بعدَ أن تَنازَل الحسنُ بن عَلِيٍّ رضي الله عنه لمُعاوِيَة بالخِلافَة أصبح مُعاوِيَةُ هو الخَليفَةَ الشَّرعيَّ للمسلمين، فكان بذلك أوَّل بِدايَة الدَّولة الأُمويَّة التي كانت عاصمتُها دِمشقَ، ومِن المعلوم أنَّ هذه الدَّولة اسْتَمرَّت إحدى وتِسعين سنة.
هو الإمام العلَّامة، الحافظُ الكبيرُ الثِّقة، شيخُ المحَدِّثين، أبو موسى محمد بن المقرئ أبي بكر عمر بن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن أبي عيسى المديني، الأصبهاني، الشافعي، صاحِبُ التصانيف، أحد حفَّاظ الدنيا الرَّحَّالين الجوَّالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، كان من علماء الحديث المشهورين، ولد في ذي القعدة سنة 501, ومولد أبيه المقرئ أبي بكر سنة 465. حرص عليه أبوه، وسَمَّعه حضورًا، ثم سماعًا كثيرًا من أصحاب أبي نعيم الحافظ، وطبقتهم. وعمل موسى لنفسه (معجمًا)، روى فيه عن أكثَرَ من ثلاثمائة شيخ. قال ابن الدبيثي: "عاش أبو موسى حتى صار أوحد وقته، وشيخ زمانه إسنادًا وحفظًا" وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: "حصل أبو موسى من المسموعاتِ بأصبهان ما لم يحصُلْ لأحدٍ في زمانه، وانضَمَّ إلى ذلك الحِفظ والإتقان، وله التصانيف التي أربى فيها على المتقدمين، مع الثقة والعفة، كان له شيءٌ يسير يتربَّحُ به ويُنفِقُ منه، ولا يَقبَلُ مِن أحد شيئًا قَطُّ، أوصى إليه غيرُ واحد بمال، فيَرُدُّه، فكان يقال له: فَرِّقْه على من ترى، فيمتَنِعُ، وكان فيه من التواضُعِ بحيث أنه يقرئ الصغير والكبير، ويرشِدُ المبتدئ، رأيته يُحَفِّظُ الصبيان القرآنَ في الألواح، وكان يمنَعُ من يمشي معه، فعلتُ ذلك مرة، فزجَرَني، وتردَّدتُ إليه نحوًا من سنة ونصف، فما رأيتُ منه ولا سمعتُ عنه سقطةً تعاب عليه." قال الذهبي: " سمعتُ شيخنا العلامة أبا العباس بن عبد الحليم بن تيمية يُثني على حفظ أبي موسى، ويُقَدِّمُه على الحافظ ابن عساكر، باعتبار تصانيفِه ونَفْعِها".
بدأ التعصُّبُ القومي أو بالأحرى: الدعوة إلى العصبية، تظهَرُ بوضوحٍ في أيامِ عبد الحميد الثاني، وإن كانت قد برزت قبله، ولكن بدأ تأسيسُ الجمعيات ذات الأهدافِ السياسية المشبوهةِ، والمرتبطة بالدولِ الاستعمارية، وإن كانت تحمِلُ صِفاتٍ أدبيةً وعلميةً، وكانت مراكِزُها المهمَّةُ هي استانبول وبيروت، ولعب النصارى دورًا كبيرًا جدًّا في نشر هذه الجمعيات في بيروت، فظهرت جمعيةُ العلوم والفنون تحت رعاية الإرساليات التبشيرية الأمريكية، ومن مؤسِّسيها بطرس البستاني، وناصيف اليازجي، وهَدَفت لنشر العلوم الغربية والدعاية لدُولِ أوربا، وقام اليسوعيون بتأسيس الجمعية الشرقية بأعضاء نصارى وتدعَمُها الإرساليات الكاثوليكية، ثمَّ تأسست الجمعية العلمية العربية وضَمَّت نصارى ودروزًا وعربًا مسلمين، وأمَّا في استانبول فقد ضَمَّت الجمعيات مختلفَ الفئات، وإن كان معظَمُها من الأتراك إلا أنَّهم من الذين فُتِنوا بأوربا ويريدون تغيير الوضعِ، أو من اليهود وخاصةً يهود الدونمة، وأشهر هذه الجمعيات جمعية تركيا الفتاة، التي تأسَّست في باريس ولها فروع في برلين وسلانيك واستانبول، ورئيسها أحمد رضا بك المفتونُ بالثورة الفرنسية، ومقالاته الداعية دائمًا لتقليد الغرب، وكانت هذه الجمعيةُ تلقى ترحيبًا من المحافل الماسونية، وفيها تمَّ تنظيمُ الاتحاد والترقي الذي كان له الأثرُ الكبير في إنهاء الخلافةِ العثمانية، وكان من رجالها رجالٌ في الدولة مثلُ مدحت باشا الذي كانت له اليدُ الطولى في خلعِ السلطان عبد العزيز ومراد الخامس، وكانوا يطالبون بوضعِ دستور للدولة غير الدستور الإسلاميِّ، على نمط الأوربيِّين! وزاد نفوذُ يهود الدونمة الذين أظهر كثيرٌ منهم الإسلامَ، فنُسِيَ أصلُهم, وبدؤوا بالتخريبِ مِن الداخل.
