وفي هذه السنة منع اللهُ الغيثَ بحكمته، فلم يقَعْ في الأرض حَيَا في بلدان نجدٍ ولا غيمٌ ولا مطرٌ كثيرٌ ولا قليلٌ، من أولها إلى آخر الشتاء، وقتَ حلول الشمس برج الحوت، فقَنِط الناس قنوطًا عظيمًا؛ لأن الناس يقولون: ما نعلم أن السماء عَدِمَ فيها الغيم مثل هذه السنة، فلما كان رابعَ عشر صفر أنشأ الله الغيمَ في السماء فصَبَّ الغيث فامتلأ كلُّ وادي بما فيه، وضاقت مجاريه وخرَّب السيل في البلدان كثيرًا، فلم يأتِ آخر الليل إلا وكلُّ إنسان يستغيث ربَّه أن يرفعه عنهم، ثم عادهم السيلُ في رابع عشر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء ويومَها على أول حلول الشمسِ برج الحمل، فجاء سيلٌ ضاقت منه الوديان وخرب البلدانَ في كُلِّ بلد من بلدان نجد، ثم عادها الحيَا على أول دخول جمادى الآخرة، واستمَرَّ على جميع البلدان المطرُ نحو أربعة عشر يومًا لم تطلُعِ الشمس، وكل يوم معه سيلٌ يجري، وحار الماءُ في وسط منازل البلدان حتى إنَّه ظهر في مسجد الجامع في بلد المجمعة، وسقط أكثَرُ من ثلثه، وظهر الماء في المجالس وبطون النخل، وأعشبت الأرض عشبًا لم يُعرَف له نظير!
هو السلطانُ عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد الثاني، السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية، وآخِرُ من امتلك سلطةً فعليةً منهم. ولد في 16 شعبان 1258هـ الموافق 21 سبتمبر 1842م، وتولَّى الحكم عام 1293هـ 1876م. أبعِدَ عن العرش عام 1327هـ / 1909م بتهمة الرجعية، وأقام تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في 15 جمادى الأولى 1337هـ الموافق 10 فبراير 1918م. تلقى السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد تعليمَه بالقصر السلطاني، وأتقن من اللغات: الفارسية والعربية، وكذلك درس التاريخ والأدب. يعرِّفُه البعض، "باولو خاقان" أي "الملك العظيم" وعُرِفَ في الغرب باسم "السلطان الأحمر"، أو "القاتل الكبير" بسبب مذابح الأرمن المزعوم وقوعُها في فترة تولِّيه منصِبَه. رحَّب جزء من الشعب العثماني بالعودة إلى الحكم الدستوري بعد إبعاد السلطان عبد الحميد عن العرش في أعقاب ثورة الشباب التركي "الاتحاديين". غيرَ أن الكثير من المسلمين ما زالوا يقدِّرون قيمة هذا السلطان الذي خَسِرَ عرشه في سبيل أرض فلسطين التي رفض بيعَها لزعماء الحركة الصهيونية. تولى السلطانُ عبد الحميد الثاني الخلافة في 11 شعبان 1293هـ، الموافق 31 آب (أغسطس) 1876م، وتبوَّأ عرشَ السلطنة يومئذٍ على أسوأ حال؛ حيث كانت الدولة في منتهى السوء والاضطراب، سواء الأوضاع الداخلية أو الخارجية. دبَّرت جمعية "الاتحاد والترقي" عام 1908م انقلابًا على السلطان عبد الحميد تحت شعارات الماسونيةِ "حرية، عدالة، مساواة". كان اليهودُ لَمَّا عُقِدَ مؤتمرُهم الصهيوني الأول في (بازل) بسويسرا عام 1315هـ، 1897م، برئاسة ثيودور هرتزل 1860م-1904م رئيس الجمعية الصهيونية، اتَّفقوا على تأسيس وطنٍ قوميٍّ لهم يكون مقرًّا لأبناء عقيدتهم، وأصَرَّ هرتزل على أن تكون فلسطينُ هي الوطنَ القوميَّ لهم، فنشأت فكرةُ الصهيونية، وقد اتَّصل هرتزل بالسلطان عبد الحميد مرارًا ليسمح لليهودِ بالانتقال إلى فلسطين، ولكِنَّ السلطان كان يرفض، ثم قام هرتزل بتوسيطِ كثير من أصدقائه الأجانب الذين كانت لهم صلةٌ بالسلطان أو ببعض أصحابِ النفوذ في الدولة، كما قام بتوسيطِ بعض الزعماء العثمانيين، لكنه لم يُفلح، وأخيرًا زار السلطانَ عبد الحميد بصحبة الحاخام (موسى ليفي) و(عمانيول قره صو)، رئيس الجالية اليهودية في سلانيك، وبعد مقَدِّمات مُفعَمة بالرياء والخداع، أفصحوا عن مطالبهم، وقدَّموا له الإغراءاتِ المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالًا طائلةً مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالُف سياسي يُوقفون بموجِبِه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضِدَّه في صحف أوروبا وأمريكا. لكِنَّ السلطان رفض بشدةٍ وطردهم من مجلسِه، وقال: " إنكم لو دفعتم ملءَ الدنيا ذهبًا، فلن أقبل؛ إنَّ أرضَ فلسطين ليست ملكي، إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلِمون بدمائهم لا يمكن أن يباعَ، وربما إذا تفَتَّت إمبراطوريتي يومًا يمكِنُكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل"، ثم أصدر أمرًا بمنعِ هجرة اليهود إلى فلسطين. عندئذ أدرك خصومُه الصهاينة أنهم أمام رجلٍ قوي وعنيد، وأنَّه ليس من السهولة بمكانٍ استمالتُه إلى صفِّها، ولا إغراؤه بالمال، وأنه ما دام على عرش الخلافة فإنَّه لا يمكِنُ للصهيونية العالمية أن تحقِّقَ أطماعها في فلسطين، ولن يمكِنَ للدول الأوروبية أن تحقِّقَ أطماعها أيضًا في تقسيمِ الدولة العثمانية والسيطرة على أملاكها، وإقامة دويلات لليهود والأرمن واليونان؛ لذا قرَّروا الإطاحةَ به وإبعاده عن الحكم، فاستعانوا بالقوى المختلفة التي نذرت نفسَها لتمزيق ديار الإسلام؛ أهمها الماسونية، والدونمة، والجمعيات السرية (الاتحاد والترقي)، وحركة القومية العربية، والدعوة للقومية التركية (الطورانية)، ولَعِبَ يهود الدونمة دورًا رئيسًا في إشعال نار الفتن ضد السلطان إلى أن تمَّ عزلُه وخَلعُه من منصبه عام 1909، وتم تنصيب شقيقِه محمد رشاد خلفًا له. وتوفِّيَ السلطان عبد الحميد الثاني في المنفى في 15 جمادى الأولى 1337هـ 10 فبراير 1919م.
