بعد أن فَشِلَ عليُّ بنُ إسحاق الملثَّم السنة الماضية في مُلك بجاية، سار علي إلى إفريقيَّة، فلما وصل إليها اجتمع سليمٌ ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم التركُ الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع بهاء الدين قراقوش، ودخل أيضًا من أتراكِ مِصرَ مملوك لتقي الدين بن أخي صلاح الدين، اسمُه بوزابة، فكَثُرَ جَمعُهم، وقَوِيَت شوكتُهم، فلما اجتمعوا بلغت عِدَّتُهم مبلغًا كثيرًا، وكُلُّهم كاره لدولة الموحِّدين، وقصدوا بلاد إفريقيَّةَ فمَلَكوها جميعها شرقًا وغربًا إلَّا مدينتي تونس والمهدية؛ فإن الموحدين أقاموا بهما، وحَفِظوهما على خوفٍ وضِيقٍ وشِدَّة، وكان الوالي على إفريقيَّةَ حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يُعلِمُه الحال، وقصد الملثَّم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتَمِلُ على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلُها منه الأمان، فأمَّنهم، فلما دخلها العسكَرُ نهبوا جميع ما فيها من الأموالِ والدوابِّ والغَلَّات، وسلبوا النَّاسَ حتى أخذوا ثيابَهم، وامتدت الأيدي إلى النِّساءِ والصبيان، وتركوهم هلكى، فقَصَدوا مدينة تونس، فأما الأقوياءُ فكانوا يخدُمون ويَعمَلون ما يقوم بقُوتِهم، وأما الضعفاء فكانوا يَستَعطونَ ويسألون الناس، ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلَكَهم البَردُ ووقع فيهم الوباء، فأُحصيَ الموتى منهم فكانوا اثني عشر ألفًا، هذا من موضع واحد، ولما استولى الملثَّم على إفريقية قطَعَ خطبة أولاد عبد المؤمن وخطَبَ للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلُبُ الخِلَعَ والأعلامَ السُّودَ.
هو الأميرُ أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر الأمير المستنصر بن الأمير أبي زكرياء الهنتاتي البربري، الموحدي، ولي أبوه يحيى مدة ومات سنة 647 وهما بربريان من أتباع دولة الموحدين صاحبا تونس وأجل ملوكِ الغرب في زمانهما، كان جدُّه الشيخ الهنتاتي من العشرة خواص ابن تومرت، وكان محمد ملكًا مدبِّرًا شجاعًا، عاليَ الهمة، سائسًا، متحيلًا على بلوغ مقاصده، مقتحمًا للأخطار، كريمًا جوادًا، ذا غرام بالعمارات واللذات، تُزَفُّ إليه كلَّ ليلة جارية، وكان وليَّ عهد أبيه واتفق موت أبيه وهو غائبٌ عن تونس، يعني أبا عبد الله، فساق إليها على بغل في خمسة أيام ومات البغلُ وأسرع خوفًا مِن عَمَّيه، ثم لما تمكَّن قَتَلَ عمَّيه وأنفق في العرب الأموالَ واستخدمهم. أباد جماعة من الخوارج ظفر بجماعةٍ مِن أعيانهم وسجَنَهم، ثم أهلكَهم ببناء قبة عمل أساسها من ملحٍ وحبسهم بها، ثم أرسل الماء على أساسِها، فانردمت عليهم, وكانت أسلحةُ الجيش كلُّها في خزائنه، فإذا وقع أمرٌ أخرَجَها وفَرَّقَها عليهم وإذا فرغ من الحَربِ أعادها إلى الخزائن. ولم يكن لجنده إقطاع، بل يجمَعُ ارتفاع البلاد، فيأخذ لنفسِه الربعَ والثمُنَ ويُنفِقُ ما بقي فيهم في كلِّ عام أربع نفقات، توفي في أواخر هذه السنة وسَبَبُ موته أنه خرج إلى الصيد وحصل له من كثرةِ الحركة انزعاج وتغير مزاج، وزاد به الألم، فعاد إلى المدينة وهو ضعيف، فبقي على ذلك مدة أيام إلى أن توفي، وله من العمر اثنان وخمسون سنة.
