قُتِل رئيسُ هيئةِ إفتاءِ أهلِ السُّنة مهدي الصميدعي رحمه الله وثلاثةٌ من عناصِرِ حِمايَتِه بسبب تفجيرِ سيارةٍ مفخَّخة استهدَفَت موكِبَه غرْبَ بغدادَ. ووقع الانفجارُ لدى خروجِ الصميدعي من مسجد عمر المختار في مِنطَقة حي اليرموك، غربَ بغدادَ، بعد أدائِه صلاةَ العيدِ.
شرع الله سُبحانه وتعالى زكاةَ الفِطرِ, وهي واجبةٌ على كُلِّ مُسلمٍ حُرٍّ أو عبدٍ، ذَكَرٍ أو أُنثى، صغيرٍ أو كبيرٍ مِنَ المسلمين قادرٍ عليها. والحِكمةُ منها تَطهيرُ الصَّائمِ ممَّا عسى أن يكونَ قد وقع فيه أثناءَ الصِّيامِ مِن لَغْوٍ أو رَفَثٍ، وإعانةٌ للفقراءِ على إدخالِ السُّرورِ عليهم في يومِ العيدِ.
قامت العديدُ من الصحفِ العِبريةِ ومن بينها (يديعوت أحرونوت)، و(معاريف) بنشر رسومٍ مُسيئةٍ للرسولِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبادَرَ الفِلَسْطينيونَ بوقفِ اشتراكاتهم في الصحف احتجاجًا على إعادة نشر الرسوم، وأبدَوْا غضبَهم الشديدَ لقيام الصحيفة بنشر تلك الرسومِ، وطالبوها بالاعتذارِ وعدم إعادة نشرِها.
تُوفِّي الأميرُ نايفُ بنُ عبد العزيز رحمه الله وليُّ العهدِ السعودي ونائبُ رئيسِ مجلسِ الوُزراء ووزيرُ الداخلية، عن عمرٍ يناهز (83) عامًا، وذلك بعد أنْ غادر جُدَّةَ إلى جنيف بسويسرا لإجراءِ بعضِ الفُحوصات الطِّبِّية، وتَمَّت الصَّلاةُ عليه بالمسجدِ الحَرامِ بمكَّة المكرمة.
هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي، السلطان الرابع والثلاثون من ملوك الترك، والعاشر من الجراكسة، ويذكر في أصله أنه أخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وجلبه إلى الديار المصرية، فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي، وقيل: ولده أمير علي بن إينال وهو الأصح، وربَّاه عنده، فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه؛ فمن الناس من قال: إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلُبَه الملك الظاهر منه، فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتريات الملك الظاهر. تسلطن يوم خُلِعَ الملك العزيز يوسف، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الأول سنة 842. كان قد خرج عن طاعة الظاهر جقمق الأمير قرقماس، فواقعه الملك الظاهر، فانهزم قرقماس واختفى، ثم ظُفِرَ به وضُرِبَ عنقه. ثم خرج عن طاعته تغرى برمش نائب حلب، ثم أينال الجكمي نائب الشام؛ فجهز إليهما العساكر، فقاتلوهما واحدًا بعد الآخر، فظَفِرَ بهما وقتلهما. وبعد قتل هؤلاء صفا الوقت للملك الظاهر، وأخذ وأعطى، وقرب أقوامًا وأبعد آخرين. ولم يزل في ملكه والأقدارُ تساعدُه، إلى أن بدأ المرض به في آخر السنة الماضية وما زال يزداد به حتى قويَ عليه جدًّا في أواخر شهر محرم من هذه السنة، ثم لما كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم، تكلم السلطان مع بعض خواصِّه في خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته، فروجِعَ في ذلك فلم يقبَلْ، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة، فلما كان الغد، وهو يوم الخميس الحادي والعشرين محرم حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء، وفي ظنِّ الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسَه من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة: الأمر لكم، انظروا فيمن تُسلطِنوه، أو معنى ذلك؛ لعِلمِه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان؛ فإنَّه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فلما سمع الخليفةُ كلام السلطان، لم يعدِلْ عن المقام الفخري عثمان، لِما كان اشتمل عليه عثمان من العلم والفضل، وإدراكِه سِنَّ الشبيبة، وبايعه بالسَّلطنة، وتسلطن في يوم الخميس ولقِّبَ بالملك المنصور، وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا، واستمرَّ الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكتِه، ويعزِلُ ويولي، والملك الظاهر في شُغلٍ بمرضه، وما به من الألم في زيادة، إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح وجُهِّزَ وغُسِّلَ وكُفِّن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمرُه وحُمِل على نعشه، وأُخرِج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة إلى أن صلِّيَ عليه بمصلاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان المنصور عثمان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأُنزِلَ من القلعة، حتى دفِنَ بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع، ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنَه، وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين.
