أَسرَّ السلطانُ والأمراء مدَبِّرو الدولة إلى أمير الحاجِّ ومَن بصحبته من الأمراء أن يقبضوا على الشَّريفِ ثُقبة، ويقَرِّروا الشريفَ عَجلان بمُفردِه على إمارة مكَّة، فلمَّا قَدِمَ الحاج بطن مر، ومضى عجلانُ إلى لقائهم، شكا إلى الأمراءِ من أخيه ثقبة، وذكر ما فعلَه معه، وبكى، فطَمَّنوا قَلْبَه، وساروا به معهم حتى لَقِيَهم ثقبة في قوَّاده وعبيده، فألبسوه خِلعةً على العادة، ومَضَوا حافِّينَ به نحو مكَّةَ، وهم يحادثونَه في الصلح مع أخيه عجلان، ويحَسِّنونَ له ذلك، وهو يأبى موافقَتَهم حتى أيِسُوا منه، فمَدَّ الأمير كشلى يده إلى سَيفِه فقَبَض عليه، وأشار إلى من معه فألقَوه عن فرَسِه، وأخذوه ومعه ابنٌ لعُطَيفة، وآخَرُ من بني حسن، وكبَّلوهم بالحديد، ففَرَّ القوَّادُ والعبيد، وأُحضِرَ عَجلانُ، وأُلبِسَ التشريف، وعبروا به إلى مكة، فلم يختلف عليهم اثنانِ، وسُلِّمَ ثُقبةُ للأمير أحمد بن آل ملك، فسُرَّ الناس بذلك، وكَثُرَ جَلبُ الغلال وغيرها، فانحَلَّ السِّعرُ وقُبِضَ على إمام الزيدية أبي القاسم محمد بن أحمد اليمني، وكان يصَلِّي في الحرم بطائفَتِه ويتجاهَرُ، ونَصَب له منبرًا في الحَرَمِ يخطُبُ عليه يوم العيد وغيره، بمَذهبِه، فضُرِبَ بالمقارع ضربًا مبَرِّحًا ليرجِعَ عن مذهبه، فلم يرجِعْ وسُجِنَ، ففَرَّ إلى وادي نخلة، فلما انقضى موسِمُ الحاجِّ حُمِل الشريف ثقبة مُقَيَّدًا إلى مصرَ.
بعد فَتحِ العُثمانيين أدرنةَ وغيرَها من المدن الأوروبية، خاف الأمراءُ الأوربيون فكتبوا إلى ملوك أوروبا الغربيَّة وإلى البابا يستنجدون بهم ضِدَّهم، حتى إمبراطور القسطنطينية ذهب إلى بابا الفاتيكان في روما وركع أمامَه وقَبَّل يديه ورجليه ورجاه الدعمَ رَغْمَ الخلاف المذهبي بينهما، فلبَّى البابا النداء وكُتِبَ إلى ملوك أوروبا عامة يُطلَبُ منهم الاستعدادُ للقيام بحرب صليبية جديدة حفاظًا على النصرانيَّة من التقَدُّم الإسلامي الجديد، ولكِنَّ ملك الصرب أورك الخامس الذي خلف اصطفان دوشان لم يتوقَّعْ هذا الدعم السريع من البابا وملوك أوروبا؛ لذا استنهض همَّة الأمراء المجاورين له والذين أصبحوا على مقربةٍ مِن الخطر على حَدِّ زَعمِهم، فلبى دعوتَه أمراءُ البوسنة والأفلاق جنوبي رومانيا وأعداد من الجند المرتزقة، مستغلِّينَ انشغال مراد الأول ببعض حُروبِه في آسيا الصغرى، غيرَ أن الجيش العثماني قد أسرع للقاء أعدائِه فاصطدم بهم على نهرِ مارتيزا غربيَّ بلغاريا فهزمهم هزيمةً مُنكَرةً ولَّوا فيها الأدبارَ لا يَلوُون على شيءٍ! واضطرت إمارةُ نصرانية صغيرة على بحر الإدرياتيك على ساحل يوغوسلافيا اليوم وهي إمارة راجوزه أن ترسِلَ وفدًا إلى السلطان وتعقِدَ معه صلحًا تدفع الإمارةُ بموجبه للدولة العثمانيَّة خمسمائة دوكا ذهبيَّة كجِزيةٍ سَنَوية.
كان مِن وَلَدِ جنكيز خان, جغطاي الذي استقَرَّ في تركستان وبَقِيَت أسرته تحكُمُ هذه المنطقةَ وكان توغلق تيمور أحدَ ملوك المغول واستقَرَّ في أعمال تركستان الشرقية عام 748 وأعلن أنَّه حفيدُ داود خان، وضَمَّ إليه بلادَ ما وراء النهر ودخلت في أيَّامِه أعدادٌ كبيرة من المغول إلى الإسلام، ثم إنَّ والي سمرقند تحرَّك نحو مدينة هراة واحتَلَّها، ثمَّ إنه اغتِيلَ واختلف الأهالي وعَمَّتهم الفوضى، فوصل الخبر إلى توغلق تيمور فسار بقوة نحو سمرقند، ففَرَّ مِن وجهه بعضُ الأمراء الذين كانوا يُظهِرون العصيان، ثم إنَّ تيمورلنك وخَوفًا من تهديم البلدة تقَدَّمَ إلى قائد طليعة جيش المغول وأكرَمَه، فأمر هذا القائد جُندَه ألَّا يمَسُّوا هذه البلدة بسوءٍ، كما طلب من تيمورلنك أن يسيرَ معه إلى الخان توغلق تيمور، فكافأه الخان وجعله واليًا على مدينة كش، وأعطى توغلق تيمور إمرة سمرقند إلى تيمورلنك على أنَّ قائد الجيش فيها هو إلياس ابن توغلق الذي أساء السيرة بسمرقند، فحدث الخلافُ بينهما فطلب إلياسُ من أبيه أن يَقتُلَ تيمورلنك الذي هرب بعد أن وصله الخبَرُ وجمع حوله الأنصارَ، وعاد فحارب المغولَ وصادف ذلك موتَ توغلق فانسحَبَ إلياس إلى تركستان ليتَسَلَّم المُلْكَ بعد أبيه، فترك ما وراء النهر فأصبَحَت كُلُّها في قَبضةِ تيمورلنك، واتخَذَ مِن سمرقند عاصمةً له.
