هاجم أميرُ الرياض دهام العماريةَ المواليةَ للدرعية وقتل أميرَها عبد الله بن علي وعقر إبِلَه، فلما بلغ ذلك الإمام محمد بن سعود جمع أهل الدرعية وعرقة، وأراد أن يرصد عودة جيش دهام من العمارية ويكمن له، وكان دهام بن دواس قد كمن في الموضعِ نفسه فالتقى الفريقان واقتتلوا قتالًا شديدًا انهزم فيه دهام، وجَدَّ أهل الدرعية في إثرِه ولكنهم فُوجئوا بخروج فرقة لابن دواس من جهة العمارية، فوقع القتل وانكسر جيشُ الدرعية.
كان الإمام فيصل بن تركي تولَّى حكم نجدٍ بعد مقتل أبيه، وتمكَّنَ من إخضاعِ أكثَرِ الإمارات ما عدا الحجاز، وعَيَّن عبد الله بن رشيد أميرًا على حائل، فلمَّا انزعج محمد علي حاكِمُ مصر أرسل حملةً احتَلَّت نجدًا وقبضت على الإمام فيصل بن تركي، ثم أُرسِلَ إلى مصر خلال هذه السنة، وأقامت الحملةُ خالدَ بنَ سعود بن عبد العزيز بن محمد -الذي تربَّى في مصر- حاكِمًا لنجد، وكانت غايةُ محمد علي باشا تفريقَ الأسرة السعودية.
تمرَّد بعضُ رؤساء عشائر قبيلة مطير على الملك عبدالعزيز، وتحالفوا مع أمير بريدة محمد بن عبد الله أبا الخيل، على أن يكونوا من أنصار ابن رشيد ضِدَّ الملك عبدالعزيز الذي تحالف مع قبيلة عتيبة خصوم مطير وشمر، فنشبت قربَ مدينة المجمعة في سدير معركةٌ بين قبيلة مطير بقيادة فيصل الدويش وقوات الملك عبدالعزيز المكَوَّنة بالأساس من قبيلة عتيبة. وهُزمت مطيرٌ، وأصيب فيصل الدويش بجراحٍ في هذه المعركة، فطلب الصلح وأعرب عن خضوعِه للملك عبدالعزيز.
في صَباح يوم الجُمُعة في اليوم السادس من شهر ذي الحجَّة عام 1407هـ، والحجيجُ على وَشكِ التأهُّب للرحيل إلى المشاعر المُقدَّسة، واستكمال مَناسِك الحج، وفي شمال مكَّة في مِنطَقة الحجون والمعلَّاة، على مَقرُبة من شِعب بني عامر الشَّهير، قام الحُجَّاج الإيرانيون بإثارة الشَّغَب، وترديد شِعاراتٍ مُستَنكرةٍ لا تليقُ بمَوسِم الحج مِثلَ: (لبَّيك يا خُميني، والموتُ لأمريكا)، وقد حصلت مُواجَهاتٌ بين المُتظاهِرينَ من جهةٍ، والشَّعب والشُّرطة من جهةٍ أخرى، حتى أخمَدَ الله الفتنةَ، وردَّ كيدَ أصحابِها في نُحورهم.
بعد مشروعِ الوَحْدة جَرى انتخاب علي عبد الله صالح رئيسًا لمجلس رئاسة الجمهورية اليَمَنية، وعلي سالم البيض نائبًا له، ثم بدأت بوادرُ الاختلال السياسي في اتفاق الوَحْدة، بين نظامَينِ مختلِفَينِ: النظام الجنوبي الاشتراكي، والشمالي القَبَلي، حيثُ يَعُدُّ شيوخُ القبائلِ الاشتراكيِّين كفرةً وماركسيِّين، ويَعُدُّهم الاشتراكيُّونَ أُصوليِّين ومُتخلِّفينَ، وسُرعانَ ما انهار السِّلم واندلعت حربٌ أهليةٌ قصيرةٌ أدَّت إلى انتصار القوات الشمالية على قوات الجنوب، وتَوْحيد اليَمَن تحت مُسمَّى الجمهورية العربية اليَمنية.