كان التتارُ قد نزلوا على حَلَب في ذي القعدة سنة 556 ولم يدخُلوها, ثم عادوا إليها في ثاني صفر مِن هذه السَّنة, وحاصروها حتى استولَوا عليها في تاسِع صَفَر بالأمان، فلمَّا مَلَكوها غَدَروا بأهل حلب وقتَلوا ونَهَبوا وسَبَوا وفعلوا تلك الأفعالَ القبيحة على عادةِ فِعلِهم.
هو عَنْبَسَة بن سُحَيْمٍ الكَلْبِي -نِسْبَةً إلى قَبيلَة كَلْب اليَمانِيَّة، المَعروفَة بِتَأْيِيدِها للأُمَويِّين- والي الأَندَلُس، ومِن قادَةِ الدَّولَة الأُمَويَّة الأَفْذاذ، له فُتوحات واسِعَة في أوروبا، وقد أُصِيبَ بجِراحاتٍ في بَعضِ الوَقائِع مع الفِرِنْج، فكانت سَبَبَ وَفاتِه، رَحِمَه الله, وكانت وِلايَتُه على الأَندَلُس أربعَ سِنين وأربعة أَشهُر.
كان المنصورُ عَهِدَ بالخلافة لولَدِه المهدي محمد بن عبد الله من بعدِه بعد أن اضطرَّ عيسى بن موسى إلى خلعِ نَفسِه من ولاية العهدِ، فلما توفِّي المنصورُ في الحج كُتِمَ أمرُ وفاتِه، حتى أُخِذَت البيعةُ لابنه المهدي، وبُويِعَ له بين الرُّكنِ والمقام، عُرِفَ المهديُّ بسماحتِه وكرَمِه ورَدِّه للمظالمِ.
اجتمَعَ جماعةٌ من رؤوس النصارى في كنيستِهم وجَمَعوا من بينهم مالًا جزيلًا فدَفَعوه إلى راهبينِ قَدِما عليهما من بلاد الروم، يُحسِنانِ صَنعةَ النِّفطِ، اسم أحدِهما ملاني، والآخر عازر، فعملا كحطًا من نفط، وتلطَّفا حتى عملاه لا يظهَرُ تأثيرُه إلا بعد أربع ساعات وأكثر من ذلك، فوُضِعا في شقوق دكاكين التجَّار بسوق الرجال في عدَّة دكاكين من آخِرِ النهار، بحيث لا يشعُرُ أحَدٌ بهما، وهما في زي المُسلِمينَ، فلما كان في أثناء الليل لم يشعُرِ النَّاسُ إلا والنَّارُ قد عَمِلَت في تلك الدكاكين حتى تعلَّقَت في درابزينات المأذنة الشرقيَّة المتَّجِهة للسوق المذكور، وأحرَقَت الدرابزينات، وجاء نائب السلطنة تنكز والأمراء أمراء الألوف، وصَعِدوا المنارة وهي تشتَعِلُ نارا، واحترسوا عن الجامِعِ فلم ينَلْه شيءٌ من الحريق ولله الحمد والمنة، وأمَّا المئذنة فإنها تفَجَّرت أحجارُها واحترقت السقَّالات التي تدُلُّ السلالم