ظهر الأميرُ محمد عبد الكريم الخطَّابي عام 1921 م في منطقة الريف، واستطاع أن يفجِّرَ الثورة فيها ضدَّ الأسبان وأن يحقِّقَ العديد من الانتصارات على الأسبان، وأصبح وجودُ الأسبان قاصرًا على مدينة تطوان وبعض الموانئ والحصون في الجبال، وأسَّسَ الأميرُ إدارةً منظمة للمناطِقِ المحرَّرة وحكَمَها حكمًا شبيهًا بالحُكمِ الجُمهوري الرئاسي، وألَّف مجلِسًا لرؤساء القبائل، وجعل الوزراءَ مسؤولين أمام هذا المجلس، وأعلن الخطابيُّ أنَّ أهداف حكومتِه هي طرد الأسبان والفرنسيين من المغرب، وتحريرُ باقي بلاد المغرب العربي. ولم يقتصِرْ جهاد الأمير على القتالِ ضِدَّ الأسبانِ، بل إنَّه استخدم جمهوريةَ الريف التي شكَّلَها في الضغطِ على القوات الفرنسية، وتحريضِ القبائل على التمَرُّد والعصيان في منطقة النفوذ الفرنسي، بدءًا من عام 1925م، وبدأت الصدماتُ المتواليةُ تقعُ بين الأمير والقوات الفرنسية، وأوقع بالفرنسيين خسائِرَ فادحة. وكان من الطبيعيِّ إزاء تلك القوَّةِ الصاعدة التي تمتلِكُ قائدًا كُفئًا ومقاتلين شجعان: أن تتجَمَّعَ القوى الاستعمارية ضِدَّها، فتَمَّ عَقدُ مؤتمر بين أسبانيا وفرنسا في مدريد عام 1925م لتنسيق الأعمالِ الحربيَّة بينهما ضِدَّ الأمير عبد الكريم الخطابي، وتدفَّقَت القوات الفرنسية والأسبانية على المغربِ، بل وأيضًا تم استخدامُ بعض المرتزقة من الطيارين الأمريكان في تلك المعركة، وحَشَدت فرنسا وأسبانيا قواتِها البحريةَ والبرية والجويةَ كمحاولة للقضاء على الأميرِ، واستطاع الأميرُ أن يصمُدَ من مايو 1925م إلى مايو 1926م أي: عامًا كاملًا، أمام جحافِلِ دولتين أوربيتين، هما فرنسا وأسبانيا، وأخيرًا تم القضاءُ على قوات الأمير، وسقط في الأسْرِ.