كان فيض الله أفندي معلم السلطان قبل جلوسه على كرسي السلطنة، وكان السلطان ولَّاه مسند المشيخة الإسلامية وصار يستشيره في كل الأمور، فأغاظ ذلك الصدر الأعظم حسين باشا كوبريلي لتدخُّل شيخ الإسلام في الأحوال السياسية التي ليست من متعلقات وظيفته أصلًا، وكان القبودان ميزه مورتو حسين باشا مدة حياته يجتهد في التأليف بينه وبين الصدر ويزيل النفور من قلوبهما، إلا أنه بعد وفاة القبودان استبدَّ الشيخ فيض الله أفندي في آرائه وأظهر العظمة، فلم يتحمل الصدر ذلك وقدم استعفاءه من الصدارة سنة 1114هـ, ثم أقام حسين باشا كوبريلي في ضيعة له منفردًا حتى مات بعد سبعة عشر يومًا ونُقلت جثته إلى إستانبول، ودفن في مدرسته المشهورة. وبعد أن استقال الصدر حسين باشا كوبريلي وجه السلطان الصدارة إلى دال طبان مصطفى باشا الذي التزم السير على الخطة التي يرسمها له شيخ الإسلام أفندي، ولما كان هذا الصدر يميل للحرب والقتال في الوقت الذي كانت فيه الدولة في أشد الاحتياج للمسالمة والراحة بعد الحروب الطويلة لتلتفت لإصلاح أحوالها الداخلية اختلت بذلك أحوال السياسة، وارتبكت العلاقات الخارجية حتى خيف على روابط السلم أن تنقطع, فلما تحقق للسلطان وبقية الوزراء أن الصدر دال طبان بخطته هذه سيوقع الدولة فيما تخافه من الحروب, وبعد أن وقع اضطراب وشغب بين صفوف الجنود، تم عزل الصدر دال طبان مصطفى باشا ثم قُتل، وعُين للصدارة رامي محمد باشا، وكان عالِمًا بالأمور الإدارية والأحوال السياسية، وقد تمكن بمساعدة محاميه شيخ الإسلام من تحسين الأحوال وإصلاحها، إلا أن شيخ الإسلام كان يميل إلى التغلب والتحكم في كافة الأمور، والصدر يريد مراعاة حقوق مقام الصدارة العظمى، أخذ يفكر في منع تسلط الشيخ الذي لما أحس بذلك أشعل نار الفتنة حتى استفحل أمر الهياج بين الجنود، وكان السلطان في ذلك الوقت بأدرنة -مدينة في إقليم تراقيا شمال غرب تركيا- لتولعه بالقنص كأبيه، ثم انتهت الفتنة بقتل شيخ الإسلام فيض الله أفندي.
