هو المَلِكُ العادِلُ سَيفُ الدين أبو منصور عليُّ بنُ إسحاق المعروف بابن السلار، وزيرُ الظَّافِرِ العُبَيدي صاحِبِ مِصرَ، كان من أمراء الأكراد، وكان تربيةَ القَصرِ بالقاهرة، وتقَلَّبَت فيه الأحوالُ في الولايات بالصَّعيدِ وغَيرِه إلى أن تولى الوزارةَ للظَّافِرِ في رَجَب سنة 543. بعد أن تغَلَّبَ على ابنِ مصال وانتزَعَ منه الوزارةَ واستَمَرَّ العادِلُ في الوزارة إلى أن قُتِلَ، وكان ابنُ السلار مِن الأبطالِ المَشهورينَ شَهمًا مِقدامًا، عَمَرَ بالقاهرة مساجِدَ، وكان سُنِّيًّا مُسلِمًا حَسَنَ المُعتَقَدِ شافعيًّا، خَمَدَ بولايته ثائِرةَ الرَّفضِ بمِصرَ، مائلًا إلى أرباب الفَضلِ والصَّلاحِ؛ فقد احتَفَلَ بالحافِظِ أبي طاهرٍ السَّلفي لَمَّا ورد عليه بثغر الإسكندريةِ، وزاد في إكرامه، وعَمَرَ له هناك مدرسةً فَوَّضَ تَدريسَها إليه، وكان مع هذه الأوصافِ ذا سيرةٍ جائرةٍ، وسَطوةٍ قاطِعةٍ، يُؤاخِذُ النَّاسَ بالصَّغائِرِ والمُحَقَّراتِ، وكان قد وصَلَ مِن إفريقيَّةَ إلى الدِّيارِ المِصريَّة أبو الفتوح بن يحيى سنة 509، فسار إلى الديارِ المِصريَّة ومعه زوجته بلارة ابنةُ القاسم بن تميم بن المعز بن باديس، وولَدُه عباس وهو صَغيرٌ يَرضَعُ. نزل أبو الفتوح بالإسكندرية، فأقام بها مُدَّةً يسيرة، ثم توفِّيَ فتَزَوَّجَت امرأتهُ بلارة بابنِ السَّلار وأقامت عنده زمانًا، ثمَّ تَزَوَّجَ ابنُها العباس بمصرَ ورُزِقَ ولدًا سَمَّاه نصرًا، فكان عند جَدَّتِه بلارة في دار العادِلِ، والعادِلُ يحنو عليه ويُعِزُّه، ونَصرًا هذ هو الذي قَتَلَ العادِلَ على فِراشِه يومَ الخميس سادس المحرم بدار الوَزارة بالقاهرة بتدبيرٍ مِن والِدِه العَبَّاس وأسامة بن منقذ، وقيل: إنه قتل يوم السبت حادي عشر المحرم, وهذا نَصرُ بنُ عباس هو الذي قَتَلَ أيضًا حاكِمَ مِصرَ الظَّافِرَ إسماعيلَ بنَ الحافِظِ العُبَيدي.
لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين بن أخيه أيوب بن شاذي قد سار معه على كُرهٍ منه للمسير، وأما كيفيَّة ولايته، فإنَّ جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدُّمَ على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده، منهم عينُ الدولة الياروقي، وقطب الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خالُ صلاح الدين، وكُلُّ واحد من هؤلاء يخطُبها، وقد جمع أصحابه ليغالَ عليها، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضرَه عنده، وخلعَ عليه، وولَّاه الوزارة بعد عَمِّه، وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابَه قالوا: ليس في الجماعة أضعَفُ ولا أصغَرُ سنًّا من يوسف بن أيوب (صلاح الدين)، والرأيُ أن يولَّى، فإنَّه لا يخرجُ من تحت حُكمِنا، ثم نضَعُ على العساكر من يستميلُهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنَعُ بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرِجُه، فلما خلع عليه لقب الناصر لم يُطِعْه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدونَ الأمرَ لأنفُسِهم، ولا خَدَموه، وكان الفقيهُ عيسى الهكاري مع صلاح الدين، فمَيَّل الأمراء الذين كانوا قد طمعوا بالوزارة إلى الانقيادِ إليه، فأجابوا سوى عين الدولة الياروقي؛ فإنه امتنع، وثبتَ قَدَمُ صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين محمود، واستمال صلاحُ الدين قلوبَ النَّاسِ، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبُّوه وضَعُف أمر العاضد، ثم أرسل صلاحُ الدين يطلُب من نور الدين أن يرسِلَ إليه إخوتَه وأهلَه، فأرسلهم إليه، وشرعَ عليهم طاعتَه والقيامَ بأمره ومساعدته، وكلُّهم فعل ذلك، وأُخِذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حبًّا وطاعةً.