هو العالم الفقيهُ الشيخ عثمان بن عبد الجبَّار بن حمد بن شبانة الوهبي التميمي، بقيَّةُ العُلماء الزُّهَّاد، ورِثَ العلمَ كابرًا عن كابر مِن آبائه وأجداده وأعمامه وإخوانه، وممَّن تعلم منهم ابنُ عمه الشيخ حمد بن عثمان بن عبد الله، والشيخ حمد التويجري، والشيخ عبد المحسن بن نشوان بن شارخ، القاضي في الكويت والزبير، والشيخ عبد العزيز بن عيد الإحسائي نزيل الدرعية، وكان الشيخ عثمان فقيهًا له قُدرةٌ على استحضار أقوال العلماء، وله معرفةٌ في التفسير والفرائض والحساب، وهو عالمُ زمانِه في المذهَبِ، لا يدانيه فيه أحدٌ، تخرَّج على يديه وانتفع به خلقٌ كثير، منهم: ابنه القاضي الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن بن أحمد الثميري قاضي سدير، والشيخ عثمان بن علي بن عيسى قاضي الغاط والزلفي، وغيرهم. وكان في الغايةِ مِن الوَرَعِ والعبادة والعفاف، عَيَّنه الإمام عبد العزيز بن محمد قاضيًا لعسير، وألمع عند عبد الوهاب أبو نقطة المتحَمِّي، وأقام هناك مدة ثم رجع، وأرسله الإمام عبد العزيز بن محمد أيضًا قاضيًا لعسير عند ابن حرملة وعشيرته، ثم أرسله الإمام سعود قاضيًا في عمان، وأقام في رأس الخيمة يقضي بين الناسِ ويُدَرِّس لطلابِ العلم، ثم رجع، ولَمَّا توفِّيَ عَمُّه محمد قاضي بلدان سدير، عَيَّنه الإمام سعود مكانه قاضيًا لبلدان سدير، واستمَرَّ في القضاء زمن الإمام سعود وزمن ابنه الإمام عبد الله وما بعدهما، إلى أن توفي في السابع والعشرين من هذا الشهر.
قصد في هذه السنة شريفُ مكَّةَ محمد بن عون بتحريضٍ من رؤساء أهل القصيم الذين زيَّنوا له أنَّه إن سار إلى نجدٍ فلا يقاومُه أحدٌ ولا يثبُتُ فيصلُ بن تركي في مكانِه، فجهَّز نفسَه وعساكره واستلحق عساكِرَ الترك من المدينة والحناكية، وظهر معه خالدُ بن سعود واجتمع عليه عساكِرُ كثيرةٌ، وقَدِمَ القصيم في ربيع الآخر وأطاعه أهلُ القصيم كلُّهم، ووفد عليه كثيرٌ من رؤساء العُربان وأمراء البلدان، فلما علم فيصل بهذا الخبر استنفر رعيَّتَه وأمر ابنَه عبد الله أن يركَبَ من الرياض، وجهَّزَ معه الخيل والرجال ونزل ناحية سدير، وتكاملت عليه باقي غزوانه فيها، فلما علم الشريف بذلك داخلَه الفَشَلُ، وأرسل إلى فيصل يطلب الصلحَ وأن يرسِلَ له أحد إخوانِه مع هدية تكسِرُ عنه الفشَلَ، فقبل فيصل فأرسل له أخاه محمدًا ومعه ثماني عمانيات وخيل، لكِنَّ أهل القصيم أشاروا عليه برَدِّ الهدية ليعلمَ أهلُ نجد بقوَّتِه فيكاتبوه، فلما علم فيصل بذلك غَضِبَ وأمر بالنفير لملاقاةِ الشريف، فلما بلَغَ الشريف خروجُ الإمام فيصل وابنه عبد الله داخله الفشل وحَلَّ به الرعب وقنع باليسيرِ وشتَمَ مَن أشار عليه من أهل القصيم بالخروجِ، وأرسل إلى فيصل للمصالحة الأبدية والمسالمة المَرْضية فقَبِلَ منه فيصل وأرسل له هدايا من النجائِبِ العمانيات وأطايب الخيل، وعاد من عنيزة إلى مكة في منتصف رجب من هذه السنة راضيًا على فيصل ساخطًا على أهل القصيم ورؤسائِهم.