اغتِيلَ الداعيةُ السَّلفيُّ البارز محمد أول آدم ألباني هو وزوجتُه بمدينة "زاريا"، في ولايَةِ كادونا شماليَّ نيجيريا، عندما كان عائدًا من إحدى دُروسِه. وآدم ألباني رحمه الله هو مؤسِّسُ أكاديميَّة علوم الألبانيِّ ودار الحديثِ، وكلاهُما يَقَعُ في مدينة "زاريا"، وكان واعِظًا مُعارِضًا للحكومة، زُجَّ به في السِّجن عِدَّةَ مراٍت؛ بسببِ آرائِه المُعارِضة. واعتُقِلَ عامَ (2011م) في أعقابِ العُنفِ الذي اتَّسمَت به نتائجُ الانتخاباتِ الرئاسيَّةِ في البلاد، ولَقِي خلالَها عِدَّةُ أشخاصٍ مَصرعَهم، ودُمِّرت العديدُ من المُمتلَكات.
وُلِدَ الشَّيخُ صالِح الشيبي في مكَّةَ المكَرَّمةِ عامَ 1366هـ، ونشَأ في أسرةٍ عُرِفَت بسِدانةِ الكعبةِ المُشَرَّفةِ لعِدَّةِ قُرونٍ، وحصَل على شهادةِ الدُّكتوراه في الدِّراساتِ الإسلاميَّةِ من جامعةِ أمِّ القرى، وعَمِل أستاذًا جامعيًّا لسَنَواتٍ عِدَّةٍ، وتولَّى مَنصِبَ كبيرِ سَدَنةِ بيتِ اللهِ الحرامِ عامَ 1980، خَلَفًا لعَمِّه الشَّيخِ عبدِ القادِرِ الشيبي، وظَلَّ في هذا المنصِبِ حتَّى وفاتِه.
صُلِّيَ عليه بعدَ صلاةِ فَجرِ يومِ السَّبتِ في المسجِدِ الحرامِ، ودُفِن بمقابِرِ المُعَلَّاةِ بمكَّةَ.
في حينَ كان التفاعُلُ بين الإسلام والنوبة يأخُذُ دَورَه في أسوان وجنوبها حيث انتشرت اللغةُ العربيَّةُ وكثُرَت المساجِدُ وكان ملوكُ النوبة يفرَحونَ للهَجَماتِ الصليبية على مصر، ثمَّ لما جاء عهد المماليك خضعت النوبة تحت حكمِهم، فكان أهلُها يؤدُّونَ الجِزيةَ السَّنَويَّةَ ولكِنَّهم كانوا يمتنعون أحيانًا، فحصلت بينهم حروبٌ، ثم لما كان كرنبس الذي حاول التمَرُّدَ على المماليك فأرسلوا جيشًا يرافقه أمير نوبي مسلم اسمه عبدالله برشنبو، فنصبوه على عرش النوبة سنة 716 وحاول كرنبس المفاوضةَ لتنصيب ابن أخيه المسلِم كنز الدولة شجاع الدين لكِنَّهم رفضوا فصارت النوبة في قبضة المسلِمِ، فكان من نتيجة ذلك انتشار الإسلام والعربية بين النوبيِّينَ، فبدأت تتحَوَّل الكنائِسُ إلى جوامِعَ وأشهرُها الكنيسةُ الكبرى في دنقلة، ثم تولى كنز الدولة, ولم يتسلم الحكمَ بَعدَه على النوبةِ أيُّ نَصرانيٍّ.