هو حُسين بن طلال بن عبد الله بن الحسين، ثالثُ ملوك الأُردُنِّ، ينتهي نسبُه لآل البيت من الفرع الحَسَني، وُلد بعَمَّان سنةَ 1935م، وتلقَّى علومَه الأُولى بها، ثم انتقل للدراسة بكلية فكتوريا بالإسكندرية، ثم انتقلَ لإنجلترا، والتحق بكلية سانت هيرست العسكرية سنةَ 1950، وكان بصُحبة جَدِّه الملك عبد الله لحظةَ اغتياله سنةَ 1951م، وأُصيب في الحادث إصابةً طفيفةً، وبعد تنصيب أبيه طلال على عرش الأُردُنِّ بأيامٍ قليلةٍ قرَّرَ مجلس الأعيان عزلَه لعدم الصلاحية، وتمَّ انتخاب حُسين بن طلال ملكًا على الأُردُنِّ، وذلك تحت مجلس وصاية حتى يبلُغَ السنَّ القانونية «18سنة»، وأخذ الملك حُسين في تكريس نفوذه داخلَ الأُردُنِّ، فعزلَ الجنرال «جلوب» الإنجليزي عن قيادة الجيش الأُردُنِّيِّ سنةَ 1955م، ثم أنهى الانتدابَ البريطانيَّ سنةَ 1957م، ولكنْ ظلَّ على علاقةٍ وثيقةٍ ومتينةٍ جدًّا مع الإنجليز، ثم حاول إنشاءَ اتحاد عربي هاشمي مع ابن عمِّه ملكِ العراق فَيْصل الثاني، ولكنَّ هذا الاتحاد فشِلَ بسبب قيام الجمهورية في العراق، وبعد هزيمة 67 اقترحَ الملك حُسين أولَ مشروع للسلام معَ إسرائيلَ، ولكنَّه قوبِلَ بالرفض من اليهودِ والفِلَسْطينيين على حدِّ السواء، شارك الملك حُسين في كل مؤتمرات السلامِ التي عقَدَها العربُ معَ اليهودِ، وقد وقَّعَ معَ اليهود اتفاقَ وادي عربة سنةَ 1994م، وبموجِبِه أقامت الأُردُنُّ علاقاتٍ كاملةً مع إسرائيلَ، وكان الملك حُسين على عَلاقة متينة معَ الغربِ، وقد أُصيب بالسرطان سنةَ 1992م، وظلَّ يُعالَجُ لمُدَّة طويلةٍ، وقبلَ وَفاته بأيام عاد للأُردُنِّ من الخارج، وعزَلَ أخاه الأميرَ الحسنَ عن ولايةِ العهدِ، وعيَّنَ وَلَدَه عبدَ الله بدلًا منه، ثم مات في 21 شوال 1419هـ ـ 7 فبراير 1999م. وإثْرَ وَفاة الملك حُسين بن طلال، نُصِّبَ الأميرُ عبدُ لله بن حُسين ملكًا دستوريًّا، وعُيِّنَ الأميرُ حمزةُ بن حُسين وليًّا للعهد.
سبَبُ ذلك أنَّ موسى بن موسى كان من أعيانِ قُوَّادِ عبد الرحمن، وهو العامِل على مدينةِ تَطيلة، فجرى بينه وبين القُوَّادِ تحاسُدٌ سنةَ سَبعٍ وعشرين، فعصِيَ موسى بن موسى على عبد الرحمنِ بنِ الحَكَم، فسَيَّرَ إليه جيشًا واستعمل عليهم الحارِثَ بنَ يزيغ والقُوَّاد، فاقتتلوا عند برجة، فقُتل كثيرٌ من أصحاب موسى، وقُتِلَ ابنُ عَمٍّ له، وعاد الحارِثُ إلى سرقسطة، فسيَّرَ موسى ابنَه ألب بن موسى إلى برجة، فعاد الحارِثُ إليها وحصَرَها فمَلَكَها وقتَلَ ابنَ موسى، وتقَدَّمَ إلى أبيه فطلبه فحضر، فصالحه موسى على أن يخرُجَ عنها، فانتقل موسى إلى أزبيط، وبقِيَ الحارث يتطَلَّبُه أيامًا ثم سار إلى أزبيط، فحصر موسى بها فأرسل موسى إلى غرسية، وهو مِن ملوك الأندلسيِّينَ المُشرِكينَ، واتَّفقا على الحارث، واجتمعا وجعلا له كمايِنَ في طريقِه، واتخذَ له الخيلَ والرِّجالَ بموضِعٍ يقال له بلمسة على نهرٍ هناك، فلمَّا جاء الحارِثُ النَّهرَ خرج الكُمَناءُ عليه، وأحدَقوا به، وجرى معه قِتالٌ شديد، وكانت وقعةً عظيمةً، وأصابه ضربةٌ في وجهِه فَلَقَت عينَه، ثم أُسِرَ في هذه الوَقعةِ، فلمَّا سَمِعَ عبدُ الرحمن خبَرَ هذه الوقعةِ، عَظُمَ عليه، فجهَّزَ عسكرًا كبيرًا واستعمل عليه ابنَه محمدًا، وسيَّرَه إلى موسى في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائتين، وتقَدَّمَ محمد إلى بنبلونة، فأوقع عندها بجمعٍ كثيرٍ مِن المشركين، وقُتِلَ فيها غرسية، وكثيرٌ من المشركين، ثم عاد موسى إلى الخلافِ على عبد الرحمن، فجَهَّزَ جيشًا كبيرًا وسَيَّرَهم إلى موسى، فلمَّا رأى ذلك طلَبَ المُسالَمةَ، فأُجيبَ إليها وأعطى ابنَه إسماعيلَ رهينةً، وولَّاه عبدُ الرحمن مدينةَ تطيلة، فسار موسى إليها فوصلها وأخرجَ كلَّ من يخافُه، واستقَرَّت تطيلةُ في عمالتِه.
