كانت موريتانيا تتبَعُ دولة السنغال وتتبَعُ المغربَ، فبعض مناطق موريتانيا تتبع السنغال، وبعضها يتبع المغرب، وكانت عبارةً عن إماراتٍ صغيرة وغيرِ موحَّدة فيما بينها؛ لذا كانت تخضَعُ للدول الكبيرة التي تقوم في المنطقة، وهذا ما شجَّع الصليبيين المستعمرين للتقَدُّم من السواحل إلى الداخلِ، ولم يجد الاستعمارُ الفرنسيُّ الذي سيطر على المغرب إلَّا إمارات مفكَّكة، وخاصةً بعد أن أُعطِيَت منطقة السنغال إلى فرنسا إثرَ الحروب النابليونية، وأخذ الفرنسيون يتحرَّكون بحذَرٍ نحوَ الداخل عبرَ نهر السنغال، واستطاع الفرنسيون حمايةَ بعضِ القبائل المتنازِعة، فكان هذا أوائِلَ التدخل، وكانت أسبانيا أيضًا منافِسةً لفرنسا وبَقِيَت المعارك بين القبائل والفرنسيين أكثَرَ مِن عامين حتى تمكَّن الفرنسيون من بَسطِ نفوذِهم على منطقةِ أدرار، وأمرُ المغرب كان قد ضَعُف أيضًا، وكان أحمد هبة الله ابن الشيخ ماء العينين في منطقة موريتانيا دعا للجهادِ وحاول الهجومَ على مراكش، فدخلها عَنوةً وبويع سلطانًا للمغرب الأقصى، ثم أرسلت فرنسا جيشًا اندحر أمامَ قوات هبة الله، ثم عادت مرةً أخرى فأرسَلَت جيشًا ضخمًا أخرجه من مراكش، وطاردته، وبمساعدة عدة جنود من المغرب والجزائر والسنغال ومالي وبدعم الطيران والمدفعية وصل الجيشُ إلى تنزيت وتمكَّنَ الفرنسيون منها.
حدثت هذه المعركة بين الملك عبد العزيز وبني هاجر والقبائل التابعة له وبين قبيلة العجمان بالقرب من جبل كنزان في الأحساء عندما اعتدى العجمان على عشائر مبارك بن الصباح فنهبوا مواشيه فكتب ابن الصباح إلى عبدالعزيز يطلب منه تأديبهم ورد المنهوبات فأجابه عبدالعزيز أن العجمان لا يرجعون ما ينهبون إلا بحرب، وإذا عزمت عليّ حربهم تعطيني عهد الله وميثاقه ان تعيني بالمال والرجال وأن لا تسلك معهم مسلكا غير مسلكي ولا تستقبلهم إذا لجأوا إليك ولا تتوسط بالصلح بيني وبينهم فعاهده مبارك على ذلك وأعطاه عهد الله فسار عبدالعزيز بقواته إلى الأحساء والتقى بالعجمان عند كنزان فجُرح عبدالعزيز وقتل شقيقه سعد وانهزمت قواته إلى الأحساء فلحق بهم العجمان وحاصروهم في الأحساء ثلاثة أشهر فأرسل إلى أبيه في الرياض يطلب المدد وإلى الشيخ مبارك يستنجده. فوصلت نجدة من أهل نجد بقيادة أخيه محمد بن عبدالرحمن ومعه ابن عمه سعود الكبير أما ابن الصباح فقد تأخر في إرسال النجدة فأرسل له الملك عبدالعزيز يذكره بالعهد، فجهز له ابنه سالم بقوة صغيرة 150 رجل من الحضر و200 من البدو فجاءوا الأحساء وانضموا إلى جيش الملك عبدالعزيز.
وجَّه الرَّئيسُ الأمريكي جون كندي رسائلَ إلى رئيس الوزراء السعودي الأمير فيصل، وملك الأردن حسين، ورئيس مصر عبد الناصر، والرئيس اليمني عبد الله السلال, ضمَّنَها تصوراتِه حول سُبُل حلِّ نزاع اليمن. وقد تجاهل الرئيسُ الأمريكي الإمامَ محمد البدر وحاشيته. واقترح كندي على مصر سَحْبَ قواتها المسلَّحة من اليمن, وفي المقابل اقترح على السعودية والأردن ومشايخ وسلاطين اتحاد جنوب الجزيرة وقْفَ المساعدات للمَلَكيِّين قواتِ الإمام البدر. وفي اليوم نفسِه أعلن الأميرُ فيصل عن رفضه اقتراحَ كندي. وفي اليوم التالي رفض الرئيس جمال عبد الناصر بدوره اقتراحَ كندي, وأعلن أنَّه لن يوافق على سحب القوَّات المصرية من أراضي اليمن إلَّا إذا زال الخطرُ الذي يهدِّد اليَمَن الجُمهوري! ولم يوافِقْ على مبادرة كندي إلا الرئيس اليمني عبد الله السلال. وفي خاتمة المطاف اعتبرت واشنطن قضيةَ الملكيين مَيؤوسًا منها. وفي 14 ديسمبر/ ديسمبر 1962 أعلنت حكومةُ الجمهورية العربية اليمنية أنَّها ستُغلِق السفاراتِ والبَعَثاتِ الدبلوماسية لجميع البلدان التي لم تعترفْ بالجمهورية اليمنية. وفي 19 ديسمبر أعلنت وزارةُ الخارجية الأمريكية رسميًّا عن اعتراف الولاياتِ المتحدة بالجُمهورية اليَمَنيَّة.