هو الشَّيخُ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم الأرموي الإسنوي نزيلُ القاهرة، ولِدَ في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة 704. وقدِمَ القاهرة سنة 721 وحَفِظَ التنبيه وسَمِعَ الحديث من الدبوسي والصابوني وغيرهما، وحدث بالقليل، وأخذ العلمَ عن الجلال القزويني، والقونوي، وغيرهما، وأخذ العربية عن أبى حيَّان، ثم لازم بعد ذلك التَّدريسَ والتصنيفَ, فدرَّسَ بالملكية والأقبغاوية والفاضلية، ودرس التفسير بالجامع الطولوني, وصنف التصانيف المفيدة منها: "المهمات والتنقيح فيما يرد على الصحيح" و"الهداية إلى أوهام الكفاية" و"طبقات الشافعية" وغير ذلك. كان فقيهًا ماهرًا، ومعلمًا ناصحًا، ومفيدًا صالحًا، مع البر والدين والتودد والتواضع، وكان يقَرِّبُ الضعيف المستهان به من طَلَبتِه، ويحرص على إيصال الفائدةِ إلى البليد، وله مثابرةٌ على إيصال البر والخير إلى كل محتاجٍ، مع فصاحةِ عبارة وحلاوة محاضرةٍ ومروءة بالغةٍ، كان بحرًا في الفروع والأصول محقِّقًا لِما يقول من النقول، تخرج به الفضلاءُ، وانتفع به العلماء, وقد ولِيَ وكالة بيت المال والحِسبة، ثم عزل نفسه عن الحِسبةِ؛ لكلام وقع بينه وبين الوزير في سنة 762 ثم عزَلَ نَفسَه من الوكالة في سنة 766، وكانت وفاتُه ليلة الأحد ثامن عشر من جمادى الأولى من هذه السنةِ.
في صفر حضر السلطان إلى دمشق وأمر باعتقال الأمير شيخ المحمودي نائبها ومعه الأمير يشبك الشعباني وحُبِسا بالقلعة، وأما الأمير جركس المصارع فهرب، ووكل بهما الأمير منطوق ولكنهما استطاعا أن يستميلاه، فهربوا جميعًا من القلعة، فأرسل وراءهم ولكن لم يُقتَل إلا منطوق، واستطاع يشبك وجركس وشيخ التغلُّبَ على حمص، ثم لما رحل السلطان عن دمشق وترك عليها الأمير بكتمر شلق، ثم لما كانت ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر طرق الأمير شيخ - ومعه يشبك وجركس المصارع- دمشق، ففرَّ من كان بها من الأمراء وملك شيخ دمشق، وقبض على جماعة، وولى وعزل، ونادى بالأمان، وأخذ خيول الناس، وصادر جماعة، فورد الخبر في يوم الأربعاء الحادي عشر، بأن بكتمر شلق نزل بعلبك في نفر قليل، فسار يشبك وجركس في عسكر، فمضى بكتمر إلى جهة حمص، فوافاهم الأمير نوروز بجمع كبير على كروم بعلبك، فكانت بينهما وقعة قُتِل فيها يشبك وجركس المصارع في طائفة، وقبض نوروز على عدة ممن معهما، فلما بلغ ذلك الأمير شيخ سار من دمشق على طريق جرود في ليلة الجمعة الثالث عشر، وهي الليلة التي تلي يوم الوقعة، ودخل نوروز دمشق يوم السبت الرابع عشر بغير ممانع.
ما إن علم الوالي جان بردي الغزالي والي الشام للعثمانيين بموت الخليفة سليم الأول أعلن عصيانه وتمرده، واتصل بخيري بك والي مصر ليكون نصيره، فراوغه خيري ووعده، وفي الوقت نفسه أطلع الخليفة سليمان القانوني على هذه المراسلات، وأعلن جان بردي نفسه سلطانًا على الشام وأمر بالدعاء له في خطب الجمعة، ونقش اسمه على النقود وتلقب بالملك الأشرف، وقضى على حامية دمشق العثمانية، وطرد العثمانيين من بيروت وطرابلس وحماة وغيرها من المدن، ثم سار جان بردي ليأخذ حلب أيضًا وخاصة أنها لم تعترف بسلطانه وألقى الحصار عليها، ثم وهو في حصاره وصلت إليه الجيوش العثمانية فترك الحصار، وأسرع إلى دمشق ونشبت بينه وبين القوات العثمانية حرب في برزة من أعمال دمشق في السابع عشر من شهر صفر من عام 927 انهزم فيها جان بردي وهرب ليتحصن بقلعة دمشق، فلحقته الجيوش العثمانية وحاصرته بها وفر متنكرًا ولكن أخذه بعض أعوانه وسلَّمه إلى فرحات باشا قائد الجيوش العثمانية فقتله وأرسل رأسه إلى الخليفة سليمان، وقد حاول جان بردي بهذه الحركة إحياء الدولة المملوكية مرة أخرى في بلاد الشام بعد قضاء العثمانيين عليها. وبعد قمع حركة جان بردي الغزالي قُسمت الشام إلى ثلاث ولايات وهي حلب ودمشق وطرابلس.
