقال له الشيخ عبد العزيز الحصين: كل ما تقولُ صِدقٌ، ولكن العفو يا باشا. فقال: عَفَونا عَفَونا إكرامًا لمجيئك، فكفى الله سبحانه شَرَّه، وهدم سور البلد ودفَن خندَقَها، وأقام عليها نحوًا من شهر، ثم ارتحل منها بعساكِرِه، وأخذ معه عشرةَ رجال من رؤسائهم، وسار منها إلى بلد ضرم، وأتت إليه مُكاتبات أهل المحمل وحريملاء وأعطوه الطاعة.
من أقوى الأسباب التي هيأت للإسبان احتلال طرابلس الغرب ضعفُ الحامية فيها، وانصراف الناس إلى تنمية المال، وإلى مُتَع الحياة عن الاهتمام بتقوية الجيش وتحصين القلاع، ومن المناسبات التي انتهزها الإسبان للتعجيل باحتلال طرابلس، أنه في هذه سنة وقع خلاف بين أحمد الحفصي وبين والده الناصر، فذهب إلى الإسبان يستنجد بهم على أبيه، فاستعد الإسبان لغزو طرابلس، فجهزوا 120 قطعة بحرية، وانضم إليها سفن أخرى من مالطة، وشُحنت بخمسة عشر ألف جندي من الإسبان، وثلاثة آلاف من الإيطاليين والمالطيين. وفي 8 من ربيع الآخر أقلع الأسطول من فافينيانا، ومرَّ بجزيرة قوزو بمالطة فتزود منها بالماء، وانضمَّ إلى الجيش خبير مالطي اسمه جوليانو بيلا، له معرفة بطرابلس. وقد أعدت هذه الحملة بإشراف نائب ملك صقلية، وبإعانة الجيوش الصقلية والإيطالية. وقد تسربت أخبار هذه الحملة إلى طرابلس قبل تحركها بنحو شهر، فأخذ الناس في الهجرة منها إلى غريان، وتاجورة، ومسلاتة، وأخذوا معهم كل ما كان مهمًّا من أموالهم، وما أمكنهم من أثقال متاعهم، ولم يبقَ بالمدينة إلا المحاربون، وبعض السكان الذين لم يقدروا على الفرار، وانحازوا إلى قصر الحكومة والجامع الكبير، وصعد المحاربون فوق الأسوار وعلى القلاع. نزلت جيوش الإسبان في القوارب وكانت بقيادة بييترو نافارو، وفي الصباح، بدأ الهجوم وأطلقت السفن مدافعها على الأسوار وقصر الحكومة. ونزل الجيش المكلف بمنع المسلمين من الاتصال بالمدينة إلى البر بجهة سيدي الشعاب لمنع الاتصال بالمدينة. واندفع الجيش الإسباني نحو المدينة تحميه مدافع الأسطول، فاحتل البرج القائم على باب العرب وبعض الأسوار، وتمكن الإسبان من فتح باب النسور، واتصل الجيش الخارجي بالجيش الداخلي واستبسل الطرابلسيون في الدفاع، وجاء في رسالة القائد نافارو أنه لم يخلُ موضِعُ قَدَمٍ في المدينة من قتيلٍ، ويقَدَّر عدد القتلى بخمسة آلاف، والأسرى بأكثر من ستة آلاف، وتغلَّب الإسبان على مقاومة المسلمين العنيفة، واحتُلَّ قصر الحكومة عَنوةً، وقد حَمِيَ وطيس المعركة حينما تمكَّن حامل العلم الإسباني من نصبِه على برج القصر. وأبدى من التجؤوا إلى الجامع الكبير مقاومة شديدة، فقُتِل منهم نحو ألفي طرابلسي بين رجال ونساء وأطفال. وقتل من الإسبان ثلاثمائة رجل، وكان من بين الموتى كولونيل كبير في الجيش، وأميرال الأسطول، وقبل أن تغرب شمس يوم 18 من ربيع الآخر من هذه السنة، سقطت مدينة طرابلس في يد الإسبان، بعد أن أريقت دماء الطرابلسيين في كل بقعةٍ منها، ولكثرة القتلى فقد أُلقيت جثثُهم في صهاريج الجوامع وفي البحر، وأُحرق بعضها بالنار. وأقام نائب البابا احتفالات الفرح بسقوط هذه المدينة العربية الإسلامية في أيدي