بعد أن انفصلت اليمنُ عن الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى استقلَّ بحكمِها الإمام يحيى حميد الدين حتى سنة 1948م حكمًا يجمع بين الإمامة الدينية والسلطة السياسية، وعاونه في الإدارة أولادُه، ولما قتل الإمام يحيى في شباط 1948م في مؤامرة بسبب صراع أسري، تولى الحكم ابنُه أحمد الذي انفتح على العالم بانضمامه إلى الجامعة العربية، ثم لهيئة الأمم المتحدة، بل وفتح باب العلاقة مع دول المعسكر الشيوعي الاشتراكي، فقَبِل عروض الأسلحة من الاتحاد السوفيتي مع بقاء قبوله لمعونات أمريكا وألمانيا، ثم بعد موت الإمام أحمد حكم ابنُه محمد البدر، وبعد حكمه بأسبوع أعلن الأحرار اليمنيون الثورةَ ومعهم ضباط من الجيش بزعامة عبد الله السلال بتحريض ودعم من جمال عبد الناصر، وذلك في 27 ربيع الثاني / 26 سبتمبر، وأعلنت مصر تأييدَها للثورة في اليوم الثاني من قيامها، فهاجم الثوارُ قصر الحاكم البدر بن أحمد، وأعلنوا أنهم قتلوه وأصدروا في 3 أكتوبر 1962م دستورًا مؤقتًا يعلن النظام الجمهوري في البلاد ويلغي النظام الملكي وحُكم الأئمة، وتم تشكيل مجلس ثورة برئاسة محمد علي عثمان يتبعه مجلس استشاري من الزعماء القبليين ومجلس وزراء، وأعلنوا إلغاءَ الرِّقِّ ونظام الطبقات والتمييز الطائفي بين الزيدية والشافعية، ثم اختيرَ عبد الله السلال رئيسًا للجمهورية اليمنية الشمالية، والتي استمرت قرابة 8 سنوات 1962م إلى 1970م بين مدٍّ وجزر.
هو الشيخُ محمد فؤاد بن عبد الباقي، باحثٌ ومؤلِّفٌ متخَصِّصٌ في الحديث النبوي، وعالمٌ بتنسيق الأحاديث النبوية ووَضْع الفهارس لها ولآيات القرآن الكريم، وهو مترجِمٌ باللغتين الفرنسية والإنجليزية لكتُبِ المستشرقين في معاجمِ الحديث والقرآن. ولِدَ في إحدى قرى القليوبية في جمادى الأولى 1299هـ / مارس 1882م، ونشأ في القاهرة، وفي سنة 1317 هـ / 1899م عَمِل بمركز تلا التابع لمحافظة المنوفية مدرسًا للُّغة العربية في مدرسة جمعية المساعي المشكورة، وبعد فترة عَمِلَ ناظرًا لإحدى المدارس في قرى الوجه البحري، وظلَّ في هذه الوظيفة سنتين ونصفًا. ولما أعلن البنكُ الزراعي عن وظيفة مترجِم تقدَّم لها وعُيِّن بالبنك في 3 ذي القعدة 1323هـ / 30 ديسمبر 1905م، وقد هيأ له استقرارُه في هذه الوظيفة أن ينصَرِفَ إلى القراءة ومُطالعة أمَّهات كتب الأدب في العربية والفرنسية، وأن يرتبطَ بصداقات مع أعلام عَصرِه. وكان ممن ارتبط بهم بصداقةٍ وتَلمَذة الشيخُ محمد رشيد رضا, فلازمه إلى وفاتِه، ونهل من علمه، وفتح له آفاقًا واسعةً في علوم السنة، فانطلق يخدمُ السنةَ النبوية، سواءٌ فيما يتَّصِلُ بتحقيق أمهاتها، أو التأليف فيها، أو تخريج أحاديثها، ومن أعظَمِ جهودِ عبد الباقي التي خَدَم بها سنة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم ترجمتُه لكتاب ((مفتاح كنوز السنة)) لفنسك أستاذ اللُّغات الشرقية بجامعة لندن، ومن مؤلفاته أيضًا في خدمة السنة: ((اللؤلؤ والمرجان فيما اتَّفَق عليه الشيخان)). توفي رحمه الله بالقاهرة عن عمر ناهز التسعين.