وُلِدَ الكاتبُ المصريُّ والصَّحفيُّ الشَّهير: محمد حسنين هيكل في 23 سبتمبر 1923، وتلقَّى تعليمَه بمراحِلِه المتَّصِلةِ في مصرَ، وكان اتِّجاهُه مبكِّرًا إلى دراسةِ ومُمارسةِ الصحافةِ، وفي عامِ 1943م التَحَق بجريدة «الإيجبشيان جازيت» مُحرِّرًا، ثمَّ عُيِّنَ عام 1945م مُحَرِّرًا بمجلةِ آخرِ ساعةٍ، وانتقلَ معها عندما انتقلت مِلْكيَّتُها إلى جريدةِ أخبار اليوم، أصبَحَ “حسنين هيكل” بعد ذلك مُراسِلًا متجوِّلًا بأخبارِ اليومِ، وتنقَّل وراءَ الأحداثِ مِن الشَّرقِ الأوسَطِ إلى البلقانِ وإفريقيا والشرقِ الأقصى حتى كوريا، ثم استقرَّ في مصرَ عامَ 1951م؛ إذ تولَّى مَنصِبَ رئيسِ تحرير «آخر ساعة» ومديرِ تحريرِ «أخبارِ اليومِ»، واتَّصلَ عن قُربٍ بمَجْرياتِ السياسةِ المِصريَّة. وإلى جانب العمَلِ الصَّحَفيِّ شارَكَ محمد حسنين هيكل في الحياةِ السياسيَّةِ، ومن ذلك تولِّيه وَزارةَ الإعلامِ، كما تولَّى وَزارةَ الخارجيَّةِ لمُدَّة أسبوعَينِ في عهدِ عبدِ الناصر. وشهِدَ هيكل الحياةَ السياسيَّةَ في مصرَ بفتَراتِها المُتفاوتةِ، وكان وثيقَ الصِّلةِ بالرئيسِ “جمال عبد الناصر”. واختلَفَ مع “السادات” حولَ التعامُلِ مع النتائجِ السياسيَّة لحربِ أكتوبر، حتى وصَلَ الأمرُ إلى حدِّ اعتقالِه ضِمنَ اعتقالاتِ سبتمبر1981م. وهيكل يُعَدُّ كاتبًا عِلمانيًّا، ومؤرِّخًا للتاريخِ العربيِّ الحديثِ، وخاصةً تاريخَ الصِّراعِ العربيِّ الإسرائيليِّ؛ إذ سَجَّلَ سِلسلة مِن البرامِجِ التاريخيَّةِ على قناةِ الجَزيرةِ، ولديه أيضًا تحقيقاتٌ ومقالاتٌ للعديدِ من صُحُفِ العالَم في مقَدِّمتِها “الصنداي تايمز” والتايمز” في بريطانيا. ولهيكل كُتُبٌ ومؤلَّفاتٌ عديدةٌ. وقد تُوفِّيَ في القاهرةِ عن عُمرٍ ناهَزَ 93 عامًا.
هو شَرَفُ الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو القبطي ناظِرُ الخاص للسلطان، كان أبوه يكتُبُ عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرةِ ديوان الأمير أركتمر الجمدار، وعندما جمَعَ السلطان الناصر كتَّاب الأمراء, فرآه وهو واقِفٌ وراء الجميعِ وهو شابٌّ طويل نصراني حلوُ الوجه فاستدعاه وقال: أيش اسمك؟ قال: النشو، فقال: أنا أجعلك نشوي، ثمَّ إنه رتَّبَه مستوفيًا في الجيزية، وأقبلت سعادته، فأرضاه فيما يندبه إليه وملأ عينيه, ثم نقله إلى استيفاء الدولة فباشر ذلك مدة، ثم نقل إلى نظر الخاص مع كتابة ابن السلطان، وحَجَّ مع السلطان في تلك السنة وهي سنة 732 ولما كان في الاستيفاء وهو نصراني, وكانت أخلاقُه حسنة وفيه بِشرٌ وطلاقة وجه وتسَرُّع إلى قضاء حوائج الناس، وكان الناس يحبونه، فلما تولى الخاص وكثُرَ الطلب عليه من السلطان, و أُكرِهَ حتى أظهَرَ الإسلام, فبلغ ما لم يبلُغْه أحَدٌ من الأقباط في دولة الترك- المماليك- وتقَدَّمَ عند السلطان على كل أحد، وخَدَمه جميع أرباب الأقلام، وزاد السلطانُ في الإنعامات والعمائر عليه, وزَوَّج بناته واحتاجَ إلى الكُلَف العظيمة المُفرِطة الخارجة عن الحَدِّ، فساءت أخلاقُه وأنكر مَن يَعرِفُه، وفُتِحَت أبواب المصادرات للكتَّاب ولِمَن معه مال, وكان محضرَ سوءٍ لم يشتَهِرْ عنه بعدها شيءٌ من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمَعْه وزير للدولة التركية، وكان مُظَفَّرًا، ما ضرب على أحدٍ إلا ونال غَرَضَه منه بالإيقاع به وتخريبِ دياره، وقُتِلَ على يديه عِدَّةٌ من الولاة والكتَّاب، واجتهد غايةَ جُهدِه في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبه ستَّة أشهر بأنواع العقوبات، من الضَّربِ بالمقارع والعَصرِ في كعابه وتسعيطِه - الاستنشاق بالأنف- بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك، مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يَمُت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو، وكان النشوُ هذا بلغ منه في أذيَّة الناس بالمُصادَرات والضرائب الشيء الكثير الكثير، مِمَّا كاد أن يخرب الديارَ كُلَّها، فشكا منه كُلُّ أحد: الفقير والغني، والأمير والحقير، فلم يسلَمْ مِن ظُلمِه وأخْذِ المال منه أحدٌ، وكل ذلك يدَّعي الفَقرَ وقِلَّة المال وأنه لا يأخُذُ لِنَفسِه شيئًا، ولما مات بعد أن اعتُقِلَ لكثرة الشكاوى والتحريضات حُصِّلَت أمواله فكانت خارجةً عن الحصر، ولو كتبت لخرجت عن الحد المعهودِ، فهي تحتاج إلى عِدَّة صفحات مِمَّا كان له من مالٍ عَينٍ وبضائِعَ وإقطاعاتٍ وحواصِلَ وحيواناتٍ وغَيرِها من الجوهر واللؤلؤ ما يفوق الحَصرَ، توفي في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، ثم إنَّه بعد موته وُجِدَ أنه ما يزال غير مختونٍ، فدُفِنَ بمقابر اليهودِ.