حصَلَت وقعةٌ بين محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي- الذي تغلَّبَ على فارس- وعبدالرحمن بن مفلح، فكسره ابنُ واصل وأسَرَه وقتَلَ مُعظَمَ جَيشِه فلم يُفلِتْ منهم إلَّا اليسيرُ، فلما وصل خبَرُهما إلى يعقوب الصفَّار وهو بسجستان، تجدَّدَ طَمَعُه في ملك بلاد فارس، وأخذ الأموالَ والخزائن والسِّلاح التي غَنِمَها من ابن مفلح، فسار مجدًّا, وبلغ ابنُ واصل خبَرَ قُربه منه وأنه نزل البيضاءَ من أرض فارس، وهو بالأهواز، فعاد عنها لا يلوي على شيءٍ، وأرسل خالَه أبا بلال مرداسًا إلى الصفَّار، فوصل إليه، وضَمِنَ له طاعةَ ابن واصل، فأرسل يعقوبُ الصفَّار إلى ابن واصلٍ كُتبًا ورُسلًا، فحبسهم ابنُ واصل، وسار يطلبُ الصَّفَّار والرسُل معه يريدُ أن يُخفي خبَرَه، وأن يصِلَ إلى الصفَّار بغتةً، فينال منه غرَضَه، ويوقِعَ به, فسار في يومٍ شديدِ الحر، في أرضٍ صعبة المسلك، وهو يظُنُّ أن خبَرَه قد خفي عن الصفَّار، فلما كان الظهرُ تَعِبَت دوابُّهم، فنزلوا ليستريحوا، فمات من أصحاب ابن واصل من الرَّجالة كثيرٌ؛ جوعًا وعطشًا، وبلغ خبَرُهم الصفَّار، فجمع أصحابَه وأعلمهم الخبر وسار إلى ابنِ واصل، فلمَّا قاربهم وعلموا به انخذلوا وضَعُفَت نفوسُهم عن مقاومته ومقاتَلتِه، ولم يتقَدَّموا خطوة، فلما صار بين الفريقين رميةُ سهم، انهزم أصحابُ ابن واصل من غير قتالٍ، وتَبِعَهم عسكر الصفَّار، وأخذوا منهم جميعَ ما غَنِموه من ابن مُفلح، واستولى على بلاد فارس، ورتَّبَ بها أصحابَه وأصلح أحوالَها, ومضى ابن واصلٍ مُنهزمًا فأخذ أموالَه من قلعته، وكانت أربعين ألف ألف درهمٍ، وأوقع يعقوبُ بأهل زم؛ لأنهم أعانوا ابن واصلٍ.
هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ الفقيهُ، شيخ الحنابلةِ وعالِمُهم، أبو بكر أحمدُ بنُ محمَّد بن هارون بن يزيد البغدادي المعروفُ بالخَلَّال. ولِدَ سنة 234، أو في التي تليها، ويجوز أن يكون رأى الإمامَ أحمد، ولكنَّه أخذ الفقهَ عن خلقٍ كثيرٍ مِن أصحابه، رحل إلى فارس وإلى الشَّام والجزيرةِ يتطلَّبُ فِقهَ الإمامِ أحمدَ وفتاويَه وأجوبتَه، وكتب عن الكِبارِ والصِّغارِ، حتى كتب عن تلامذتِه، ثمَّ إنَّه صَنَّف كتابَ "الجامِع في الفقه" من كلام الإمام. قال الخطيب: "جمعَ الخَلَّالُ علومَ أحمدَ وتطَلَّبَها، وسافر لأجلِها، وكَتَبَها، وصنَّفَها كُتبًا، لم يكن فيمن ينتحِلُ مذهب أحمد أحدٌ أجمَعُ لذلك منه". له التصانيفُ الدائرة والكتُب السائرة، من ذلك الجامِعُ، والعِلَل، والسُّنَّة، والعِلم، والطبقات، وتفسير الغريب، والأدب، وأخلاق أحمد، وغير ذلك. سمع مِن الحسَنِ بنِ عَرَفةَ، وسعدانَ بنِ نصر، ومحمد بن عوف الحمصي وطبقته، وصحِبَ أبا بكر المروذي إلى أن مات، وسمع جماعةً من أصحاب الإمام أحمد، منهم صالح وعبدالله ابناه، وإبراهيم الحربي، والميموني، وبدر المغازلي، وأبو يحيى الناقد، وحنبل، والقاضي البرني، وحرب الكرماني، وأبو زرعة، وخَلقٌ سواهم سمع منهم مسائِلَ أحمدَ، ورحل إلى أقاصي البلاد في جَمعِها وسماعِها ممَّن سَمِعَها من الإمامِ أحمد وممن سَمِعَها ممَّن سَمِعَها منه، وشَهِدَ له شيوخُ المذهبِ بالفَضلِ والتقَدُّم، حدَّث عنه جماعةٌ منهم أبو بكر عبدالعزيز، ومحمد بن المظفر، ومحمد بن يوسف الصيرفي، وكانت له حلقة بجامع المهدي، ومات يوم الجمعة لليلتين خلتا من شهر ربيعٍ الآخر.
