سار الأميرُ أبو القاسم، أميرُ صقليَّة، من المدينةِ يريدُ الجِهادَ، وسببُ ذلك أنَّ مَلِكًا مِن مُلوكِ الفِرنجِ، يقال له بردويل، خرجَ في جموعٍ كثيرةٍ مِن الفرنجِ إلى صقليَّةَ، فحصَرَ قَلعةَ مَلطةَ ومَلَكَها، وأصاب سريتَينِ للمُسلمينِ، فسار الأميرُ أبو القاسم بعساكِرِه ليُرحِّلَه عن القلعة، فلمَّا قاربَها خاف وجَبُن، فجمع وجوهَ أصحابِه، وقال لهم: إنِّي راجِعٌ مِن مكاني هذا، فلا تكسروا عليَّ رأيي. فرجع هو وعساكِرُه، وكان أسطولُ الكُفَّارِ يُسايرُ المُسلِمينَ في البَحرِ، فلمَّا رأَوا المُسلِمينَ راجِعينَ أرسَلوا إلى بردويل، ملِكِ الرُّومِ، يُعلِمونَه ويقولونَ له: إنَّ المُسلِمينَ خائِفونَ منك، فالحَقْ بهم فإنَّك تظفَرُ. فجَرَّد الفرنجيُّ عَسكَرَه من أثقالِهم، وجَدَّ في السير، فأدركهم في العشرينَ مِن المحرم، فتعبَّأ المسلمون للقتال، واقتتلوا، واشتَدَّت الحرب بينهم، فحَمَلَت طائفةٌ مِن الفرنج على القلبِ والأعلام، فشَقُّوا العسكر ووصلوا إليها، وقد تفَرَّق كثيرٌ مِن المسلمين عن أميرِهم أبي القاسم، واختَلَّ نِظامُهم، فوصل الفرنجُ إليه، فأصابته ضربةٌ على أمِّ رأسِه فقُتِل، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن أعيانِ النَّاسِ وشُجعانِهم، ثم إنَّ المنهزمين من المسلمين رجعوا مُصَمِّمينَ على القتال ليظفَروا أو يموتوا، واشتَدَّ حينئذ الأمرُ، وعَظُمَ الخَطبُ على الطائفتين، فانهزم الفرنجُ أقبَحَ هَزيمةٍ، وقُتِلَ منهم نحوُ أربعة آلافِ قَتيلٍ، وأُسِرَ مِن بطارقتهم كثيرٌ، وتبعوهم إلى أن أدركَهم الليل، وغَنِموا من أموالِهم كثيرًا. وأفلَتَ مَلِكُ الفِرنجِ هاربًا ومعه رجلٌ يهوديٌّ كان خصيصًا به، فوقف فرَسُ الملك، فقال له اليهودي: اركَبْ فَرَسي، فإن قُتِلْتُ فأنت لوَلَدي. فرَكِبَه المَلِكُ وقُتِلَ اليهودي، فنجا المَلِكُ إلى خيامِه وبها زوجتُه وأصحابه فأخذهم وعاد إلى روميَّة، ولَمَّا قُتِلَ الأميرُ أبو القاسم كان معه ابنُه جابر، فقام مقامَ أبيه، ورحل بالمسلمينَ لِوَقتِهم، ولم يمكِّنْهم من إتمام الغنيمةِ، فتركوا كثيرًا منها، وسأله أصحابُه ليُقيمَ إلى أن يجمَعَ السِّلاحَ وغَيرَه ويَعمُرَ به الخزائِنَ، فلم يفعل، وكانت ولايةُ أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام. وكان عادلًا، حسنَ السيرة، كثيرَ الشَّفَقة على رعيَّتِه والإحسانِ إليهم، عظيمَ الصدقةِ، لم يُخَلِّفْ دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا؛ فإنه كان قد وقف جميعَ أملاكِه على الفُقَراء وأبوابِ البِرِّ.
وقعَ غَلاءٌ وفَناءٌ عَظيمان ببغداد وغَيرِها مِن البلادِ، بحيث خَلَتْ أَكثرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ على أَهلِها أَبوابُها بما فيها، وأَهلُها مَوتى فيها، ثم صار المارُ في الطَّريقِ لا يَلقى الواحدَ بعدَ الواحدِ، وأكلَ النَّاسُ الجِيَفَ والنَّتَنَ مِن قِلَّةِ الطَّعامِ، ووُجِدَ مع امرأةٍ فَخِذُ كَلْبٍ قد اخْضَرَّ, وشَوَى رَجلٌ صَبِيَّةً في الأَتُونِ وأَكَلَها، وسَقطَ طائرٌ مَيِّتٌ مِن حائطٍ فاحْتَوَشَتْهُ خمسُ أَنفُسٍ فاقتَسموهُ وأَكلوهُ. قال ابنُ الجوزي يَصِفُ خبرَ هذا الوباءِ: " في جُمادى الآخِرة: وَردَ كِتابٌ مِن تُجَّارِ ما وَراءَ النَّهرِ قد وقع في هذه الدِّيارِ وَباءٌ عَظيمٌ مُسرِفٌ زَائِدٌ عن الحَدِّ، حتى أنَّه خَرجَ من هذا الإقليمِ في يَومٍ واحدٍ ثمانية عشر ألف جِنازةٍ، وأحصى مَن مات إلى أن كُتِبَ هذا الكِتاب فكانوا ألف ألف وستمائة ألف وخمسين ألفًا، والنَّاسُ يَمُرُّون في هذه البلادِ فلا يَرونَ إلَّا أسواقًا فارغةً، وطُرقاتٍ خاليةً، وأبوابًا مُغلقةً، حتى إنَّ البَقرَ نَفَقَت. وجاء الخَبرُ من أذربيجان وتلك البلادِ بالوباءِ العظيمِ، وأنَّه لم يَسْلَم من تلك البلادِ إلا العَددُ اليَسيرُ جدًّا. وَقعَ وباءٌ بالأهواز وبواط وأَعمالِها وغَيرِها، حتى طَبَقَ البلادَ، وكان أكثرَ سَببِ ذلك الجوعُ، كان الفقراءُ يَشوون الكِلابَ، ويَنبُشون القُبورَ، ويَشوون المَوتى ويَأكلُونهم، وليس