هو الإمامُ العلَّامة الحافِظُ قاضي القضاة نجمُ الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم بن أبي المواهب، الربعي الثعلبي الدمشقي الشافعي، الشهيرُ بابن صصرى قاضي القُضاة بالشام، وُلِدَ في ذي القعدة سنة 655، ووالدتُه هي شاه ست بنت أبي الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن علان القيسية الدمشقية، ذكرها الذهبي في معجم الشيوخ الكبير. كان في ابتداء أمرِه كتب في الإنشاء، وكان له نظمٌ ونثرٌ ومُشاركة في فنونٍ كثيرة، فصيحَ العبارة، قادرًا على الحفظ، يحفظُ أربعة دروس في اليوم، سمِعَ ابن صصرى الحديثَ واشتغل وحَصَّل وكتَبَ عن القاضي شمس الدين بن خَلِّكان وفياتِ الأعيان، وسَمِعَها عليه، وتفقَّه بالشيخ تاج الدين الفزاري، وعلى أخيه شرف الدين في النَّحو، وكان له يدٌ في الإنشاء وحُسن العبارة. درَّس بالعادلية الصغيرة سنةَ ثنتين وثمانين، وبالأمينية سنة تسعين، وبالغزالية سنة أربع وتسعين، وتولى قضاء العساكر في دولة العادل كتبغا، ثم تولَّى قضاء الشام سنة ثنتين وسبعمائة، بعد ابنِ جماعة حين طُلِبَ لقضاء مصر بعد ابن دقيق العيد، ثم أضيف إليه مشيخةُ الشيوخ مع تدريس العادلية والغزالية والأتابكية، في يوم الثلاثاء سابِعَ شعبان عَزَل نجم الدين بن صصرى نفسه عن الحُكمِ بسبب كلامٍ سمعه من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. كان نجم الدين ابن صصرى من خصومِ شيخ الإسلام ابن تيمية, ففي الثاني عشر رجب سنة 698 قرأ المِزِّي فصلًا من كتاب أفعال العباد للبُخاري في الجامع، فسَمِعَه بعض الشافعية فغضِبَ، وقالوا: نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلى القاضي الشافعي فأمر بحبسه، فبلغ ابن تيمية فتوجَّهَ إلى الحبس فأخرجه بيده، فبلغ القاضي ابن صصرى فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيميَّةَ فتشاجرا بحضرة النائِبِ، واشتطَّ ابن تيمية على القاضي لِكَونِ نائبه جلال الدين آذى أصحابَه في غَيبة النائب، فأمر النائب من ينادي أنَّ من تكلَّمَ في العقائد فُعِلَ كذا به، وقصد بذلك تسكينَ الفتنة. وفي خامس رمضان بطلب القاضي والشيخ وأن يرسلوا بصورةِ ما جرى للقاضي نجم الدين ابن صصرى، ثم وصل مملوك النائب وأخبر أن الجاشنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكارِ على الشيخ ابن تيمية، وأنَّ الأمرَ اشتَدَّ بمصر على الحنابلة، حتى صفع بعضهم، ثم توجه القاضي ابن صصرى وشيخ الإسلام إلى القاهرة ومعهما جماعةٌ فوصلا في العشر الأخير من رمضان، وعُقِدَ مجلس في ثالث عشر منه بعد صلاة الجمعة، فادعى على ابن تيميَّةَ عند المالكي، فقال: هذا عدوِّي ولم يجِبْ عن الدعوى، فكرر عليه فأصَرَّ، فحكم المالكيُّ بحبسِه، فأقيم من المجلسِ وحُبِسَ في برجٍ، ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه، فقال: يجب التضييقُ عليه إنْ لم يُقتَل وإلَّا فقد ثبت كفرُه، فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجبِّ، وعاد القاضي ابن صصرى الشافعي إلى ولايتِه، ونودي بدمشق من اعتقد عقيدةَ ابن تيمية حَلَّ دَمُه ومالُه خصوصًا الحنابلة، فنودي بذلك وقرئ المرسوم. توفي ابن صصرى فجأةً ببستانه بالسَّهمِ ليلة الخميس سادس عشر ربيع الأول عن ثمان وستين سنة وصُلِّيَ عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازتَه نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان، وكانت جنازتُه حافلةً ودُفِنَ بتربتهم عند الركنية.