في 24 نيسان إبريل 1992، تم توقيعُ اتفاق عُرف باسم اتفاق بيشاورَ من قِبَل أحزاب الاتحاد الإسلامي لمجاهِدي أفغانستانَ السبعة، وحزب الوَحْدة الشيعي، والحركة الإسلامية محسني، فتمَّ الاتفاق على تشكيل حكومة مؤقَّتة لمدة شَهرينِ، وعلى رأسها صبغة الله مجددي، ثم يتبَعُه ولمدة أربعة أشهرٍ بُرهان الدين ربَّاني، ولكنَّ الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار رفَضَ الاتفاقيةَ بالرغم من أنَّه من الموقِّعين عليها، فهاجَم كابل وانهارت الاتفاقية، وبَقيَ ربَّاني في رئاسة الدولة.
ثم عادت الأحزاب المتناحِرة لتجتمِعَ في 7 مارس 1993م في إسلام أباد في باكستانَ بعد حرب ضَروسٍ، ومعاركَ طاحنةٍ في كابُولَ، وتمَّ توقيع اتفاقية عُرفت باتفاقية إسلام أباد، شاركت فيها السعوديةُ وباكستانُ، ونصَّت الاتفاقية على أن:
1. لربَّاني رئاسة الدولة لمدة 18 شهرًا.
2. وقلب الدين حكمتيار يتولَّى رئاسة الوزراء.
3. وأن يتمَّ إيقاف إطلاق النار.
ولكنَّ الاتفاقيةَ لم تُنفَّذ بسبب اندلاع القتال من جديد بين ربَّاني وحكمتيار بسبب الاتهامات المتبادَلة بين حِزبَيْهما، وفي الأول من يناير عام 1994م تعرَّض برهان الدين ربَّاني لمحاوَلة انقلاب بيد تحالُف بين حكمتيار، وعبد الرشيد دوستم، وصبغة الله مجددي، وحزب الوَحْدة الشيعي، ولكنَّ الانقلاب فشِلَ، وتمَّ تجديد فترة حُكم ربَّاني لعام آخَرَ في يوليو 1994م، وفي نوفمبر 1994م، بدأت طالِبان بالظهور، وخلال عامَيْنِ سيطَرَت على معظم مناطقِ أفغانستانَ، ودخلت كابولَ عامَ 1996م، وأعلنت نفسَها الحاكمةَ للبلاد بإزاحة ربَّاني.
علي عبد الله صالح عفاش من مواليدِ 29 ربيع الآخِر 1366هـ/ 21 مارس 1947، كان الرئيسَ السادسَ للجمهوريةِ العربيةِ اليمنيَّةِ، وتُعَدُّ مُدَّةُ حُكمِه أطولَ مُدَّةِ حُكمٍ لرئيسٍ في اليمنِ منذُ العامِ 1978م حتى تنازلَ عن الحُكمِ في 27 فبراير 2012م، وكان يحمِلُ رتبةَ المشيرِ العسكريَّةَ. وصَلَ علي عبد الله صالح إلى رأسِ السُّلطةِ في البلادِ عَقِبَ مقتلِ الرئيسِ أحمد الغشمي بفترةٍ قصيرةٍ، بعد أنْ تنحَّى عبد الكريم العرشي، وتسَلَّمَ صالح رئاسةَ البلادِ. قامت احتجاجاتٌ ضِدَّ حُكمِه عامَ 2011 وسَلَّم صالحٌ السلطةَ بعد سنةٍ كاملةٍ من الاحتجاجاتِ بموجِبِ "المبادرةِ الخليجيَّةِ" الموقَّعةِ بين حزبِ المؤتمرِ الشعبيِّ العامِّ وأحزابِ اللقاءِ المشترَكِ، والتي أَقرَّت ضمنَ بنودِها تسليمَ صالحٍ للسلطةِ بعد إجراءِ انتخاباتٍ عامَّةٍ، كما أقرَّت له حصانةً من الملاحقةِ القانونيَّةِ، وأُقِرَّ قانونُ الحصانةِ في مجلسِ النوابِ اليمنيِّ، وعُدَّ قانونًا سياديًّا لا يجوزُ الطعنُ فيه، تولَّى نائبُه عبدُ ربه منصور هادي رئاسةَ المرحلةِ الانتقاليةِ. وفي 16 ربيع الأول 1439هـ الموافق 4 ديسمبر 2017 قام الحَوثيُّونَ بنشرِ مَقطعِ فيديو لمجموعةٍ من المقاتلين مع جُثَّةِ صالح وبها طَلقةٌ نافذةٌ في الرأسِ، وتضاربَتِ الأنباءُ عن مكانِ وطريقةِ مَقتَلِه، فنَجْلُه أحمدُ وسُكَّانٌ مَحليُّونَ قالوا: إنَّ مجموعةً من المقاتلين الحَوثيِّين هاجموا منزلَ والِدِه وقتَلوه في مَنزلِه، وفجَّرَ المقاتِلون المنزلَ، وقد قُتِلَ معه أمين عام حزبِ المؤتمرِ الشعبيِّ العامِّ.
