ظهر اختلالُ حالِ هارونَ بنِ خِمارَوَيه بنِ أحمد بن طولون بمصر، واختلَفَت القوَّاد، وطَمِعوا فانحَلَّ النظام، وتفَرَّقَت الكلمة، فأقاموا له أحدَ أمراءِ أبيه يديرُ الأمورَ ويُصلِحُ الأحوال، وهو أبو جعفرِ بن أبان، وكان عند والدِه وجَدِّه مُقَدَّمًا كبيرَ القَدرِ، فأصلحَ مِن الأحوالِ ما استطاع، وكان مَن بدمشق من الجُندِ قد خالفوا على أخيه جيشِ بنِ خِمارَوَيه، فلما تولى أبو جعفرٍ الأمورَ سَيَّرَ جيشًا إلى دمشق عليهم بدرُ الحمامي، والحسينُ بن أحمد الماذرائي، فأصلحا حالَها وقرَّرا أمور الشامِ، واستعملا على دمشقَ طغج بن جف واستعملا على سائر الأعمال، ورجعا إلى مصرَ والأمور فيها اختلالٌ، والقُوَّاد قد استولى كلُّ واحدٍ منهم على طائفةٍ مِن الجند وأخذَهم إليه، وهكذا يكون انتقاضُ الدُّوَل، وإذا أراد الله أمرًا فلا مَرَدَّ لحُكمِه، وهو سريعُ الحِسابِ.
هو بهاءُ الدَّولةِ أبو نَصرِ بنُ عَضدِ الدَّولة بنِ بُوَيه الديلميُّ الشيعيُّ، وهو المتحَكِّمُ حينئذٍ بالعراقِ، خلع بهاءُ الدَّولةِ الخليفةَ الطائِعَ للهِ، ونصَبَ القادرَ باللهِ مَكانَه. بينما كان هو خاضِعًا للسُّلطانِ محمودِ بنِ سبكتكين، مُداريًا له، مُؤثِرًا لمُصافاتِه بحُكمِ الجِوارِ. كان مرَضُه الذي مات فيه تتابع الصَّرَع مثل مرَضِ أبيه، وكان موتُه بأرجان، وحُمِلَ إلى مشهد أميرِ المؤمنين عليٍّ، فدُفِنَ عند أبيه عَضُدِ الدَّولة، وكان مُلكُه 24 سنة، وقيل 22 سنة، وعمره 42 سنة و9 أشهر، ولَمَّا توفِّيَ وَلِيَ المُلكَ بعده ابنُه سلطان الدَّولة أبو شُجاع، وسار من أرجان إلى شيراز، وولَّى أخاه جلالَ الدَّولةِ أبا طاهر بنَ بهاء الدَّولة البَصرةَ، وأخاه أبا الفوارِسِ كرمان. بقيَ أبو شجاعٍ في المُلكِ 12 سنة، وأَخَذَت الدَّولةُ البُويهيَّة تتناقَصُ خِلالَها.
ألزم الوزيرُ أبو القاسِمِ المَغربيُّ الأتراكَ والمولَّدينَ لِيَحلِفوا لمُشَرف الدَّولةِ البويهي، وكَلَّف مُشرف الدَّولة المُرتضى ونِظام الحضرتَينِ أبا الحَسَن الزينبي، وقاضي القضاة، وأبا الحَسَن بن أبي الشوارب، وجماعةً مِن الشهود بالحضور، فظَنَّ الخليفةُ القادِرُ بالله أنَّ التحالُفَ لِنيَّةٍ مَدخولةٍ في حَقِّه، فبعث من دارِ الخليفةِ مَن منع الباقينَ بأن يحلِفوا، وأنكر على المُرتَضى والزينبي وقاضي القُضاة حُضورَهم بلا إذنٍ، واستُدْعُوا إلى دارِ الخلافة، وأُظهِرَ عَزمُ الخليفة على الرُّكوبِ, وبلغ ذلك إلى مُشرف الدَّولة، وانزعج منه، فتردَّدَت الرسائلُ بين الخليفةِ ومُشرف الدَّولة باستحالةِ أن يكون هذا الحَلِفُ ضِدَّه، وانتهى الأمرُ إلى أن حلَفَ مُشرف الدَّولة على الطَّاعةِ والمُخالَصة للخَليفةِ، وكان وقوعُ اليَمينِ في يومِ الخميسِ الحاديَ عَشَر من صفَر، وتولى أخْذَها واستيفاءَها القاضي أبو جعفرٍ السمناني، ثم حلَفَ الخليفةُ لِمُشرف الدَّولة.