لَمَّا استقَرَّ المعِزُّ الفاطميُّ بالدِّيارِ المصرية وابتنى فيها القاهرةَ والقصرينِ وتأكَّدَ مُلكُه، سار إليه الحُسَين بن أحمد القرمطي من الأحساءِ في جمعٍ كثيفٍ مِن أصحابه، والتَفَّ معه أميرُ العرب ببلادِ الشَّامِ وهو حَسَّان بنُ الجراح الطائي، في عربِ الشَّامِ بكَمالِهم، فلمَّا سَمِعَ بهم المعِزُّ أُسقِطَ في يده لكَثرتِهم، وكتب إلى القرمطيِّ يَستَميلُه ويقولُ: إنَّما دعوةُ آبائك كانت إلى آبائي قديمًا، فدَعْوتُنا واحدةٌ، ويذكُرُ فيه فَضلَه وفَضل َآبائه، فردَّ عليه الجواب: وصل كتابُك الذي كثُرَ تفضيلُه وقَلَّ تَحصيلُه، ونحن سائِرونَ إليك على إثْرِه. والسَّلامُ، فلمَّا انتَهَوا إلى ديار مصرَ عاثُوا فيها قتلًا ونَهبًا وفسادًا، وحار المعِزُّ فيما يصنَعُ وضَعُفَ جَيشُه عن مقاومتِهم، فعدل إلى المَكيدةِ والخديعة، فراسَلَ حَسَّان بن الجرَّاحِ أميرَ العرب ووَعَده بمائةِ ألف دينارٍ إن هو خذَّلَ بين النَّاسِ، فبعث إليه حسَّان يقولُ: أنِ ابعَثْ إليَّ بما التزمْتَ وتعالَ بمَن معك، فإذا لَقِيتَنا انهَزَمْتُ بمن معي، فلا يبقى للقَرمطيِّ قُوَّةٌ، فتأخذُه كيف شِئتَ، فأرسل إليه بمائةِ ألفِ دينارٍ في أكياسِها، ولكِنَّ أكثَرَها زغلٌ ضَربُ النُّحاسِ وألبَسَه ذهبًا وجعَلَه في أسفَلِ الأكياسِ، وجعل في رؤوسِها الدنانيرَ الخالصةَ، ولَمَّا بعَثَها إليه رَكِبَ في إثرِها في جيشِه، فالتقى النَّاسُ فانهزم حسَّانُ بمن معه، فضَعُفَ جانِبُ القرمطي وقَوِيَ عليه الفاطميُّ فكَسَره، وانهزمت القرامطةُ ورجعوا إلى أذرِعاتٍ في أذَلِّ حالٍ وأرذَلِه، وبعث المعِزُّ في آثارهم القائِدَ أبا محمود بن إبراهيم في عشرةِ آلاف فارس، ليحسِمَ مادَّةَ القرامطة ويُطفِئَ نارَهم عنه.
لم يبقَ مِن إماراتِ الغَربِ بعد سُقوطِ لبلةَ وشلطيش وشنتمريَّة في يدِ المُعتَضِد بن عبَّاد سوى إمارةِ شلب، وكانت هذه الإمارةُ مِن أهَمِّ إماراتِ الغرب بعد إشبيليَّةَ وكانت تشمَلُ كورة شلب وكورة باجة، وكان الحاجِبُ عيسى بن محمد قد تغَلَّب في أعقابِ الفِتنةِ على هذه المنطقةِ النائيةِ وأقام بها دولةً، واستمَرَّ مُسيطرًا عليها حتى توفِّيَ سنة 432 هـ فخَلَفه في حُكمِها ولَدُه مُحمَّدُ بنُ عيسي الملقَّب عميد الدَّولة، واضطُرَّ عميد الدَّولة في اتِّقاءٍ لعُدوانِ المُعتَضِد بن عبَّاد أن ينزِلَ له عن مدينة باجة، وأن يكتفي بحكم شلب، وكان ابن عبَّاد قد استولى قبل ذلك على ميرتلة قاعدتِها الجنوبيَّةِ مِن يدِ صاحِبِها ابنِ طيفور في سنة 436 هـ، وأصبَحَت باجة تحت رَحمتِه، واستمَرَّ عميد الدَّولة في حُكمِ شلب حتى توفِّيَ في سنة 440هـ وعندئذ ثار بها القاضي عيسى بنُ أبي بكر بن مزين، وكان شهمًا جَزلًا في سائِرِ أمورِه، فلما رأى اختلالَ الأمورِ ثار بها فبايعه أهلُها وبسَطَ حُكمَه عليها، وتلقَّب بالمُظَفَّر واستمَرَّ حكمُه خمس سنوات، وابنُ عباد دائِبٌ على مهاجمتِه وشَنِّ الغارات عليه وهو يَرُدُّه ما استطاع، حتى قُتِلَ في أواخر سنة 445 هـ مدافعًا عن مدينته، فخلفه ولدُه محمد بن عيسى، وتلقَّب بالنَّاصِرِ وحَكَم حتى توفي في سنة 450هـ، فخلفه ولدُه عيسى وتلقَّبَ بالمُظَفَّر وبدأ المعتَضِدُ في تكرار حملاته على شلب، ثم ضرب الحصارَ حولها وقطعَ عنها سائرَ الإمدادِ حتى اشتَدَّ الأمرُ على أهلِها وانتهى بأن اقتحَمَها بعد أن هدم أسوارَها، ودخل القصرَ وقتل عيسى المظفر، وذلك في شوال من سنة 455هـ، وهكذا استطاع المعتضد بن عباد القضاءَ على دولةِ بني مزين.