للناسِ شُغلٌ في اللَّيلِ والنَّهارِ إلا غَسلُ الأمواتِ وتَجهيزُهُم ودَفنُهُم، فكان يُحفَر الحُفَير فيُدفَن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسانُ بينما هو جالس إذ انشَقَّ قَلبُه عن دَمِ المُهْجَةِ، فيَخرُج منه إلى الفَمِ قَطرةٌ فيموتُ الإنسانُ مِن وَقتِه، وتاب النَّاسُ، وتَصدَّقوا بأَكثرِ أَموالِهم فلم يَجِدوا أحدًا يَقبَل منهم، وكان الفَقيرُ تُعرَض عليه الدَّنانيرُ الكَثيرة والدَّراهِم والثِّياب فيقول: أنا أُريدُ كَسرةً، أُريدُ ما يَسُدُّ جُوعي. فلا يجد ذلك، وأَراقَ النَّاسُ الخُمورَ وكَسَروا آلات اللَّهوِ، ولَزِموا المساجِدَ للعِبادةِ وقِراءةِ القُرآن, وفي يومِ الأربعاءِ لِسَبعٍ بَقِينَ مِن جُمادى الآخرة احتَرقَت قَطِيعةُ عيسى، وسُوقُ الطَّعامِ، والكَنِيسُ، وأَصحابُ السَّقْطِ، وبابُ الشَّعيرِ، وسُوقُ العَطَّارين، وسُوقُ العَروسِ، والأَنماطِيِّين، والخَشَّابين، والجَزَّارين، والتَّمَّارين، والقَطيعَةُ، وسُوقُ مُخَوَّل، ونَهرُ الزُّجاجِ، وسُوَيْقَةُ غالبٍ، والصَّفَّارين، والصَّبَّاغين، وغَيرُ ذلك مِن المواضع، وهذه مُصيبةٌ أُخرى إلى ما بالنَّاسِ مِن الجُوعِ والغَلاءِ والفَناءِ، فضَعُفَ النَّاسُ حتى طَغَت النَّارُ فعَمِلَت أَعمَالَها، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
كان تتش بن ألب أرسلان صاحِبُ دِمشقَ وما جاوَرَها من بلادِ الشامِ، سار من دِمشقَ إلى أَخيهِ السُّلطانِ ملكشاه ببغداد، فلمَّا كان بهيت بَلَغَهُ مَوتُه، فأَخَذَ هيت، واستَولَى عليها، وعاد إلى دِمشقَ يَتجهَّزَ لِطَلَبِ السَّلطَنَة، فجَمعَ العَساكِرَ، وأَخرجَ الأَموالَ وسار نحوَ حَلَب، وبها قَسيمُ الدولةِ أتسز فرأى قَسيمُ الدولةِ اختِلافَ أَولادِ صاحِبِه ملكشاه، وصِغَرَهُم، فعَلِمَ أنه لا يَطيقُ دَفْعَ تتش، فصالَحَهُ، وصار معه، وأَرسلَ إلى باغي سيان، صاحِبِ أنطاكية، وإلى بوزان، صاحِبِ الرها وحران، يُشيرُ عليهما بطَاعةِ تاجِ الدولةِ تتش حتى يَروا ما يكون مِن أَولادِ ملكشاه، ففَعَلوا، وصاروا معه، وخَطَبوا له في بِلادِهم، وقَصَدوا الرحبةَ، فحَصَروها، ومَلَكوها في المُحرَّم من هذه السَّنَةِ، وخَطَبَ تتش لِنَفسِه بالسَّلطَنَةِ، ثم ساروا إلى نصيبين، فحَصَروها، ففَتَحَها عُنوةً وقَهرًا، ثم سَلَّمَها إلى الأَميرِ محمدِ بن شرفِ الدولةِ العقيلي، وسار يُريد المَوصِلَ، وأَتاهُ الكافي بن فَخرِ الدولةِ بن جَهيرٍ، وكان في جَزيرةِ ابن عُمرَ، فأَكرَمهُ، واسْتَوْزَرَهُ، فلمَّا مَلَكَ تتش نصيبين أَرسلَ إليه يَأمرُه أن يَخطُبَ له بالسَّلطَنَةِ، ويُعطِيهُ طَريقًا إلى بغداد لِيَنحَدِرَ، ويَطلُب الخُطبةَ بالسَّلطنَةِ، فامتَنعَ إبراهيمُ من ذلك، فسار تتش إليه، وتَقدَّم إبراهيمُ أيضًا نَحوَهُ، فالتَقوا بالمُضَيَّعِ، من أَعمالِ المَوصِل، في رَبيعٍ الأَوَّل، فحَمَلَ العَربُ على بوزان، فانهَزمَ، وحَمَلَ أتسز على العَربِ فهَزَمَهم، وتَمَّت الهَزيمةُ على إبراهيمَ والعَربِ، وأُخِذَ إبراهيمُ أَسيرًا وجَماعةٌ مِن أُمراءِ العَربِ، فقُتِلوا صَبرًا، ومَلَكَ تتش بِلادَهم المَوصِلَ وغَيرَها، واستَنابَ بها عليَّ بنَ شَرفِ الدولةِ مُسلمٍ، وأَرسلَ إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ، وساعَدَهُ كوهرائين على ذلك، فقِيلَ لِرَسولِه: إنَّا نَنتظِر وُصولَ الرُّسُلِ من العَسكرِ، فعاد إلى تتش بالجوابِ، فانتَهَى خَبَرُه إلى ابنِ أَخيهِ رُكنِ الدِّين بركيارق، وكان قد استَولَى على كَثيرٍ من البِلادِ، منها: الرَّيُّ، وهمذان، وما بينهما، فلمَّا تَحقَّقَ الحال سارَ في عَساكرِه لِيَمنعَ عَمَّهُ عن البِلادِ، فلمَّا تَقارَب العَسكرانِ قال قَسيمُ الدولةِ أتسز لبوزان: إنَّما أَطَعنا هذا الرَّجُلَ لنَنظُرَ ما يكون مِن أَولادِ صاحبِنا، والآن فقد ظَهرَ ابنُه، ونُريدُ أن نكون معه. فاتَّفَقا على ذلك وفارَقَا تتش، وصارا مع بركيارق، فلمَّا رأى تاجُ الدولةِ تتش ذلك عَلِمَ أنه لا قُوَّةَ له بهم، فعادَ إلى الشامِ، واستَقامَت البِلادُ لبركيارق.