نشب النزاعُ بين الصالحَينِ إسماعيلَ ونجمِ الدين أيوب مرة أخرى، ووقف الناصرُ داود بن الملك المعظَّم هذه المرة مع الصالح إسماعيل، واتفقا على الاستعانة بالصليبيين ضِدَّ إخوانهم المسلمين، ولم يجدِ الصالح أيوب قُوَّةً تَقِفُ إلى جواره غيرَ الخوارزمية الذين تَفَرَّقت بهم السبل بعد انهيار دولتِهم ومقتل سلطانهم جلال الدين خوارزم شاه، فاستجابوا لدعوته، وقَدِموا بأعدادٍ كبيرة إلى الشام، فقطعوا الفراتَ، ومُقَدَّموهم: الأمير حسام الدين بركة خان، وخان بردى، وصاروخان، وكشلوخان، وهم زيادة على عشرة آلاف مقاتل، فسارت منهم فرقة على بقاع بعلبك، وفرقة على غوطة دمشق، وهم ينهبون ويقتُلون ويَسْبُون، فانجفل الناسُ من بين أيديهم، وتحصَّنَ الصالح إسماعيل بدمشق، وضمَّ عساكره إليه، بعدما كانت قد وصلَت غزة, واتَّجه الخوارزمية إلى دمشقَ فوجدوها قويَّة التحصين فتركوها، واستولوا على طبرية ونابلس، وواصلوا سيرَهم حتى دخلوا مدينة بيت المقدس في الثالثِ من صفر واستولوا عليها دون مقاومةٍ، وبذلوا السيفَ فيمن كان به من النصارى، حتى أفنوا الرِّجالَ، وسَبَوا النساء والأولاد، وهدموا المبانيَ التي في قمامة، ونبشوا قبورَ النصارى، وأحرقوا رِمَمَهم، وكانت هذه آخرَ مرة يسترد فيها المسلمونَ بيت المقدس في عصرِ الحروب الصليبيَّة، وظَلَّت بأيدي المسلمين حتى سقطت في قبضة اليهود في عصرنا الحديثِ، وبعدَ أن استَرَدَّ الخوارزميون بيت المقدس واصلوا سيرَهم إلى غزة واجتمعوا مع الجيشِ المصري الذي أرسله الصالحُ أيوب لمحاربة قوات الشام ومن ناصرها من القواتِ الصليبيَّة، سير الخوارزمية إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في صفر يخبرونَه بقدومهم، فأمرهم بالإقامةِ في غزة، ووعدهم ببلادِ الشامِ، بعدما خلع على رُسُلِهم.