هو السلطان القان معين الدين شاه رخ ابن الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، سلطان هراة، وسمرقند، وشيراز، وما والاها من بلاد العجم وغيرها. مَلَك البلاد بعد ابن أخيه خليل بن أميران شاه بن تيمورلنك، فإنَّه لما مات والده الطاغية تيمورلنك بأهنكران شرقي سمرقند، وثب خليلٌ على الأمر وتسلطن، وبلغ شاه رخ هذا الخبر في هراة، فجمع ومشى إليه، ووقعت بينهما حروب وخطوب إلى أن ملك شاه رخ، واستقَلَّ بممالك العجم وعراقة، وعظُمَ أمره وهابته الملوك، وحُمِدَت سيرتُه، وشُكِرت أفعاله، وقَدِمَت رسله إلى البلاد المصرية مرارًا عديدة, وراسلته ملوكُ مصر، إلى أن تسلطَنَ الملك الأشرف برسباي، وقع بينهما وحشة بسبب طلب شاه رخ أن يكسوَ البيت الشريف، فأبى الأشرفُ برسباي وخشَّن له الجواب. وترددت الرسلُ بينهما مرارًا، واحتجَّ شاه رخ أنه نذر أن يكسو البيت الشريف، فلم يلتفت الأشرفُ إلى كلامه، ورد قصَّاده إليه بالخيبة. ولَمَّا آل المُلك إلى المَلِك الظاهر جقمق، أذن له بكسوتها, واستمرَّت الصحبةُ بين الملك الظاهر جقمق وبين شاه رخ إلى أن مات شاه رخ في سنة 851. تولى الملك بعده حفيدُه علاء الدولة بن باي سنقر، نصبته جدتُه لأبيه كهرشاه خاتون، أرادت بولاية علاء الدولة، وعدم ولايتها ولَدَها ألوغ بك صاحب سمرقند، أن يكون الأمرُ إليها. فلما سمع ألوغ بك ذلك عزَّ عليه، وحشد ومشى إلى والدته كهرشاه وإلى ابن أخيه علاء الدولة بن باي سنقر، ووقع له معهما أمور وحوادث، ثم قُتِلَ ألوغ بك, واستمرت الفتنة بين بني تيمور. ولم يعُدْ بيت تيمور صالحًا للحكم بعد موت شاه رخ وقتْلِ ولده ألوغ بك صاحب سمرقند. كان شاه رخ ملكًا عادلًا ديِّنًا خَيِّرًا، فقيهًا متواضعًا، محبَّبًا لرعيته، غير محجوب عنهم، لم يسلك طريقة والده الطاغية تيمورلنك- لعنه الله وقبَّحه- كان يحب أهل العلم والصلاح، ويكرِمُهم ويقضي حوائجَهم. وكان متضعفًا في بدنه، يعتريه مرضُ الفالج فلا يزال يتداوى منه. وكان يحبُ السَّماع الطيب، وله حظٌّ منه، بل كان يَعرِفُ يضرب بالعود، وكان ينادمه الأستاذ عبد القادر بن الحاج غيبى ويختصُّ به، وكان له حظ من العبادة وله أوراد هائلة، لم يزل غالبَ أوقاته على طهارة كاملة، مستقبِلَ القبلة والمصحفُ بين يديه، وكان مَسيكًا لا يصرف المالَ إلا لحقه.
مَلَكَ الفِرنجُ مدينة شنترين، وباجة، وماردة، وأشبونة، وسائِرَ المعاقِلِ المجاوِرةِ لها من بلادِ الأندلُسِ، وكانت للمُسلِمينَ، فاختلفوا، فطَمِعَ العَدُوُّ فيهم، وأخَذَ هذه المُدُنَ وقَوِيَ بها قُوَّةً تمكَّنَ معها وتيَقَّنَ مِلْكَ سائِرِ البلادِ الإسلاميَّةِ بالأندلُس، فخَيَّبَ اللهُ ظَنَّه.