هو السلطان أبو سعيد بن عثمان بن أبي العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني ملك المرينيين، لما اغتِيلَ نُصب ولده الناصر عبد الحق خلفًا له وتولى الوصايةَ عليه أبو زكريا يحيى الوطاسي زعيم بني وطاس، والذي به قامت دولة بني وطاس التي خلفت دولة بني مرين فيما بعد.
هو حسني ابن الشيخ رضا بن محمد بن يوسف الزعيم؛ ثائر سوري من أهل دمشق، من القواد العسكريين. ولد حسني الزعيم في حلب سنة 1315هـ/ 1897م، وهو كردي الأصل، وكان والِدُه مفتيًا في الجيش العثماني. حكم الزعيم سوريا حكمًا مُطلقًا مدة 136 يومًا. تعلَّم الزعيم في المدرسة الحربية بالأستانة، وأصبح ضابطًا في الجيش العثماني، واعتقله الحلفاءُ أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم التحقَ بجيش الثورة العربية بقيادة فيصل بن الحسين، وحارب العثمانيين في دمشق، وتطوَّع في الجيش الفرنسي أثناء الانتداب على سوريا، وترقى في عهد استقلالها إلى رتبة كولونيل (رُتبة عسكرية رفيعة المستوى)، وتولَّى رئاسة أركان الحرب في عهد الرئيس شكري القوتلي، ثم انقلب عليه بدَعمٍ مِن الأمريكان، في 30 مارس 1949 وتلقَّب بالمشير، وألَّف وَزارةً، ودعا إلى انتخاب رئيس للجمهورية، فخافه الناسُ فانتخبوه في آخر شعبان 1368 / 26 يونيه 1949م، فوضع نُصبَ عينيه صورَ نابليون وأتاتورك وهتلر، وأظهر نشاطًا غير مألوف، واعترفت الدولُ به وبحكومتِه. وظهر بمظهرِ الحاكِمِ المطلق، فساء ذلك بعضَ أنصارِه من العسكريين، فقتلوه في انقلابٍ قام به العقيدُ سامي الحناوي بتدبيرٍ مِن الأمريكان.
في الحادى والعشرين محرم طرق ميناءَ بوقير خارجَ مدينة الإسكندرية ثلاثةُ أغربة -نوع من المراكب- من الفرنج الكيتلان، وأخذوا مركبين للمسلمين، فخرج إليهم أقباي اليشبكي الدوادار نائب الثغر، ورماهم حتى أخذ منهم أحد المركبين، وأحرق الفرنج المركبَ الآخر وساروا، وفي الثاني والعشرين منه بعد هذه الوقعة طرق ميناءَ الإسكندرية مركبٌ آخر للكيتلان، وكان بها مركب للجنوية، فتَحاربا، وأعان المسلمون الجنوية حتى انهزم الكيتلان.