وقعت فتنة بدمياط قُتِلَ فيها الوالي، وهي أنَّ أعمال مصر منذ ابتداء أيام الظاهر برقوق، لا يولَّى بها وال إلا بمالٍ يقوم به، أو يلتَزِمُ به، وكان من أتباع المماليك رجل سوَّلت له نفسه ولاية في دمياط، يعرف بناصر الدين محمد السلاخوري، التزم بمالٍ ووَلِيَها، واستدان مالًا حتى عمل له ما يتجمَّلُ به وباشرها غير مرة في هذه الأيام المؤيدية، فلما وليها في هذه السنة جرى على عادته في ظلم الناس، وأخْذِ أموالهم ونسائهم وشباب أولادهم، ومن جملة أهل دمياط طائفة يقال لهم السمناوية، يتعيشون بصيد السمك من بحيرة تنيس، ويسكن كثير منهم بجزائر يسمونها العزب -واحدتها عِزبة- فأَنِفوا من قبائح أفعال السلاخوري؛ ففي يوم الأحد الثاني والعشرين ذي الحجة أوقعوا بنائب الوالي وضربوه وأهانوه، بحيث كاد يهلك، وجرُّوه إلى ظاهر البلد، وتجمَّعوا على باب الوالي، وقد امتنع بها، ورماهم بالنشاب من أعلاها، فأصاب واحدًا منهم فقتله، وجرح ثلاثة، فألحوا في أخذه، وهو يرميهم، حتى نَفِدَت سهامه، فألقى نفسه في البحر، وركب في سفينته إلى الجزيرة، فتَبِعوه في السفن، وأخذوه وتناوبوا ضربه، وأتوا به إلى البلد، وسجنوه موثقًا في رجليه بالخشب، وباتوا يحرُسونه إلى بُكرة غدِهم، ثم أخرجوه وحلقوا نصف لحية نائبه، وشهروه على جمل والمغاني تزُفُّه، حتى طافوا به البلد ثم قتلوه شَرَّ قِتلة، وأخرجوا الوالي من الحبس، وأتَوا ببعض قضاتهم وشهودهم؛ ليثبتوا عليه محضرًا، وأوقفوه على رجليه مكشوف الرأس عاري البدن، فبدره أحد السمناوية وصرعه، وتواثب عليه باقيهم حتى هلك، وسحبوه وأحرقوه بالنار ونهبوا داره وسلبوا حريمه وأولاده ما عليهم، وقتلوا ابنًا له في المهد، مات من الرجفة، وأسروا له ابنًا، فكانت فتنة لم يُدرَك مثلُها في معناها.
انتقلت قيادةُ الثورة في داغستان ضِدَّ الروس إلى الشيخ الإمام شامل بن دنكاو الداغستاني، وكان قد صَحِبَ منذ صغره الشيخَ المجاهد محمد الكمراوي قائدَ الثورة الأول في رحلته العلمية، وعكف معه على العلم والعبادة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى قامت الثورةُ المباركة وكان الإمامُ شامل الذراعَ الأيمن لمحمد الكمراوي، وقائد جيوشه وشريكه في الأمور حتى ليلة استشهاده، ثم اشترك مع القائد الثاني حمزة بك علي حتى استشهاده أيضًا، فأجمع الناسُ على تولية الشيخ الإمام شامل قيادة الثورة، ومن يومها أصبح اسمُه الإمام شامل. حمل على عاتقِه إحياءَ الدين الإسلامي ونَشْر العلم، وتطبيق الشريعة، وإقامة العدل، وتطهير المجتمع من الآثار المرذولة التي خَلَّفها الاحتلال الروسي للبلاد، وجاءت خطواتُ الإمام شامل لتحقيقِ هذا الهدف بالقضاء على المنافقين؛ حيث قام بتطهير المجتمَعِ الداغستاني من العُملاء والموالين للاحتلال الروسي، ثم ضَمَّ الشيشان مع داغستان؛ حيث لم يكن هدفُ الإمام شامل تحرير داغستان فقط من الاحتلال الروسي، بل كان يهدفُ لتطهير منطقة القوقاز بأسْرِها من الروس، واستعادة الحُكم الإسلامي عليها مرةً أخرى؛ لذلك عَمِلَ الإمامُ شامل على توسيعِ قاعدة الدولة الإسلامية، فانتقل بالثورةِ إلى الشيشان، وصار قوة كبيرة يُخشى بأسُها، وأنزلت هذه القوةُ العديدَ من الهزائمِ المدوِّية على الجيش الروسي، خاصةً في معركة ويدانو سنة 1251هـ التي قُتِل فيها ستة آلاف صليبي روسي، ولقد انضمَّ للإمام شامل مجموعةٌ من العلماء العاملين المجاهدين المخلِصين، كما انضم له الكثيرُ مِن الشيشان، وانضَمَّ له من قبائل الشركس واللاز والأبخاز وغيرهم من أهل منطقة القوقاز، وبَقُوا يقاتِلون معه.