كان المنصور أحمد السعيدي قد فرَّق عمالات المغرب على أولادِه، فاستعمل محمد الشيخ المأمون على فاس والغرب وولَّاه ولاية العهد من بعده، واستعمل زيدان على تادلا وأعمالها، واستخلفه عند نهوضه إلى فاس؛ للقضاء على ثورة ابنه الشيخ المأمون، وعيَّن ابنه أبي فارس على مراكش وأعمالها, فلما بلغ أهل مراكش وفاةُ المنصور وكتب إليهم أهلُ فاس بمبايعتهم لزيدان، امتنعوا وبايعوا أبا فارس لكونه خليفةَ أبيه بدارِ مُلكه التي هي مراكش، ولأن جلَّ الخاصة من حاشية أبيه كان يميلُ إلى أبي فارس؛ لأن زيدان كان منتبِذًا عنهم بتادلا سائر أيام أبيه، فلم يكن لهم به كثيرُ إلمام ولا مزيدُ استئناسٍ، مع أنه كان جديرًا بالأمر؛ لعلمه وأدبه وكمال مروءته, فلما شقَّ أهل مراكش العصا على زيدان صدرت فتوى من قاضي فاس ابن أبي النعيم ومفتيها أبي عبد الله القصَّار تتضمن التصريحَ بحديث (إذا بويعَ خليفتان فاقتلوا الآخَرَ منهما) وكانت بيعة أبي فارس بمراكش يوم الجمعة أواخر ربيع الأول من هذه السنة، وهو شقيق الشيخ المأمون، أمُّهما أم ولد اسمها الجوهر، ويقال الخيزران. واسمُ أبي فارس هذا عبد الله وتلقب بالواثق بالله، وكان أكولًا عظيم البطن مصابًا بمس الجن.
تعتبرُ حربُ مقاطعة ميسور من أشهر الحروبِ بين الإنكليز والمسلمين في الهند، وهذه المقاطعةُ كانت فيها المرازبة الهندوك تحت سيطرةِ المسلمين، فلما ضَعُفت الدولةُ المغوليةُ المُسلِمةُ المركزية في الهند استبَدَّ المرازبةُ بما تحت أيديهم، وكان حيدر علي خان بن فتح علي خان أحدَ قادتِهم، فخافه وزراؤهم وأرادوا البطشَ به، فلما أحسَّ بما يدبَّرُ له تسلَّمَ السلطةَ بالقوة ووسَّع مُلكَه؛ إذ استولى على أكثَرِ بلاد المهراتا وبلاد مدراس، فخاف منه الإنكليز وحاربوه وضمُّوا المهراتا إليهم، ثم استولى حيدر علي خان على جزءٍ من أراضيهم، وكان يعمَلُ على أن يوسِّعَ أملاكَه على حساب مقاطعة ميسورٍ، إلَّا أنَّه في الوقتِ نفسِه عرف أنَّ الصمودَ أمام الإنكليز والانتصارَ عليهم لا يكونُ باتِّباع الطرق التقليدية والأسلحة القديمة؛ إذ لا بدَّ من استعمال الأساليب الحديثة والأسلحة المتطورة، فاستخدم الفرنسيين لتحقيق هدفِه، وقد كانوا يومَها في حربٍ ضِدَّ الإنكليز، ولكنَّ الصليبيةَ هي هي؛ فبعد أن انتهت الحربُ بين الفرنسيين والإنكليز تخلَّت فرنسا عن حيدر، فانتصر عليه الإنكليز، ثم توفِّي حيدر عام 1196هـ وخلَفَه ولدُه فتح علي المعروف باسم تيبو، الذي تابع قتالَ الإنكليز وهُزم أيضًا فأجبِرَ على توقيع معاهدة سرنغا باتام التي خسر بموجِبِها كثيرًا من أملاكه، ودفع غرامةً حربية، وكان هذا في عام 1207هـ.
تُوفِّي الدكتورُ وَهْبة مصطفى الزُّحيليُّ المفسِّرُ، الفقيهُ الأصوليُّ في دِمَشق بسوريَّةَ عن عمرٍ نَاهَز الـ 83 عامًا، قضاها -رحمه الله- في العِلْم والتعليم والبحث والتأليف، والتدريس في عددٍ من الجامعاتِ العربية، واشتُهِر بكتُبِه العلميَّةِ في مجالِ الفقهِ الإسلاميِّ وأصوله. وُلِد الدكتور الزُّحيلي في مدينة "دير عطية" من مُدن ريف دِمَشق عام 1932م، درَس الابتدائيَّةَ في بلدِ "الميلاد" في سوريَّةَ، ثم المرحلةَ الثانويةَ في الكليَّةِ الشرعيَّةِ في دِمَشق. تَابَع تحصيلَه العِلْميَّ في كليةِ الشريعةِ بالأزهر الشريف، فحصَلَ على الشهادة العاليةِ، درَس أثناء ذلك علومَ الحقوق، وحصَل على ليسانس الحقوقِ من جامعةِ "عين شمس" عامَ 1957م، نال دبلومَ معهدِ الشريعة الماجستير عام 1959م من كلية الحقوقِ بجامعة "القاهرة". حصَل على شهادة الدُّكتوراه في الحقوق "الشريعةِ الإسلاميَّة" عامَ 1963م. عُيِّن مُدرِّسًا بجامعة دِمَشق عام 1963م، ثم أستاذًا مساعدًا سنةَ 1969م، ثم أستاذًا عام 1975م، وله مؤلَّفاتٌ عِلميَّة كثيرة، وكان عضوًا في المَجمَع المَلَكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردنِّ (مؤسَّسة آل البيت)، وخبيرًا في مَجمَع الفِقه الإسلامي بجُدَّةَ والمَجمَع الفِقهيِّ في مكَّةَ المكرمة، ومَجمَع الفِقه الإسلامي في الهندِ وأمريكا والسودان، ورئيس هيئة الرقابة الشرعيَّة لشركةِ المضاربةِ والمُقاصَّةِ الإسلاميةِ في البَحْرين.