كانت فِتنةُ الجُندِ الأَتراكِ ببغداد، وكان سَببُها أنهم تَخَلَّفَ لهم على الوزيرِ الذي للمَلِكِ الرَّحيم مَبلَغٌ كَثيرٌ مِن رُسومِهم، فطالبوهُ، وأَلَحُّوا عليه، فاختَفَى في دارِ الخِلافةِ، فحَضَر الأتراكُ بالدِّيوانِ وطالبوهُ، وشَكَوْا ما يَلقَوْنَه منه من المَطْلِ بمالِهم، فلم يُجابوا إلى إظهارهِ، فعَدَلوا عن الشَّكوَى منه إلى الشَّكوَى من الدِّيوان، وقالوا: إنَّ أربابَ المُعاملات قد سَكَنوا بالحَريمِ، وأَخَذوا الأموالَ، وإذا طَلَبناهُم بها يَمتَنِعون بالمَقامِ بالحَريمِ، وانتَصَب الوَزيرُ والخَليفةُ لِمَنعِنا عنهم، وقد هَلكنا، فتَردَّد الخِطابُ منهم، والجوابُ عنه، فقاموا نافِرينَ، فلمَّا كان الغَدُ ظَهَرَ الخَبَرُ أنَّهم على عَزْمِ حَصْرِ دارِ الخِلافةِ، فانزَعَج النَّاسُ لذلك، وأَخْفَوْا أَموالَهم، وحَضرَ البساسيري دارَ الخِلافةِ، وتَوصَّل إلى مَعرفةِ خَبرِ الوَزيرِ، فلم يَظهَر له على خَبرٍ، فطُلِبَ من دارهِ ودُورِ مَن يُتَّهَمُ به، وكُبِسَت الدُّور، فلم يَظهَروا له على خَبرٍ، ورَكِبَ جَماعةٌ مِن الأَتراكِ إلى دارِ الرُّومِ فنَهبوها، وأَحرَقوا البِيَعَ والقَلَّايات، ونَهَبوا فيها دارَ أبي الحسنِ بن عُبيدٍ، وَزير البساسيري، ونَهبَ الأَتراكُ كُلَّ مَن وَرَدَ إلى بغداد، فغَلَت الأَسعارُ، وعُدِمَت الأَقواتُ، وأَرسلَ إليهم الخَليفةُ يَنهاهُم، فلم يَنتَهوا، فأَظهَر أنَّه يُريدُ الانتِقالِ عن بغداد، فلم يُزجَرُوا، هذا جَميعهُ والبساسيري غيرُ راضٍ بِفِعلِهم، وهو مُقيمٌ بدارِ الخليفةِ، وتَردَّدَ الأمرُ إلى أن ظَهرَ الوَزيرُ، وقام لهم الباقي بالباقي مِن مالِهم مِن مالِه، وأَثمانِ دَوابِّهِ، وغَيرِها، ولم يَزالوا في خَبْطٍ وعَسَفٍ، فعاد طَمَعُ الأَكرادِ والأَعرابِ أَشَدَّ منه أَوَّلًا، وعاوَدوا الغارةَ والنَّهْبَ والقَتْلَ، فخُرِّبَت البلادُ وتَفَرَّق أَهلُها، فازداد خَوفُ النَّاسِ من العامَّةِ والأَتراكِ، وعَظُمَ انحلالُ أَمرُ السَّلطَنةِ بالكُلِّيَّةِ، وهذا من ضَررِ الخِلاف.
سار خوارزم شاه إلى خراسانَ بعد أن هزم سنجر، فقصد سرخس، فلمَّا وصَلَ إليها لَقِيَه الإمامُ أبو محمد الزيادي، وكان قد جمَعَ بين الزُّهدِ والعلم، فأكرَمَه خوارزم شاه إكرامًا عظيمًا، ورحل مِن هناك إلى مَرْو الشاهجان، فقصده الإمامُ أحمد الباخرزي، وشَفِعَ في أهلِ مَروٍ، وسأل ألَّا يتعَرَّضَ لهم أحَدٌ من العسكَرِ، فأجابه إلى ذلك، ونزل بظاهرِ البلد، واستدعى أبا الفَضلِ الكرمانيَّ الفقيهَ وأعيان أهلَها، فثار عامَّةُ مرو وقتلوا بعضَ أهل خوارزم شاه، وأخرجوا أصحابَه من البلد، وأغلقُوا أبوابه، واستعَدُّوا للامتناع، فقاتَلَهم خوارزم شاه، ودخل مدينةَ مَرْوٍ سابِعَ عَشرَ ربيع الأول، وقتل كثيرًا من أهلِها، ثم سارَ في شوال إلى نيسابور، فخرج إليه جماعةٌ مِن فُقَهائِها وعلمائها وزهَّادها، وسألوه ألَّا يفعلَ بأهلِ نيسابور ما فعل بأهلِ مَرو، فأجابهم إلى ذلك لكِنَّه استقصى في البَحثِ عن أموالِ أصحاب السُّلطان فأخذها، وقطع خُطبةَ السُّلطان سنجر، أوَّلَ ذي القعدة، وخطبوا له؛ فلمَّا تَرَك الخطيبُ ذِكْرَ السُّلطانِ سنجر وذَكَرَ خوارزم شاه، صاح النَّاسُ وثاروا، وكادت الفِتنةُ تثور والشَّرُّ يعود جديدًا، وإنما منع النَّاسَ مِن ذلك ذوو الرأي والعَقلِ؛ نظرًا في العاقبةِ، فقُطِعَت إلى أوَّلِ المحرم سنةَ سَبعٍ وثلاثين ثم أعيدَت خطبة السُّلطانِ سنجر، ثمَّ سَيَّرَ خوارزم شاه جيشًا إلى أعمالِ بيهق، فأقاموا بها يُقاتِلونَ أهلَها خمسةَ أيام، ثمَّ سار عنها ذلك الجيشُ يَنهبونَ البلاد، وعَمِلوا بخراسان أعمالًا عظيمةً، ومنع السُّلطانُ سنجر من مقاتلة أتسز خوارزم شاه خوفًا من قوةِ الخطا بما وراءَ النَّهرِ، ومجاورتهم خوارزمَ وغيَرها من بلادِ خُراسان.