كان لسقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين سنة642 هـ (1244م) صدى كبير في أوروبا فأخذت أوروبا تجَهِّزُ لحملة صليبيةٍ جديدةٍ كبيرةٍ هي الحملةُ الصليبية السابعة للاستيلاءِ على مصر, حيثُ إنهم أدركوا بعد هزيمةِ حَملتِهم الصليبية الخامسةِ على مصر، ثم هزيمتهم في معركة الحربيَّة عند غزة، وضياع بيت المقدس منهم، أنَّ مِصرَ هي التي تمثل مركزَ قُوَّة المسلمين وقلعة التصدِّي لطموحاتِهم في الاستيلاءِ على بيتِ المقدسِ والشَّرق, وكان لويس التاسع ملك فرنسا الذي عُرِفَ لاحقًا بالقديس لويس، من أشد المتحمِّسين لقيام تلك الحملة، فراح يروِّجُ لها في أنحاء أوروبا. خرج لويس التاسع قاصدًا الديار المصرية في جموعٍ عظيمة فسار عن بلاده بأموالٍ جزيلة وأُهبة عظيمة، وأرسى بعكَّا وانبثَّ أصحابُه في جميع بلاد الساحل. فلمَّا استراحوا جاؤوه حاشدينَ حافلين وساروا في البحرِ إلى دمياط ومَلَكوها بغيرِ تَعَب ولا قتالٍ؛ لأنَّ أهلَها لَمَّا بلَغَهم ما الفرنجُ عليه من القوة والكثرة والعُدَّة الكاملة هالهم أمرُهم فرحلوا عنها مخفِّين. فوصل إليها الفرنجُ ولَقُوها خالية عن المقاتلين مليئةً بالأرزاق والسِّلاح، فدخلوها وغَنِموا ما فيها من الأموال. وكان الملكُ الصالح أيوب بن الملك الكامل صاحبُ مصر يومئذ بالشَّامِ يحاصر مدينة حمص. فلمَّا سَمِعَ بمقدم الفرنج رحل عن حمصَ وسار مسرعًا إلى الديار المصرية ومرض في الطريقِ وعند وصوله إلى المنصورة وافاه مقدَّمو دمياط الذين أخلوها منهزمين، فلما قيل له ما صنعوا لأنَّهم فرُّوا عنها من غير أن يباشروا حربًا وقتالًا، عظم ذلك عليه فأمر بصَلبِهم وكانوا أربعة وخمسين أميرًا فصُلِبوا كما هم بثيابِهم ومناطِقِهم وخفافِهم. ثم مات من الغدِ في الخامس عشر من شعبان. وتولَّى تدبير المملكة الأمير عزُّ الدين المعروف بالتركمانيِّ، وهو أكبر المماليك الترك. وكان مرجعه في جميع ذلك ممَّا يعتمده من الأمور إلى حظيَّة الملك الصالح أيوب المسمَّاة شجرة الدرِ،ّ وكانت تركية داهيةَ الدَّهرِ لا نظير لها في النساءِ حُسنًا، وفي الرجال حزمًا. فاتفقا على تمليك الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح. وكان يومئذٍ بحِصن كيفا من ديارِ بكر, فسار إلى الدِّيار المصريَّة وبايعوه وحَلَفوا له وسَلَّموا إليه مُلكَ أبيه. وفي مطلع سنة 648 سيَّرَ لويس التاسع ألفي فارس نحو المنصورة ليجسَّ بهم ما عليه المصريون من القوَّة. فلَقِيَهم طرفٌ مِن عسكر المسلمينَ فاقتتلوا قتالًا ضعيفًا فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنجُ المنصورةَ ولم ينالوا منها نيلًا طائلًا؛ لأنهم حَصلوا في مضايق أزقَّتِها وكان العامَّةُ يقاتلونهم بالحِجارة والآجُرِّ والتراب وخيولهم الضَّخمة لم تتمكَّن من الجولان بين الدُّروبِ، وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن شيخ الشيوخ أحد الأمراء المصريين شيخًا كبيرًا، أحاط به الفرنجُ وهو في الحمام يصبغُ لحيَتَه فقتلوه هناك. وعادوا إلى لويس التاسع وأعلموه بما تمَّ لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمَعُ من معه من البطارقة ظانِّينَ أنه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة. فعبَّى جيوشه وسار بهم طالبًا احتلال أرض مصر. فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليجَ مِن النيل المسمى أشموم طناح وهو بين البرَّين: برِّ دمياط وبرِّ المنصورة. في ليلة الأربعاء الثالث من محرم رحل الفرنج بأسرِهم من منزلتهم وانحدرت مراكِبُهم في البحر قبالةَ المسلمين، فركب المسلمونَ أقفيَتَهم، بعد أن عَدَّوا برَّهم واتبعوهم، فطلع صباحُ نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون، وبَلَوا فيهم سيوفَهم، واستولوا عليهم قتلًا وأسرًا، وكان معظمُ الحرب في فارسكور، فبلغت عدة القتلى عشرةَ آلاف في قَولِ المقِلِّ، وثلاثين ألفًا في قولِ المكثر، وأُسِرَ من خيَّالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسُوقتِهم، ما يناهِزُ مائة ألف إنسان، وغَنِمَ المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرةً، واستُشهِدَ من المسلمين نحو مائة رجل، وأبلت الطائفةُ البحرية لاسيما بيبرس البندقداري في هذه النوبة بلاءً حسنًا، وبان لهم أثرٌ جميل، والتجأ الملك الفرنسيُّ وعِدَّة من أكابر قومه إلى تل المنية، وطلبوا الأمانَ فأمَّنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزَلوا على أمانه، وأُخِذوا إلى المنصورة، فقُيِّد الملك الفرنسي بقيدٍ مِن حديدٍ واعتُقِلَ في دار القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتبِ الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورةِ ووكَلَ بحفظه الطواشي صبيح المعظمي، واعتُقِلَ معه أخوه، وأجرى عليه راتبًا في كل يوم، وتقَدَّم أمر الملك المعظم توران شاه لسيف الدين يوسف بن الطودي أحد من وصل معه من بلاد الشرق بقَتلِ الأسرى من الفرنج، وكان سيفُ الدين يُخرِجُ كُلَّ ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويَضرِبُ أعناقَهم ويرميهم في البحر، حتى فَنُوا بأجمعهم، ورحل السلطانُ من المنصورة، ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليزَ السلطاني، وعَمِلَ فيه برجًا من خَشَبٍ.
في هذه السَّنَة ثارَ بعضُ اليَمانِيَّة على مَرْوان بن محمَّد في حِمص وتَدمُر وكذلك في فِلَسطين، فقام بإرسالِ مَن يَقمَعُهم مُستَعينًا بالقَيْسِيَّة، كما خَرَج في الكوفَة عبدُ الله بن مُعاوِيَة الطَّالِبي على بَنِي أُميَّة وبايَعَه بعضُ أَصحابِه ثمَّ هَرَب معهم إلى حلوان وغَلَب على الرَّيِّ وأَصبَهان وهَمدان، وفي الأندَلُس ثارَ بعضُ القَيْسِيَّة بقِيادَة ثَوابَة بن سَلامَة الذي تَولَّى بعدُ إِمارةَ الأندَلُس.