تُوفِّيَ الشيخُ الدكتور عمر بن سليمان الأشقر بالعاصمةِ الأردنِّية عَمَّانَ بعد معاناة مع المرض عن عمر يناهز (72) عامًا. وقد نعاهُ عددٌ كبير من المشايخِ والدُّعاة وطُلَّاب العلم. والشيخُ رحمه الله وُلد عامَ (1940م) بقرية بَرقة التَّابعة لمُحافظة نابُلُس بفِلَسطين، ثم خَرَج من فِلَسطين وهو ابنُ ستَّ عشرةَ سنةً إلى المدينة النبويَّة بالمملكة العربية السعودية، وأكمَلَ دِراستَه الثانويةَ العامَّةَ هناك، ثمَّ أكمَلَ الدراسةَ في الجامعةِ الإسلامية بالمدينة النبويَّة، وحَصَل على البكالوريوس من كليَّةِ الشريعَةِ، ومَكَث فيها فترةً من الزمن ثمَّ غادر إلى الكُويت عامَ (1966م). وحَصَل على الماجستير والدكتوراه من الأزهَرِ، وعَمِل مدرسًا في كليَّة الشَّريعة بجامِعَة الكُويت. وبَقِيَ فيها حتى عام (1990م)، ثمَّ خرج منها إلى المملكةِ الأردُنِّية فعُيِّن أستاذًا في كليَّة الشريعة بالجامعة الأردُنِّية وبعدَها عميدًا لكليَّة الشَّريعة بجامعة الزرقاء، ثم تفرَّغ للبَحثِ والكِتابةِ، وأصدر عددًا من الكُتبِ والأبحاثِ. ومن مشايِخِه: الشيخ د. محمد بن سليمان الأشقر وهو أخوه الكبيرُ وشيخُه الأولُ، والشيخُ عبدُ العزيز بنُ عبد الله بن باز، والشيخُ محمد ناصر الدين الألبانيُّ، والشيخُ عبدُ الجليل القرقشاوي من مشايخِ الأزهرِ.
وُلد الشَّيخُ عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ الخالِقِ في محافظةِ المنوفيَّةِ بمصرَ بتاريخ 23 رمضان 1358هـ الموافق 5 نوفمبر 1939م.
درس الشَّيخُ المرحلةَ الجامعيَّةَ في كليَّةِ الشريعةِ بالجامعةِ الإسلاميَّةِ في المدينةِ المنوَّرةِ، وتتلمذ على يدِ الشَّيخِ عبدِ العزيزِ بنِ باز، والشَّيخِ محمَّد ناصر الدين الألباني والشَّيخِ عبد الرَّزَّاق عفيفي، وغيرهم من العلماء، انتقل إلى الكويت عام ١٣٨٥هـ الموافق 1965م، حيثُ عَمِلَ مُدرسًا بمدارس الكويتِ في الفترةِ ما بين ١٣٨٥هـ - 1410هـ الموافق 1965م - 1990م. وبعدها عَمِلَ في مجالِ البَحثِ العِلميِّ في جمعيَّةِ إحياءِ التراثِ الإسلاميِّ بالكويتِ.
له عددٌ من المؤلَّفاتِ؛ منها:
الشُّورى في ظِلِّ نظامِ الحُكمِ الإسلاميِّ، السَّلَفيُّون والأئمَّة الأربعة رضي الله عنهم، أضواءٌ على أوضاعِنا السياسيَّةِ، القضايا الكُلِّيَّة للاعتقاد في الكتابِ والسُّنَّة،
الأصولُ العِلميَّةُ للدَّعوةِ السَّلَفيَّة، الرَّدُّ على من أنكر توحيدَ الأسماءِ والصِّفاتِ، الطريقُ إلى ترشيدِ حركةِ البعثِ الإسلاميِّ، منهجٌ جديدٌ لدراسة التوحيد، العَقَباتُ التي تعترضُ بناءَ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ، فصولٌ من السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، الإلحادُ أسبابُ هذه الظاهرةِ وطرقُ علاجِها، لمحاتٌ من حياةِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ.
تُوفيَ عبدُ الرَّحمنِ عبد الخالق يومَ الثلاثاءِ في مُستشفى الصباح بالكويت.