الشَّيخُ عبدُ الوهَّابِ بنُ إبراهيمَ أبو سليمانَ وُلِد في مكَّةَ المكرَّمةِ سنةَ 1356هـ الموافق 1935م، وتلقَّى تعليمَه بها إلى أن تخرَّج في كُلِّيَّةِ الشَّريعةِ بجامعةِ أمِّ القرى عام 1377هـ، ثمَّ حصل على الدُّكتوراه من جامعةِ لَنْدن قِسمِ القانونِ المقارنِ عامَ 1390هـ، تقلَّد عددًا من المناصِبِ؛ منها: عميدُ كُلِّيَّةِ الشَّريعةِ والدِّراساتِ الإسلاميَّةِ بجامعةِ المَلِكِ عبدِ العزيزِ، وعَمِل أستاذًا وباحثًا في كُلِّيَّةِ الحقوقِ بجامعةِ هارفرد بالولاياتِ المتَّحِدةِ عامَ 1397هـ، وكان يُلقي فيها محاضَراتٍ في الفِقهِ الإسلاميِّ، ومحاضَراتٍ في القانونِ الإسلاميِّ في جامعةِ بُوسطن ومركَزِ الأديانِ بجامعةِ هارْفَرْد، وتمَّ انتدابُه أستاذًا زائرًا في جامعةِ ديوك في نورث كارولاينا عام 1401هـ، وأستاذًا زائرًا بالجامعةِ الإسلاميَّةِ العالميَّةِ بماليزيا، وأستاذًا زائرًا في الإماراتِ في كُلِّيَّةِ الدِّراساتِ العَرَبيَّةِ الإسلاميَّةِ بدُبَي، وجامعِة الشَّيخِ زايدٍ بأبو ظبي، وجامعةِ الإماراتِ بالعَينِ، ومركزِ جامعةِ الماجِدِ للبُحوثِ والدِّراساتِ الإسلاميَّةِ .ثمَّ عُيِّن عُضوًا في هيئةِ كِبارِ العُلَماءِ بالمملكةِ العرَبيَّةِ السُّعوديَّةِ عامَ 1413هـ.
له عددٌ من المؤلَّفاتِ أغلَبُها في الفِقهِ الإسلاميِّ، منها: (فقهُ الضَّرورةِ وتطبيقاتُه المعاصِرةُ)، و (عقدُ الإجارةِ مَصدَرٌ من مصادِرِ التَّمويلِ الإسلاميَّةِ)، و (البطاقاتُ البنكيَّةُ - دراسةٌ فقهيَّةٌ قانونيَّةٌ اقتصاديَّةٌ تحليليَّةٌ).
توفِّيَ -رحمه اللهُ- عن عُمرٍ ناهز الـ 88 عامًا.
كان الأميرُ الناصر غزا إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش، والحشودُ والعساكر تتلاحَقُ به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها، ونزل على مدينةِ طُلَيطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحِبُها، مبادرًا إليه، وغازيًا معه، وكان يظهر طاعةً تحتها معصيةٌ، حتى نزل بمدينة الفرج، فنظر لأهلها، وخرج للجهاد أكثَرُهم، حتى احتَلَّ بثغر مدينة سالم، وأظهَرَ التوجه إلى الثغر الأقصى. وقَدِمَت المُقَدِّمة نحوه. ثم عرجَ بالجيوش إلى طريقِ آلية والقلاع، وطوى من نهارِه ثلاث مراحل، حتى احتَلَّ بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباحَ تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغذَّ السيرَ حتى قَرُب من الحصن، وسرَّحَ الخيل المُغيرة يَمنة ويَسرة، والمشركون في سكونٍ وغفلة؛ إذ كان العِلجُ الذي يلي أمورَهم قد كاتبَ النَّاصِرَ مكايدًا له في إزاحته عن بلدِه بمواعيدَ وعدها من نفسه، فأظهر الناصر قَبولَ ذلك منهم، وأضمَرَ الكيد بهم، فغشيتهم الخيلُ المُغيرةُ على حينِ غَفلةٍ، وأصابوا نَعَمهم وسوامَهم ودوابَّهم مُسرحةً مُهملةً؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكرِ سالمين غانمين. فلما كان في صباحِ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيلُ إلى حصن وخشمة، ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة –المواضعُ التي يكثُرُ فيه الشجرُ ويلتفُّ-، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحِصنَ، وغنموا جميعَ ما فيه وأضرموه نارًا. ثم رحل عنها في اليومِ الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة وقاعدتُهم، فخرجوا هاربين عنه، فدخله المسلمون وغنموا جميعَ ما فيه، وخَرَّبوا حِصنَ القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء اللهِ في تلك الجهة نعمةً يأوونَ إليها، واضطرب العسكرُ بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمونَ ليلة الأحد بأسرِّ ليلة كانوا بها، والحمدُ لله. ثم انتقل الناصر في صبيحة اليوم الثاني من مكانِ المُضطَّرَب شرقيَّ الحصن إلى غربيِّه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدرُ ميل، فكسر العسكرُ في ذلك المكانِ يوم الأحد متقصيًا لآثار الكفرة، ومستبيحًا لنَعَمِهم. ثم ارتحل إلى مدينةٍ لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهَّات مُدُنِهم، فلم تمرَّ الجيوش