إن الانتصار الذي أحرزه الصليبيون في فك حصار فيينا زاد من أواصر الصليبية وشجعها على المضي، فكونت أوربا حلفًا ضم: النمسا، وبولونيا، والبندقية، ورهبان مالطة، والبابا، وروسيا، وسموه (الحِلف المقدس)؛ وذلك للوقوف في وجه المد الإسلامي الذي أصبح قريبًا من كل بيت في أوربا الشرقية؛ بسبب جهاد العثمانيين الأبطال، وبدأ الهجوم الصليبي على ديار الدولة العثمانية، وبدأ هذا التحالف بالعمل؛ فالنمسا بدأت تهاجم بلاد المجر وتمكنت من دخول مدينة بست وحاصرت مدينة بودا، ثم أخذت عدة مواضع، منها قلعة نوهزل، وكانت هذه الهزيمة سببًا في عزل الصدر إبراهيم باشا ونفيه إلى جزيرة رودوس، وعُين مكانه سليمان باشا الذي أسرع لنجدة بودا غير أن النمساويين قد دخلوها عنوة، وهُزم العثمانيون عام 1097هـ ثم هُزموا ثانية في العام التالي في موهاكز، وكانت أيضًا جيوش ملك بولونيا سوبيسكي تُغير على ولاية البغدان وتهددها، وأما سفن البندقية فكانت تُغير باستمرار على سواحل اليونان والمورة وتسندُها سفن أخرى من قِبَل البابا ورهبان مالطة، وتمكنت من دخول أثينا وكورنتا، وعدد آخر من المدن عام 1097هـ.
نشبت الحربُ بين الدولة العليَّة وروسيا؛ وذلك أنه لما توفِّيَ أوغست الثالث ملك بولونيا سعت كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في تعيين أحد أتباعها مَلِكًا على بولونيا خلافًا لِما تعهَّدت به روسيا للدولة العلية؛ ولذلك تنبهت الدولة العلية إلى نتيجةِ هذه السياسة وعَلِمَت أنها إن لم تضَعْ حدًّا لتقدم نفوذ روسيا في بولونيا، فلا تلبث بولونيا أن تُمحى من العالم السياسي بانضمامها لروسيا أو بتجزئتِها بينها وبين مجاوريها، لكن كان تنبُّه الدولة هذا بعد فوات الوقت المناسب، فإنه كان يجِبُ عليها مساعدة السويد وبذْل النفس والنفيس في حفظ ولايتها الواقعةِ على البلطيق من الوقوع في أيدي روسيا، ومع كل هذا فقد أرادت الدولة العليَّةُ استدراك ما فات وأوعزت إلى كريم كراي خان القرم أن يعلِنَ الحرب على روسيا، فأغار بخيله ورَجِلِه على إقليم سربيا الجديدة الذي عمرته روسيا، مع أن المعاهدات التي بينها وبين الدولتين تنصُّ على منع وصول المساعدة من خان القرم إلى بولونيا, وكانت نتيجةُ إغارة كريم كراي على هذه الولاية خرابًا كثيرًا من المستعمرات الروسية، وعودته بكثير من الأسرى، وتوفِّي قبل أن تنتهي الحرب التي استمرت حتى عام 1187هـ.