ملكَ صلاحُ الدِّينِ يوسف بن أيوب مدينةَ دمشق، وسبَبُ ذلك أنَّ نور الدين لَمَّا مات ومَلَك ابنُه المَلِكُ الصالح إسماعيلُ بعده كان بدمشق، ولَمَّا استولى سيفُ الدين غازي بن قطب الدين مودود صاحِب الموصل وعَمِّ الملك الصالح إسماعيل على البلاد الجزرية، خاف شمس الدين علي بن الداية-وهو أكبر الأمراء النورية- أن يُغيرَ إلى حلب فيَملِكَها، فأرسل الخادمَ سعد الدين كمشتكين إلى دمشق لِيُحضِرَ الملك الصالح ومعه العساكِر إلى حلب، فلما وصلوا إليها قبَضَ سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته، وعلى ابن الخشاب رئيس حلب ومُقَدَّم الأحداث فيها، واستبَدَّ سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المُقَدَّم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليَعبُرَ الفرات إليهم؛ لِيُسَلِّموا إليه دمشق، فامتنع عن قصد دمشق، وراسل الخادم سعد الدين الملك الصالح وصالَحَهما على ما أخَذَه من البلاد، فلما امتنع سيفُ الدين غازي عن العبور إلى دمشق عَظُمَ خَوفُ ابن المقدم ومن معه من الأمراء، وقالوا: حيث صالحَ الخادم سعد الدين سيف الدين والملك الصالح لم يبقَ لهم مانعٌ عن المسير إلينا، فكاتبوا حينئذ صلاحَ الدين يوسف بن أيوب، صاحِبَ مصر، واستدعوه ليُملكوه عليهم، فلما وصلت الرسُلُ إلى صلاح الدين بذلك لم يلبَثْ، وسار جريدة -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- في سبعمائة فارس، والفرنج في طريقه، فلم يبالِ بهم، ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كلُّ من بها من العسكر إليه، فلَقُوه وخدموه، ودخل البلد، ونزل في دار والده المعروفةِ بدار العقيقي، وكانت القلعةُ بيد خادم اسمه ريحان، فأحضر صلاح الدين كمالَ الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكِمُ في جميع أموره من الديوانِ والوقف وغير ذلك، وأرسَلَه إلى ريحان ليسَلِّمَ القلعة إليه، وقال: "أنا مملوكُ الملك الصالح، وما جئتُ إلَّا لأنصُرَه وأخدمه، وأعيدَ البلاد التي أُخِذَت منه إليه"، وكان يَخطُبُ له في بلاده كلها، فصَعِدَ كمال الدين إلى ريحان، ولم يزَلْ معه حتى سَلَّمَ القلعة، فصَعِدَ صلاح الدين إليها، وأخَذَ ما فيها من الأموال، وأخرجها واتَّسَع بها وثَبَّت قَدَمَه، وقَوِيَت نفسه، وهو مع هذا يُظهرُ الطاعة للملك الصالح، والخُطبة والسكة باسمه، والصالحُ يخاطِبُه بالمملوكِ.
كان أبو علي يونُس بنُ عمر وَلِيَ المهديَّةَ، وجَعَل قائِدَ الجيش بالمهدية محمَّد بن عبد الكريم، وهو شجاعٌ مشهور، فعَظُمَت نكايته في العرب، فلم يَبقَ منهم إلَّا من يخافه، فاتَّفَق أنه أتاه الخبَرُ بأن طائفة من عوف نازلون بمكان، فخرج إليهم، وعَدَل عنهم حتى جازهم، ثم أقبَلَ عائدًا يطلُبُهم، وأتاهم الخبَرُ بخروجه إليهم، فهربوا من بين يديه، فلَقُوه أمامهم، فهربوا وتركوا المالَ والعيال من غيرِ قتال، فأخذ الجميعَ ورجع إلى المهديَّة، وسَلَّم العيالَ إلى الوالي، وأخَذَ مِن الأسلاب والغنيمة ما شاء، وسَلَّمَ الباقيَ إلى الوالي وإلى الجند، ثمَّ إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيدِ بن عمر اينتي، فوحدوا وصاروا من حِزبِ الموحِّدين، واستجاروا به في رَدِّ عيالهم، فأحضَرَ محمد بن عبد الكريم، وأمره بإعادةِ ما أخذ لهم من النَّعَم، فقال: أخَذَه الجُندُ، ولا أقدِرُ على رده، فأغلظ له في القَولِ، وأراد أن يبطِشَ به، فاستمهَلَه إلى أن يرجِعَ إلى المهديَّة ويسترِدَّ مِن الجند ما يجِدُه عندهم، وما عَدِمَ منه غُرِّمَ العِوَضَ عنه من ماله، فأمهله، فعاد إلى المهديَّة وهو خائف، فلما وصلها جمَعَ أصحابَه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد، وحالفهم على موافقتِه، فحَلَفوا له، فقَبَضَ على أبي علي يونس، وتغلَّب على المهديَّة ومَلَكَها، فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاقِ أخيه يونس، فأطلَقَه على اثني عشر ألف دينار، فلما أرسَلَها إليه أبو سعيد فَرَّقَها في الجند وأطلق يونس، وجمَعَ أبو سعيد العساكرَ، وأراد قَصْدَه ومحاصرته، فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى عليِّ بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضَدَ به، فامتنع أبو سعيدٍ مِن قصده، ومات يعقوبُ وولي ابنه محمد، فسير عسكرًا مع عَمِّه في البحر، وعسكرًا آخَرَ في البر مع ابنِ عَمِّه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فلما وصلَ عسكر البحر إلى بجاية، وعسكَرُ البَرِّ إلى قسنطينة الهوى، هرب الملثَّم ومن معه من العرب من بلاد إفريقيَّة إلى الصحراء، ووصل الأسطولُ إلى المهديَّة، فشكا محمد بن عبد الكريم ما لَقِيَ من أبي سعيد، وقال: أنا على طاعةِ أمير المؤمنين محمد، ولا أسَلِّمُها إلى أبي سعيد، وإنما أسلمها إلى من يَصِلُ من أمير المؤمنين؛ فأرسل محمَّد مَن يتَسَلَّمُها منه، وعاد إلى الطاعةِ.
توعَّكَ السلطانُ المَلِكُ الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ولَزِمَ الفراشُ أيامًا، فبلغ الأميرَ طاز ومغلطاي ومنكلي بغا أنَّه أراد بإظهار توعُّكِه القَبضَ عليهم إذا دخلوا إليه، وأنَّه قد اتَّفَقَ مع قشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر المارديني وتنكز بغا على ذلك، وأن ينعِمَ عليهم بإقطاعاتِهم وإمراتهم، فواعدوا أصحابَهم، واتَّفَقوا مع الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب، والأمير طيبغا المجدي والأمير رسلان بصل، وركبوا يوم الأحدِ سابِعَ عشر جمادى الآخرة بأطلابِهم، ووقفوا عند قبة النصر، فخرج السلطانُ إلى القصر الأبلق، وبعث يسألُهم عن سبب ركوبهم، فقالوا: "أنت اتفقت مع مماليكِك على مَسْكِنا، ولا بدَّ من إرسالهم إلينا، فبعث السلطانُ إليهم تنكز بغا وقشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر، فعندما وصلوا إليهم قَيَّدوهم، وبَعَثوهم إلى خزانة كايل، فسُجِنوا بها، فشَقَّ ذلك على السلطان، وقال: " قد نزلت عن السَّلطنةِ "، وسير إليهم النمجاة، فسلَّموها للأمير طيبغا المجدي، وقام السلطانُ إلى حريمه، فبعث الأمراءُ الأمير صرغتش، ومعه الأمير قطلوبغا الذهبي وجماعة؛ ليأخُذَه ويحبِسَه، فأخرجه صرغتمش وقد غطَّى وجهه إلى الرحبة، فلما رآه الخدام والمماليك تباكَوا عليه بكاءً كثيرًا، وطلع صرغتمش به إلى رُواق فوق الإيوان، ووكَلَ به من يحفَظُه، وعاد إلى الأمراء، وكانت مُدَّتُه ثلاث سنين وتسعة أشهر وأربعة عشر يومًا، منها مُدَّة الحجر عليه ثلاث سنين، ومدة استبداده تسعة أشهر، وكان القائِمُ بدولته الأمير شيخو رأس نوبة، ثم تولَّى صلاح الدين صالح بن الناصر محمد بن قلاوون حيث أقيمَ سُلطانًا بعد خَلْعِ أخيه الناصر حسن، وكان عمره أربع عشرة سنة، في يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة، وذلك أنَّ الأمراء لَمَّا حُمِلَت إليهم النمجاة، باتوا ليلة الاثنين بإسطبلاتهم، وبكَّروا يوم الاثنين إلى القلعة، واجتمعوا بالرحبة داخل باب النحاس، وطلَبوا الخليفةَ والقضاة وسائر أهل الدولة، واستدعَوا به، فلمَّا خرج إليهم ألبَسوه شِعارَ السلطنة، وأركبوه فرسَ النوبة من داخل باب الستارة، ورُفِعَت الغاشية بين يديه، وكان الأميرُ طاز والأمير منكلي بغا الفخري آخذَينِ بشكيمةِ الفَرَسِ حتى جلس على التخت، وحَلَفوا له، وحلَّفوه على العادة، ولقَّبوه بالملك الصالح، ونودِيَ بسَلطنتِه في القاهرة ومصرَ.