لَمَّا توفِّيَ أحمدُ بن طولون كان إسحاقُ بن كنداجيق على الموصل والجزيرة، فطَمِعَ هو وابن أبي الساج- وهما من كبار قادة الترك عند المعتَمِد- في الشام، واستصغرا أولادَ أحمد، وكاتَبا الموفَّقَ بالله في ذلك، واستمَدَّاه، فأمرهما بقصدِ البلاد، ووعدهما إنفاذَ الجيوش، فجمَعَا وقصدَا ما يجاوِرُهما من البلاد، فاستولَيَا عليه وأعانهما النائبُ بدمشق لأحمد بن طولون، ووعدَهما الانحيازَ إليهما فتراجع مَن بالشامِ مِن نواب أحمد بأنطاكية، وحلب وحمص، وعصى متولِّي دمشق، واستولى إسحاقُ عليها، وبلغ الخبَرُ إلى أبي الجيش خمارَوَيه بن أحمد بن طولون، فسيَّرَ الجيوش إلى الشام فمَلَكوا دمشق، وهرب النائبُ الذي كان بها من قِبَل إسحاق؛ وسار عسكرُ خمارويه من دِمشقَ إلى شيزر لقتال إسحاق بن كنداجيق وابن أبي الساج، فطاولهم إسحاقُ ينتظِرُ المدد من العراق، وهجم الشتاءُ على الطائفتَينِ، وأضرَّ بأصحاب ابن طولون، فتفَرَّقوا في المنازل بشيزر، ووصل العسكرُ العراقي إلى كنداجيق، وعليهم أبو العباس أحمد بن الموفَّق وهو المعتضِدُ بالله، فلما وصل سار مُجِدًّا إلى عسكر خمارويه بشيزر، فلم يَشعُروا حتى كبَسَهم في المساكن، ووضع السيفَ فيهم، فقتل منهم مقتلةً عظيمةً، وسار من سَلِمَ إلى دمشق على أقبَحِ صُورةٍ، فسار المعتَضِد إليهم، فجُلُوا عن دمشقَ إلى الرملة، ومَلَك هو دمشق، ودخلَها في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأقام عسكرُ ابن طولون بالرملة، فأرسلوا إلى خِمارَوَيه يُعَرِّفونه بالحال، فخرج من مصرَ في عساكره قاصدًا إلى الشَّامِ.
في السَّابِعِ من المحَرَّم قُرِئَ سجِلٌّ في جوامِعِ مِصرَ يأمُرُ الحاكِمُ العُبَيديُّ اليهودَ والنَّصارى بشَدِّ الزُّنَّار ولُبس الغيار، وشعارُهم السَّوادُ شِعارُ العباسيِّينَ، وقرئ سجِلٌّ في الأطعِمةِ بالمَنعِ مِن أكلِ المُلوخيَّةِ المُحبَّبة لِمُعاويةَ بنِ أبي سُفيان، والبَقلة المسمَّاة بالجرجيرِ المَنسوبة إلى عائشةَ رَضِيَ الله عنها، وفيه المنعُ مِن عَجنِ الخُبزِ بالرِّجلِ، والمنعُ مِن ذَبحِ البَقَرِ التي لا عاقبةَ لها إلَّا في أيَّامِ الأضاحي، وما سواها مِن الأيَّامِ لا يُذبَحُ منها إلَّا ما لا يصلُحُ للحَرثِ، وفيه التَّنكيرُ على النخَّاسينَ والتشديدُ عليهم في المَنعِ مِن بَيعِ العَبيدِ والإماءِ لأهلِ الذِّمَّة، وإصلاحُ المكاييلِ والموازينِ، والنَّهيُ عن البخس فيهما، والمنعُ مِن بَيعِ الفقاعِ وعَمَلِه البتَّةَ؛ لِما يُؤثَرُ عن عَليٍّ رَضِيَ الله عنه مِن كراهةِ شُربِ الفقاعِ، وضُرِبَ في الطُّرُقاتِ بالأجراس ونودِيَ أنْ لا يدخُل الحَمَّامَ أحَدٌ إلَّا بمِئزَرٍ؛ وأنْ لا تَكشِف امرأةٌ وَجهَها في طريقٍ ولا خَلْفَ جِنازةٍ، ولا تتبَرَّج. ولا يُباع شَيءٌ مِن السَّمَك بغيرِ قِشرٍ، ولا يَصطاده أحدٌ مِن الصَّيادينَ، فقد كان الحاكِمُ شابًّا متهَوِّرًا مُتقَلِّبَ المِزاجِ جِدًّا، يَمنَعُ اليومَ ما كان أباحَه بالأمسِ، ويُبيحُ اليومَ ما منَعَه بالأمسِ، فلم يكُنْ مِن الحُكَّامِ مَن هو أشَدُّ منه تذبذُبًا، وقد أمَرَ بقَتلِ الكِلابِ، فقُتِلَ منها ما لا يُحصى، حتى لم يبقَ منها بالأزِقَّةِ والشَّوارِعِ شَيءٌ، وطُرِحَت بالصَّحراءِ وبشاطئِ النيلِ، وأمَرَ بكَنسِ الأزِقَّةِ والشَّوارِعِ وأبوابِ الدُّورِ في كلِّ مكانٍ، ففُعِلَ ذلك, ونودِيَ في القاهرةِ لا يَخرُج أحَدٌ بعدَ المَغرِب إلى الطَّريقِ ولا يَظهَر بها لِبَيعٍ ولا شِراءٍ فامتثَلَ النَّاسُ لذلك.