بعد استقرارِ الأحوال في ألبانيا، أُجريت انتخابات عامة وعلى إثر فوز أنور خوجا بها أُعلنت ألبانيا جمهوريةً شعبية، وأُلغيت الملكية رسميًّا، وأصبح أنور خوجا رئيسًا للبلاد، وما إن أمسك بمقاليد الأمور حتى بادر إلى قطعِ العلاقات مع كلٍّ مِن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وكان أنور خوجا من المعجَبين بستالين: دكتاتور الاتحاد السوفيتي الشيوعي، فوقف إلى جانِبِه حين نشب خلافٌ سنة 1367هـ / 1948م بينه وبين "تيتو" الرئيس اليوغسلافي، على الرغم من مساندة الحزب الشيوعي اليوغسلافي للشيوعيين الألبان في أثناء الاحتلال الإيطالي لبلادِهم، غير أنَّ هذا التأييد الذي أبداه أنور خوجا للسياسة السوفيتية توقَّفَ بعد وفاة ستالين سنة 1373هـ / 1953م، وانتهاج خلفائِه سياسةً مغايرة؛ فتحوَّل التأييد إلى عداءٍ مُستحكم، انتهى بقطع العلاقات بين البلدين في سنة 1381هـ / 1961م، وكان من الأسباب التي أدَّت إلى هذه النتيجة وقوف "خوجا" إلى جانب الصين في صراعها الأيديولوجي المذهبي ضِدَّ الاتحاد السوفيتي، ثم أعقب ذلك انسحابُ ألبانيا من حلف "وارسو" سنة 1388هـ / 1968م، والتوقُّف عن المشاركة في "الكوميكون"، وهو المجلس المشترك لمساعدة دولة الكتلة الشرقية.
زادت نِقمةُ النَّاسِ على النِّظامِ الحاكم في ليبيا، وكانت تزدادُ كُلَّما ازداد التودُّدُ للإيطاليين الذين كانوا بالأمسِ محتلِّين وأذاقوا الناسَ الويل، وأيضًا لعدَمِ مقاطعتهم لإسرائيل رغمَ صدور قرار المقاطعة من الجامعة العربية، ثمَّ ازدياد النفوذ الأمريكي في المنطقة، وغيرها من الأمور التي ولَّدت الحِقدَ الشعبيَّ، وظهرت المعارضةُ. وفي 19 جمادى الآخرة 1389هـ / 2 أيلول (سبتمبر) تحرَّك الجيشُ بقيادةِ العقيد معمَّر القذافي، وقضى على الوَضعِ القائم الذي وَجَدَه هشًّا؛ إذ نِقمةُ الشَّعبِ كانت عارمةً على النظام الملكي، وتشكَّل المجلسُ الأعلى لقيادة الثورة، وتشكَّلت حكومةٌ جديدة من عسكريِّين ومَدَنيين، وعلى إثر ذلك انسحبت أمريكا وانجلترا من ليبيا، فأصبح لهذه الثورةِ مكانتُها في أعُينِ النَّاسِ، ثمَّ مِن الناحية الإسلاميَّة أصدرت الثورةُ قانونًا بمنع تعاطي الخُمورِ في ليبيا، وطبَّقت الزكاةَ، وأصدرت مجموعةَ قوانين تدور حولَ هذا الفَلَك الإسلامي! ثم أبدى القذافيُّ قائدُ الثورة بعد وفاة جمال عبد الناصر أنَّه الوريثُ للزعامة العربية! وعَمِلَ على إقامة اتحادِ الجُمهوريات العربية المتَّحَدة بين ليبيا ومصر وسوريا.