في هذه السنة كان ابتداءُ ملك تيموجين (جنكيز خان) ملك التتار، وهو صاحِبُ الياسق وَضَعَه ليتحاكَمَ إليه التتارُ ومن معهم من أمراء الترك, وهو والِدُ تولي، وجَدُّ هولاكو بن تولي. وُلِدَ تيموجين في غُرَّة محرم سنة 550 في منغوليا على الضفة اليمنى لنهر الأونون في مقاطعة دولون بولداق، وهذه المقاطعةُ توجَدُ اليوم في الأراضي الروسيَّة، وكان أبوه بسوكاي رئيسًا لقبيلة قيات المغولية الذي كان وقت ولادة ابنه غائبًا في قتال مع قبيلة أخرى، واستطاع أن يقتُلَ زَعيمَها واسمه تيموجين، وحينما عاد منتصرًا فَرِحَ بمولوده واستبشر به فسَمَّاه باسم القائد الذي صرعه؛ لأنَّه كان معجبًا به؛ لفرط شجاعتِه، ولما بلغ تيموجين من العمر حوالي ثلاثة عشر عامًا مات أبوه بسوكاي سنة 563 فحَلَّ محَلَّه في رئاسة القبيلة إلَّا أن رجال قبيلته استصغروا سِنَّه واستضعفوه فانفَضُّوا عنه وتفَرَّقوا ورفضوا طاعتَه. ولكن حينما بلغ السابعة عشرة من عمره استطاع بقُوَّةِ شَخصيَّتِه وحِدَّة ذكائه أن يعيدَ رِجالَ قبيلته إلى طاعتِه وأن يُخضِعَ المناوئين له، حتى تمت له السيطرةُ عليها, واصل تيموجين خطَّتَه في التوسُّعِ على حساب جيرانه، فبَسَط سيطرتَه على منطقة شاسعة من إقليم منغوليا، تمتَدُّ حتى صحراء جوبي، حيث مَضارِبُ عدد كبير من قبائل التتار، ثم دخل في صراع مع حليفِه رئيس قبيلة الكراييت، وكانت العلاقات قد ساءت بينهما بسبب الدسائس والوشايات، وتوجَّس "أونك خان" زعيمُ الكراييت من تَنامي قوَّة تيموجين وازديادِ نفوذِه؛ فانقلب حُلَفاءُ الأمس إلى أعداء وخصوم، واحتكما إلى السيف، وكان الظَّفَرُ في صالح تيموجين سنة 600, فاستولى على عاصمتِه "قره قورم" وجعَلَها قاعدةً لملكه، وأصبح تيموجين بعد انتصارِه أقوى شخصيَّة مغولية، فنودي به خاقانا، وعُرِفَ باسم "جنكيز خان" أي: إمبراطور العالم.
توالت الغارةُ من ابن ليون الأرمني، صاحِبِ الدروب، على ولايةِ حَلَب، فنَهَب وحرق، وأسر وسبى، فجمع المَلِكُ الظاهر غازي بن صلاح اِلدين الأيوبي، صاحِبُ حلب، عساكِرَه واستنجد غيرَه من الملوك، فجمع كثيرًا من الفارِسِ والراجِل، وسار عن حَلَب نحو ابن ليون، وكان ابنُ ليون قد نزل في طرف بلادِه مما يلي بلد حلب، فليس إليه طريقٌ؛ لأن جميع بلاده لا طريقَ إليها إلَّا مِن جبال وعرة، ومضايق صعبة، فلا يقدِرُ غيره على الدخول إليها، لا سيما من ناحية حَلَب؛ فإن الطريق منها متعَذِّرٌ جدًّا، فنزل الظاهر على خمسة فراسخ من حَلَب، وجعل على مقَدِّمَته جماعةً مِن عسكره مع أميرٍ كبير من مماليك أبيه اسمُه ميمون، فأنفذ الظاهِرُ ميرةً وسلاحًا إلى حِصنٍ له مجاور لبلاد ابنِ ليون، اسمُه دربساك، وأنفذ إلى ميمون ليرسِلَ طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك، ففعل ذلك، وسيَّرَ جماعة كثيرة من عسكَرِه، وبَقِيَ في قلة، فبلغ الخبَرُ إلى ابن ليون، فجَدَّ فوافاه وهو مخِفٌّ من العسكرِ، فقاتله واشتد القتال بينهم، فأرسل ميمون إلى الظاهِرِ يُعَرِّفُه، وكان بعيدًا عنه، فطالت الحربُ بينهم، وحمى ميمون نفسَه وأثقالَه على قِلَّةٍ مِن المسلمين وكثرةٍ مِن الأرمن، فانهزم المسلمون، ونال العدوُّ منهم، فقتل وأسَر، وكذلك أيضًا فَعَل المسلمون بالأرمن مِن كثرةِ القَتلِ، وظَفِرَ الأرمنُ بأثقال المسلمين فغَنِموها وساروا بها، فصادَفَهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذَّخائِرِ إلى دربساك، فلم يَشعُروا بالحال، فلم يَرُعْهم إلَّا العدو وقد خالطهم ووضع السيفَ فيهم، فاقتتلوا أشَدَّ قتال، ثم انهزم المسلمون أيضًا، وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غَنِموا، واعتصموا بجبالهم وحصونهم.