النصارى. وأرسل القسيس أمريكو دامبواس رئيس منظمة فرسان القديس يوحنا إلى فرديناند ملك إسبانيا تهنئة، ويرجوه أن يتابع فتوحاته في إفريقية. وعلى الجانب الآخر فقد استاء المسلمون لهذا الاحتلال، وقابله الطرابلسيون المقيمون في الإسكندرية إذ ذاك بإحراق فندق للإسبان في المدينة. انتهز الطرابلسيون المعسكِرون خارج السور غياب القائد الإسباني نافارو وأسطوله، وانقضُّوا على المدينة وتسلَّقوا سورها، ولكنهم لم يوفَّقوا فرجعوا أدراجَهم, وهو ما دفع محمد بن حسن الحفصي إلى إعانة طرابلس، فجمع جيشًا كبيرًا بقيادة محمد أبي الحداد قائد توزر، وكان من أكبر قواده، ووصل طرابلس ونزل خارج السور، وانضم إلى هذا الجيش المحاربون الطرابلسيون، وهاجموا المدينة في ذي الحجة من هذه السنة, ولكنهم لم يظفروا منها بطائل. وظل يحكم طرابلس فرسان القديس يوحنا حتى سنة 936 (1530م) عندما منحها شارل الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية لهم، الذين صاروا يعرفون في ذلك الوقت بفرسان مالطا.
هو السلطان سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح الغازي الملقب بياوز، أي: القاطع, وهو تاسع سلاطين الدولة العثمانية، وأول من تلقَّب بأمير المؤمنين من سلاطين بني عثمان. تولى سلطنة الدولة العثمانية سنة 918 بعد نزاع مع والده بايزيد، انتهى النزاع بتنازل والده له بالحكم بدعم من الانكشارية, وقد أظهر سليم منذ بداية حكمه ميلًا إلى تصفية خصومه ولو كانوا من إخوته أو أبنائهم, فبعد توليه السلطة عيَّنَ ابنه سليمان حاكمًا للقسطنطينية، وسافر بجيوشه إلى بلاد آسيا لمحاربة إخوته وأولادهم، فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى أنقرة ولم يتمكن من القبض عليه؛ لوجود علاقات بينه وبين الوزير مصطفى باشا الذي كان يخبره بمقاصد السلطان, ولما علم السلطان بهذه الخيانة قتَلَ الوزير شَرَّ قِتلة جزاءً له وعبرة لغيره، ثم توجه بكل سرعة إلى صاروخان مقر أخيه كركود فقبض عليه ثم قتله، أما أحمد الذي كان يتلقى دعمًا من إسماعيل شاه الصفوي فقتله بالقرب من مدينة يكى شهر, ولما اطمأنَّ خاطره من جهة داخليته عاد إلى مدينة أدرنه؛ حيث كان بانتظار سفراء من قبِلَ البندقية والمجر وموسكو وسلطنة مصر، فأبرم معهم جميعًا هدنة لمدد طويلة, وفي عهده تغيرت وِجهة الدولة العثمانية الجهادية من أوروبا إلى البلاد العربية الإسلامية؛ وذلك لحمايتها من الخطرين الصفوي والبرتغالي، والمحافظة على تماسك وحدتها خاصة بعد ضعف الدولة المملوكية وشدة الضربات الإسبانية والبرتغالية في عدد من البلدان الإسلامية في المغرب والخليج العربي إلى الهند, فاتجه سليم لبلاد الفرس لمحاربة الصفويين الشيعة، وانتصر عليهم في معركة جالديران، ثم اتجه إلى المماليك في الشام ومصر، وقضى على دولتهم بعد الانتصار عليهم في معركتي مرج دابق والريدانية، وبهذه الانتصارات ضمَّ سليم معظم البلاد العربية لدولته بما فيها بلاد الحرمين، كما نقل الخلافة الإسلامية إلى دولته وتسمى بأمير المؤمنين وخادم الحرمين الشريفين، وهو أول من تسمى بهذا الاسم من حكام المسلمين، وذلك بعد