اسْتُهِلَّ هذا العام والنَّاسُ مُتَواقِفون لِقتال الحَجَّاج وأصحابه بِدَيْرِ قُرَّة، وابنُ الأشعث وأَصحابُه بِدَيْرِ الجَماجِم، والمُبارَزة في كُلِّ يَومٍ بينهم واقِعَة، وفي غالبِ الأيَّامِ تكون النُّصْرَة لأهلِ العِراق على أهلِ الشَّام، إذا حصَل له ظَفَرٌ في يوم مِن الأيَّام يَتقدَّم بجَيشِه إلى نَحْرِ عَدُوِّهِ، وكان له خِبرَةٌ بالحربِ، وما زال ذلك دَأْبُه ودَأْبُهم حتَّى أَمَر بالحَمْلَةِ على كَتيبةِ القُرَّاء; لأنَّ النَّاس كانوا تَبَعًا لهم، وهُم الذين يُحَرِّضُونهم على القِتال، والنَّاس يَقْتَدُون بهم، فصَبَر القُرَّاء لِحَمْلَةِ جَيشِه، ثمَّ جمَع الحَجَّاجُ الرُّماةَ مِن جَيشِه وحَمَل بهم على كَتيبةِ القُرَّاء، وما انْفَكَّ حتَّى قَتَل منهم خَلْقًا كثيرًا، ثمَّ حَمَل على جَيشِ ابن الأشعث فانْهَزَم أصحابُ ابن الأشعث وذَهَبوا في كُلِّ وَجْهٍ، وهَرَب ابنُ الأشعث ومَن معه إلى بلادِ رتبيل مَلِك التُّرْك فأَكْرَمَهُم, كان الحَجَّاجُ يومَ ظَهَرَ على ابن الأشعث بِدَيْرِ الجَماجِم نادَى مُنادِيه في النَّاس: مَن رَجَع فهو آمِن، ومَن لَحِقَ بِقُتَيْبَة بن مُسلِم بالرَّيِّ فهو آمِن. فلَحِقَ به خَلْقٌ كثيرٌ ممَّن كان مع ابنِ الأشعثِ، فأَمَّنَهم الحَجَّاجُ، ومَن لم يَلْحَق به شَرَعَ الحَجَّاجُ في تَتَبُّعِهِم، فقَتَل منهم خَلْقًا كثيرًا.
سار عبدُ الرحمن الداخل إلى سرقسطة، بعد أن كان قد سيَّرَ إليها ثعلبةَ بنَ عُبيد في عسكرٍ كثيف، وكان سليمانُ بن يقظان، والحسينُ بن يحيى قد اجتمعا على خلعِ طاعةِ عبد الرحمن، وهما بها، فقاتَلَهما ثعلبةُ قِتالًا شديدًا، وفي بعض الأيامِ عاد إلى مخَيَّمِه، فاغتنم سليمانُ غِرَّتَه، فخرج إليه، وقبَضَ عليه وأخَذَه، وتفَرَّق عسكَرُه، واستدعى سليمان بن يقظان قارله ملك الإفرنج، ووعَدَه بتسليمِ البلد وثعلبةَ إليه، فلما وصل إليه لم يُصبِحْ بيده غيرُ ثعلبة، فأخذه وعاد إلى بلادِه، وهو يظنُّ أنَّه يأخذُ به عظيمَ الفداء، فأهمله عبدُ الرحمن مدَّةً، فلما كان هذه السنة سار عبدُ الرحمن إلى سرقسطة، وفرَّقَ أولادَه في الجهات ليدفَعوا كلَّ مخالفٍ، ثم يجتَمِعوا بسرقسطة، فسبقهم عبدُ الرحمن إليها، وكان الحسينُ بن يحيى قد قتلَ سليمان بن يقظان، وانفرد بسرقسطة، فوافاه عبدُ الرحمن على أثَرِ ذلك، فضَيَّقَ على أهلها تضييقًا شديدًا. وأتاه أولادُه من النواحي، ومعهم كلُّ من كان خالفهم، وأخبَروه عن طاعةِ غَيرِهم، فرَغِبَ الحسين بن يحيى في الصُّلح، وأذعن للطاعةِ، فأجابه عبدُ الرحمن، وصالَحَه، وأخذ ابنَه سعيدًا رهينةً، ورجع عنه