وأعيدَ بناؤها بحجارةٍ جُدُدٍ، وهي المنارة الشرقية التي جاء في الحديثِ أنَّه يَنزِلُ عليها عيسى بن مريم، والمقصودُ أنَّ النصارى بعد ليالٍ عَمَدوا إلى ناحية الجامع من المغرب إلى القيسارية بكمالِها، وبما فيها من الأقواس والعُدَد، وتطاير شَرَرُ النار إلى ما حول القيسارية- السوق الكبير- من الدُّورِ والمساكن والمدارِس، واحترق جانِبٌ من المدرسة الأمينية إلى جانب المدرسة المذكورة وما كان مقصودُهم إلَّا وصول النار إلى مَعبَد المسلمين، فحال اللهُ بينهم وبين ما يرومون، وجاء نائبُ السلطنة والأمراء وحالوا بين الحريقِ والمسجِدِ، جزاهم اللهُ خَيرًا، ولَمَّا تحقق نائِبُ السَّلطنةِ أنَّ هذا مِن فِعلِهم أمَرَ بمَسكِ رؤوس النصارى فأَمسَكَ منهم نحوًا من ستين رجلًا، فأُخِذوا بالمُصادَرات والضَّربِ والعقوبات وأنواع المَثُلاتِ، ثمَّ بعد ذلك صُلِبَ منهم أزيدُ مِن عَشرةٍ على الجمال، وطاف بهم في أرجاءِ البلاد وجَعلوا يتماوتون واحِدًا بعد واحد، ثمَّ أُحرِقوا بالنارِ حتى صاروا رمادًا لَعَنَهم اللهُ.
خرج الراضي أميرُ المؤمنينَ إلى المَوصِل لمحاربةِ ناصرِ الدولة الحسَنِ بنِ عبد الله بن حمدان نائبِها، وبين يديه بجكم أميرُ الأمراء، وقاضي القضاة أبو الحُسَين عمر بن محمد بن يوسف، وقد استخلف على بغداد ولَده القاضيَ أبا نصر يوسف بن عمر، في منصبِ القضاء، عن أمرِ الخليفةِ بذلك، ولما انتهى بجكم إلى الموصل ومعه الخليفةُ. واقَعَ الحسَن بن عبد الله بن حمدان فهزم بجكم ابنَ حمدان، وقرَّرَ الخليفة الموصِلَ والجزيرة، وولَّى فيها، فاغتنم محمَّد بن رائق غيبةَ الخليفةِ عن بغداد ليستَرِدَّ منصب أمير الأمراء فاستجاش بألفٍ مِن القرامطة وجاء بهم فدخل بغدادَ، فأكثر فيها الفساد، غيرَ أنَّه لم يتعَرَّضْ لدار الخلافة، ثم بعث إلى الخليفةِ يطلُبُ منه المصالحةَ والعفوَ عما جنى، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه قاضيَ القضاة أبا الحسين عمر بن يوسف، وترحَّلَ ابنُ رائق عن بغداد ودخَلَها الخليفةُ في جمادى الأولى، ففرح المسلِمونَ بذلك.