أن بايعه أشراف مكة، ثم تنازل الخليفة العباسي محمد المتوكل على الله آخر ذرية الدولة العباسية عن حقه في الخلافة الإسلامية إلى السلطان سليم العثماني وسلمه الآثار النبوية الشريفة، وهي البيرق والسيف والبردة، وسلمه أيضًا مفاتيح الحرمين الشريفين، ومن ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميرًا للمؤمنين وخليفة لرسول رب العالمين اسمًا وفعلًا, ثم بعد ذلك عَمِل على ضم اليمن لحمايتها من البرتغاليين وبسط نفوذ الدولة على بلاد المغرب وشمال إفريقيا لحمايتها من الخطر الإسباني. في التاسع من شوال ليلة السبت توفي السلطان سليم فأخفى موته الوزراءُ، وأرسلوا يُعلِمون ولده السلطان سليمان المعروف بسليمان القانوني، فلما وصل إلى القسطنطينية أعلنوا موت السلطان سليم، بمجرد وصول القسطنطينية يوم 16 شوال كان في انتظاره على إفريز السراي جنود الانكشارية فقابلوه بالتهليل وطلب الهدايا المعتاد توزيعها عليهم عند تولية كل ملك، وفي صبيحة 17 شوال جرت رسوم المقابلات السلطانية فوفد الأمراء والوزراء والأعيان يعزون السلطان بموت والده ويهنؤونه بالخلافة في آن واحد، وعند الظهر وصلت جثة والده فسار في الجنازة وصلوا عليه في جامع السلطان محمد، ثم حملوه ودفنوه في محل قبره، وأمر السلطان سليمان خان ببناء جامع عظيم، وعمارة لطعام الفقراء صدقة على والده، توفي وله من العمر أربع وخمسون سنة، وكانت مدة ملكه تسعة أعوام وثمانية أشهر.
سار أَسدُ بن عبدِ الله القَسري أَميرُ خُراسان بجُيوشِه إلى مَدينَة خُتَّل فافْتَتَحها، وتَفرَّقت في أَرضِها جُنودُه يَقتُلون ويَأسِرون ويَغنَمون، فجاءَت العُيونُ إلى مَلِك التُّركِ خاقان أنَّ جَيشَ أَسَد قد تَفرَّق في بِلادِ خُتَّل، فاغْتَنَم خاقان هذه الفُرصَة فرَكِب مِن فَوْرِه في جُنودِه قاصِدًا إلى أَسَد، وتَزَوَّد خاقان وأَصحابُه سِلاحًا كَثيرًا، وقَديدًا ومِلحًا، وساروا في خَلْقٍ عَظيمٍ، وجاء إلى أَسَد فأَعلَموه بِقَصدِ خاقان له في جَيشٍ عَظيمٍ كَثيفٍ، فتَجهَّز لذلك وأَخَذ أُهْبَتَهُ، فأَرسَل مِن فَوْرِه إلى أَطرافِ جَيشِه، فلَمَّها وأَشاعَ بَعضُ النَّاس أنَّ خاقان قد هَجَم على أَسدِ بن عبدِ الله فقَتلَه وأَصحابَه، لِيَحصُل بذلك خِذلانٌ لِأَصحابِه، فلا يَجتَمِعون إليه، فرَدَّ اللهُ كَيدَهم في نُحورِهم، وجَعَل تَدميرَهم في تَدبيرِهم، وذلك أنَّ المسلمين لمَّا سَمِعوا بذلك أَخَذتهم حَمِيَّةُ الإسلام وازدادوا حَنَقًا على عَدوِّهم، وعَزَموا على الأَخذِ بالثَّأرِ، فقَصَدوا المَوضِعَ الذي فيه أَسَد، فإذا هو حَيٌّ قد اجتَمعَت عليه العَساكِر مِن كُلِّ جانِب، وسار أَسَد نحو خاقان حتَّى أتى جَبَل المِلْح، وخاض نَهرَ بَلْخ ففاجَأَهُم التُّركُ مِن وَرائِهم وقَتَلوا منهم عَددًا ثمَّ بَقوا عِدَّةَ أَشهُر كذلك حتَّى الْتَقوا مَرَّةً أُخرى وَكَرَّ عليهم المسلمون وأَعمَلوا فيهم، وكان الحارثُ بن سُريج الذي خَرَج على عاصِم قد الْتَجَأ إلى خاقان التُّرك وحارَب معه وقد هَرَبا سَوِيًّا مِن هذه الحَرب وغَنِمَ المسلمون الكَثيرَ مِن أَموالِهم وأَمتِعَتِهم ودَوابِّهم.