هو عبدُ اللهِ بنُ محمَّدِ بنِ عبد الرحمن بن الحاكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الداخِل، صاحِبُ الأندلس، وليَ الأمرَ بعد أخيه المُنذِر بن محمد في صفر سنة 275، وطالت أيامُه، وبقي في المُلكِ خمسًا وعشرين سنةً وأحد عشر شهرًا، وكان من الأمراءِ العادلين الذين يَعِزُّ وجودُ مثلهم. كان صالحًا تقيًّا، كثيرَ العبادةِ والتلاوة، رافعًا لِعَلمِ الجِهادِ، مُلتَزِمًا للصَّلواتِ في الجامعِ، وله غَزواتٌ مَشهورةٌ، منها غزوةُ "بلي" التي يُضرَبُ بها المثل. وذلك أنَّ ابنَ حفصونَ حاصرَ حِصنَ بلي في ثلاثين ألفًا. فخرج الأميرُ عبد الله من قُرطُبةَ في أربعة عشر ألف مقاتل، فهَزَم ابنَ حَفصونَ، وتبعه قتلًا وأسرًا، حتى قيل: إنَّه لم ينجُ مِن الثّلاثين ألفًا إلَّا النَّادُّ, وكان عبد الله أديبًا عالِمًا. مات وكان عمُرُه اثنتين وأربعين سنة، وخلَّف أحدَ عشَرَ ولدًا ذكرًا، أحدُهم محمَّد المقتول, وهو والدُ عبد الرحمن الناصر، قتله أخوه المطرف فِي صدرِ دولة أبيهما، ولَمَّا توفِّيَ عبدالله تولى بعده ابنُ ابنِه عبد الرحمن بن محمَّد لمدة خمسينَ سنةً.
كان أبو منصورِ بن عَلاءِ الدَّولةِ، صاحبُ أصبهان، غيرَ ثابتٍ على طَريقةٍ واحدةٍ مع السُّلطانِ طغرلبك، كان يُكثِر التَّلَوُّنَ معه، تارةً يُطيعُه ويَنحازُ إليه، وتارةً يَنحرِف عنه ويُطيعُ المَلِكَ الرَّحيمَ البويهي، فأضمر له طُغرلبك سُوءًا، فلما عاد من خُراسان لِأَخذِ البلادِ الجَبليَّةِ من أَخيهِ إبراهيمَ ينال، واستولى عليها عَدَلَ إلى أصبهان عازِمًا على أَخذِها من أبي منصورٍ، الذي سَمِع بالخبرِ، فتَحَصَّن بِبَلدِه، واحتَمَى بِأَسوارِه، ونازَلَهُ طُغرلبك في المُحَرَّم، وأقام على مُحاصَرتِه نحوَ سَنَةٍ، وكَثُرَت الحروبُ بينهما، إلا أنَّ طُغرلبك قد استولى على سَوادِ البلدِ، وأَرسلَ سَرِيَّةً من عَسكرِه نحوَ فارس، فبلغوا إلى البَيضاء، فأغاروا على السَّوادِ هناك وعادوا غانِمينَ، ولمَّا طال الحِصارُ على أصبهان، وأخرَبَ أَعماَلها، ضاق الأمرُ بصاحبِها وأَهلِها، وأرسلوا إليه يَبذُلون له الطَّاعةَ والمالَ، فلم يُجِبهُم إلى ذلك، ولم يَقنَع منهم إلا بِتَسليمِ البلدِ، فصَبَروا حتى نَفَدَت الأقواتُ، ونَفَدَ الصَّبرُ، وانقطعت المَوادُّ، وسَلَّموا البلدَ إليه، فدَخَله وأَخرَج أجنادَه منه وأَقطَعَهم في بلادِ الجبلِ، وأَحسنَ إلى الرَّعِيَّة، وأَقطعَ صاحبَها أبا منصورٍ ناحيتي يزد وأبرقوية، وتَمَكَّن من أصبهان ودَخَلها في المُحَرَّم من سنة 443هـ واستَطابَها، وأقام فيها.