وَصلَ أَصحابُ السُّلطان طُغرُلبك إلى فارس، وبلغوا إلى شيراز، ونزلوا بالبَيضاءَ، واجتمع معهم العادلُ أبو منصور الذي كان وزيرَ المَلِكِ أبي كاليجار، ودَبَّرَ أَمرَهم، فقَبَضوا عليه وأخذوا منه ثلاثَ قِلاعٍ، وهي: قَلعةُ كَبْزَة، وقَلعةُ جُوَيْم، وقَلعةُ بَهَنْدَر، فأقاموا بها، وسار مِن الغُزِّ نحو مائتي رَجُلٍ إلى الأَميرِ أبي سعدٍ، أخي المَلِكِ الرَّحيم، وصاروا معه، وراسَل أبو سعدٍ الذي بالقِلاعِ المذكورةِ، فاستَمالَهم فأطاعوه وسَلَّموهُ القِلاعَ، إليه وصاروا في خِدمتهِ، واجتمع العَسكرُ الشيرازي، وعليهم الظَّهيرُ أبو نَصرٍ، وأوقعوا بالغُزِّ ببابِ شيراز، فانهزم الغُزُّ، وأُسِرَ تاجُ الدِّين نَصرُ بن هبة الله بن أحمد، وكان من المُقَدَّمين عند الغُزِّ، فلمَّا انهزم الغُزُّ سار العَسكرُ الشيرازي إلى فَسا، وكان قد تَغلَّب عليها بعضُ السَّفِل، وقَوِيَ أَمرُه لاشتغالِ العَساكرِ بالغُزِّ، فأزالوا المُتَغَلِّب عليها واستَعادُوها.
زادت الفِتنةُ بين شِيعَةٍ مِن أَهلِ الكَرخِ وغَيرهِم مِن أَهلِ السُّنَّةِ، وكان ابتِداؤُها أواخرَ سَنَةِ أربعٍ وأربعين في ذي القعدة، فلمَّا كان الآن عَظُمَ الشَّرُّ، واطَّرَحَت المُراقبَة للسُّلطان، واختَلطَ بالفَريقينِ طوائفُ مِن الأتراكِ، فلمَّا اشتَدَّ الأمرُ اجتمع القُوَّادُ واتَّفَقوا على الرُّكوبِ إلى المَحالِّ، وإقامةِ السِّياسةِ بأهلِ الشَّرِّ والفَسادِ، وأَخَذوا مِن الكَرخِ إِنسانًا عَلويًّا وقَتلوهُ، فَثارَ نِساؤُه، ونَشَرْنَ شُعورَهُنَّ واسْتَغَثْنَ، فتَبِعَهُنَّ العامَّةُ من أهلِ الكَرخِ، وجَرى بينهم وبين القُوَّاد ومن معهم من العامَّةِ قِتالٌ شَديدٌ، وطَرحَ الأتراكُ النَّارَ في أَسواقِ الكَرخ، فاحتَرقَ كَثيرٌ منها، وأَلحَقَتها بالأرضِ، وانتَقَل كَثيرٌ من الكَرخِ إلى غَيرِها من المَحالِّ، ونَدِمَ القُوَّادُ على ما فَعلوهُ، وأَنكرَ الخَليفةُ القائمُ بأَمرِ الله ذلك، وصَلُحَ الحالُ، وعاد النَّاسُ إلى الكَرخِ، بعد أن استَقرَّت القاعدةُ بالدِّيوان بِكَفِّ الأتراكِ أَيديَهم عنهم.