كان يعقوبُ بن الليث وأخوه عمرو يعملانِ الصُّفر بسجستان، ويُظهِران الزهد والتقشُّف، وكان في أيامهما رجلٌ من أهل سجستان يُظهِرُ التطوُّع بقتال الخوارج، يقال له صالح المطوعي، فصَحِبه يعقوب، وقاتلَ معه، فحَظِيَ عنده، فجعله صالحٌ مقامَ الخليفة عنه، ثم هلك صالحٌ، وقام مقامَه إنسانٌ آخر اسمه درهم، فصار يعقوبُ مع درهم كما كان مع صالحٍ قبله. ثم إنَّ صاحبَ خُراسان احتال لدرهم لَمَّا عَظُم شأنُه وكثُر أتباعُه، حتى ظَفِر به وحمَله إلى بغداد، فحبسه بها ثم أطلَقَه، وخدَم الخليفةَ ببغداد. عظُمَ أمرُ يعقوب بعد أخذِ درهم، وصار متولِّيَ أمر المتطوِّعة مكان درهم، وقام بمحاربة الشراة، فظفِرَ بهم، وأكثَرَ القتلَ فيهم، حتى كاد يُفنيهم، وخرَّب قراهم، وأطاعه أصحابُه بمَكرِه، وحُسْنِ حالِه ورأيِه، طاعةً لم يطيعوها أحدًا كان قبله، واشتَدَّت شوكتُه، فغَلَب على سجستان، وأظهر التمسُّكَ بطاعة الخليفة وكاتبه، وصدرَ عن أمره، وأظهَرَ أنَّه هو أمَرَه بقتال أتباعِه، فخرج عن حدِّ طلب الشراة، وصار يتناولُ أصحاب أمير خراسان، ثم سار مِن سجستان إلى هراة من أعمال خُراسان ليملِكَها، وكان أمير خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، وعاملُه على هراة محمد بن أوس الأنباري، فخرج منها لمحاربةِ يعقوب في تعبئة حَسَنة، وبأس شديدٍ، وزيٍّ جميل، فتحاربا واقتتَلا قتالًا شديدًا فانهزم ابن أوس، ومَلَك يعقوبُ هراة وبوشنج، وصارت المدينتانِ في يده، فعَظُم أمره حينئذ، وهابه أميرُ خراسان وغيرُه من أصحاب الأطراف.
كتب المعتزُّ لعلي بن الحسين بن شبل بولاية كرمان، وكتبَ إلى يعقوبَ بن الليث بولايتها أيضًا يلتمِسُ إغراءَ كُلِّ واحدٍ منهما بصاحبه؛ ليُسقِطَ مؤونةَ الهالكِ عنه، وينفرِدَ بالآخر، وكان كلُّ واحد منهما يُظهِرُ طاعةً لا حقيقةَ لها، والمعتز يعلم ذلك منهما. أرسل عليُّ بن الحسين طوقَ بن المغلس إلى كرمان، وسار يعقوبُ إليها فسَبَقه طوقٌ واستولى عليها وأقبل يعقوبُ حتى بقيَ بينه وبين كرمان مرحلةٌ، فأقام بها شهرينِ لا يتقَدَّمُ إلى طوق، ولا طوقٌ يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهَرَ الارتحال إلى سجستان، فارتحل مرحلتينِ، وبلغ طوقًا ارتحالُه فظَنَّ أنَّه قد بدا له في حربه، وترك كرمان، فوضع آلةَ الحربِ، وقعد للأكلِ والشُّرب والملاهي، وبلغ يعقوبُ إقبالَ طوقٍ على الشرب، فكرَّ راجعًا فطوى المرحلتينِ في يومٍ واحد، فلم يشعُرْ طوقٌ إلا بغبرةِ عَسكرِ يعقوب، فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابُه يريدون المناهضةَ والدفعَ عن أنفُسِهم، فقال يعقوبُ لأصحابه: أفرِجوا للقَومِ، فمرُّوا هاربينَ، وخَلَّوا كلَّ ما لهم، وأسَر يعقوبُ طَوقًا، وكان علي بن الحسين قد سَيَّرَ مع طوقٍ في صناديقَ قيودًا ليقَيد بها من يأخُذُه من أصحابِ يعقوب، وفي صناديقَ أطوِقةٌ وأسورة ليعطيَها أهلَ البلاء من أصحابِ نفسِه، فلما غنِمَ يعقوب عسكَرَهم رأى ذلك، فقال: ما هذا يا طوقُ؟ فأخبره، فأخذ الأطوِقةَ والأسورة فأعطاها أصحابَه، وأخذ القيودَ والأغلال فقيَّدَ بها أصحابَ عليٍّ، ثم دخل كرمان وملكَها مع سجستان.