كَثُرَ تسَلُّطُ الأتراك الجُندِ ببغداد، فأكثَروا مُصادراتِ النَّاسِ، وأخذوا الأموالَ، حتى إنَّهم فَرَضوا على الكَرخِ خاصَّةً مِئَة ألف دينار، وعَظُم الخَطبُ، وزاد الشَّرُّ، وأُحرِقَت المنازِلُ والدُّروبُ والأسواقُ، ودخل في الطَّمَعِ العامَّةُ والعيَّارون- والعَيَّارون: لصوصٌ يَمتَهِنونَ النَّهبَ والدعارةَ -، فكانوا يدخُلونَ على الرَّجُلِ فيُطالِبونَه بذخائِرِه، كما يفعَلُ السُّلطانُ بمن يُصادِرُه، فعَمِلَ النَّاسُ الأبوابَ على الدروب، فلم تغْنِ شيئًا، ووقَعَت الحربُ بين الجُندِ والعامَّةِ، فظَفِرَ الجُندُ التُّركُ، ونَهَبوا الكرخَ وغَيرَه، فأُخِذَ منه مالٌ جليلٌ، وهلك أهلُ السِّترِ والخَيرِ، فلمَّا رأى القُوَّادُ وعُقَلاءُ الجُندِ أنَّ المَلِكَ أبا كاليجار لا يَصِلُ إليهم، وأنَّ البلادَ قد خَرِبَت، وطَمِعَ فيهم المُجاوِرونَ مِن العَرَب والأكراد، راسَلوا جلالَ الدَّولة في الحضورِ إلى بغداد، فحَضَر في السَّنةِ التالية.
لَمَّا وصل نفوذُ دولة الدرعية إلى منطقةِ الأحساء بدأ قادةُ الدولة يتطلَّعون إلى نشرِ مبادئ الدعوة في عمان، فأمر الإمامُ عبد العزيز بن محمد قائدَه مطلق المطيري بغزو عمان الصير؛ حيث تقطُنُ قبيلة بني ياس، إلا أنَّه لم يوفَّقْ في الاستيلاء على المنطقة، فعندها رأى الإمامُ عبد العزيز أن يكِلَ الأمر إلى قائده إبراهيم بن عفيصان الذي قاد معظَمَ الحملات السابقة في شرق الجزيرة، فقاد جيشًا كبيرًا إلى منطقة عمان الصير ضِدَّ بني ياس، وقاتلهم حتى طلبوا الأمانَ مِن الدرعية، ثم تبِعَتهم قبيلةُ نعيم التي تقطُنُ في البريمي، وتقَدَّم إبراهيم بن عفيصان إلى واحةِ البريمي وبنى فيها قصرَ الصبارة في منتصَفِ الطريق الواصل بين البريمي وحماسا؛ ليكون قاعدةً لقوات الدرعية في المنطقةِ.