في عاشر جمادى الآخرة خرجت التجريدة- جيش بدون رجالة- من مصرَ إلى قتال العشير والعُربان، وسببه كثرةُ فسادهم ببلاد القُدس ونابلس، وكان قد قُبِضَ على أدى بن فضل أمير جرم، وسُجِن بقلعة الجبل، ثم أُفرِجَ عنه بعناية الوزير منجك، فجمع أدى وقاتل سنجر بن علي أمير ثعلبة، فمالت حارثة مع أدى، ومالت بنو كنانة مع سنجر، وجرت بينهم حروبٌ كثيرة، قُتِلَ فيها خلائق، وفسدت الطرقاتُ على المسافرين، فخرجت إليهم عساكِرُ دمشق، فلم يَعبؤوا بهم، فلمَّا وَلِيَ الأمير يلجك غزة استمال أدى بعد أيام، وعَضَّده على ثعلبة، واشتدت الحروب بينهم، وفسدت أحوالُ الناس، فركب يلجك بعسكر غزة ليلًا، وطرَقَ ثعلبة، فقاتلوه وكَسَروه كسرةً قبيحة، وألقَوه عن فرسه إلى الأرض، وسَحَبوه إلى بيوتهم فقام سنجر بن علي أمير ثعلبة عليهم حتى تركوا قَتْلَ يلجك، بعد أن سَلَبوا ما عليه، وبالَغوا في إهانته، ثم أفرجوا عنه بعد يومينِ، فعاد يلجك إلى غزة، وقد اتَّضَع قَدرُه وتَقَوَّى العشير بما أخذوه من عسكره، وعَزَّ جانبهم، فقصدوا الغور، وكبسوا القصيرَ المعيني، وقتلوا به جماعةً كثيرة من الجبلية وعمال المعاصر، ونهَبوا جميعَ ما فيه من النقود والأعمال والعسكر وغيره، وذبحوا الأطفالَ على صدر الأمهات، وقطعوا الطُّرُقات، فلم يَدَعوا أحدًا يمر من الشام إلى مصر حتى أخَذوه، وقصدوا القدس، فخلى الناسُ منه ثم قصدوا الرملةَ ولِدَّ فانتهبوها، وزادوا في التعدي، وخرجوا عن الحد، فوقع الاتفاقُ على ولاية الأمير سيف الدين دلنجي نيابة غزة، وأبقى على إقطاعه بمصر، وخلع عليه وأخرج إليها وكَتَب بخروج ابن صبح من دمشق على ألفي فارس، وتجهَّز الوزير منجك ومعه ثلاثةُ أمراء من المقَدَّمين في يوم السبت الرابع عشر، وبينما الوزير ومن معه في أُهبة السفر إذ قدم الخبر أن الأمير قطيلجا توجَّه من حماة إلى نيابة حلب، عوضًا عن الأمير أرقطاي, وقد قَدَّم الوزير النجابةَ لكشف أخبار العشيرة، فلما رحل عن بلبيس عادت نجابتُه بأن ثعلبة ركبت بأجمعها، ودخلت بريَّة الحجاز، لَمَّا بلَغَهم مسير العسكر إليهم، فنهب أدى بن فضل كثيرًا منهم، وانفرد في البلاد بعشيرة، فعاد الوزيرُ بمن معه، وعبَرَ القاهرة في الثاني عشر بعد أربعة أيام، ثم في مستهَلِّ رجب قَدِمَ الخبر بأن الأمير دلنجي نائب غزة بلغه كثرةُ جميع العشيرة، وقَصْدهم نهب لد والرملة، فركب إليهم ولقيهم قريبًا من لد، منزل تجاههم، وما زال يراسِلُهم ويخدعهم حتى قدم إليه نحو المائتين من أكابِرِهم، فقبضهم وعاد إلى غزة، وقد تفَرَّق جمعهم، فقدم الأمير قبلاي غزة، واحتال على أدى حتى قدم عليه، فأكرمه وأنزله، ثم ردَّه بزوادة إلى أهلِه فاطمأنت العشرات والعُربان لذلك، وبقُوا على ذلك إلى أن أهلَّ رمضان، ثم حضر أدى في بنى عَمِّه لتهنئة قبلاي بشهر الصومِ، فساعة وصوله إليه قُبِضَ عليه وعلى بني عمه الأربعة، وقَيَّدَهم وسَجَنَهم، وكتب إلى سنجر بن علي: "بأني قد قبضت على عدوِّك ليكونَ لي عندك يدٌ بيضاء، فسُرَّ سنجر بذلك، وركب إلى قبلاي، فتلقَّاه وأكرمه، فضَمِنَ له سنجر درك البلاد، ورحل قبلاي من غده ومعه أدى وبنو عمه يريد القاهرة، فقدم في يوم الاثنين حادي عشر، فضربوا على باب القلة بالمقارع ضَربًا مبرحًا وألزم أدى بألفِ رجل ومائتي ألف درهم، فبَعَث إلى قومه بإحضارها، فلما أُخِذَت سُمِّرَ هو وبنو عمه في يوم الاثنين خامس عشر وقت العصر، وسُيِّروا إلى غزة صحبة جماعةٍ من أجناد الحلقة، فوُسِّطوا- قُتلوا- بها، فثار أخو أدى، وقَصَد كبس غزة، فخرج إليه الأميرُ دلنجي ولَقِيَه على ميل من غزة، وحاربه ثلاثة أيام، وقتَلَه في اليوم الرابع بسَهمٍ أصابه، وبعث دلنجي بذلك إلى القاهرة، فكتب بخروج نائب صفد ونائب الكرك لنجدته.