هو الإمامُ، العَلَّامةُ، حافظُ المَغرِب، شيخُ الإسلامِ، أبو عُمرَ يُوسُف بنُ عبدِ الله بن محمدِ بن عبدِ البَرِّ بن عاصمٍ النمريُّ، الأَندَلُسيُّ، القُرطُبيُّ, فَقِيهٌ مالكيٌّ مَشهورٌ، صاحبُ التَّصانيفِ المَلِيحَةِ الهائِلَة، منها ((التمهيد))، و((الاستذكار)) و((الاستيعاب))، وغير ذلك، مِن كِبارِ حُفَّاظِ الحَديثِ، يُقالُ عنه: حافِظُ المَغرِب، وُلِدَ سَنةَ 368هـ. طَلَبَ العِلمَ بعدَ 390هـ وأَدرَكَ الكِبارَ، وطال عُمرُه، وعَلَا سَنَدُه، وتَكاثَر عليه الطَّلَبَةُ، وجَمَعَ وصَنَّفَ، ووَثَّقَ وضَعَّفَ، وسارت بِتَصانيفِه الرُّكبانُ، وخَضَعَ لِعِلمِه عُلماءُ الزَّمانِ، وَفَاتَهُ السَّماعُ مِن أَبيهِ الإمامِ أبي محمدٍ، فإنه ماتَ قديمًا في سَنةِ 380هـ قبل أن يَبدأ ابنُه أبو عُمرَ في الطَّلَبِ، وله رِحلاتٌ طَويلةٌ في طَلَبِ العِلمِ. قال الحُميديُّ: "أبو عُمرَ فَقِيهٌ حافظٌ مُكْثِرٌ، عالِمٌ بالقِراءاتِ وبالخِلافِ، وبِعُلومِ الحَديثِ والرِّجالِ، قَديمُ السَّماعِ، يَميلُ في الفِقْهِ إلى أَقوالِ الشافعيِّ".قال الذهبيُّ: "كان إمامًا دَيِّنًا، ثِقَةً، مُتْقِنًا، عَلَّامةً، مُتَبَحِّرًا، صاحبَ سُنَّةٍ واتِّباعٍ، وكان أَوَّلًا أَثَرِيًّا ظاهِرِيًّا فيما قِيلَ، ثم تَحوَّل مالِكيًّا مع مَيْلٍ بَيِّنٍ إلى فِقهِ الشافعيِّ في مَسائلَ، ولا يُنكَر له ذلك، فإنه ممَّن بَلَغَ رُتبةَ الأئمَّةِ المُجتهِدين، ومَن نَظرَ في مُصنَّفاتِه، بانَ له مَنزِلَتُه مِن سِعَةِ العِلمِ، وقُوَّةِ الفَهمِ، وسَيَلانِ الذِّهنِ, وكان مُوَفَّقًا في التَّأليفِ، مُعانًا عليه، ونَفَعَ الله بِتَواليفِه، وكان مع تَقَدُّمِه في عِلمِ الأَثَرِ وبَصَرِه بالفِقهِ ومعاني الحَديثِ له بَسْطَةٌ كَبيرةٌ في عِلمِ النَّسَبِ والخَبَرِ, وكان حافِظَ المَغربِ في زَمانِه, وذَكَرَ جَماعةٌ أنه وَلِيَ قَضاءَ الأشبونة وشنترين". تُوفِّيَ في شاطبة عن 95 عامًا.