هو المعلم أسد البحر شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد السَّعْدي النجدي، من نجد عُمان، ويقال له السائح ماجد، وهو من علماءِ فنِّ الملاحة وتاريخه عند العربِ، ومِن كبارِ ربابنةِ العرب في البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي وخليج البنغال وبحر الصين. ولِدَ ابنُ ماجد عام 821هـ بنجد عُمان في عائلة تهتمُّ بركوب البحر، فكان أبوه وجَدُّه ملاحَينِ مشهورين، ولابن ماجد الفضلُ في إرساء قواعد الملاحة للعالم، وقد بقيت آراؤه وأفكاره في مجال الملاحة سائدةً في كلٍّ من البحر الأحمر والخليج العربي وبحر الصين. وهو أوَّلُ من كتب في المرشدات البحرية الحديثة، وصنَّف (الفوائد في أصول علم البحر والقواعد)، وأرجوزةً سمَّاها (حاوية الاختصار في أصول علم البحار) و(الأرجوزة السبعية) و(القصيدة المسماة بالهدية) و(أرجوزة بر العرب في خليج فارس)، و(المراسي على ساحل الهند الغربية) ورسائلَ أخرى. أما ما أُشيع من أنَّ ابن ماجد أرشد قائِدَ الأسطول البرتغالي فاسكو دي غاما إلى طريقِ الهند: فهو باطِلٌ وغير صحيحٍ، قال أحمد علاونة: "هو قول باطل مدارُه على النهروالي في كتابه (البرق اليماني في الفتح العثماني) وقد ذكر هذه الأسطورةَ بعد ثمانين سنة من حدوثِها، ولم يذكر أيُّ مؤرِّخٍ بعد النهروالي هذه الأسطورة، ثم جاء المستشرق فران عام 1922 ونفخ فيها من روحِه وتابعه عليها كثيرون منهم الزِّركْلي" وقد أورد العلاونة بعض الأدلة على بطلان إرشاد ابن ماجد لفاسكو دي غاما منها: أ- أن الروايةَ ذكَرت أنَّ ابن ماجد أرشد دي غاما وهو سكران، وهذا غير معقول أن يطمئنَّ قائد عسكري لفاقد الوعي ليدلَّه على طريق محفوف بالمخاطر. ب- لم تكن لابن ماجد خبرةٌ في الساحل الإفريقي. ج- لم يرد ذكر هذه الحادثة في أي من أعمال ابن ماجد النثرية والشعرية. د- كان ابن ماجد يعرِفُ حَقَّ المعرفة نوايا البرتغاليين وما يضمرونه من شَرٍّ للمسلمين. ه- لا يوجد مؤرِّخٌ برتغالي ممَّن عاصروا دي غاما وعُنُوا بتاريخ رحلاته أو ممَّن جاؤوا على آثارهم ذكروا أحمد بن ماجد. و- عاصر وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي عددٌ من المؤرخين العرب، ومنهم من عاصر ابن ماجد، ولم يذكُرْ أيٌّ منهم صلةَ ابن ماجد بالبرتغاليين.
اسْتَعمَل هِشامُ بن عبدِ الملك مَرْوانَ بن محمَّد بن مَرْوان -وهو ابنُ عَمِّه- على الجَزيرَة الفراتية وأذربيجان وأرمينية، وكان سَبَبُ ذلك أن مَرْوان بن محمَّد قال لهِشام: قد كان مِن دُخولِ الخَزَر إلى بِلادِ الإسلام وقَتْل الجَرَّاح وغَيرِه مِن المسلمين ما دَخَل به الوَهَنُ على المسلمين, أنَّ مَسلمَة بن عبد الملك، ما وَطِئ مِن بِلادِهم إلَّا أَدْناها، وكان قُصاراه السَّلامَة، وقد أَردتُ أن تَأذَن لي في غَزْوَةٍ أُذْهِبُ بها عَنَّا العارَ، وأَنْتَقِمُ مِن العَدُوِّ. فأَذِنَ له واسْتَعمَله على أرمينية, فسار إلى أرمينية والِيًا عليها، وسَيَّرَ هِشامٌ الجُنودَ مِن الشَّامِ والعِراقِ والجَزيرَة، فاجْتَمَع عِندَه مِن الجُنودِ والمُتَطَوِّعَة مائة وعشرون ألفًا، فأَظْهَر أنَّه يُريدُ غَزْوَ اللَّان وقَصَد بِلادَهم، وأَرسَل إلى مَلِك الخَزَر يَطلُب منه المُهادَنَة، فأَجابَه إلى ذلك، وأَرسَل إليه مَن يُقرِّرُ الصُّلْحَ، فأَمسَك الرَّسولَ عنده إلى أن فَرَغ مِن جِهازِه وما يُريدُ، ثمَّ أَغْلَظ لهم القَوْلَ وآذَنَهم بالحَرْبِ، وسَيَّرَ الرَّسولَ إلى صاحِبِه بذلك، فما وَصَل الرَّسولُ إلى صاحِبِه إلَّا ومَرْوان قد وافاهُم، فأَعْلَم صاحِبَه الخَبَرَ، وأَخبَره بما جَمَع له مَرْوان وحَشَد واسْتَعَدَّ. فاسْتَشار مَلِكُ الخَزَر أَصحابَه، فقالوا: إنَّ هذا قد اغْتَرَّكَ ودَخَل بِلادَك، فإن أَقَمْتَ إلى أن تَجْمَع لم يَجْتَمِع عندك إلى مُدَّة فيَبْلُغ مِنك ما يُريد، وإن أنت لَقِيتَه على حالِك هذه هَزَمَك وظَفَر بك، والرَّأيُ أن تَتَأَخَّر إلى أَقْصَى بِلادِك وتَدَعَه وما يُريدُ. فقَبِلَ رَأيَهم وسار حيث أَمَروه. ودَخَل مَرْوان بِلادَهم وأَوْغَل فيها وأَخْرَبَها، وغَنِمَ وسَبَى وانْتَهي إلى آخِرِها وأَقام فيها عِدَّةَ أيَّامٍ حتَّى أَذَلَّهم وانْتَقَم منهم، ودَخَل بِلادَ مَلِك السَّرير فأَوْقَع بِأَهلِه، وفَتَح قِلاعًا، ودان له المَلِكُ، وصالَحه على ألفِ رَأسٍ، وخمسمائة غُلام، وخمسمائة جارِيَة سُود الشُّعور، ومائة ألف مُدْيٍ تُحْمَل إلى البابِ، وصالَح مَرْوان أهلَ تومان على مائة رَأسٍ، وعشرين ألف مُدْيٍ، ثمَّ دَخَل أَرضَ زريكران، فصالَحَه مَلِكُها، ثمَّ أَتَى إلى أَرضِ حمزين، فأبى حمزين أن يُصالِحَه، فحَصَرَهُم فافْتَتَح حِصْنَهم، ثمَّ أَتَى سغدان فافْتَتَحَها صُلْحًا، ووَظَّفَ على طيرشانشاه عشرة آلاف مُدْيٍ كُلَّ سَنة تُحْمَل إلى البابِ، ثمَّ نَزَل على قَلْعَة صاحِب اللكز، وقد امْتَنَع من أَداءِ الوَظيفَة، فخَرَج مَلِكُ اللكز يُريد مَلِكَ الخَزَر، فقَتَله راعٍ بِسَهْمٍ وهو لا يَعرِفُه، فصالَح أَهلُ اللكز مَرْوانَ، واسْتَعْمَل عليهم عامِلًا، وسار إلى قَلعَة شروان، وهي على البَحرِ، فأَذْعَن بالطَّاعَة، وسار إلى الدّوداني فأَقْلَع بهم ثمَّ عاد.