لمَّا جاء أصحابُ الجَملِ إلى البَصرَةِ لِتَأليفِ الكَلِمَةِ والتَّوَصُّلِ بذلك إلى إقامةِ الحَدِّ على قَتَلَةِ عُثمانَ وينظروا في جمعِ طَوائفِ المسلمين، وضَمِّ تَشَرُّدِهِم حتَّى لا يَضْطَرِبوا فيَقتَتِلوا، حَرَّضَ مَن كان بها مِن المُتَأَلِّبِين على عُثمانَ النَّاسَ، وقالوا: اخْرُجوا إليهم حتَّى تَروا ما جاءوا إليه. فبعَث عُثمانُ بنُ حَنيفٍ -والي البَصرَةِ مِن قِبَلِ عَلِيِّ بن أبي طالبٍ- حَكيمَ بنَ جَبَلَةَ العَبديَّ -أحدَ قَتَلَةِ عُثمانَ بن عفَّانَ- لِيمنَعَ أصحابَ الجَملِ مِن دُخولِ البَصرَةِ، فلَقِيَهُم في الزَّابوقَةِ –مَوضِع قَريب مِن البَصرَةِ كانت فيه وَقعةُ الجَملِ في دورِها الأوَّلِ- فقام طَلحةُ ثمَّ الزُّبيرُ يَخْطُبانِ في أَنصارِ المُعَسْكَرَيْنِ، فأَيَّدهُما أصحابُ الجَملِ، ورفَضهُما أصحابُ عُثمانَ بن حَنيفٍ، ثمَّ قامت أُمُّ المؤمنين عائشةُ تَخطُب في المُعَسْكَرَيْنِ، فثبَت معها أَصحابُ الجَملِ، وانحازَت إليها فِرقةٌ مِن أَصحابِ عُثمانَ بن حَنيفٍ، وبَقِيَت فِرقةٌ أُخرى مع ابنِ جَبَلَةَ، واخْتَلف الفَريقان وكَثُرَ بينهما اللَّغَطُ، ثمَّ تَراموا بالحِجارَةِ، فقام حَكيمُ بن جَبلةَ بِتَأْجِيجِ الفِتنَةِ والدَّعوةِ إلى القِتالِ، وأخَذ يَسُبُّ أُمَّ المؤمنين عائشةَ، ويَقتُل كُلَّ مَن أَنكَر عليه مِن الرِّجالِ والنِّساءِ، وكان دُعاةُ أصحابِ الجَملِ يَدعون إلى الكَفِّ عن القِتالِ، فلمَّا لم يَسْتَجِبْ حَكيمُ بن جَبلةَ وأنصارُهُ لدَعْوَى الكَفِّ عن القِتالِ كَرَّ عليهم أصحابُ الجَملِ، فقُتِلَ حكيمُ بن جَبلةَ، ثمَّ اصْطَلح أصحابُ الجَملِ مع عُثمانَ بن حَنيفٍ على أن تَكونَ دارُ الإمارَةِ والمسجدُ الجامعُ وبيتُ المالِ في يَدِ ابنِ حَنيفٍ، ويَنزِل أصحابُ الجَملِ في أيِّ مكانٍ يُريدونَهُ مِن البَصرَةِ، وقِيلَ: إنَّ حَكيمَ بن جَبلةَ قُتِلَ بعدَ هذا الصُّلحِ لمَّا أَظهَر المُعارضةَ.