خرَجَ التُّركُ- وهم وثنيُّونَ- مِن الصِّينِ، وكان سبَبُ خُروجِهم أنَّ طغان خان مَلِكَ تُركستان التُّركي كان مُسلِمًا فاضِلًا يُحِبُّ أهلَ العِلمِ والدِّينِ. لَمَّا مَرِضَ مرضًا شديدًا، وطال به المَرَضُ، طَمِعوا في البلادِ لذلك، فساروا إليها ومَلَكوا بعضَها وغَنِموا وسَبَوا، وبَقِيَ بينهم وبين بلاساغون ثمانيةُ أيام، فلمَّا بلَغَه الخبَرُ كان بها مريضًا، فسألَ اللهَ تعالى أن يُعافِيَه لِينتَقِمَ مِن الكَفَرةِ، فاستجابَ اللهُ له وشفاه، فجمَعَ العساكِرَ، وكتب إلى سائِرِ بلادِ الإسلامِ يَستنفِرُ النَّاسَ، فاجتمع إليه من المتطَوِّعةِ مئةُ ألف وعِشرون ألفًا، فلمَّا بلغ التُّركَ خَبَرُ عافيتِه وجَمْعِه العساكِرَ وكَثرةُ مَن معه، عادوا إلى بلادِهم، فسار خَلْفَهم نحوَ ثلاثةِ أشهُرٍ حتى أدرَكَهم وهم آمنونَ لبُعدِ المسافةِ، فكبَسَهم وقَتَلَ منهم زيادةً على مِئَتي ألف رجلٍ، وأسَرَ نحوَ مئةِ ألف، وغَنِمَ مِن الدوابِّ وغير ذلك من الأواني الذهبيَّةِ والفضيَّة ومعمول الصينِ ما لا عهدَ لأحدٍ بمِثلِه، وعاد إلى بلاساغون، فلَمَّا بلَغَها عاوَدَه مَرَضُه فمات منه.
هو ضيدان بن خالد بن فيصل بن حزام بن مانع آل حثلين، شيخ قبيلة العجمان، ومن قادة الإخوان (إخوان من طاع الله) الذين شاركوا مع الملك عبد العزيز في نشرِ الدعوة وتوحيد البلاد. إلا أنه اختلف معه حولَ استخدام المخترعات الحديثة، كالهاتف والبرقيات، ومرونتِه في التعامُل مع دول وفئات يرى ابن حثلين أنَّه من الخطأ التعامُلُ معهم؛ لانحرافهم عن الدينِ الصَّحيحِ، وقد انضَمَّ ابن حثلين مع زعماء الإخوان فيصل الدويش، وسلطان بن بجاد، وأعلنوا انشقاقَهم على الملك، وزاد من حِدَّة خلاف ضيدان مع الملك عبد العزيز منعُه من شَنِّ غارات على بادية العراق. إلَّا أن ضيدان مع ذلك لم يشارِكْ زعماء الإخوان في معركة السبلة، وكان في هجرة الصرار على مقربة من الأحساء، فلما دعاه عبد الله بن جلوي أمير الأحساء لمقابلته امتنع، فوجه إليه ابنَه فهدًا، فتقابلا في العوينة وقُتِلَ ضيدان في خيمة فهد ابن جلوي الذي قَتَل أحد العجمان بعد قَتْلِه لضيدان، وتولى زعامة العجمان بعد ضيدان ابنُ عمه نايف بن حثلين.
في مستهَلِّ صَفَر وردت أخبارٌ بقَصدِ التتر بلادَ الشام، وأنهم عازمونَ على دخول مصر، فانزعج الناسُ لذلك وازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وشرعَ الناسُ في الهرب إلى بلادِ مِصرَ والكرك والشوبك والحصون المنيعة، وجلس الشيخُ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلِسِه في الجامع وحَرَّضَ الناسَ على القتال، وساق لهم الآياتِ والأحاديثَ الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراعِ في الفرار، ورغَّبَ في إنفاق الأموال في الذَّبِّ عن المسلمين وبلادِهم وأموالِهم، وأنَّ ما يُنفَقُ في أجرةِ الهَرَبِ إذا أُنفِقَ في سبيل الله كان خيرًا، وأوجب جهاد التتر حتمًا في هذه الكَرَّة، وتابع المجالِسَ في ذلك، ونودِيَ في البلادِ لا يسافِرْ أحدٌ إلا بمرسومٍ وورقةٍ، فتوقَّفَ النَّاسُ عن السير وسكَنَ جأشُهم، وتحَدَّث الناس بخروج السلطانِ مِن القاهرة بالعساكرِ، وفي أول ربيع الآخر قَوِيَ الإرجاف بأمر التتر، وجاء الخبَرُ بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودِيَ في البلد أن تخرج العامَّةُ من العسكر، وجاء مرسومُ النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشَّهرِ فعرض نحو خمسةِ آلاف من العامة بالعُدَّة والأسلحة على قدر طاقتِهم، وأشاع المرجفونَ بأن التتر قد وصلوا إلى حَلَب وأن نائب حلب تقهقَرَ إلى حماة، ونودي في البلد بتطييبِ قُلوبِ الناس وإقبالِهم على معايِشِهم، وأن السلطانَ والعساكر واصلةٌ، وأُبطلَ ديوان المستخرج, وكانوا قد استخرجوا أكثَرَ مِمَّا أمروا به، وبقيت بواقٍ على الناس الذين قد اختَفَوا، فعُفي عما بَقِي، ولم يَرُدَّ ما سَلف، لا جرم أن عواقِبَ هذه الأفعال