سُيِّرَت العساكِرُ مِن مِصرَ لقتالِ المفرج بن جراح، وسبَبُ ذلك أنَّ ابنَ جَرَّاح عظُمَ شَأنُه بأرض فلسطينَ، وكثُرَ جَمعُه، وقَوِيَت شوكتُه، وبالغ هو في العيثِ والفساد، وتخريبِ البلاد، فجهز العزيزُ الفاطمي العساكرَ وسَيَّرَها، وجعل عليها القائِدَ يلتكين التركي، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه من العربِ، من قيسٍ وغيرها، جمعٌ كثيرٌ، وكان مع ابنِ جَرَّاح جمعٌ يرمون بالنُّشَّاب، ويقاتلون قتالَ الترك، فالتَقَوا ونشبت الحرب بينهما، وجعل يلتكين كَمينًا، فخرج على عسكرِ ابنِ جراح من وراء ظهورهم، عند اشتداد الحرب، فانهزموا وأخذَتْهم سيوفُ المصريين، ومضى ابن جراح منهزمًا إلى أنطاكية، فاستجار بصاحبِها فأجاره، وصادف خرُوج مَلِك الروم من القسطنطينيَّة في عساكرَ عظيمةٍ يريدُ بلاد الإسلام، فخاف ابنُ جراح، وكاتَبَ بكجور بحمص والتجأ إليه، وأمَّا عسكَرُ مِصرَ فإنَّهم نازلوا دمشقَ، مخادعين لقسَّام الجبيليِّ التَّرَّاب، لم يظهروا له إلَّا أنهم جاؤوا لإصلاحِ البَلَدِ، وكفِّ الأيدي المتطَرِّقة إلى الأذى، وكان القائد أبو محمود قد مات في هذه السَّنةِ، وهو والي البلد، ولا حُكْمَ له، وإنما الحُكمُ لقَسَّام، فلما مات قام بعده في الولايةِ جَيشُ بن الصمصامة، وهو ابنُ أخت أبي محمود، فخرج إلى يلتكين وهو يظُنُّ أنه يريد إصلاحَ البلد، فأمره أن يخرجَ هو ومن معه وينزِلوا بظاهر البلد، ففَعَلوا. وحَذِرَ قَسَّام، وأمر مَن معه بمباشرةِ الحَربِ، فقاتلوا دفعاتٍ عِدَّة، فقوي عسكر يلتكين، ودخلوا أطرافَ البلد، ومَلَكوا الشاغور، وأحرقوا ونهبوا، فاجتمع مشايخُ البلَدِ عند قَسَّام، وكَلَّموه في أن يخرجوا إلى يلتكين، ويأخذوا أمانًا لهم وله، فانخذل وذَلَّ، وخضع بعد تجبُّرِه وتكبُّرِه، وقال: افعلوا ما شئتُم، وعاد أصحابُ قَسَّام إليه، فوجدوه خائفًا، مُلقِيًا بيده، فأخذ كلُّ لنَفسِه. وخرج شيوخُ البلد إلى يلتكين، فطلبوا منه الأمانَ لهم ولقسام، فأجابهم إليه، وكان مبدأُ هذه الحرب والحصر في المحرم لعشرٍ بَقِينَ منه، والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه، ولم يعرض لقسَّامٍ ولا لأحدٍ مِن أصحابه، وأقام قسَّام في البلد يومين ثم استتَرَ، فأخذ كلَّ ما في داره وما حولها من دورِ أصحابِه وغيرِهم، ثمَّ خرج إلى الخيام، فقصد حاجِبَ يلتكين وعَرَّفه نفسَه، فأخذه وحَمَله إلى يلتكين، فحمله يلتكينُ إلى مصر، فأطلقه العزيزُ، واستراح النَّاسُ من تحكُّمِه عليهم، وتغَلُّبِه بمن تبعه من الأحداثِ مِن أهلِ العيثِ والفَسادِ.