هو حاكم مصر الفاطمي: أبو علي منصور بن المستعلي أحمد بن المستنصر معد بن الظاهر بن الحاكم، العُبيدي المصري الرافضي الظلوم. كان متظاهرًا بالمكر واللهو والجبروت. وَلِيَ وهو صغير له خمسة أعوام, فلما كبر قتَلَ الأفضل أمير الجيوش، واصطفى أموالَه وكانت تفوت الإحصاءَ، ويُضرَب بها المثل، فاستوزر بعده المأمون محمد بن مختار البطائحي، فعسف الرعية وتمرد، فاستأصله الآمر بعد أربع سنين، ثم صلبه، وقتل معه خمسة من إخوته. وفي دولة الآمر أخذت الفرنج طرابلس الشام، وصيدا، والقدس، وعكا، والحصون. ثم قصد الملك بردويل الفرنجي ديار مصر، وأخذ الفرما وهي قريبة من العريش، فأحرق جامِعَها ومساجِدَها. وفي أيامه ظهر ابن تومرت بالمغرب، خرج الآمر إلى متنزَّه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية -النزارية وهم من الإسماعيلية الذين يعتقدون أن الإمامة كانت يجب أن تكون لنزار بن الحاكم الفاطمي- فقتلوه؛ لأنه كان سيئ السيرة في رعيته، وكانت ولايته تسعًا وعشرين سنة وخمسة أشهر. عاش خمسًا وثلاثين سنة, وكان العاشر من الحكام الفاطميين العبيديين الباطنية، هلك من غير عقب، فبايعوا ابن عم له، وهو الحافظ لدين الله.
لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر إلى بلاد الجبال، ومعه الملك طغرل بن السلطان محمد، وكان عنده قد لازمه، فوصل إلى الريِّ، ثم سار منها إلى همذان، فوصل الخبر إلى الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود بوصوله إلى همذان، فاستقرَّت القاعدة بينهما على قتال سنجر، وأن يكون الخليفةُ معهم، وتجهَّز الخليفة، وقُطِعت خطبة سنجر من العراق جميعِه، ووصلت الأخبار بوصول عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة إلى قريب بغداد، فأما دبيس فإنه ذكر أن السلطان سنجر أقطعه الحلة، وأرسل إلى المسترشد بالله يضرع ويسأل الرضا عنه، فامتنع من إجابته إلى ذلك، وأما عماد الدين زنكي فإنه ذكر أن السلطان سنجر قد أعطاه شحنكية بغداد، فعاد المسترشد بالله إلى بغداد، وأمر أهلها بالاستعداد للمدافعة عنها، وجنَّد أجنادًا جعلهم معهم، ثم إنَّ السلطان مسعودًا وصل إلى دادمرج، فلَقِيهم طلائع السلطان سنجر في خلق كثير، وأما سنجر ومسعود فالتقى عسكراهما بعولان، عند الدينور، وكان مسعود يدافع الحرب انتظارًا لقدوم المسترشد، ووقعت الحرب، وقامت على ساق، وكان يومًا مشهودًا؛ فانهزم السلطان مسعود وسَلِمَ من المعركة، وكانت الوقعة ثامن رجب.
غزا نورُ الدين محمودُ بن زنكي بلادَ الفِرنجِ مِن ناحيةِ أنطاكيةَ، وقَصَد حِصنَ حارم، وهو للفِرنجِ، فحَصَره وخَرَّب رَبضَه، ونهَبَ سَوادَه، ثمَّ رحل إلى حِصنِ أنب فحَصَرَه أيضًا، فاجتمع الفرنجُ مع البرنس صاحبِ أنطاكية وحارم وتلك الأعمال، وساروا إلى نورِ الدين لِيُرحِلوه عن إنب، فلَقِيَهم واقتتلوا قتالًا عظيمًا، وباشَرَ نور الدين القِتالَ ذلك اليوم، فانهزم الفرنجُ أقبَحَ هَزيمةٍ، وقُتِلَ منهم جمعٌ كثيرٌ، وأُسِرَ مِثلُهم، وكان ممَّن قُتِلَ الأميرُ ريمون بواتيه صاحِبُ أنطاكية، وكان عاتيًا مِن عُتاةِ الفرنج، وعظيمًا مِن عُظَمائِهم، ولَمَّا قُتِلَ البرنس مَلَكَ بعده ابنُه بيمند، وهو طفل، فتزوَّجَت أمُّه بأميرٍ آخَرَ ليُدَبِّرَ البَلَدَ إلى أن يكبَرَ ابنُها، وأقام معها بأنطاكية، ثمَّ إنَّ نور الدين غزاهم غزوةً أخرى، فاجتَمَعوا ولَقُوه، فهزَمَهم وقَتَل فيهم وأسَرَ، وكان فيمن أُسِرَ البرنس الثاني زوجُ أم بيمند، فتمَكَّنَ حينئذٍ بيمند بأنطاكيةَ، وأكثَرَ الشُّعَراءُ بمَديحِ نور الدين وتهنِئَتِه بهذا الظَّفَرِ؛ فإنَّ قَتلَ البرنسِ كان عظيمًا عند الطائِفَتينِ.