إليها إلَّا على قرًى منتظمة وعمارة بسيطة، فغَنِمَت جميع ما كان بها، وقتلت من أدرَكَت فيها، حتى أوفت العساكِر على المدينة، فأُلقِيَت خالية، قد شُرِّدَ عنها أهلُها إلى الجبالِ المجاورة لهم، فغنم المسلمون جميعَ ما أصابوا فيها، وعَمِلَت الأيدي في تخريبِ ديارِها وكنائسها، وكسر الناصر عليها ثلاثةَ أيَّام، مطاولًا لنكايةِ المُشرِكين، وانتساف نَعَمِهم. ثم ارتحل من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقينَ من صفر إلى ثغر تطيلة، لغِياثِ صريخِ المسلمين به، إذ كان العِلجُ شانجه قد ضايقهم، وتردَّد بكَفَرته عليهم، ثم احتَلَّ الناصر حوز تطيلة ثم قدَّم الخيل مع محمَّد بن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتَّخذه شانجه على أهلها. فلما قصَدَته الخيلُ أخلاه مَن كان فيه، وضَبَطه المسلمون. ثم نهض الناصر إلى حِصن قلهرة. وكان شانجة قد اتخذه معقِلًا، وتبوَّأه مسكنًا. فلما فجَأته العساكِرُ أخلاه العِلجُ، وزال عنه؛ فغَنِمَه المسلمون بأسرِه، ثم رحل بالجيوشِ يوم الأحد لأربعٍ خَلَون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره، فخرج شائجة من حصن أرنيط في جموعه وكفَرَته، متعرضًا لمن كان في مُقدِّمة العسكر، فتبادر إليه شُجعان الرِّجال، تبادر رشق النبال، فانهزم الكفرة، وركِبَتْهم الخيلُ، تقتل وتجرَحُ، حتى توارَوا في الجبال، ولاذُوا بالشعاب وأيقنوا بالدمارِ والهلاك. وحِيزَ كثيرٌ من رؤوسِ المشركين؛ فتلقوا بها الناصر، ولا علم عنده بالمعركةِ التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكرُ بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرينَ على عَدُوِّهم، ومنبسطين في قُراهم ومزارعهم، وورد الخبرُ على الناصر باجتماع العِلجَينِ أرذون وشانجة، واستمداد بعضِهما ببعض، طامعينِ في اعتراضِ المقَدِّمة، أو انتهاز فرصة في السَّاقة. فأمر الناصرُ بتعبئة العساكر، وضبْطِ أطرافِها، ثم نهض بها موغِلًا في بلاد الكَفَرة، فتطلَّلوا على كُدًى مشرفةٍ وجبالٍ منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطرافِ الجيش، وجعلوا يتصايحون، ويولوِلون لِيُضعِفوا من قلوب المسلمين، فعهد الناصر بالنزولِ والاضطراب وإقامةِ الأبنية. ثم تبادر الناسُ إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الجبالِ، فواضعوهم القتالَ، واقتحم عليهم حتى انهزم المشركونَ، والمسلمون على آثارِهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظَّلامُ بينهم، ولجأ عند الهزيمةِ ما يزيد على ألفٍ مِن العلوج إلى حصن مويش، ورجوا التمنُّع فيه. فأمر الناصرُ بتقديم المظل وأبنية العسكرِ إلى الحصن، فأحيط به من جميعِ جِهاتِه، وحُوربوا داخِلَه حتى تغلَّب عليه، واستخرج جميعَ العُلوج منه، وقُدِّموا إلى الناصر، فضُرِبَت رقابُ جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصنِ والمحلة التي كانت للكَفَرة بقربه من الأمتعةِ والأبنية والحِليةِ المُتقَنة والآنية ما لا يحصى كثرةً، وأصيب لهم نحوُ ألف وثلاثمائة فرس، ثم انتقل الناصرُ يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصنٍ كان اتَّخذه شانجة على أهل بقيرة فألقاه خاليًا، قد فرَّ عنه أهلُه، فعَهِدَ بهَدمِه، ولم يبرح الناصرُ مِن محلَّتِه هذه حتى نُقِلَ إلى حصنِ بقيرة من أطعمة الكَفَرة ألفُ مُدٍّ تقويةً لأهله. ثم انتقل إلى حصونِ المُسلمين يسكِّنُها وينظر في مصالحِ أهلها، فكلما ألفى بقربها مَعقلًا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطَه، حتى اتصل الحريقُ في بلاد المشركين عشرةَ أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمةِ والخيرات ما عجزوا عن حَملِه، ولم يجدوا لها ثمنًا تباع به، وقفل الناصر يوم الثلاثاء. لثلاثٍ بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ وبعث إلى قرطبةَ مِن رؤوس الكَفَرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادًا عظيمة، حتى لقد عجَزَت الدواب عن استيفاءِ حَملِها. ودخل الناصرُ القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاتِه هذه تسعين يومًا.