خَسَرٌ ونُكرٌ، وأن أصحابها لا يُفلِحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائدًا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدًا الشام، فكثر الخوفُ واشتد الحال، وكثرت الأمطار جدًّا، وخرج كثير من الناس خفافًا وثِقالًا يتحمَّلونَ بأهليهم وأولادهم، واستهَلَّ جمادى الأولى والناسُ على خطَّة صعبة من الخوف، وتأخَّرَ السلطان واقترَبَ العدُوُّ، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مستهَلِّ هذا الشهرِ وكان يوم السبت إلى نائبِ الشامِ في المرج فثَبَّتَهم وقَوَّى جأشَهم وطَيَّبَ قلوبهم ووعَدَهم النصرَ والظَّفَرَ على الأعداء، وتلا قولَه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] وبات عند العسكَرِ ليلةَ الأحد ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائِبُ والأمراء أن يركَبَ على البريدِ إلى مِصرَ يستَحِثُّ السلطانَ على المجيءَ، فساق وراء السلطانِ، وكان السلطانُ قد وصل إلى الساحِلِ فلم يدرِكْه إلَّا وقد دخل القاهرةَ وتفارط الحال، ولكنَّه استحَثَّهم على تجهيز العساكر إلى الشامِ إن كان لهم به حاجةٌ، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتُم عن الشامِ وحمايتِه أقَمْنا له سلطانًا يحوطُه ويحميه ويستغِلُّه في زَمَنِ الأمن، ولم يَزَلْ بهم حتى جُرِّدَت العساكِرُ إلى الشام، ثم قال لهم: لو قُدِّرَ أنكم لستُم حكامَ الشَّامِ ولا ملوكَه واستنصركم أهلُه، وجب عليكم النصرُ، فكيف وأنتم حكَّامُه وسلاطينُه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولونَ عنهم؟! وقَوَّى جأشَهم وضَمِنَ لهم النصر هذه الكَرَّةَ، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصَلَت العساكِرُ إلى الشام فرح الناسُ فَرَحًا شديدًا بعد أن كانوا قد يَئِسوا من أنفُسِهم وأهليهم وأموالهم، ثمَّ قَوِيت الأراجيف بوصول التتر، وتحقُّقِ عَودِ السلطان إلى مصر، ونادى ابنُ النحاس متولي البلد في الناسِ: من قَدَرَ على السَّفَرِ فلا يقعُدْ بدمشق، فتصايح النِّساءُ والوِلدان، ورهق الناسَ ذِلَّةٌ عظيمةٌ وخَمدةٌ، وزُلزِلوا زلزالًا شَديدًا، وغُلِّقَت الأسواقُ وتيَقَّنوا أنْ لا ناصِرَ لهم إلا اللهُ عزَّ وجَلَّ، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقِفار والمغر بأهاليهم من الكبارِ والصغار، ونودي في الناسِ من كانت نيتُه الجهادَ فليلتَحِقْ بالجيش؛ فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشقَ مِن أكابرها إلا القليل، وجاءت الأخبارُ بوصول التتر إلى سرقين، وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين ابن تيمية وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم، فقَوَّوا عَزمَه على ملاقاةِ العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحَرَّضوه على قتال العدو، فأجابهم بالسَّمعِ والطاعة، وقَوِيَت نياتهم على ذلك، وخرج طلبُ سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحَربِ والقتال بنيَّات صادقة، ورجع الشيخُ تقي الدين ابن تيمية من الديارِ المِصريَّة في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصرَ ثمانيةَ أيَّامٍ يَحُثُّهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطانِ والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروجِ، وقد غلت الأسعار بدمشقَ جِدًّا، ثم جاءت الأخبار بأن مَلِكَ التتار قد خاض الفراتَ راجِعًا عامَه ذلك لِضَعفِ جَيشِه وقِلَّةِ عَدَدِهم، فطابت النفوسُ لذلك وسكن النَّاسُ، وعادوا إلى منازِلِهم منشرحين آمنينَ مُستبشرينَ، ولَمَّا جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشامِ في جمادى الآخرة تراجعت أنفُسُ الناس إليهم وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشق، وكان مخيمًا في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة، وهو من أعظَمِ الرباط، وتراجَعَ النَّاسُ إلى أوطانهم.