كان الرَّشيدُ قد عقد الخلافةَ لابنه الأمينِ ثمَّ للمأمونِ لِمَكانةِ زبيدة والدةِ الأمينِ، وإلَّا فالمأمونُ أكبَرُ منه، فبويع الأمينُ بالخلافة في عسكرِ الرشيد، صبيحةَ الليلة التي توفِّيَ فيها، وكان المأمونُ حينئذ بمرو، فكتب حمويه مولى المهديِّ، صاحبُ البريدِ، إلى نائبِه ببغداد- وهو سلام بن مسلم- يُعلِمُه بوفاةِ الرشيد، فدخل أبو مسلمٍ على الأمينِ فعَزَّاه وهنَّأه بالخلافة، فانتقل مِن قصرِه بالخُلد إلى قصرِ الخلافةِ، وبايعه الناسُ.
تحالفَت كُلُّ قوى النصرانيَّة مِن أجْلِ الصُّمودِ في وَجهِ قُوَّةِ المُسلِمينَ بقِيادةِ المنصورِ بنِ أبي عامرٍ في وقعة جربيرة، التقى فيها الفريقان عند مكانٍ شَديدِ الوُعورةِ يُسمَّى بصَخرةِ جربيرة، وكاد المنصور أن يُهزَمَ لأوَّلِ مَرَّة في معاركِه، ولكِنَّ بَسالةَ المُسلِمينَ وشِدَّةَ بأسِهم في القِتالِ أنهَت المعركةَ بهزيمةٍ مُرَوِّعة للتَّحالُفِ النَّصرانيِّ، وقُتِلَ مُعظَمُ قادة الصَّليبيِّينَ وواصل المنصورُ سَيرَه حتى فتح مدينةَ برغش عاصِمةَ قشتالة.
تجمع فرنج قبرص وعكا وطرابلس وأنطاكية، وانضم إليهم عسكرُ ابن ملك الأرمن؛ لقصد بلاد المسلمين، فخافهم المسلمون، وكان أول ما بدؤوا به بلاد الإسماعيلية، فنازلوا قلعةَ الخوابي وجدُّوا في حصارها، وكانوا حانقين على الإسماعيلية؛ بسبب قتلهم ابن البرنس صاحب أنطاكية؛ شابٍّ في الثامنة عشرة من العمر، وثبوا عليه العام الماضي فقتلوه، فخرج الملك الظاهر بعسكَرِه ليدافِعَ عن القلعة، فترحَّلت الفرنجُ ثم ساروا عنها إلى أنطاكية.
نزل هولاكو بجيشِه المغولي بعدَ مذبحةِ بغداد حرَّان واستولى عليها ومَلَك بلادَ الجزيرة، ثم سيَّرَ ولده أشموط إلى الشامِ وأمره بقطعِ الفرات وأخْذ البلاد الشامية، وسيَّرَه في جمعٍ كثيف من التتار فوصَلَ أشموط إلى نهرِ الجوز وتل باشر، ووصل الخبَرَ إلى حلب من البيرة بذلك، وكان نائبُ السلطان صلاح الدين يوسف بحلب ابنه الملك المعظم توران شاه، فجفَل النَّاسُ بين يدي التتارِ إلى جهة دمشق وعظم الخطب، واجتمع الناسُ من كلِّ فجٍّ عند الملك الناصر بدمشق، واحترز الملك المعظَّم توران شاه بن الملك الناصر بحَلَب غاية الاحتراز، وكذلك جميعُ نوَّاب البلاد الحلبيَّة، وصارت حَلَب في غاية الحصانة بأسوارها المحكَمة البناءِ وكثرة الآلات، فلمَّا كان العشر الأخير من ذي الحِجَّة قصد التتارُ حَلَب ونزلوا على قريةٍ يقال لها سلميَّة وامتَدُّوا إلى حيلان والحادي، وسيَّروا جماعةً مِن عَسكَرِهم أشرفوا على المدينة، فخرج عسكرُ حلب ومعهم خلقٌ عظيم من العوام والسُّوقة، وأشرفوا على التتار وهم نازلونَ على هذه الأماكِنِ، وقد رَكِبوا جميعُهم لانتظار المسلمينَ، فلمَّا تحقَّق المسلمون كثرتَهم كَرُّوا راجعين إلى المدينة، فرسم المَلِكُ المعظَّم بعد ذلك ألا يخرُجَ أحد من المدينة، ولما كان غدُ هذا اليوم رحلت التتارُ من منازلهم طالبين مدينةَ حلب، واجتمع