لمَّا مَلَكَ الفِرنجُ مَدينةَ المَهديَّة وفَعَلوا ما فَعَلوا في زويلة المَدينةِ المُجاوِرَةِ للمَهديَّةِ من القَتلِ والنَّهبِ، هَرَبَ منهم جَماعةٌ وقَصَدوا عبدَ المُؤمنِ صاحبِ المَغربِ، وهو بمراكش، يَستَجيرُونَه، فلمَّا وَصَلوا إليه ودَخَلوا عليه أَكرَمَهم، وأَخبَروهُ بما جَرَى على المسلمين، وأنه ليس من مُلوكِ الإسلامِ مَن يُقصَد سِواهُ، فبدَأَ بالاستِعدادِ للمَسيرِ, فلمَّا كان في صفر سَنةَ554هـ سار عن مراكش، فلم يَزَل يَسيرُ إلى أن وَصلَ إلى مَدينةِ تونس، فلمَّا نازَلَها أَرسلَ إلى أَهلِها يَدعوهُم إلى طاعَتِه، فامتَنَعوا، فقاتَلَهُم ثم نَزَلوا يَسأَلونَهُ الأَمانَ فأَجابَهُم إليه. ثم سار عبدُ المؤمن منها إلى المَهديَّةِ والأُسطولُ يُحاذِيه في البَحرِ، فوَصلَ إليها ثامنَ عشر رجب سَنةَ 554هـ، وكان حينئذٍ بالمَهديَّةِ أَولادُ مُلوكِ الفِرنجِ وأَبطالُ الفِرسانِ، وقد أَخلوا زويلةَ، فدَخلَ عبدُ المؤمنِ زويلةَ، وامتَلأَت بالعَساكرِ والسُّوقَةِ وانضافَ إليه من صنهاجة والعَربِ وأَهلِ البلادِ ما يَخرُج عن الإحصاءِ، وأَقبَلوا يُقاتِلون المَهديَّةَ مع الأَيامِ، فلا يُؤثِّر فيها لِحصَانَتِها وقُوَّةِ سُورِها وضِيقِ مَوقِعِ القِتالِ عليها، فعَلِمَ عبدُ المؤمنِ أن المَهديَّةَ لا تُفتَح بقِتالٍ بَرًّا ولا بَحرًا، لأن البحرَ دائرُ بأَكثرِها، فكأَنها كَفٌّ في البَحرِ، وزِندُها مُتَّصِلٌ بالبَرِّ، وليس لها إلا المُطاوَلَةِ، فتَمادَى الحِصارُ، وكانت الفِرنجُ تُخرِج شُجعانَهم إلى أَطرافِ العَسكرِ، فتَنال منه وتَعودُ سَريعًا؛ فأَمرَ عبدُ المؤمنِ أن يُبنَى سُورٌ من غَربِ المَدينةِ يَمنَعُهم من الخُروجِ، وأَحاطَ الأُسطولُ بها في البَحرِ، ورَكِبَ عبدُ المؤمنِ في شيني، ومعه الحَسنُ بنُ عَليٍّ الذي كان صاحِبَها، وطاف بها في البَحرِ، فهاله ما رأى من حَصانَتِها، وفي مُدَّةِ حِصارِه أَطاعَتهُ مجموعةٌ من المناطِقِ. ثم جاء أُسطولُ صاحبِ صِقلِّية فأَرسلَ إليهم مَلِكُ الفِرنجِ يَأمُرُهم بالمَجيءِ إلى المَهديَّةِ، فلمَّا قارَبَ أُسطولُ صِقلِّية المَهديَّةَ حَطُّوا شِراعَهم لِيَدخُلوا المِيناءَ، فخَرجَ إليهم أُسطولُ عبدِ المؤمنِ، ورَكِبَ العَسكرُ جَميعُه، ووَقَفوا على جانبِ البَحرِ، فاستَعظَم الفِرنجُ ما رَأوهُ من كَثرةِ عَساكرِ المُوَحِّدِين، ودَخلَ الرُّعبُ قُلوبَهم، فاقتَتَلوا في البَحرِ، فانهَزَمَت شواني الفِرنجِ، وتَبِعَهم المسلمون، فأَخَذوا منهم سبعَ شوان. ويَئِسَ أَهلُ المَهديَّةِ حينئذٍ من النَّجدَةِ، وصَبَروا على الحِصارِ سِتَّةَ أَشهُر، فنَزلَ حينئذٍ من فِرسانِ الفِرنجِ إلى عبدِ المؤمنِ عَشرةٌ وكان قُوتُهُم قد فَنِيَ حتى أَكَلوا الخَيْلَ, وسَألوا الأَمانَ لمن فيها من الفِرنجِ على أَنفُسِهم وأَموالِهم لِيَخرُجوا منها ويَعودُوا إلى بِلادِهم، فعَرَض عليهم الإسلامَ، ودَعاهُم إليه فلم يُجيبوا، ولم يَزالوا يَتَردَّدُون إليه أيامًا واستَعطَفوهُ بالكَلامِ اللَّيِّنِ، فأَجابَهُم إلى ذلك، وأَمَّنَهُم وأَعطاهُم سُفُنًا فرَكِبوا فيها وساروا، وكان الزَّمانُ شِتاءً، فغَرِقَ أَكثرُهم ولم يَصِل منهم إلى صِقلِّية إلا النَّفَرُ اليَسيرُ. ودَخلَ عبدُ المؤمن المَهديَّةَ بُكرَةَ عاشوراء من المُحرَّم سنةَ 555هـ، وسَمَّاها عبدُ المؤمن سَنةَ الأَخماسِ، وأَقامَ بالمَهديَّةِ عِشرينَ يَومًا، فرَتَّبَ أَحوالَها، وأَصلَح ما انثَلَمَ من سُورِها، ونَقَلَ إليها الذَّخائِرَ من القُوَّاتِ والرِّجالِ والعَدَدِ، واستَعمَلَ عليها أَحَدَ أَصحابِه، وجَعلَ معه الحَسنَ بن عليٍّ الذي كان صاحِبَها، وأَمَرَهُ أن يَقتَدِي بَرأيِه في أَفعالِه، وأَقطَعَ الحَسنَ بها أَقطاعًا، وأَعطاهُ دُورًا نَفيسةً يَسكُنُها، وكذلك فَعلَ بأَولادِه، ورَحلَ من المَهديَّةِ أوَّلَ صَفر من السَّنَةِ إلى بِلادِ المَغرِب.