هو منصورُ بنُ قراتكين، صاحِبُ الجيوش الخراسانيَّة، من أكابرِ أصحابِ نوحٍ وخَواصِّه؛ أميرِ ما وراء النهرِ وخُراسان. توفِّيَ بعد عَودتِه مِن أصبهان إلى الريِّ، ذكر العراقيونَ أنَّه أدمن الشُّربَ عِدَّةَ أيام بلياليها، فمات فجأةً، وقال الخراسانيُّونَ إنَّه مَرِضَ ومات، فالله أعلم. ولَمَّا مات رجعت العساكِرُ الخراسانيَّة إلى نيسابور، وحُمِلَ تابوتُ منصور، ودُفِنَ إلى جانب والده باسبيجاب.
طغى الماء ببغداد حتى أتلف شيئًا كثيرًا من المحالِّ والدُّور الشهيرة، وتعَذَّرت الجُمَعُ في أكثر الجوامع بسبب ذلك سوى ثلاثِة جوامِعَ، ونُقِلَت توابيت جماعة من الخلفاء إلى الترب من الرصافة خوفًا عليهم من أن تغرق محالُّهم، منهم المقتصد بن الأمير أبي أحمد المتوكل، وذلك بعد دفنه بأكثَرَ من 350 سنة، وكذا نُقِلَ ولَدُه المكتفي وكذا المقتفي بن المقتدر بالله.
قام المستعين بالله سعد بن علي بن يوسف الثاني بخلع الأحنف محمد العاشر بن عثمان ملك بني نصر وتولي بدلًا عنه حُكمَ غرناطة، وقد تكرر الخلعُ بينهما أكثَرَ من مرة؛ فقد ثار الأمير سعد على الأحنف سنة 850 فخلعه، ثم لم يلبَث الأحنفُ أن عاد للحُكم وخلَعَ الأمير سعد بن علي بدعم من ملك قشتالة.
تولى كوبريلي محمد باشا رئاسة الوزراء في الدولة العثمانية، الذي حاول انتشال الدولة من حالة التدهور، فتسلم مقاليد أمور الدولة من نائبة السلطنة خديجة تارخان، واستمر دور عائلة "كوبريلي" في الدولة مدة 27 عامًا حتى عام 1683م. واستطاعت هذه الأسرة أن تُنقذ الدولة العثمانية بفضل الله تعالى من أزمات كبيرة كادت تعصف بها. واستمرت رئاسة "كوبريلي" للوزراء حتى أكتوبر 1661م.
سار ثويني بن عبد الله شيخ المنتفق من نجدٍ إلى البصرة فدخَلَها وحبس متسَلِّمَها من قِبَل الدولة العثمانية, فلما استقَرَّ فيها طلب من رؤساء البصرة وأعيانِهم أن يكتبوا للسلطان العثماني أن يجعَلَه أميرًا عليهم ويرسلوا كتابًا بطلبهم مع مفتي البصرة، فلما عرض المفتي على السلطانِ ما جاء به أطلع السلطانُ وزراءَه على الطلب فقالوا له: هذا أعرابيٌّ متغَلِّبٌ، فغَضِبَ السلطانُ وكاد يفتِكُ بالمفتي.
كان نجيبُ الله مُحمَّد رئيسُ المخابرات الأفغانية (خاد) في عهد الرئيس بابرك كارمل صاحبَ أطماعٍ، ويُجيد المناورة والظُّهور بمظهر المسالمة، ومحبَّة الوصول إلى نتيجةٍ مع المحاور كلها، وفي 25 شعبان نصَّب نفسه رئيسًا للدولة الأفغانية بمُساعدة سلطان علي كشتمند على حين فرَّ سَلَفُهُ بابرك كارمل إلى السفارة الصينية، ومنها إلى الروسية ثم خرج بتدبيرٍ منهم إلى طشقند، ثم إلى موسكو، حيث عاش هناك.