كان يَزيدُ بن عبدِ الملك قد عَهِدَ الأمرَ مِن بَعدِه لأَخيهِ هِشام ثمَّ لابنِه الوَليد مِن بَعدِه، وكان الوَليدُ بن يَزيد ماجِنًا غارِقًا في شُربِ الخَمرِ، حاوَل عَمَّه هِشامٌ أَكثرَ مِن مَرَّة عَزْلَة مِن الخِلافَة لكنَّه لم يَفعل, فلمَّا تُوفِّي هِشام بُويِعَ بالخِلافَة للوَليدِ بن يزيد وعُمُره خمسٌ وثَلاثون سَنَة. أَكثَر الوَليدُ بن يَزيد العَطاءَ للنَّاس, وسار في النَّاس سِيرَةً حَسنَة في بِدايَةِ خِلافَتِه فاسْتَوثَقَت له الأَقاليمُ بالبَيْعَة, لكن غَلَبَ عليه مُجونُه ومُعاقَرتُه للخَمرَة.
سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقيَّة إلى مدينة باجة من الأندلس، ولَبِسَ السَّواد, وخطبَ للمنصور، واجتمع إليه خلقٌ كثيرٌ، فخرج إليه الأميرُ عبد الرحمن الداخل، فالتقيا بنواحي إشبيلية، ثم تحارَبا أيامًا، فانهزم العلاء وأصحابُه، وقُتِل منهم في المعركة سبعةُ آلاف، وقُتِل العلاء، وأُمِرَ بعضُ التجار بحمل رأسه ورؤوسِ جماعةٍ مِن مشاهير أصحابه إلى القيروان، وإلقائِها بالسوق سرًّا، ففعل ذلك، ثم حُمِلَ منها شيءٌ إلى مكة، فوصلت وكان بها المنصور، وكان مع الرؤوسِ لواءٌ أسوَدُ وكتاب كتبه المنصورُ للعلاء.
هو محمَّد بن عبد الرحمن بن الحَكَم بن هشام الأموي، صاحِبُ الأندلُس، كانت ولايتُه أربعًا وثلاثين سنةً وأحد عشر شهرًا، كان أيمَنَ أمراءِ الأندلُس مُلكًا، وأكرَمُهم تثبُّتًا وأناةً، يجمَعُ إلى هذه الخِلالِ البلاغةَ والأدبَ، وكان ذكيًّا فَطِنًا بالأمور المُشتَبِهة، خلف نيفًا وخمسين ولدًا، منهم ثلاثةٌ وثلاثون ذكرًا، ولَمَّا مات كان عمرُه نحوًا مِن خمس وستين سنةً. وَلِيَ بعده ابنُه المنذر بن محمد، بويِعَ له بعد موتِ أبيه لثلاث ليال، وأطاعه النَّاسُ، وأحسَنَ إليهم.
رَكِبَ الحاكِمُ ومعه وزيرُه الحُسَينُ بنُ طاهر الوزَّان، على رَسمِه، فلمَّا انتهى إلى حارةِ كتامة خارِجَ بابِ القاهرة، أمَرَ بقَتلِه فضُرِبَت رقَبَتُه ودُفِنَ مكانَه. فكانت مُدَّةُ نظره في الوزارة سنتين وشهرين وعشرين يومًا، ثمَّ استوزَرَ مكانَه عبدَ الرَّحمنِ بنَ أبي السيد الذي لم يلبَثْ إلَّا قليلًا حتى قتَلَه الحاكِمُ فاستوزر مكانَه أبا العبَّاسِ الفَضلَ بنَ جَعفرِ بنِ الفراتِ، ثمَّ قَتَلَه الحاكِمُ أيضًا، واستوزر مكانَه أبا الحَسَنِ عليَّ بن جعفرِ بنِ فلاح الكتامي.
بعد أن خرج أبو الحسن المريني من تونُسَ وعاد الحفصيُّون إلى تمَلُّكِها، رَكِبَ أبو الحسين الزيان البحر يريد الجزائرَ ومعه ستمائة سفينة، وفي الطريق غرقت أكثر السفن من الرياح والأمواج العالية، فوصل بعدد قليلٍ إلى الجزائر، وكانت بنو عبد الواد بنو زيان قد تجهزت لاسترداد ملكهم من بني مرين الذين استولوا على الجزائر من سنة 748 وحاول أبو الحسن هذا أن يصدَّهم عنها مستعينًا بقلة ممن نجا معه من الرجال فجرت بين الفريقين حروبٌ هُزم فيها أبو الحسن وولَّى هاربًا بعد أن قُتِلَ ابنه الناصر في هذه الحروب.