اجتمع الشَّاكرية وأصحابُ الفروض إلى دار محمَّد بن عبدالله بن طاهر أميرِ العراق يطلبونَ أرزاقَهم، فكتب إلى أمير المؤمنين بذلك، فكتب الخليفة في الجواب: إن كنتَ تريد الجندَ لنفسِك فأعطِهم أرزاقَهم، وإن كنتَ تريدُهم لنا فلا حاجة لنا فيهم؛ فشَغَّبوا عليه، وأخرجَ لهم ألفي دينارٍ، ففُرِّقَت فيهم فسكتوا، ثم اجتمعوا مرَّةً أخرى بالسِّلاح والأعلام والطبول، وجمع محمَّد أصحابَه في داره, واجتمع إلى أولئك (المشغِّبين) خلقٌ كثير، وكان رئيسَهم أبو القاسم عبدون بن الموفَّق، وكان من نوَّاب عبيدالله بن يحيى بن خاقان، فحثَّهم على طلب أرزاقِهم، فحصل بينهم وبين أصحابِ محمدٍ قتالٌ، وظهروا على أصحابِه، ولَمَّا رأى ابن طاهر أنَّ الجندَ قد ظهروا على أصحابِه أمرَ بالحوانيت التي على باب الجِسرِ أن تُحرَق، فاحترق للتجَّار متاعٌ كثير، فحالت النارُ بين الفريقين، ورجع الجندُ إلى مُعسكرهم, ثم إنَّ ابنَ طاهر أتاه في بعض الأيامِ رجُلان من الجند، فدلَّاه على عورةِ القومِ، فأمر لهما بمئتي دينارٍ، وأمر الشاه بن ميكال وغيرَه من القواد في جماعةٍ بالمسيرِ إليهم، فسار إلى تلك الناحية، وكان أبو القاسم، وابن الخليل- وهما المقَدَّمان على الجند- قد خافا مُضِيَّ ذَينك الرجُلين، وقد تفرق الناسُ عنهما، فسار كلُّ واحد منهما إلى ناحية، وأما ابن الخليل فإنَّه لقي الشاه بن ميكال ومن معه، فصاح بهم، وصاح أصحابُ محمد، وصار في وسَطِهم، فقُتِل، وأما أبو القاسم فإنَّه اختفى فدُلَّ عليه، فأُخذ وحُمل إلى ابن طاهر، وتفَرَّق الجند من باب حرب، ورجَعوا منازِلَهم، وقُيِّدَ أبو القاسِم وضُرِبَ ضربًا مبرِّحًا فمات منه.
كان ابتداءُ القرامِطةِ بناحية البحرين أنَّ رجُلًا يُعرفُ بيحيى بن المهدي قصدَ القَطيفَ فنزل على رجلٍ يُعرَفُ بعليِّ بن المعلي بن حمدان، مولى الزياديِّين، وكان مُغاليًا في التشيُّع، فأظهَرَ له يحيى أنَّه رسولُ المهدي، وكان ذلك سنة 281، وذكَرَ أنه خرج إلى شيعتِه في البلاد يدعوهم إلى أمرِه، وأنَّ ظهورَه قد قَرُب، فوجه عليُّ بن المعلي إلى الشيعةِ مِن أهل القطيف فجمَعَهم، وأقرأهم الكتابَ الذي مع يحيى بن المهدي إليهم من المهديِّ، فأجابوه، وأنهم خارجونَ معه إذا أظهر أمرَه، ووجَّه إلى سائر قرى البحرين بمثلِ ذلك فأجابوه، وكان فيمن أجابه أبو سعيدٍ الجنابي. كان يبيعُ للنَّاسِ الطَّعام، ويَحسِبُ لهم بيعَهم، ثم غاب عنهم يحيى بن المهديِّ مُدَّة، ثم رجع ومعه كتابٌ يزعُمُ أنَّه من المهدي إلى شيعته، فيه: قد عرَّفَني رسولي يحيى بن المهدي مسارعتَكم إلى أمري، فليدفَعْ إليه كل رجل منكم ستةَ دنانيرَ وثُلُثَين، ففعلوا ذلك. ثم غاب عنهم، وعاد ومعه كتابٌ فيه أنِ ادفَعوا إلى يحيى خُمسَ أموالِكم، فدفعوا إليه الخُمُس. وكان يحيى يتردَّدُ في قبائل قيس، ويوردُ إليهم كتبًا يزعُمُ أنَّها مِن المهدي، وأنَّه ظاهِرٌ، فكُونوا على أُهبَةٍ. وحكى إنسانٌ منهم يقالُ له إبراهيم الصائغ أنَّه كان عند أبي سعيدٍ الجنابي، وأتاه يحيى، فأكلوا طعامًا، فلما فرغوا خرج أبو سعيدٍ مِن بيتِه، وأمر امرأتَه أن تدخُلَ إلى يحيى، وألَّا تمنَعَه إن أرادها، فانتهى هذا الخبَرُ إلى الوالي، فأخذ يحيى فضرَبَه، وحلق رأسَه ولحيَتَه، وهرب أبو سعيدٍ الجنابي إلى جنابا، وسار يحيى بن المهدي إلى بني كلابٍ، وعَقيل، والخريس، فاجتمعوا معه ومع أبي سعيدٍ، فعَظُمَ أمرُ أبي سعيد.