هرب تاجُ الدَّولةِ بهرام وزيرُ الحافظ لدينِ الله الفاطمي صاحِبِ مِصرَ، وكان قد استوزَرَه بعد قَتلِ ابنِه حَسَن، وكان نصرانيًّا أرمنيًّا، فتمَكَّنَ في البلاد واستعمَلَ الأرمن وعزل المُسلِمين، وأساء السيرةَ فيهم وأهانَهم هو والأرمنُ الذين ولَّاهم وطَمِعوا فيهم، فلم يكُنْ في أهلِ مِصرَ مَن أنِفَ ذلك إلَّا رضوان بنُ الريحيني؛ فإنَّه لَمَّا ساءه ذلك وأقلَقَه جَمَعَ جَمعًا كثيرًا وقَصَد القاهرة، فسمِعَ به بهرام، فهَرَب إلى الصعيد مِن غيرِ حَربٍ ولا قتال، وقصَدَ مدينةَ أُسوانَ فمَنَعَه واليها من الدُّخولِ إليها وقاتَلَه، فقَتَل السودانُ مِن الأرمنِ كثيرًا، فلمَّا لم يَقدِرْ على الدخولِ إلى أسوان أرسل إلى الحافِظِ يَطلُبُ الأمانَ فأمَّنَه، فعاد إلى القاهرةِ، فسُجِنَ بالقَصرِ، فبَقِيَ مُدَّةً، ثمَّ ترَهَّبَ وخرج من الحَبسِ. وأمَّا رضوانُ فإنَّه وزر للحافِظِ ولُقِّبَ بالمَلِك الأفضَلِ، وهو أوَّلُ وزيرٍ للمِصريِّينَ لُقِّبَ بالمَلِك.
وصَلَ السُّلطانُ مسعودٌ إلى بغداد على عادتِه في كلِّ سَنَةٍ، وجمَعَ العساكِرَ، وتجهَّزَ لِقَصدِ أتابك زنكي، وكان حَقَد عليه حِقدًا شديدًا؛ بسبَبِ أنَّ أصحابَ الأطراف الخارجينَ على السُّلطانِ مَسعودٍ، كانوا يَخرُجونَ عليه بتَحريضٍ من أتابك زنكي، ويقولُ إنَّه هو الذي سعى فيه وأشار به لعِلْمِه أنَّهم كُلَّهم كانوا يَصدُرونَ عن رأيِه، فلمَّا تفَرَّغَ السُّلطانُ هذه السَّنَةَ، جَمَعَ العساكِرَ لِيَسيرَ إلى بلادِه، فسَيَّرَ أتابك يستعطِفُه ويستميلُه، فأرسل إليه السُّلطانُ أبا عبد الله بنَ الأنباري في تقريرِ القواعد، فاستقرَّت القاعِدةُ على مئةِ ألفِ دينارٍ يَحمِلُها إلى السُّلطان ليعودَ عنه، فحَمَل عشرينَ ألف دينار أكثَرُها عروض، ثمَّ تنَقَّلَت الأحوالُ بالسُّلطان إلى أن احتاجَ إلى مداراةِ أتابك وأطلَقَ له الباقيَ استمالةً له وحِفظًا لقَلْبِه، وكان أعظَمُ الأسبابِ في قعودِ السُّلطانِ عنه ما يَعلَمُه مِن حَصانةِ بِلادِه وكثرةِ عَساكِرِه وكثرةِ أموالِه.
لَمَّا مَلَكَ عَبدُ المؤمِنِ بجايةَ تَجَمَّعَت صنهاجةُ في أُمَمٍ لا يُحصِيها إلَّا الله تعالى، وتقَدَّمَ عليهم رجلٌ اسمُه أبو قصبة، واجتمع معهم مِن كتامة ولواتة وغيرِهما خلقٌ كَثيرٌ، وقَصَدوا حَرْبَ عبد المؤمن، فأرسل إليهم جيشًا كبيرًا، ومُقَدَّمُهم أبو سعيد يخلف، فالتَقَوا في عرض الجَبَلِ شرقي بجاية، فانهزم أبو قصبة وقُتِلَ أكثَرُ مَن معه، ونُهِبَت أموالُهم، وسُبِيَت نساؤهم وذراريُّهم، ولَمَّا فَرَغوا من صنهاجة ساروا إلى قلعةِ بني حَمَّاد، وهي من أحصَنِ القلاعِ وأعلاها، لا تُرامُ، على رأسِ جَبَلٍ شاهِقٍ يكاد الطَّرْفُ لا يُحَقِّقُها لعُلُوِّها، ولكِنَّ القَدَرَ إذا جاء لا يَمنَعُ منه مَعقِلٌ ولا جيوشٌ، فلَمَّا رأى أهلُها عساكِرَ المُوحِّدينَ، هربوا منها في رؤوسِ الجبال، ومُلِكَت القَلعةُ، وأُخِذَ جَميعُ ما فيها من مالٍ وغَيرِه، وحُمِلَ إلى عبدِ المُؤمِنِ فقَسمَه.