بعد فراغ الملك العادل من فتح يافا عاد المسلمون إلى عين جالوت، فوصَلَهم الخبَرُ بأن الفرنج على عَزمِ قصد بيروت، فرحل العادِلُ والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون، وعزم على تخريبِ بيروت، فسار إليها جمعٌ مِن العسكر، وهَدَموا سور المدينة سابِعَ ذي الحجة، وشَرَعوا في تخريب دورها وتخريبِ القلعة، فمَنَعَهم أسامة من ذلك، وتكَفَّل بحِفظِها، ورحل الفرنجُ مِن عكَّا إلى صيدا، وعاد عسكَرُ المسلمين من بيروت، فالتَقَوا بالفرنج بنواحي صيدا، وجرى بينهم مناوشة، فقُتِلَ من الفريقين جماعةٌ، وحَجَزَ بينهم الليل، وسار الفرنجُ تاسع ذي الحجة، فوصلوا إلى بيروت، فلما قاربوها هَرَب منها أسامة وجميعُ من معه من المسلمين، فملكها الفرنج صفوًا عَفْوًا بغيرِ حَربٍ ولا قتال، فكانت غنيمةً باردةً، فأرسل العادل إلى صيدا من خرَّبَ ما كان بَقِيَ منها؛ فإن صلاح الدين كان قد خَرَّبَ أكثَرَها، وسارت العساكر الإسلامية إلى صور، فقطعوا أشجارَها، وخَرَّبوا ما لها من قُرًى وأبراج، فلما سَمِعَ الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور، وأقاموا عليها، ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذِنَ العادل للعساكر الشرقيَّة بالعود ظنًّا منه أن الفرنجَ يقيمونَ ببلادِهم.
ثار أهلُ عكَّا بتجَّار المسلمين وقتلوهم، فغَضِبَ السلطان قلاوون وكتب إلى البلاد الشاميَّة بعَمَلِ مجانيق وتجهيزِ زردخاناة- خزنة الأسلحة- لحصارِ عكا، وذلك أنَّ الظاهِرَ بيبرس كان قد هادَنَهم، فصاروا يحمِلونَ إليه هديَّتَهم في كلِّ سَنةٍ واستمَرُّوا في حَملِها إلى الملك المنصور قلاوون، إلَّا أنهم كثُرَ طَمَعُهم وفسادُهم وقَطعُهم الطريقَ على التجار، فأخرج لهم السلطانُ قلاوون الأميرَ شمس الدين سنقر المساح على عسكر، ونزلوا اللجونَ على العادة في كلِّ سنة، فإذا بفرسانٍ مِن الفرنج بعكا قد خرَجَت فحاربوهم، واستمَرَّت الحربُ بينهم وبين أهل عكا مُدَّة أيام، وكُتِبَ إلى السلطان بذلك، فأخذ في الاستعدادِ لحَربِهم، فشرع الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر في عمل ذلك، وقرَّرَ على ضياع المرج وغوطة دمشق مالًا على كلِّ رجلٍ ما بين ألفي درهمٍ إلى خمسمائة درهم، وجبى أيضًا من ضِياعِ بعلبك والبقاع، وسار إلى وادٍ بين جبال عكا وبعلبك لقطع أخشابِ المجانيق، فسقط عليه ثلجٌ عظيمٌ كاد أن يُهلِكَه، فركب وساق وتَرَك أثقالَه وخيامه لينجوَ بنفسه، فطَمَّها الثلجُ تحته إلى زَمَنِ الصيف، فتَلِفَ أكثَرُها.