كانت حَرْبٌ بين الناصرِ بن علناس بن حمَّادٍ ومَن معه مِن رِجالِ المَغارِبَةِ مِن صنهاجة ومِن زناتة ومِن العَربِ: عَدِيّ والأَثبَج، وبين رِياحٍ، وزُغْبَة، وسُلَيم، ومع هؤلاء المُعِزُّ بن زيري الزناتي، على مَدينةِ سَبتَة، ولمَّا رَحلَ المُعِزُّ من القيروان وصبرة إلى المَهدِيَّة تَمكَّنَت العَربُ، ونَهبَت النَّاسَ، وخَرَّبَت البِلادَ، فانتَقلَ كَثيرٌ مِن أَهلِها إلى بِلادِ بني حمَّاد لِكَونِها جِبالًا وَعْرَةً يُمكِن الامتِناعُ بها من العَربِ، فعُمِّرَت بِلادُهم، وكَثُرَت أَموالُهم، وفي نُفوسِهم الضَّغائِنُ والحُقودُ مِن باديس، ومَن بَعدَه مِن أَولادِهم، يَرِثُه صَغيرٌ عن كَبيرٍ، ووَلِيَ تَميمُ بنُ المُعِزِّ بعدَ أَبيهِ، فاستَبدَّ كلُّ مَن هو ببَلدٍ وقَلعةٍ بمَكانِه، وتَميمٌ صابرٌ يُدارِي ويَتَجَلَّد، واتَّصلَ بتَميمٍ أن الناصرَ بنَ علناس يَقَعُ فيه في مَجلسِه ويَذُمُّهُ، وأنَّه عَزَمَ على المَسيرِ إليه لِيُحاصِرَهُ بالمَهديَّة. وأنَّه قد حالَفَ بعضَ صنهاجة، وزناتة، وبني هلال؛ لِيُعينُوهُ على حِصارِ المَهديَّة. فلمَّا صَحَّ ذلك عنده أَرسلَ إلى أُمراءِ بني رِياحٍ، فحينئذٍ رَحلَت رِياحٌ وزناتة جَميعُها، وسار إليهم الناصرُ بصنهاجة، وزناتة، وبني هلال، فالتَقَت العَساكرُ بمَدينةِ سَبْتَة، فحَمَلَت رِياحٌ على بني هِلالٍ، وحَمَلَ ابنُ المُعِزِّ على زناتة، فانهَزَمت الطائفتانِ، وتَبِعَهُم عَساكرُ الناصرِ مُنهزِمينَ، ووَقعَ فيهم القَتْلُ، فقُتِلَ فيمَن قُتِلَ القاسمُ بن علناس، أخو الناصرِ في نَفَرٍ يَسيرٍ، وغَنِمَت العَرَبُ جَميعَ ما كان في العَسكرِ مِن مالٍ وسِلاحٍ ودَوابٍّ وغيرِ ذلك، فاقتَسموها على ما استَقرَّ بينهم، وبهذهِ الوَقعَةِ تَمَّ للعَربِ مُلْكُ البِلادِ، وأَرسَلوا الأَلوِيَةَ والطُّبولَ وخِيَمَ النَّاصرِ بِدَوابِّها إلى تَميمٍ، فرَدَّها وقال: يَقْبُحُ بي أن آخُذَ سَلَبَ ابنِ عَمِّي! فأَرْضَى العَربَ بذلك.
دَخَلَ السُّلطانُ ملكشاه بغدادَ في ذي الحجَّةِ، بعدَ أن فَتَحَ حَلَبَ وغَيرَها من بلادِ الشَّامِ والجَزيرةِ، وهي أَوَّلُ مَرَّةٍ يَدخُل فيها بغدادَ، ونَزلَ بدارِ المَملكةِ، وأَرسلَ إلى الخَليفةِ هَدايا كَثيرةً، فقَبِلَها الخَليفةُ، ومِن الغَدِ أَرسلَ نِظامُ المُلْكِ إلى الخَليفَةِ خَدمةً كَثيرةً، فقَبِلَها، وزارَ السُّلطانُ ونِظامُ المُلْكِ مَشهدَ موسى بن جَعفرٍ، وقَبْرَ مَعروفٍ، وأحمدَ بن حَنبلٍ وأبي حَنيفةَ، وغيرَها من القُبورِ المَعروفَةِ، وطُلِبَ نِظامُ المُلْكِ إلى دارِ الخِلافَةِ لَيلًا، فمَضَى في الزَّبْزَبِ-سفينة صغيرة- وعاد من لَيلتِه، ومَضَى السُّلطانُ ونِظامُ المُلْكِ إلى الصَّيدِ في البَرِّيَّةِ، فزارا مَشهدَ أَميرِ المؤمنينَ عَلِيٍّ، ومَشهدَ الحُسينِ، ودَخلَ السُّلطانُ البَرَّ، فاصطادَ شَيئًا كَثيرًا من الغِزلان وغَيرِها، وأَمرَ ببِناءِ مَنارةَ القُرونِ بالسبيعيِّ، وعاد السُّلطانُ إلى بغدادَ، ودَخلَ الخَليفةُ، فخَلَعَ عليه الخِلَعَ السُّلطانيَّةَ، ولمَّا خَرجَ من عندِه لم يَزَل نِظامُ المُلْكِ قائمًا يُقدِّم أَميرًا أَميرًا إلى الخَليفةِ، وكلَّما قَدَّمَ أَميرًا يقول: هذا العَبدُ فلان بن فلان، وأَقطاعُه كذا وكذا، وعِدَّةُ عَسكرِه كذا وكذا، إلى أن أتى على آخرِ الأُمراءِ، وفَوَّضَ الخَليفةُ إلى السُّلطانِ أَمْرَ البلادِ والعِبادِ، وأَمَرَهُ بالعَدلِ فيهم، وطَلَبَ السُّلطانُ أن يُقَبِّلَ يَدَ الخَليفةِ، فلم يُجِبهُ، فسأل أن يُقَبِّلَ خاتَمَه، فأَعطاهُ إيَّاهُ فقَبَّلَهُ، ووَضعَهُ على عَينِه، وأَمَرَهُ الخَليفةُ بالعَوْدِ فعادَ، وخَلَعَ الخَليفةُ أيضًا على نِظامِ المُلْكِ، ودَخلَ نِظامُ المُلْكِ إلى المدرسةِ النِّظاميَّةِ، وجَلسَ في خَزانَةِ الكُتُبِ، وطالَعَ فيها كُتُبًا، وسَمِعَ الناسُ عليه بالمدرسةِ جُزْءَ حَديثٍ، وأَمْلَى جُزءًا آخرَ، وأَقامَ السُّلطانُ ببغداد إلى صَفَر سَنةَ 480هـ وسارَ منها إلى أصبهان.