في العاشِرِ مِن ذي الحجة قُبِضَ على صاحب اليمن المَلِك المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر أبو سعيد المنصوري عمر بن رسول, وسَبَبُ ذلك أن الشريف ثقبة بن رميثة لَمَّا بلَغَه استقرار أخيه الشريف عجلان في إمرة مكَّة، توجَّهَ إلى اليمن، وأغرى المَلِكَ المجاهد علي صاحب اليمن بأخذِ مَكَّة وكسوةِ الكَعبةِ، فتجَهَّز المجاهد، وسار يريد الحَجَّ في جحفل كبير بأولادِه وأمه حتى قَرُب من مكة، وقد سبق حاجُّ مصر، فلَبِسَ عجلان آلة الحرب، وعَرَّف أمراءَ مِصرَ ما عزم عليه صاحِبُ اليمن، وحَذَّرَهم غائلَتَه، فبعثوا إليه بأنَّ "من يريدُ الحَجَّ إنما يدخُلُ مكَّةَ بذِلَّةٍ ومسكنة، وقد ابتَدَعْتَ من ركوبك والسِّلاحُ حولك بدعةً لا يمكِنُك أن تدخُلَ بها، وابعَثْ إلينا ثقبة ليكونَ عندنا حتى تنقَضِيَ أيام الحج، ثم نُرسِلُه إليك" فأجاب المجاهِدُ إلى ذلك، وبعث ثقبةَ رهينةً، فأكرمه الأمراء، وأركبوا الأميرَ طقطاي في جماعة إلى لقاء المجاهد، فتوجَّهوا إليه ومنعوا سلاحداريته من المشيِ معه بالسلاح، ولم يمكِّنوهم من حَملِ الغاشية، ودخَلوا به مكة، فطاف وسَمَّى، وسَلَّم على الأمراء واعتذر إليهم، ومضى إلى منزلِه وصار كل منهم على حَذَرٍ حتى وقفوا بعرفةَ، وعادوا إلى الخيفِ مِن مِنًى، وقد تقرَّر الحال بين الشريف ثقبة وبين المجاهِدِ عليٍّ أنَّ الأمير طاز إذا سارا من مكة أوقعاه بأميرِ الركبِ ومن معه، وقبضا على عجلان، وتسَلَّمَ ثُقبةُ مكَّةَ، فاتَّفَق أن الأمير بزلار رأى وقد عاد من مكَّة إلى منًى خادِمَ المجاهِدِ سائرًا، فبعث يستدعيه فلم يأتِه، وضرب مملوكَه- بعد مفاوضةٍ جَرَت بينهما- بحربةٍ في كتِفِه فماج الحاجُّ، وركب بزلار وقتَ الظهر إلى طاز فلم يَصِلْ إليه حتى أقبَلَت الناس جافلةً تُخبِرُ بركوب المجاهد بعسكَرِه للحرب، وظهرت لوامِعُ أسلحتهم، فركب طاز وبزلار والعسكَرُ، وأكثَرُهم بمكة، فكان أوَّلُ من صدم أهلَ اليمن الأميرَ بزلار وهو في ثلاثين فارسًا، فأخذوه في صدورِهم إلى أن أرمَوه قُربَ خَيمةٍ، ومَضَت فرقةٌ منهم إلى جهة طاز، فأوسع لهم، ثم عاد عليهم، ورَكِبَ الشريف عجلان والناس، فبعث طاز لعجلان "أنِ احفَظِ الحاجَّ، ولا تدخل بيننا في حَربٍ، ودَعْنا مع غريمنا"، واستمَرَّ القتال بينهم إلى بعد العصر، فركِبَ أهلَ اليَمَنِ الذلَّةُ، والتجأ المجاهِدُ إلى دهليزه، وقد أحيط به وقُطِعَت أطنابه، وألقَوه إلى الأرضِ، فمَرَّ المجاهِدُ على وجهِه ومعه أولادُه، فلم يجِدْ طريقًا، وعاد بمن معه وهم يصيحونَ: "الأمانَ يا مسلمين" فأخذوا وزيره، وتمَزَّقَت عساكره في تلك الجبال، وقُتِلَ منهم خلق كثير، ونُهِبَت أموالهم وخيولُهم حتى لم يبقَ لهم شيء، وما انفصل الحالُ إلى غروب الشمس، وفَرَّ ثُقبة بعُربه، وأخذ عبيدُ عجلان جماعةً من الحجَّاج فيما بين مكَّةَ ومِنًى، وقتلوا جماعةً، فلما أراد الأميرُ طاز الرحيل من مِنًى سَلَّمَ أم المجاهد وحريمه لعجلان، وأوصاه بهِنَّ وركب الأمير طاز ومعه المجاهِدُ مُحتَفظًا به، وبالغَ في إكرامِه، وصَحِبَ معه أيضًا الأمير بيبغا روس مقيدًا، وبعث الأمير طنطاي مبشرًا، ولَمَّا قدم الأمير طاز المدينةَ النبويةَ قَبَضَ على الشريفِ طفيل.
قَدِمَ الخبر بأن إسكندر بن قرا يوسف نزل قريبًا من مدينة تبريز، فبرز إليه أخوه جهان شاه، المقيم بها من قِبَل القان معين الدين شاه رخ بن تيمورلنك المغولي ملك المشرق، فكانت بينهما وقعة انهزم فيها إسكندر إلى قلعة يلنجا من عمل تبريز، فنازله جهان شاه وحصره بها، وأن الأمير حمزة بن قرا يلك متملك ماردين وأرزنكان أخرج أخاه ناصر الدين علي باك من مدينة آمد، وملكها منه، فقلق السلطان من ذلك، وعزم على أن يسافر بنفسه إلى بلاد الشام، وكتب بتجهيز الإقامات بالشام، ثم أبطل ذلك، ثم رسم بخروج تجريدة إلى بلاد الشام، وعيَّن من الأمراء المقدمين ثمانية، وكتب لنائب الشام الأمير أينال الجكمى أن يتوجه بمن معه صحبة الأمراء إلى حلب، ويستدعوا حمزة باك بن قرا يلك صاحب ماردين وأرزنكان، فإن قدم إليهم خلع عليه بنيابة السلطة فيما يليه، وإلا مشوا بأجمعهم عليه وقاتلوه وأخذوه، ثم رحل الأمراء المجرَّدون من أبلستين، ومعهم نواب الشام وعساكرها من غزة إلى الفرات، وجميع تركمان الطاعة، وتوجهوا في جمع كبير يريدون مدينة آقشهر، حتى نزلوا عليها وحصروها، وكان من خبرهم أن العسكر المجرد لما قصد مدينة آقشهر تلقَّاهم سلطان أحمد بن قليج أرسلان صاحب تلى صار وقد رغب في الطاعة السلطانية، وسار معهم حتى نازلوا مدينة أقشهر في أول ذي الحجة، فهرب متملكها حسن الأيتاقى في ليلة الثلاثاء ثانيه إلى قلعة برداش، فملك العسكر المدينة وقلعتها، وقبضوا على عدة من أعيانها، وبعثوا بسلطان أحمد بن قليج أرسلان على عسكر، فملك قلعتي فارس وتمشلي، فأقروه على نيابة السلطة بهما، وساروا لمحاصرة حسن بقلعة برداش ففر منها إلى قلعة بزطلش، فنزل من العسكر عليها حتى أخذها في الثامن عشر الأمير قرقماس أمير سلاح، بعد أن قاتل أهلها بضعة عشر يومًا، ثم هدمها حتى سوَّى بها الأرض، وقد