لما عاد صلاحُ الدين إلى مصرَ بلَغَه أنَّ باليمن إنسانًا يسمَّى عبدَ النبي بن مهدي صاحِبَ زبيد يزعُمُ أنه ينتشر ملكُه حتى يملِكَ الأرضَ كُلَّها، وكان قد ملك كثيرًا من بلادِ اليمَنِ, واستولى على حصونِها وخطب لنَفسِه، وقطع الخطبةَ للخليفةِ العباسي, وكان السُّلطانُ قد ثبتت قواعِدُه وقَوِيَ عسكرُه، فاستأذن السلطان نور الدين محمود في أن يسيرَ إلى اليمن لقصدِ عبد النبي، فأذِنَ له في ذلك، فجهَّز أخاه شمس الدولة توران شاه بجيش اختاره، وتوجَّه إليها من الديار المصرية في مستهَلِّ رجب، فوصل إلى مكَّةَ، ومنها إلى زبيد، وفيها صاحِبُها المتغَلِّبُ عليها المعروفُ بعبد النبي، فلما قرُبَ منها رآه أهلُها، فاستقَلُّوا من معه، فقاتلهم شمس الدولة ومن معه، فلم يثبُت أهلُ زبيد وانهزموا، ووصل المصريونَ إلى سور زبيد، فلم يجدوا عليه من يمنَعُهم، فنصبوا السلالم، وصَعَدوا السور، فملكوا البلدَ عَنوةً ونَهَبوه وأكثروا النَّهبَ، وأخذوا عبد النبيِّ أسيرًا وزوجتَه المدعوة بالحُرَّة، وسَلَّمَ شمسُ الدولة عبد النبي إلى أحد أمرائه، يقال له سيف الدولة مبارك بن كامل من بني منقذ، أصحاب شيزر، وأمره أن يستخرجَ منه الأموالَ، وبذلك انتهت الدولة المهديَّة باليمن، ولَمَّا ملكوا زبيدَ واستقَرَّ الأمر لهم بها ودان أهلُها، وأقيمت فيها الخُطبةُ العباسيَّة، أصلحوا حالها، وساروا إلى عدن، وصاحِبُها ياسرُ بنُ بلال، فسار إليهم وقاتَلَهم، فانهزم ياسِرٌ ومن معه، وسبقهم بعضُ عسكر شمس الدولة، فدخلوا البلدَ قبل أهله، فملكوه، وأخذوا صاحِبَه ياسرًا أسيرًا، وأرادوا نهبَ البلد، فمنعهم شمسُ الدولة، وقال: ما جئنا لنخربَ البلاد، وإنما جئنا لنَملِكَها ونُعَمِّرَها وننتفع بدخلها؛ فلم ينهب منها أحدٌ شيئًا، فبقيت على حالها وثبَت مُلكُه واستقَرَّ أمرُه، وبذلك انتهت دولة بني زريع في اليمن، وآل الزريع هم أهل عدن، وهم شيعةٌ إسماعيليَّةٌ من همذان بن جشم، ولَمَّا فرغ شمس الدولة مِن أمْرِ عدن عاد إلى زبيد، وملك أيضًا قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون، واستناب بعدن عزَّ الدين عثمان بن الزنجيلي، وبزبيد سيفَ الدولة مبارك بن منقذ، وجعَلَ في كل قلعةٍ نائبًا من أصحابه، وألقى مُلكُهم باليمن جِرانَه ودام، وأحسَنَ شمسُ الدولة إلى أهالي البلاد، واستصفى طاعتَهم بالعدل والإحسان، وعادت زبيد إلى أحسنِ أحوالها من العمارة والأمن.
بعد ما كان من الفِتنةِ بمكَّةَ العامَ السَّابِقَ وانزعاج السلطانِ الناصر محمد بن قلاوون كثيرًا لذلك، ففي المحَرَّم هذا العام قَدِمَ الحاجُّ، وأخبروا بكثرةِ الفِتَن بمكَّةَ بين الشريفين عُطيفة ورُميثة، وقُوَّة رُمَيثة على عُطَيفة ونهْبِه مكَّة وخروجه عن الطاعة، وأنه لم يلقَ رَكبَ الحُجَّاج، فكتب بحضورِه، فلما ورد المرسومُ بطلب الشريفينِ إلى مصر اتَّفَقا وخرجا عن الطاعة، فشقَّ ذلك على السلطان، وعَزَم على إخراج بني حسَن من مكة، وتقَدَّم السلطان إلى الأمير سيف الدين أيتمش أن يَخرُجَ بعسكرٍ إلى مكة، وقال له بحضرة القضاة: "لا تدع في مكَّةَ أحدًا من الأشرافِ ولا من القُوَّاد ولا مِن عَبيدِهم، ونادِ بها من أقام منهم حَلَّ دَمُه، ثم أحرِقْ جَميعَ وادي نخلةَ، وألقِ في نَخلِها النَّارَ حتى لا تدَعَ شَجرةً مُثمِرةً ولا دِمنةً- آثار الديار- عامرةً، وخَرِّبْ ما حول مكَّةَ من المساكن، وأخرِجْ حَرَم الأشرافِ منها، وأقِمْ بها بمن معك حتى يأتيك عسكَرٌ آخرُ"، فقام في ذلك قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني ووعَظَ السُّلطانَ وذَكَّره بوجوبِ تَعظيمِ الحَرَمِ، إلى أن استقَرَّ الأمر على أن كُتِبَ لرُمَيثة أمانٌ وتقليد بإمرة مكَّة، وسار العسكر من ظاهر القاهرة في نصف صفر، وعِدَّتُهم سبعمائة فارس، وفي سابع جمادى الآخرة قدم الأمير أيتمش بالعسكر المجرَّد إلى مكة، وكان الشريفُ رُمَيثة قد جمع عربًا كثيرةً يريدُ محاربتهم، فكتب إليه الأميرُ أيتمش يُعَرِّفُه بأمان السلطان له وتقليدِه إمرةَ مَكَّة، ويحثُّه على الحضور إليه ويرَغِّبُه في الطاعة، ويحَذِّرُه عاقبةَ الخلاف ويهدده على ذلك، ويُعَرِّفُه بما أمر به السلطانُ من إجلاء بني حسن وأتباعِهم عن مكة، فلما وقف رُمَيثةُ على ذلك اطمأَنَّ إلى الأمير أيتمش وأجابه بما كان قد عزم عليه من الحربِ لو أنَّ غَيرَه قام مقامَه، وطلب منه أن يحلِفَ هو ومن معه ألَّا يَغدِرَ، وأن يُقرِضَه مبلغ خمسين ألف درهم يتعَوَّضُها من إقطاعِه، فتقَرَّر الحال على أن يبعثَ إليه الأمير أيتمش عشرةَ أحمال من الدقيق والشعير والبقسماط وغيره، ومبلغ خمسة ألاف درهم، فقَدِمَ حينئذ، فلما قارب رُمَيثة مكة رَكِبَ الأمير أيتمش بمن معه إلى لقائِه، فإذا عِدَّةٌ من قواده مع وزيره قد تقَدَّموه ليحَلِّفوا له العسكر، فعادوا بهم إلى الحَرَمِ وحلفوا له أيمانًا مؤكَّدة، ثم ركبوا إلى لقائِه وقابَلوه بما يليقُ به من الإكرام، فلَبِسَ رميثة تشريفَ السلطان، وتقَلَّد إمارةَ مكَّة، وعَزَم على تقدمة شيءٍ للأمراء، فامتنعوا أن يقبلوا منه هَدِيَّةً، وكتبوا إلى السلطانِ بعَودِ الشريف إلى الطاعةِ.