قدم الحَسنُ بن الصَّبَّاحِ، رَئيسُ الطائفةِ الباطِنيَّةِ من الإسماعيليةِ، إلى مصر في زِيِّ تاجرٍ، واتَّصلَ بالمُستَنصِر واختَصَّ به، والتَزَمَ أن يُقيمَ له الدَّعوةَ في بلادِ خراسان وغيرِها من بلادِ المَشرِق. وكان الحسنُ هذا كاتِبًا للرَّئيسِ عبدِ الرَّزَّاق بن بهرام بالرَّيِّ، فكاتَبَ المُستَنصِر، ثم قَدِمَ عليه، ثم إن المُستَنصِر بَلغَه عنه كلامٌ، فاعتَقَلَه، ثم أَطلَقَه. وسَألهُ ابنُ الصَّبَّاحِ عن عِدَّةِ مَسائلَ مِن مَسائلِ الإسماعِيليَّة فأَجابَ عنها بِخَطِّهِ. ويُقالُ: إنه قال له: يا أَميرَ المؤمنين، مَن الإمامُ مِن بَعدِك؟ فقال له: وَلَدِي نزار. ثم إنه سار من مصر بعدَ ما أَقامَ عند المُستَنصِر مُدَّةً وأَنعمَ عليه بِنِعَمٍ وافِيَةٍ. فلمَّا وَصلَ إلى بِلادِه نَشَرَ بها دَعوةَ المُستَنصِر وبَثَّهَا في تلك الأَقطارِ، وحَدَثَ منه مِن البَلاءِ بالخَلْقِ ما لا يُوصَف، وأَخذَ ابنُ الصَّبَّاح أَصحابَه بجَمْعِ الأَسلِحَةِ ومُواعَدتِهم، حتى اجتَمَعوا له في شعبان سنة 483هـ، ووَثَبَ بهم فأَخذَ قَلعةَ ألموت، وكانت لِمُلوكِ الديلم قبلَ ظُهورِ الإسلام، وهي مِن الحَصانَةِ في غايةٍ، واجتَمعَ الباطِنيَّةُ بأصبهان مع رَئيسِهم وكَبيرِ دُعاتِهم أحمدَ بن عبدِ المَلِكِ بن عطاش، ومَلَكوا قَلعَتَينِ عَظيمَتينِ؛ إحداهما يُقال لها: قَلعةُ الدر. وكانت لأبي القاسم دلف العجلي، وجَدَّدَها وسَمَّاها ساهور؛ والقَلعةُ الأُخرى تُعرَف بقَلعَةِ جان، وهما على جَبلِ أصبهان. وبَثَّ الحَسنُ بنُ الصَّبَّاح دُعاتَه، وأَلقَى عليهم مَسائلَ الباطِنيَّة، فساروا من قَلعةِ ألموت، وأَكثروا من القَتلِ في الناسِ غَيْلَةً، وكان إذ ذاك مَلِكُ العِراقِيِّين السُّلطانَ ملكشاه المُلَقَّبُ جَلالُ الدِّين بن ألب أرسلان، فاستَدعَى الإمامُ أبا يوسف الخازن لِمُناظَرَةِ أَصحابِ ابنِ الصَّبَّاح؛ فناظَرَهم؛ وأَلَّفَ كِتابَه المُسَمَّى بـ((المستظهري))، وأَجابَ عن مَسائِلِهم. واجتَهَدَ ملكشاه في أَخذِ قَلعَتِهم فأَعياهُ المَرضُ وعَجَزَ عن نَيْلِها.