ابتدأت الفتنةُ بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصِل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقُتِلَ فيها من الخلقِ ما لا يحصى، ودامت عدةَ سِنينَ، وتقَطَّعَت الطرق، ونُهِبَت الأموال، وأُريقَت الدماء، وكان سَبَبُها أنَّ امرأة من التركمان تزوَّجَت بإنسانٍ تركماني، واجتازوا في طريقِهم بقلعة من الزوزان للأكراد، فجاء أهلُها وطلبوا من التركمان وليمةَ العرس، فامتنعوا من ذلك، وجرى بينهم كلامٌ صاروا منه إلى القتال، فنزل صاحِبُ تلك القلعة فأخذ الزوجَ فقَتَلَه، فهاجت الفِتنةُ، وقام التركمانُ على ساق، وقتلوا جمعًا كثيرًا من الأكرادِ، وثار الأكرادُ فقَتَلوا من التركمان أيضًا كذلك، وتفاقم الشرُّ ودام، ثم إن مجاهِدَ الدين قايماز، جمَعَ عنده جمعًا من رؤساءِ الأكراد والتركمان، وأصلح بينهم، وأعطاهم الخِلَع والثيابَ وغيرها، وأخرج عليهم مالًا جمًّا، فانقطعت الفتنةُ، وكفى اللهُ شَرَّها، وعاد الناسُ إلى ما كانوا عليه من الطُّمأنينةِ والأمانِ.
هو المَلِك سيف الدين بكتمر, صاحِبُ خلاط، مملوك الملك ظهير الدين شاه أرمن. استولى على أرمينية، وكان محاربًا للسلطان صلاح الدين، فلما بلغه مَوتُه، أسرف في إظهارِ الشَّماتة بموته, فأمر بضَربِ البشائر، وفَرِحَ فرحًا كثيرًا، وعمل تختًا جَلَس عليه، ولَقَّبَ نفسه بالسلطان المعظم صلاح الدين، وكان لقَبُه سيف الدين، فغَيَّرَه، وسمى نفسه عبد العزيز، فلم يُمهِلْه الله تعالى، وظهر منه اختلالٌ وتخليط، وتجهز ليقصِدَ ميافارقين يحصُرُها، فأدركته منيَّتُه، قُتِلَ بكتمر أول جمادى الأولى، وكان بين قَتلِه وموت صلاح الدين شهران، وكان سبب قتله أنَّ هزار ديناري زوج ابنَتِه, وهو من مماليك شاه أرمن ظهير الدين، كان قد قَوِيَ وكَثُرَ جَمعُه، وتزوج ابنةَ بكتمر، فطَمِعَ في الملك، فوضع عليه مَن قَتَله، فلما قُتِلَ ملك بعده بلادَ خلاط وأعمالَها.
قام سانشو بن ملك قشتالة بالخروج على أبيه لينتزع منه الملك، فاستنجد الملك ألفونسو بأبي يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين بالمغرب فأنجده بمال يستعين به على حشد الجنود، كما اجتاز السلطان بنفسِه البحر إلى الأندلس فأغار على أراضي قشتالة وحاصر قرطبة وغزا طليطلة، أمَّا أمير غرناطة أبو عبد الله محمد بن نصر بن الأحمر فأراد أن يصانع سانشو فزحف على المنكب التي كانت تحتلها قوات بني مرين؛ مما اضطر السلطان المريني أن يتخلى عن مؤازرة ألفونسو وعاد ليستردَّ المنكب وكادت أن تقع بينه وبين ابن نصر ملك غرناطة فتنة تفاداها ابن نصر بالتفاهم معه والتخلي له عن المنكب، وعاد السلطانُ المريني إلى المغرب وقد مكنت عودته وانسحابه من إنجاد ألفونسو أن تغلب سانشو على أبيه وهَزَمَه فأصبح طريدًا إلى أن توفي بعد سنتين.
اجتمعت جُيوشُ السلطان الناصر بأرض حلَب نحوًا من عشرين ألفًا، عليهم كلِّهم نائبُ حلب الطنبغا وفيهم نائب طرابلس شهاب الدين قرطبة، فدخلوا بلاد الأرمن من إسكندرونة ففتحوا الثَّغرَ ثمَّ تل حمدان ثم خاضوا نهر جاهان فغَرِقَ منهم جماعة، ثم سلَّم اللهُ من وصلوا إلى سيس فحاصروها وضَيَّقوا على أهلها وأحرَقوا دارَ المَلِك التي في البلد، وقَطَعوا أشجارَ البساتين وساقوا الأبقارَ والجواميسَ والأغنام وكذلك فَعَلوا بطرسوس، وخَرَّبوا الضياعَ والأماكِنَ وأحرقوا الزروعَ ثمَّ رَجَعوا فخاضوا نهر جاهان, فلم يغرق منهم أحد، وأخرجوا بعد رجوعِهم مهنا وأولادَه من بلادهم وساقوا خَلفَه إلى عانة وحديثه، ثم بلغ الجيوشَ موتُ صاحب سيس وقيامُ ولده من بعده، فشَنُّوا الغارات على بلاده وتابعوها وغَنِموا وأسَروا إلَّا في المرة الرابعة فإنه قُتِلَ منهم جماعة.