عسكرُ المسلمين بالنواشير وميدان الحصا وأخذوا في المشورة فيما يعتَمِدونه، فأشار عليهم الملك المعظَّم أنهم لا يخرجون أصلًا لكثرة التتار ولقوَّتهم وضعف المسلمين على لقائهم، فلم يوافِقْه جماعة من العسكر وأبوا إلَّا الخروج إلى ظاهر البلد لئلَّا يطمع العدو فيهم، فخرج العسكرُ إلى ظاهر حلب وخرج معهم العوامُّ والسوقة، واجتمع الجميعُ بجبل بانقوسا، ووصل جمع التتار إلى أسفَلِ الجبل فنزل إليهم جماعة من العسكر ليقاتِلوهم، فلما رآهم التتار اندفعوا بين أيديهم مكرًا منهم وخديعةً، فتبعهم عسكرُ حلب ساعةً من النهار، ثم كرَّ التتار عليهم فوَلَّوا منهزمينَ إلى جهة البلد والتتارُ في أثرهم، فلما حاذوا جبل بانقوسا وعليه بقية عسكر المسلمين والعوام اندفعوا كلُّهم نحو البلد والتتار في أعقابِهم، فقتلوا من المسلمينَ جمعًا كثيرًا من الجند والعوام، ونازل التتارُ المدينة في ذلك اليوم إلى آخره، ثم رحلوا طالبينَ أعزاز فتسَلَّموها بالأمانِ.
كان المسلِمون في الهند قد قدَّموا مشروعاتٍ مِن أجل التقسيم؛ فمنهم من يرى الانقسامَ عن الهندوس، ومنهم من يرى البقاءَ وعدم التقسيم؛ لمصلحة الدعوة والأقليات، وكان محمد إقبال قد دعا إلى تشكيلِ دولة باكستان والانفصال عن الهندوس في 1356هـ، ولكنه توفِّيَ في العام التالي، ثم عُقِد مؤتمر السند الإقليمي للرابطة الإسلامية في كراتشي برئاسة محمد علي جناح، وقرر في شعبان 1357هـ / 10 أكتوبر 1938م أنَّه من الضروري تقسيم الهند إلى اتحادين: اتحاد للدول الإسلامية، وآخر للدول غير الإسلامية، ثم دعا حزب الرابطة إلى عقد مؤتمر في مدينة لاهور، وقد عُقِدَ المؤتمر وأقرَّت اللجنة العاملة للرابطة لعموم الهند في اجتماعها في صفر 1358هـ / 26 مارس 1939م تشكيلَ لجنة لدراسةِ المشروعات المقَدَّمة بشأن التقسيم والدستور، ومسألة حكم الأغلبية، ثمَّ عُقِدت اجتماعاتٌ للَّجنة العاملة ولمجلس الرابطة لعموم الهند في دلهي وجرت دراساتٌ جادة لمسألة تخصيص موطِنٍ منفصل للمسلمين، ثم تمَّ في الاجتماع الذي عقدته اللجنة العاملة في 12 صفر 1359هـ / 21 مارس 1940م تعيينُ لجنة خاصة لصياغة مشروعِ القرار الشهير بقرار لاهور، الذي طُرِحَ بعد يومينِ مِن التعيين المذكور، وفيه أنَّ المسلمين لن يقبَلوا بأيِّ خطة معدَّلة إلا إذا تم وضعُها بموافقتهم وإقرارهم ابتداءً، وأنَّه ما من خطة دستورية يمكِنُ أن تُقبَل إلَّا إذا أُعِدَّت وَفقَ مبادئ جوهرية يراها المسلمون، وفيه مسألةُ الدول المستقلة التي تتمتَّعُ الوحداتُ المكَوِّنة منها لها بحُكمٍ ذاتي وسيادة، وأن يتضَمَّن الدستور ضماناتٍ كافيةً مفوَّضًا بها من أجل الأقليات، وحيث يكون المسلمون أقليَّةً في إقليم يجِبُ أن يحَدَّد في الدستور ضماناتٌ كافية وفعَّالة ومفوَّض بها لحماية حقوقهم ومصالحهم الدينية، وأن يتسلَّمَ كُلُّ إقليم جميعَ السلطات، كالدفاع، والخارجية، والمواصلات، والجمارك، وبقية الأمور الضرورية الأخرى.