كان الخليفة العباسي قد ولَّى السلطان محمدًا المُلكَ، واستنابه في جميع ما يتعلَّقُ بأمر الخلافة دون ما أغلق عليه الخليفةُ بابَه، ثم خرج السلطانُ محمد ومعه أخوه سنجر قاصدًا قتال أخيه بركيارق، وفي هذه السنة ثامن جمادى الآخرة كان المصاف الخامس بين السلطان بركيارق والسلطان محمد, فأقبل بركيارق في خمسة عشر ألفًا فحاصره في أصبهان وعددُ أصحاب محمد قليل، فضاقت الميرةُ على محمد، فقسط على أهل البلد على وجه القرض فأخذ مالًا عظيمًا، ثم عاود عسكره الشغب، فأعاد التقسيطَ بالظلم والعذاب، وبلغ الخبز عشرةَ أَمْناء بدينار، ورطل لحم بربع دينار، ومائة منًا تبنًا بأربعة دنانير، وقُلِعت أخشاب المساجد وأبواب الدكاكين، هذا والقتالُ على أبواب البلد، وينال صاحِبُ محمد يحرق الناسَ بالمصادرة، وعسكر بركيارق في رُخصٍ كثير، فاجتمع على أهل أصبهان الخوف والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم خرج السلطان محمد من أصبهان هاربًا فأرسل أخوه في أثره مملوكَه إياز، فلم يتمكَّن من القبض عليه، ونجا بنفسه سالمًا، وعاد إياز فأخبر بركيارق فلم يَسُرَّه سلامة أخيه, وفي يوم الاثنين ثالث عشرين ربيع الأول أعيدت الخطبة لبركيارق فخطب في الديوان، ثم تقدم إلى الخطباء في السابع والعشرين من هذا الشهر بأن يقتصروا على ذِكرِ الخليفة، ولا يذكروا أحدًا من السلاطين المختلفين, ثم التقى السلطان محمد وبركيارق في يوم الأربعاء في جمادي الآخرة، فوقعت الحربُ بينهما فانهزم محمد إلى بعض بلاد أرمينية على أربعين فرسخًا من الوقعة، ثم سار منها إلى خلاط ثم عاد إلى تبريز، ومضى بركيارق إلى زنجان، ثم في العام التالي صار الصلحُ بينهما بعدما تحوَّل الأمن إلى خوفٍ، وبدا السلبُ والنهب والقتلُ والضعفُ.
كان صنجيل الفرنجي قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحصرها، فحيث لم يقدر أن يملكها بنى بالقرب منها حصنًا وبنى تحته ربضًا، وأقام مراصد لها، منتظرًا وجود فرصة فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة، ومعه جماعة من القمامصة -كبار القساوسة- والفرسان، فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيام ومات، وحُمل إلى القدس فدُفن فيه، ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرةَ إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس، فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولًا، فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظَفِر المسلمون بقطعة من الروم فأخذوها، وأسروا من كان بها وعادوا، ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج عدةَ سنين، فعدمت الأقوات بها، وخاف أهلها على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد، ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد سقمان بن أرتق فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق وأجرى ابن عمار الجرايات على الجند والضَّعَفة، فلما قلَّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالًا مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادَرَنا، فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا لهم أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جميعًا على ذلك الجانب يحفظُه من دخول شيء إلى البلد، فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالًا كثيرًا ليسَلِّموا الرجلين إليه فلم يفعلوا، فوضع عليهما مَن قتلهما غيلةً.
خرج الكرج، وهم الخزر، إلى بلاد الإسلام، وكانوا قديمًا يُغيرون، فامتنعوا أيام السلطان ملكشاه إلى آخر أيام السلطان محمد، فلما كانت هذه السنة خرجوا ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم المجاورة لهم، فتكاتب الأمراء المجاورون لبلادهم، واجتمعوا، منهم: الأمير إيلغازي صاحب ماردين، ودبيس بن صدقة صاحب الحلة، وكان عنده، والملك طغرل بن محمد، وأتابكه كنتغدي، وكان لطغرل بلد أران، ونقجوان إلى أرس، فاجتمعوا وساروا إلى الكرج، فلما قاربوا تفليس، وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون ثلاثين ألفًا، التقوا واصطفَّت الطائفتان للقتال، فخرج من القفجاق مائتا رجل، فظنَّ المسلمون أنهم مستأمنون، فلم يحترزوا منهم، ودخلوا بينهم، ورموا بالنشاب، فاضطرب صفُّ المسلمين، فظنَّ من بعد أنها هزيمة، فانهزموا، وتبع الناس بعضهم بعضًا منهزمين، ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضًا، فقتل منهم عالم عظيم، وتبعهم الكفارُ عشرة فراسخ يقتُلون ويأسِرون، فقُتل أكثرهم، وأسروا أربعة آلاف رجل، ونجا الملك طغرل، وإيلغازي، ودبيس، وعاد الكرج فنهبوا بلاد الإسلام، وحصروا مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها، وعظم الأمر، وتفاقم الخطب على أهلها، ودام الحصار إلى سنة 515 فملكوها عَنوةً، وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكرج في طلب الأمان، فلم تُصغِ الكرج إليهما، ودخلوا البلد قهرًا وغلبة، واستباحوه ونهبوه، ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرِخين ومُستنصرين سنة ست عشرة وخمسمائة، فبلغهم أن السلطان محمودًا بهمذان، فقصدوه واستغاثوا به فسار إلى أذربيجان، وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكرًا إلى الكرج.