قُبِضَ على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروفِ بنائب الكرك في يوم الخميس نصف جمادى الآخرة، وهو يومئذٍ نائِبُ طرابلس وسُجِنَ بقلعة صرخد، ثم نقِلَ في مستهل شوال إلى الإسكندرية فسُجِنَ بها، ونزل النشو إلى بيتِه بالقاهرة، وأخذ موجودَه كُلَّه وموجودَ حَريمِه، وعاقَبَ أستادراه، واستقَرَّ عِوَضَه في نيابة طرابلس الأميرُ طينال على عادته، ونُقِلَ بكتمر العلائي إلى نيابة حمص، عوضًا عن بشاش المتوفى، وسبب ذلك كلِّه أنَّه تراءى بطرابلس مرَكبٌ للفرنج في البحر، فرَكِبَ العسكر إلى الميناء، فدفعت الريحُ المركَبَ عن الميناء ثم أخذ الأميرُ آقوش في تجديد عمارة مركب هناك، وأنفق فيه من مالِه أربعينَ ألف درهم، فقَدِمَت مركب الفرنج، فركب العسكَرُ في المركب المستجَدِّ، وقاتلوا الفرنجَ، فقتلوا منهم جماعةً وغَنِموا مركَبَهم بما فيها، فادَّعى صاحِبُها أنَّه تاجِرٌ قَدِمَ بتجارته، فنُهِبَت أموالُه وقُتِلَت رجالُه، وذُكِرَ عنه بعضُ التجَّار أنه متحَرِّم لا تاجر، وأنَّه قَدِمَ في السنة الماضية إلى ميناء طرابلس وأخَذَ منها مركبًا، فكتب آقوش بذلك إلى السلطان، فأجيب بالشُّكرِ وحَمْل الفرنجي إلى السلطان، فحَمَله آقوش مقيدًا على البريد، فأكثَرَ الفرنجيُّ من التظلم، وتبرأ من التحَرُّم في البحر، وأنه قَدِمَ بتجارة وهدية للسُّلطانِ، فظَلَمَه نائب طرابلس وأخذ ما كان معه من التحَفِ وغيرها، فصَدَّقه السلطان، وكتب بإعادة مركَبِه إليه وجميعِ ما أُخِذ له، فأجاب النائبُ بأن المذكور حرامي يقطع الطريقَ على المسلمين، فلا يَسمَع السلطانُ قَولَه، وكتب إليه بالتأكيدِ في رَدِّ المركب عليه، فرَدَّها النائب عليه، وشَقَّ ذلك عليه، ثمَّ طلب آقوش الإعفاءَ من نيابة طرابلس فأُجيبَ بتخييره بين نيابةِ صرخد وبعلبك، وبَعَث السلطان إليه الأمير برسبعا الحاجب، فسار به إلى دمشق، فقَبَض عليه تنكز بدار السعادة، وحَمَلَه إلى صرخد.
كتب السُّلطانُ النَّاصِرُ بتَجهيزِ عساكِرِ دمشق وحَلَب وغيرهما للتجريدةِ إلى توريز، صحبة الأمير طشتمر نائب حلب، ويكونُ معه عامَّةُ أمراء التركمان والعربان، فتجَهَّزَ الأمراء والأجناد بمماليك الشام، وبَرَز نائب حلب بمخيَّمِه إلى ظاهر المدينة وأقام ينتَظِرُ قدومَ عساكِرِ مصر، فأصبح السلطان في مستهَلِّ ذي الحجة وبه وَعكٌ من قرف حدث عنه إسهالٌ لزم منه الفِراشَ خمسةَ أيام، فتصَدَّقَ بمال جزيل، وأفرَجَ عن المسجونينَ بسِجنِ القُضاة والولاة بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال، ثم قَدِمَ إدريس القاصد بصُحبة مملوك صاحب ماردين بكتابِه يتضَمَّنُ أن أولاد دمرداش بن جوبان بن تلك المغولي لَمَّا بلغهم طلَبُ الشيخ حسن الكبير بن أقبغا أيلخان سبط أرغون المغولي وطغاي بن سونتاي المغولي من السلطان أن يجَهِّزَ لهم عسكرًا ليأخُذَ البلاد، وأنَّهما حلفا له وحلفا أهلُ البلاد وخَطَبا باسمه على منابر بغداد والموصل، وركبوا إلى محاربتِهما، فطَلَب منهم الشيخ حسن الكبير الصُّلحَ، وحلف لهم وسار إليها طائعًا، فأكرموه وكتبوا لطغاي بن سونتاي أمانًا، واتَّفَقوا على أن يعدوا الفرات إلى الشام، وأشار صاحب ماردين ألا تخرُجَ التجريدة إلى توريز؛ فإنَّه ليس لِسَيرِها فائدة، فتفَرَّقت الأجنادُ من القلعة بغيرِ عرض، وبَعَث السلطان من ليلته بجوابِ صاحب ماردين، واقتضى رأيُه أن يكشِفَ عما ذكره، فإنَّ برهشين بن طغاي اتَّهَمه في ذلك، ثم قَدِمَ البريد من حلب بصحَّة الخبر بصُلح الشيخ حسن الكبير وطغاي مع أولاد دمرداش، فانزعَجَ السلطان لذلك انزعاجًا شديدًا، واضطرب مزاجُه.