هو القاضي الإمامُ العالم شمسُ الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي الصالحي الراميني الأصل, وُلِدَ ونشأ في بيت المقدس. وكان بارعًا فاضلًا مُتفَنِّنًا في علوم كثيرة، ولاسيما علم الفروع، وكان نائبًا لمشيخة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المقدسي الحنبلي، وزَوجَ ابنته، وهو أعلَمُ أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ لذا كان غايةً في نقل مذهب الإمام أحمد، وجمَعَ مصنفات كثيرة منها: كتاب المقنع، وعلق على محفوظة أحكام الشيخ مجد الدين بن تيمية مجلدين، وله الآداب الشرعية، وأصول الفقه، وله غير ذلك من الفوائد والتعليقات رحمه الله، توفي بصالحيةِ دِمشقَ في ثاني رجب عن نحو خمسين سنة، وصُلِّيَ عليه بعد الظهرِ مِن يوم الخميس ثاني الشهر بالجامع المظفري، ودُفِنَ بمقبرة الشيخ الموفق، وكانت له جنازةٌ حافلة حضرها القضاةُ كُلُّهم، وخَلقٌ من الأعيان.
وصلَ الفِرنجُ طرابلس في أول صفر في مائة وثلاثين مركبًا، ما بين شيني وقرقورة وغراب وطريدة، وشختور، عليها متمَلِّك قبرص، ومتمَلِّك رودس، والاسبتار، وكان نائِبُ طرابلس وأكثر عسكرها غائبين عنها، فاغتَنَمَت الفرنج الفرصةَ وخرجوا من مراكبهم إلى الساحل، فخرج لهم من طرابلس بقيَّةُ عَسكَرِها بجماعة من المسلمين، فترامَوا بالنبال ثم اقتتلوا أشدَّ قتال، وتقهقر المسلمون، ودخل المدينةَ طائفةٌ من الفرنج، فنَهَبوا بعض الأسواق، ثم إن المسلمين تلاحقوا، وحصل بينهم وبين الفرنج وقائع عديدة استُشهِدَ فيها من المسلمينَ نحوُ أربعين نفرًا، وقُتِل من الفرنج نحو الألف، وألقى الله تعالى الرُّعبَ في قلوب الفرنج فرجعوا خائبين، فمرُّوا بمدينة إياس في مائة قطعة، فسار إليهم الأميرُ منكلي بغا نائب حلب، وقد فَرَّ أهل إياس منها، فدخلها الفرنج، فلما قدم نائب حلب جلَوا عنها.
لما قَدِمَ المهتار عبدالرحمن الكرك أظهر كتبًا إلى الأمير سودون الظريف نائب الكرك باستعدادِه لحرب الأمير أيتمش، فاختلف أهلُ الكرك وافترقوا فرقتين: قيسية، ويمانية؛ فرأسَ قيسًا قاضي الكرك شرف الدين موسى ابن قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركي. ورأَسَ اليمن الحاجبُ شعبان بن أبي العباس. ووقعت فتنةٌ نُهِب فيها رحل المهتار عبد الرحمن والخِلعة التي أحضرها إلى النائب، وامتدَّت إلى الغور فنُهب، ورحل أهله وفَرَّ عبد الرحمن إلى جهة مصر. وكانت بين الطائفتين مقتلةٌ قُتِل فيها سِتَّةٌ، وجُرِح نحوُ المائة. وانتصر ابنُ أبي العباس ممَّن معه من يمن؛ لِمَيل النائب معهم على قيس، وقُبِض على القاضي شرف الدين موسى وأخيه جمال الدين عبد الله، وذُبِحا ومعهما ثمانيةٌ من أصحابهما، وأُلقوا في بئر من غير غسل ولا كفن، وأُخِذَت أموالُهم كُلُّها.