في شهر جمادى الآخرة، أوله الثلاثاء، وفيه مرض السلطان الملك المنصور، وفي يوم الجمعة رابعه: عادت الخيول من الربيع، وظهر بين أهل الدولة حركة، فكَثُرت القالة، وبات المماليك تسعى بعضها إلى بعض، فظهر الملك الناصر في بيت الأمير سودن الحمزاوي، وتلاحق به كثير من الأمراء والمماليك، ولم يطلع الفجر حتى ركب السلطان بآلة الحرب، وإلى جانبه ابن غراب، وعليه آلة الحرب، وسار بمن اجتمع إليه يريد القلعة، فقاتله سودن المحمدي أمير أخور، وإينال باي بن قجماس، وبيبرس الكبيري، ويشبك بن أزدمر، وسودن المارديني، قتالًا ليس بذاك، ثم انهزموا، وصعد السلطان إلى القلعة، فكانت مدة عبد العزيز سبعين يومًا، فعاد السلطان الملك الناصر زين الدين فرج ابن الملك الظاهر برقوق إلى الملك ثانيًا؛ وذلك أنه لما فُقِد من القلعة وصار إلى بيت سعد الدين بن غراب، ومعه بيغوت، قام له بما يليق به، وأعلم الأمير يشبك به، فخفي على أهل الدولة مكانه، ولم يعبؤوا به، وأخذ ابن غراب يدبر في القبض على الأمير إينال باي، فلم يتمَّ له ذلك، فلما تمادت الأيام قرر مع الطائفة التي كانت في الشام من الأمراء، وهم يشبك، وقطلو بغا الكركي، وسودن الحمزاوي في آخرين، أنه يخرج إليهم السلطان، ويعيدونه إلى المُلك؛ لينفردوا بتدبير الأمور؛ وذلك أن الأمير بيبرس الأتابك قويت شوكته على يشبك، وصار يتردد إليه، ويأكل على سماطه، فعزَّ عليه وعلى أصحابه ذلك، فما هو إلا أن أعلمهم ابن غراب بالخبر، فوافقوه على ذلك، وواعد بعضهم بعضًا، فلما استحكم أمرهم، برز الناصر نصف ليلة السبت خامس جمادى الآخرة من بيت ابن غراب، ونزل بدار الأمير سودن الحمزاوي، واستدعى الناس، فأتوه من كل جهة، وركب وعليه سلاحه، وابن غراب إلى جانبه، وقصد القلعة، فناوشه من تأخر عنه من الأمراء قليلًا، ثم فرُّوا، فملك السلطان القلعة بأيسر شيء؛ وذلك أن صوماي رأس نوبة كان قد وكل بباب القلعة، فعندما رأى السلطان فتح له، فطلع منه، وملك القصر، فلم يثبت بيبرس ومن معه، ومرُّوا منهزمين، فبعث السلطان بالأمير سودن الطيار في طلب الأمير بيبرس فأدركه خارج القاهرة، فقاتله وأخذه وأحضره إلى السلطان، فقيَّده وبعثه إلى الإسكندرية فسُجِن بها، واختفى الأمير إينال باي بن قجماس، والأمير سودن المارديني.
هو الإمام العلامة جلال الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم بن الكمال الأنصاري المحلي الأصل نسبة للمحلة الكبرى من الغربية بالقاهرة، الشافعي المصري، ويعرف بالجلال المحلي. ولد في مستهل شوال سنة 791 ونشأ بها فقرأ القرآن وحفظ المتون واشتغل في فنون، فأخذ الفقه وأصوله والعربية وأفتى ودرَّس عدة سنين، وله عدة مصنفات، ولم يكمل بعضها، ورُشِّح لقضاء الديار المصرية غير مرة. قال شمس الدين السخاوي: "مهَر المحلي وتقدم على غالب أقرانه وتفنَّن في العلوم العقلية والنقلية، وكان أولًا يتولى بيع البزِّ في بعض الحوانيت ثم أقام شخصًا عوضه فيه وتصدى هو للتصنيف والتدريس والإقراء، فشرح كلًّا من جمع الجوامع والورقات والمنهاج الفرعي والبردة، وأتقنها ما شاء مع الاختصار، وعمل منسكًا وتفسيرًا لم يكمل وغيرهما، ورَغِب الأئمة في تحصيل تصانيفه وقراءتها وإقرائِها وكان شيخنا ابن خضر يكثر من وصفه بالمتانة والتحقيق, وقرأ على جلال الدين من لا يحصى كثرة، وارتحل الفضلاء للأخذ عنه، وتخرج به جماعة درَّسوا في حياته، ولكنه صار بأخرة أيامه يستروح في إقرائه لغلبة الملل والسآمة عليه وكثرة المخبطين، ولا يصغي إلا لمن علم تحرزه خصوصًا، وهو حاد المزاج لا سيما في الحر، وإذا ظهر له الصواب على لسان من كان، رجع إليه مع شدة التحرز، وحدَّث باليسير وسمع منه الفضلاء، وقد ولِيَ تدريس الفقه بالبرقوقية، وبالمؤيَّدية وعرض عليه القضاء فأبى، وشافه الظاهرَ العجزَ عنه، بل كان يقول لأصحابه: إنه لا طاقة لي على النار، وكان إمامًا علامة محققًا نظَّارًا مفرط الذكاء صحيح الذهن؛ بحيث كان يقول بعض المعتبرين: إن ذهنه يثقب الماس، وكان هو يقول عن نفسه: إن فهمي لا يقبل الخطأ، حاد القريحة قوي المباحثة" وأشهر مصنفاته هو التفسير الذي لم يكمله، وأكمله بعده جلال الدين السيوطي، والمعروف اليوم بتفسير الجلالين نسبة إليهما، وله كنز الراغبين في فقه الشافعية، وله البدر الطالع في شرح جمع الجوامع في أصول الفقه، وغيرها من المصنفات, وقد حج مرارًا. توفي بالقاهرة وسنه نحو ثلاث وسبعين بعد أن تعلل بالإسهال من نصف رمضان, وفي صبيحة يوم السبت مستهل محرم سنة أربع وستين، وصلِّيَ عليه بمصلى باب النصر في مشهد حافل جدًّا، ثم دفن مع آبائه بتربته التي أنشأها تجاه جوشن، وتأسف الناس عليه كثيرًا وأثنوا عليه جميلًا ولم يخلف بعده في مجموعة مثله، ورثاه بعض الطلبة بل مدحه في حياته جماعة من الأعيان.