لَمَّا توفِّيَ أحمدُ بن طولون كان إسحاقُ بن كنداجيق على الموصل والجزيرة، فطَمِعَ هو وابن أبي الساج- وهما من كبار قادة الترك عند المعتَمِد- في الشام، واستصغرا أولادَ أحمد، وكاتَبا الموفَّقَ بالله في ذلك، واستمَدَّاه، فأمرهما بقصدِ البلاد، ووعدهما إنفاذَ الجيوش، فجمَعَا وقصدَا ما يجاوِرُهما من البلاد، فاستولَيَا عليه وأعانهما النائبُ بدمشق لأحمد بن طولون، ووعدَهما الانحيازَ إليهما فتراجع مَن بالشامِ مِن نواب أحمد بأنطاكية، وحلب وحمص، وعصى متولِّي دمشق، واستولى إسحاقُ عليها، وبلغ الخبَرُ إلى أبي الجيش خمارَوَيه بن أحمد بن طولون، فسيَّرَ الجيوش إلى الشام فمَلَكوا دمشق، وهرب النائبُ الذي كان بها من قِبَل إسحاق؛ وسار عسكرُ خمارويه من دِمشقَ إلى شيزر لقتال إسحاق بن كنداجيق وابن أبي الساج، فطاولهم إسحاقُ ينتظِرُ المدد من العراق، وهجم الشتاءُ على الطائفتَينِ، وأضرَّ بأصحاب ابن طولون، فتفَرَّقوا في المنازل بشيزر، ووصل العسكرُ العراقي إلى كنداجيق، وعليهم أبو العباس أحمد بن الموفَّق وهو المعتضِدُ بالله، فلما وصل سار مُجِدًّا إلى عسكر خمارويه بشيزر، فلم يَشعُروا حتى كبَسَهم في المساكن، ووضع السيفَ فيهم، فقتل منهم مقتلةً عظيمةً، وسار من سَلِمَ إلى دمشق على أقبَحِ صُورةٍ، فسار المعتَضِد إليهم، فجُلُوا عن دمشقَ إلى الرملة، ومَلَك هو دمشق، ودخلَها في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأقام عسكرُ ابن طولون بالرملة، فأرسلوا إلى خِمارَوَيه يُعَرِّفونه بالحال، فخرج من مصرَ في عساكره قاصدًا إلى الشَّامِ.