هو إسماعيلُ بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر بن الأحمر، أبو الوليد، السلطانُ الغالِبُ بالله أميرُ المؤمنينَ، خامِسُ ملوك دولة بني نصر بن الأحمر بغرناطة في الأندلس، كانت لأبيه ولايةُ مالقة وسبتة، فتولَّاهما من بعده. وكان الملك بغرناطة أبو الجيوش نصرُ بن محمد الفقيه، وهو موصوف بالضَّعفِ، فثار عليه إسماعيلُ وزحف من مالقة إلى غرناطة سنة 713 فبويع فيها، وخرج نصرٌ إلى وادي آش. وأراد بطرس الأوَّلُ بن ألفونس الحادي عشر أحد ملوك الإسبان أن يستفيدَ مِن فرصة الفتنة في غرناطة فاقتحم الحصونَ يُريدُها، فكانت بين جيشِه وجَيشِ إسماعيل وقائعُ هائلة انتهت سنة 717 بمَقتَلِ بطرس. وفي سنة 724 تحَرَّك إسماعيل للجِهادِ، فامتَلَك بعضَ الحصون، وعاد إلى غرناطة ظافِرًا. وكان حازمًا مِقدامًا جميل الطلعةِ جهيرَ الصوت كثيرَ الحياء بعيدًا عن الصبوة، تميز عهده بالاستقرارِ وحُسنِ السياسةِ وإحياء فريضة الجهاد، ومحاربةِ الفَسادِ والبِدَع. اغتاله ابنُ عَمٍّ له اسمه محمد بن إسماعيل بطعنة خنجر في غرناطة في 26 رجب من هذه السنةِ.
قام أميرُ الصرب جورج برنكوفتش بمهاجمة السلطان مراد الثاني العثماني، واستطاع أن يفتح جزءًا من بلاد الصرب، وحاصر مدينة بلغراد ستة أشهر، وغادرها أميرها نائب السلطان العثماني متوجهًا إلى بلاد المجر، ثم غادرها أيضًا, وأرسل جيشه للهجوم على ترانسلفانيا من أملاك المجر -تقع في الجزء الغربي من رومانيا- غير أن جيشه هُزم، وقُتل قائِدُه مع عشرين ألفًا من جند المسلمين، وانسحب العثمانيون إلى ما بعد نهر الدانوب، فأرسل السلطان مراد الثاني جيشًا آخر قوامه ثمانون ألفًا غير أنه هُزِمَ، وأُسر قائده سنة 845، وسار الجيش المجري بعد ذلك إلى بلاد الصرب، فالتقى في هذا العام بالسلطان مراد الثاني نفسه، فنشبت بين الفريقين ثلاثة معارك هُزم فيها السلطان كلها، واضطر إلى توقيع معاهدة تنازل فيها السلطان عن الأفلاق للمجر، ورَدَّ الصرب بعض المواقع، وكانت مدة هذه الهدنة عشر سنين، ويُذكر أنه اشترك مع الجيش المجري أعداد من الصليبيين من بولندا وفرنسا وألمانيا والبندقية وجونيه وأفلاق وصرب وغيرهم، ولكن البابا لما بلغه خبر هذه المعاهدة أرسل مندوبًا مِن قِبَلِه، وهو سيزاريني- إلى ملك المجر، وأمره أن يرفضَ هذه المعاهدة وينقُضَها.