خرج المعتضِدُ إلى المَوصِل، قاصدًا حَمدانَ بنَ حمدون التغلبيَّ؛ لأنَّه بلغه أنَّ حَمدانَ التَّغلِبيَّ مال إلى هارون الشاري الخارجي، ودعا له، فلمَّا بلغ الأعرابَ والأكرادَ مَسيرُ المعتَضِد تحالَفوا أنَّهم يُقاتِلونَ على دمٍ واحد، واجتمعوا وعَبَّوا عسكرَهم، وسار المعتضِدُ إليهم في خَيلِه، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرِقَ منهم في الزابِ خَلقٌ كثير. ثم تابع المعتَضِدُ سَيرَه إلى الموصل يريد قلعةَ ماردين، وكانت لحمدانَ بنِ حمدون، فهرب حمدانُ منها وخَلَّفَ ابنَه بها فنازلها المعتَضِد، وقاتل مَن فيها يومَه ذلك، فلما كان من الغدِ ركبَ المعتَضِدُ فصَعِد إلى باب القلعة، وصاح: يا ابنَ حَمدانَ, فأجابه، فقال له: افتَحِ الباب، ففَتَحه، فقعد المعتَضِدُ في الباب، وأمر بنقلِ ما في القلعةِ وهَدمِها، ثم وجه خلفَ ابنِ حمدون، وطُلِبَ أشدَّ الطَّلَبِ، وأُخِذَت أموالٌ له، ثم ظفرَ به المعتَضِد بعد عودتِه إلى بغدادَ.
استعمل السعيدُ نصر الساماني أبا بكرٍ محمَّدَ بن المظفَّر بن محتاج على جيوشِ خراسان، وردَّ إليه تدبيرَ الأمور بنواحي خُراسان جميعها، وعاد إلى بخارى مقرِّ عِزِّه، وكرسيِّ مُلكِه، وكان سبب تقدُّم محمّد بن المظفَّر أنَّه كان يومًا عند السعيد، وهو يحادِثُه في بعض مهمَّاتِه خاليًا، فلَسَعَته عقربٌ في إحدى رجليه عدَّةَ لسعات، فلم يتحرَّكْ، ولم يَظهَرْ عليه أثَرُ ذلك، فلمَّا فرغ من حديثه، وعاد محمَّدٌ إلى منزله، نزع خُفَّه فرأى العقربَ فأخذها، فانتهى خبَرُ ذلك إلى السعيد، فأُعجِبَ به وقال: "ما عجبتُ إلَّا من فراغِ بالك لتدبيرِ ما قلتُه لك، فهلَّا قمتَ وأزلتَها؟! فقال: ما كنتُ لأقطعَ حديثَ الأميرِ بسبَبِ عَقربٍ، وإذا لم أصبِرْ بين يديك على لسعةِ عَقربٍ، فكيف أصبِرُ وأنا بعيدٌ منك على حدِّ سيوفِ أعداء دولتِك إذا دفعْتَهم عن مملكَتِك؟" فعظم محلُّه عنده، وأعطاه مائتَي ألفِ درهم.