كان المنصورُ الفاطميُّ- صاحِبُ إفريقيَّةَ- قد استعمَلَ على صقليَّة سنة 336 الحسَنَ بنَ علي بن أبي الحسين الكلبي، فدخلها واستقَرَّ بها، وغزا الرومَ الذين بها عدَّةَ غَزَوات، فاستمَدُّوا مَلِكَ قسطنطينيَّة فسيَّرَ إليهم جيشًا كثيرًا، فنزلوا أذرنت، فأرسل الحسَنَ بنَ علي إلى المنصور يعَرِّفه الحال، فسيَّرَ إليه جيشًا كثيفًا مع خادِمِه فرح، فجمع الحسَنُ جُندَه مع الواصلين وسار إلى ريو، وبثَّ السَّرايا في أرض قلورية، وحاصر الحسَنُ جراجةَ أشَدَّ حِصارٍ، فأشرف أهلُها على الهلاكِ مِن شِدَّةِ العَطَشِ، ولم يبقَ إلَّا أخذُها، فأتاه الخبَرُ أنَّ عسكرَ الرومِ واصِلٌ إليه، فهادن أهلَ جراجة على مالٍ يؤدُّونَه، وسار إلى الرومِ، فلمَّا سَمِعوا بقُربِه منهم انهزموا بغيرِ قِتالٍ، وتركوا أذرنت، ونزل الحسَنُ على قلعة قسانة، وبثَّ سراياه تَنهَبُ، فصالحه أهلُ قسانة على مالٍ، ولم يزَلْ كذلك إلى شَهرِ ذي الحجة، وكان المصافُّ بين المسلمين وعسكَرَ قسطنطينية ومن معه من الرومِ الذين بصقلية، ليلةَ الأضحى، واقتتلوا، واشتدَّ القتال، فانهزم الروم ورَكِبَهم المسلمون يقتلونَ ويأسِرونَ إلى اللَّيلِ، وغَنِمُوا جميعَ أثقالهم وسلاحِهم، ودوابِّهم، وسيَّرَ الرؤوسَ إلى مدائن صقلية، وإفريقية، وحصر الحسَنُ جراجة، فصالحوه على مالٍ يَحمِلونه، ورجع عنهم، وسيَّرَ سَرِيَّة إلى مدينة بطرقوقة، ففتحوها وغَنِموا ما فيها، ولم يزَل الحسن بجزيرةِ صقليَّة إلى سنة إحدى وأربعين، فمات المنصورُ، فسار عنها إلى إفريقيَّة، واتصل بالمعزِّ بن المنصور، واستخلف على صقليَّة ابنَه أبا الحُسين أحمد.
هو السلطان رُكنُ الدولة, أبو عليٍّ, الحسنُ بنُ بُوَيه بن فناخسرو الديلمي الشيعي, صاحب أصبهان والري وهمذان وجميع عراقِ العَجَم، ووالِدُ السلطانِ عَضُدِ الدولةِ فناخسرو، ومؤيِّدِ الدَّولة أبي منصور بُوَيه، وفَخرِ الدولةِ أبي الحسَنِ عليٍّ، وكان ملكًا جليلَ القدر عاليَ الهمة، وهو أحدُ الإخوة الثلاثة الذين مَلَكوا البلادَ بعد الفَقرِ, وكان هو أوسَطَ الإخوة الثلاثة، وهم عِمادُ الدولة أبو الحسَنِ عليٌّ، ورُكن الدولة أبو علي الحسَنُ، ومعِزُّ الدولة أبو الحُسَين أحمد، وكان عماد الدولة أكبَرَهم، ومعِزُّ الدولة أصغَرَهم. وكان رُكنُ الدولة ملكًا سعيدًا, وامتدت أيَّامُ إمارته أربعًا وأربعين سنةً، وخضعت له الرعيَّةُ, ووزر له الوزيرُ لسانُ البلغاء, أبو الفضل محمد بن العميد, ثمَّ ابنُه علي أبو الفتح بن العميد، ووزر لولديه- مؤيِّدِ الدَّولةِ, وفَخرِ الدَّولةِ- الصَّاحِبُ إسماعيلُ بنُ عَبَّاد. لَمَّا مَرِضَ رُكنُ الدَّولة بسبب ما حصل بين الإخوةِ مِن شِقاقٍ, سار من الريِّ إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأولى سنة 365، وأحضر ولَدَه عَضُدَ الدولة من فارس، وجمع عنده أيضًا سائِرَ أولاده بأصبهان، فعَهِدَ إلى ولَدِه عضد الدولة بالمُلكِ بعده، وفَرَّق الإمارات على أولادِه، فأعطى عضُدَ الدولة فارس وكرمان، وأعطى مؤيد الدولة الريَّ وأصبهان، وأعطى فخر الدولة همدان والدِّينَوَر، ثمَّ سار عن أصبهان في رجبٍ نحو الري، فدام مرَضُه إلى أن توفي، في المحرم بالقولنج, وله 80 سنة, وكان لا بأسَ بدولته. ومات قبله بزمانٍ أخوه عماد الدولة.