تمَّت الإطاحةُ بنظام الرئيس معاوية ولد الطايع، وإنشاء مجلس عسكري يتولَّى الحُكمَ في البلاد، وكان الرئيس الموريتاني معاوية ولد الطايع، الذي يحكُم البلادَ منذ 20 عامًا، قد غادَر إلى السعودية لتقديم العزاء بوفاة الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه اللهُ- ولكنَّ الجيش منعَ الطائرة الرئاسية من الهبوط في مطار نواكشوط، فاضطرَّ الرئيسُ للتوجُّهِ إلى نيامي عاصمة النيجر.
قُتِلَ شَمسُ الدين محمَّد بن عبد الملك المعروف بابنِ المُقَدَّم يومَ عَرَفة بعَرَفاتٍ، وهو أكبَرُ الأمراء الصلاحية، وسبَبُ قتله أنَّه لما فتَحَ المُسلِمونَ بيت المقدس طَلَب إذنًا من صلاحِ الدين ليحُجَّ ويُحرِمَ مِن القدس، ويجمَعَ في سنةٍ بين الجِهادِ والحَجِّ وزيارة الخليل- عليه السلام- وما بالشام من مشاهِدِ الأنبياء، وبين زيارةِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، فأَذِنَ له, وكان قد اجتمَعَ تلك السنة من الحُجَّاج بالشام الخَلقُ العظيم من بلاد العراق، والموصل، وديار بكر، والجزيرة، وخلاط، وبلاد الروم، ومصر وغيرها؛ لِيَجمعوا بين زيارة بيت المقدس ومكَّة، فجُعِلَ ابنُ المقدم أميرًا عليهم، فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين، ووقفوا في تلك المشاعِرِ، فلما كان عَشيَّةُ عرفةَ تجهَّزَ هو وأصحابُه ليسيروا مِن عَرَفات، فأمَرَ بضَربِ كوساته- قطعتان من نحاس تشبهان الترس الصغير، يُدَقُّ بأحدها على الآخَرِ بإيقاعٍ مخصوصٍ- التي هي أمارة الرحيل، فضربها أصحابُه، فأرسل إليه أميرُ الحاجِّ العراقي، وهو مجبر الدين طاش تكين، ينهاه عن الإفاضةِ مِن عرفات قبله، ويأمُرُه بكَفِّ أصحابه عن ضَربِ كوساته، فأرسل إليه: إني ليس لي معك تعَلُّقٌ؛ أنت أمير الحاجِّ العراقي، وأنا أميرُ الحاجِّ الشاميِّ! وكلٌّ منا يفعَلُ ما يراه ويختاره، وسار ولم يقف، ولم يسمعْ قَولَه، فلما رأى طاش تكين إصرارَه على مخالفَتِه رَكِبَ في أصحابه وأجناده، وتَبِعَه من غوغاء الحاجِّ العراقي وبطاطيهم، وطاعتهم، والعالم الكثير، والجم الغفير، وقصدوا حاجَّ الشام مهولين عليهم، فلمَّا قَرُبوا منهم خرج الأمرُ مِن الضبط، وعَجَزوا عن تلافيه، فهَجَم طماعة العراقِ على حاجِّ الشامِّ وفتَكوا فيهم، وقَتَلوا جماعةً ونُهِبَت أموالُهم وسُبِيَت جماعةٌ مِن نسائهم، إلا أنَّهن رُدِدنَ عليهم، وجُرِحَ ابنُ المقدم عِدَّةَ جراحات، وكان يكُفُّ أصحابَه عن القتال، ولو أذِنَ لهم لانتصف منهم وزاد، لكِنَّه راقب اللهَ تعالى، وحُرمةَ المكان واليوم، فلما أُثخِنَ بالجراحاتِ أخذه طاش تكين إلى خيمته، وأنزله عنده ليُمَرِّضَه ويستدرِكَ الفارِطَ في حَقِّه، وساروا تلك الليلةَ مِن عرفات، فلما كان الغدُ مات بمِنًى، ودُفِنَ بمَقبرةِ المُعلَّى.