فرَّ منها حسن أيتاقي، ثم سار الأمير قرقماس بمن معه مع بقية العساكر يريدون أرزنكان، فقدم عليهم الأمير مرزا بن الأمير يعقوب ابن الأمير قرا يلك رسولًا من أبيه يعقوب صاحب أرزنكان وكماخ، وقد خرج عن أرزنكان ونزل كماخ، وقدم مع مرزا زوجة أبيه وعدة من القضاة والأعيان بأرزنكان، يسألون العفو عن الأمير يعقوب وإعفاءه من قدومه إليهم، وأن يُجهَّز لنيابة السلطنة بأرزنكان الأمير جهان كير ابن الأمير ناصر الدين علي باك بن قرا يلك، فأُجيبوا إلى ذلك كله، وخُلِع على الأمير مرزا، ودُفِع إليه خِلعة لأبيه الأمير يعقوب، وأُعيد وصحبته الأمير جهان كير، وقد خُلِع عليه بنيابة أرزنكان، وساروا وقد جهز إلى أرزنكان بالأمير سودون النوروزى دوادار نائب حلب، ومعه نائب دوركى ونائب بهنسنى، فتسلموا أرزنكان بلا مانع، وأقاموا بها، ثم توجه القاضي معين الدين عبد اللطيف ابن القاضي شمس الدين الأشقر كاتب السر بحلب، حتى حلف أهل أرزنكان بالإقامة على طاعة السلطان، ثم سارت العساكر من أقشهر في الثاني والعشرين حتى نزلت على أرزنكان، وعسكروا هناك، فخرج إليهم أهلها، وباعوا عليهم ما أرادوا منهم، وفُتِحت أبواب المدينة، والعساكر يدخل منها المدينة من أراد ذلك، من غير ضرر ولا نهب، واستمروا على ذلك إلى آخر الشهر.
يقول الجبرتي: "كانت الفرنسيسُ حين دخولهم بالإسكندرية كتبوا مرسومًا وطبَعوه وأرسلوا منه نُسخًا إلى البلاد التي يَقدَمون عليها؛ تطمينًا لهم، ووصل هذا المكتوبُ مع جملةٍ مِن الأُسارى الذين وجدوهم بمالطة وحضروا صُحبتَهم، وحضرَ منهم جملةٌ إلى بولاق، وذلك قبل وُصولِ الفرنسيس بيومٍ أو بيومين، ومعهم منه عِدَّةُ نُسَخ، ومنهم مغاربة وفيهم جواسيس وهم على شَكلِهم من كفَّار مالطة ويعرفون باللغات, وصورةُ ذلك المكتوب: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا اللهُ لا ولد له ولا شريكَ له في مُلكِه، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السير عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرف أهالي مصرَ جميعَهم أنَّ من زمان مديد الصناجق الذين يتسلَّطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حقِّ الملة الفرنساوية؛ يظلمون تجارَها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعةَ عقوبتهم وأخَّرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأزابكة والجراكسة يُفسِدون في الإقليم الحسن الأحسَنِ الذي لا يوجدُ في كُرة الأرض كلِّها، فأمَّا رب العالمين القادِرُ على كل شيء فإنه قد حكمَ على انقضاء دولتهم، يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنَّني ما نزلت بهذا الطرفِ إلَّا بقصد إزالة دينكم، فذلك كَذِبٌ صريحٌ، فلا تصَدِّقوه، وقولوا للمفترين إنَّني ما قَدِمت إليكم إلَّا لأخَلِّص حَقَّكم من يد الظالمين، وإنني أكثَرُ من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترِمُ نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضًا لهم إنَّ جميع الناس متساوون عند الله، وإنَّ الشيء الذي يفرقُهم عن بعضِهم هو العقلُ والفضائِلُ والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضاربٌ، فماذا يميزُهم عن غيرِهم حتى يستوجِبوا أن يتمَلَّكوا مصر وحدَهم ويختَصُّوا بكل شيءٍ أحسَن فيها من الجواري الحِسان والخيل العتاق والمساكِن المفرحة، فإن كانت الأرضُ المصرية التزامًا للمماليك فليُرونا الحُجَّة التي كتبها الله لهم، ولكنَّ رب العالمين رؤوفٌ وعادل وحليم، ولكنْ بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية؛ فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبِّرون الأمور، وبذلك يصلُحُ حال الأمَّة كُلِّها، وسابقًا كان في الأراضي المصرية المدنُ العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كلَّه إلا الظلمُ والطمع من المماليك، أيها المشايخُ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد، قولوا لأمَّتِكم إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخرَّبوا فيها كرسيَّ الباب الذي كان دائمًا يحثُّ النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعُمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلةَ المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كلِّ وقت من الأوقات صاروا محبِّين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداءِ أعدائِه، أدام الله مُلكَه، ومع ذلك إنَّ المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غيرَ ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلًا إلَّا لطمع أنفسهم، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتَّفقون معنا بلا تأخير، فيَصلُح حالهم وتعلو مراتبُهم، طوبى أيضًا للذين يقعُدون في مساكنِهم غيرَ مائلين لأحدٍ مِن الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلبٍ، لكنَّ الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتِنا فلا يجدون بعد ذلك طريقًا إلى الخلاص، ولا يبقى منهم أثر".