لما بايع أهلُ مراكش أبا فارس بن أحمد المنصور الذهبي السعدي، عزم أخوه زيدان على النهوض إليه، فخرج من فاس يؤمُّ بلاد الحوز، واتصل الخبَرُ بأبي فارس فجهَّز لقتال أخيه زيدان جيشًا كثيفًا وأمَّر عليهم ولده عبد الملك، فقيل له: إن زيدان رجلٌ شجاع عارفٌ بمكايد الحرب وخُدَعه، وولدك عبد الملك لا يقدِرُ على مقاومته، فلو سرَّحت أخاك محمد الشيخ المأمون لقتالِه كان أقرب للرأي؛ لأن أهل الغرب لا يقاتلونَه؛ لأنه كان خليفةً عليهم مُدَّةً، فهُم آنَسُ به من زيدان، فأَطلق أبو فارس أخاه المأمونَ من السجن وأخذ عليه العهودَ والمواثيق على النصحِ والطاعة وعدمِ شَقِّ العصا، ثم سرَّحه في ستمائة من جيش المتفرِّقة الذين كان المنصور جمعَهم ليبعث بهم إلى كاغو من أعمال السودان، وقال له ولأصحابه: جِدُّوا السير الليلةَ؛ كي تُصبحوا بمحلة جؤذر على وادي أم الربيع، فلما انتهى الشيخ إلى محلة جؤذر وعلم الناسُ به هُرِعوا إليه واستبشروا بمَقدَمِه، ثم كانت الملاقاةُ بينه وبين السلطان زيدان بموضعٍ يقال له حواتة عند أم الربيع، ففرَّ عن زيدان أكثرُ جيشه إلى المأمون وحنُّوا إلى سالف عهدِه وقديمِ صحبتِه، فانهزم زيدان لذلك، ورجع أدراجَه إلى فاس فتحصَّنَ بها، وكان أبو فارس قد تقدَّم إلى أصحابه في القبضِ على الشيخ متى وقعت الهزيمةُ على زيدان، فلما فر زيدان انعزل الشيخُ فيمن انضمَّ إليه من جيشِ أهل الغرب وامتنع على أصحابِ أبي فارس فلم يقدِروا منه على شيءٍ، وانتعش أمرُه واشتدَّت شوكتُه، ثم سار إلى فاس يقفو أثرَ السلطان زيدان، ولما اتصل بزيدان خبرُ مجيئه إليه راود أهل فاس على القيامِ معه في الحصارِ والذبِّ عنه والوفاء بطاعته التي هي مقتضى بيعتِهم التي أعطَوا بها صفقتَهم عن رضًا منهم، فامتنعوا عليه وقلبوا له ظَهرَ المِجَنِّ، وأعلنوا بنصر الشيخ المأمون وبيعته لقديم صحبتِهم له، ولما آيسَ زيدان من نصرهم وقد أرهقه الشيخُ المأمون في جموعِه، خرج من فاس بحشَمِه وثِقلِه ناجيًا بنفسه وتبِعَه جمعٌ عظيم من أصحاب الشيخ فلم يقدروا منه على شيءٍ، وذهب إلى تلمسان فأقام بها، وأما الشيخ فإنه لما وصل إلى فاس تلقَّاه أهلها ذكورًا وإناثًا وأظهروا الفرحَ بمَقدَمِه، فدخلها ودعا لنفسِه فأجيبَ واستبَدَّ بمُلكِها، ثم أمرَ جيش أهل مراكش أن يرجِعوا إلى بلادهم، فانقلبوا إلى صاحبِهم مُخفِقين.
حصَلَت مذبحةٌ في مُخيَّم صبرا وشاتيلا للَّاجئين الفِلَسطينيِّين في لُبنان في شَهر سبتمبر 1982م، على يَدِ الميليشياتِ المارونيةِ أثناءَ الاحتلال الإسرائيلي لِبَيروت لبنان في خِضَمِّ الحرْب الأهلية اللُّبنانية، تحت قِيادة أيلي حبيقة، الذي أصبَح فيما بعْدُ عُضوًا في البرلمان اللُّبناني لمدَّةٍ طويلة، ووزيرًا عام 1990م، وأدَّت هذه المذبحةُ إلى قتْل ما يقرُبُ من 3500 من الرِّجال، والأطفالِ، والنساء، والشيوخِ المدنيِّين العُزَّل من السلاحِ. وفي ذلك الوقت كان المخيَّمُ مُطوقًا بالكاملِ مِن قِبَلِ الجيش الإسرائيليِّ الذي كان تحت قِيادة أرئيل شارون ورافائيل أيتان، والدرجةُ التي تورَّط بها الجيشُ الإسرائيلي محطُّ خلافٍ؛ ففي الخامس عشر مِن أيلول 1982 اجتاحَت القواتُ الإسرائيلية العاصمةَ اللُّبنانية بيروتَ في أولِ مُحاولةٍ لها لِدُخول عاصمةٍ عربية، وذلك منذ إنشاء الدَّولة العِبْرية سنة 1948، ودخَل الجيشُ الإسرائيليُّ بيروتَ الغربيةَ بعدما رُفِعَت المتاريس وأُزِيلَت الألغامُ، وبعد مُضِيِّ 14 يومًا على رَحيل المقاتلين الفلسطينيين عن بَيروت، وانقضاءِ يَومينِ على انسحابِ القواتِ المتعدِّدة الجنسيات مِن لُبنان، التي انسحَبَت قبل انتهاءِ مُدَّتها بأسبوعٍ، ومنذ اليومِ الأول لِدُخولها العاصمةَ أحكَمَت القواتُ الغازيةُ الطوقَ على مُخيَّميْ صَبرا وشاتيلا، ومنعَت الدخولَ إليهما والخروجَ منهما، ولم تَسمَحْ حتى للصحفيينَ المحلِّيين ومُراسلي الصحافةِ العالمية بدُخول المخيَّماتِ، وذلك لمدَّة ثلاثةِ أيام، وهي المدة التي نُفِّذَت فيها المذابحُ الجماعيةُ داخلَ المخيَّمين وسطَ تَعتيمٍ شامل، وفي الثامن عشر مِن أيلول فكَّت القواتُ الإسرائيلية الطوقَ عن المخيَّمين، لِيُكشَفَ عن مَذبحةٍ تَقشعرُّ لها الأبدانُ، وتُشكِّلُ مُنعطفًا خطيرًا في تاريخ الحضارةِ الإنسانية في هذا العصرِ، وقد اتَّهمت إسرائيلُ في البداية قواتِ العميلِ سعد حداد بارتكابِ المذابح، الذي نفَى ذلك نفيًا قاطعًا، وأعرَبَ عن استنكارِه الشديدِ للمجزرةِ التي وقعَت في المخيَّمات، وكي لا تُغضِبَ إسرائيلُ حليفَها سعد حداد، نفَت أن يكونَ لِقُواتِه دخلٌ في المذابحِ، وأعلنَت أن حزبَ الكتائبِ هو الذي قام بارتكابِ المجازر البشعةِ داخل المخيَّماتِ، وقالت: لقد حاوَلْنا منْعَ العناصرِ المتطرِّفة في الكتائب مِن ارتكابِ المجازر ضدَّ اللاجئينَ، وقال بَيان الحكومةِ الإسرائيلية: إنَّ الجيشَ الإسرائيلي أجبَرَ الميليشياتِ المسيحيةَ على مُغادرة المخيَّمين فورَ عِلمِه بوُقوع الحادثِ، إلا أنَّ القواتِ اللُّبنانيةَ ومجلسَ الأمن الكتائبيّ -على حدِّ تَعبيرِه- نَفَيَا ما تردَّد عن مُشاركة عناصرَ كتائبيةٍ في الأحداثِ التي جَرَت في المخيَّمات الفلسطينية في بَيروت الغربيةِ.