مؤسِّسُ الدَّولةِ المرداسيَّة في حلَبٍ هو صالِحُ بنُ مرداس الذي لُقِّبَ أسدَ الدَّولة. وهو من بني كلابٍ، القبيلةِ العربيَّةِ التي كانت تَنزِلُ ضِفافَ الفُراتِ والجزيرة, وكان بالرَّحبةِ رَجلٌ مِن أهلها يُعرَفُ بابنِ محكان، فمَلَك البلدَ، واحتاجَ إلى من يجعَلُه ظَهرَه، ويستعينُ به على مَن يَطمَعُ فيه، فكاتَبَ صالِحَ بنَ مِرداس الكلابيَّ، فقَدِمَ عليه وأقام عنده مُدَّةً، ثمَّ إنَّ صالحًا عدا على ابنِ محكان فقتَلَه ومَلَك الرَّحبة, وفي سنة 399 كانت وقعةٌ بين أبي نصرِ بنِ لؤلؤٍ صاحِبِ حَلَب، وصالحِ بنِ مرِداس، وكان ابنُ لؤلؤ من موالي بنِي حمدان، فقَوِيَ على ولَدِ سَعدِ الدَّولة يخطُبُ للحاكِمِ صاحِبِ مِصرَ، ثمَّ فسد ما بينه وبين الحاكِمِ، فطَمِعَ فيه ابنُ مرداس، وبنو كلاب، وكانوا يطالِبونَه بالصِّلاتِ والخِلَع، ثمَّ إنهم اجتَمَعوا في خمسمِئَة فارس، ودخلوا مدينةَ حَلَب، فأمر ابنُ لؤلؤ بإغلاقِ الأبوابِ والقَبضِ عليهم، فقُبِضَ على مِئَة وعشرينَ رَجُلًا، منهم صالحُ بنُ مرداس، وحَبَسهم، وقتَلَ مِئَتين, وبَقِيَ صالِحُ بنُ مِرداسَ في الحَبسِ، حتى صَعِدَ مِن السور وألقى نفسَه مِن أعلى القلعةِ إلى تَلِّها, وسار بقَيدِه ولبنةِ حديدٍ في رِجلَيه، حتى وصل قريةً تُعرَفُ بالياسريَّة، فرأى ناسًا من العربِ فعَرَفوه وحَمَلوه إلى أهلِه بمرج دابق، فجمَعَ ألفَي فارسٍ وقصَدَ حَلَب وحاصَرَها اثنين وثلاثين يومًا، فخرجَ إليه ابنُ لؤلؤ، فقاتَلَه، فهَزَمَهم صالحٌ وأسَرَ ابنَ لؤلؤ، وقيَّدَه بقَيدِه الذي كان في رِجلِه ولَبِنَتِه. ثمَّ إنَّ ابنَ لؤلؤٍ بذَلَ لابنِ مرداسٍ مالًا على أن يُطلِقَه، فلمَّا استقَرَّ الحالُ بينهما أخذ رهائِنَه وأطلقَه، فلمَّا قُتِلَ الحاكِمُ العُبَيديُّ صاحِبُ مِصرَ، اجتمع حَسَّان أميرُ بني طي، وصالحُ بنُ مرداس أميرُ بني كلاب، وسِنانُ بنُ عليان، وتحالفوا، واتَّفَقوا على أن يكونَ مِن حَلَب إلى عانة لصالحٍ، ومِنَ الرَّملةِ إلى مصرَ لحَسَّان، ودمشقُ لسنان، فسار حسَّان إلى الرملةِ وأخَذَها من أنوشتكين نائِبِ الحاكِمِ، وقصَدَ صالِحٌ حَلَب، وبها إنسانٌ يُعرَفُ بابن ثعبان يتولَّى أمْرَها للمِصريِّينَ، وبالقلعةِ خادِمٌ يُعرَفُ بمَوصوفٍ، فأمَّا أهلُ البلدِ فسَلَّموه إلى صالحٍ؛ لإحسانِه إليهم، ولِسُوءِ سِيرةِ المِصريِّينَ معهم، وصَعِدَ ابنُ ثعبان إلى القلعةِ، فحَصَره صالحٌ بالقلعةِ، فغار الماءُ الذي بها، فلم يبقَ لهم ما يَشرَبونَ، فسَلَّمَ الجُندُ القلعةَ إليه، وذلك سنة 414، ومَلَك مِن بَعْلَبَكَّ إلى عانة، وأقام بحَلَب سِتَّ سنين إلى أن قُتِلَ على يدِ المِصريِّينَ سنة 420.
في صَفَر مِن هذه السنة وصَلَ المَلِك مسعود إلى بلْخ من غزنة، فجمع أصحابَه، ولقِيَ إسماعيلَ شاه مَلِكَ خوارزم، وقاتله، ودامت الحربُ بينهما مُدَّةَ شَهر، وانهزم إسماعيلُ، والتجأ إلى طغرلبك وأخيه داود السلجقيَّة، ثم سار مسعودُ بن سبكتكين من بلخ بنفسِه، وقصد سرخس، فتجَنَّب الغزُّ لقاءه، وعدلوا إلى المُراوغة والمُخاتلة، وأظهر الغُزُّ العزمَ على دخول المفازة التي بين مروٍ وخوارزمَ، فبينما عساكِرُ مسعودٍ تَتْبَعُهم وتَطلُبُهم إذ لَقُوا طائفةً منهم، فقاتلوهم وظَفِروا بهم وقتلوا منهم، ثمَّ إنه واقعهم بنفسه في شعبان من هذه السنة وقعةً استظهَرَ فيها عليهم، فأبعدوا عنه، ثم عاودوا القُربَ منه بنواحي مرو، فواقعوهم وقعةً أخرى قُتِلَ مِن الغز التركمان فيها نحوُ ألف وخمسمِئَة قتيل، وهرب الباقون فدخلوا البرِّيَّة التي يحتَمون بها، وثار أهلُ نيسابور بمن عندهم منهم، فقَتَلوا بعضًا، وانهزم الباقونَ إلى أصحابِهم بالبرِّيَّة وعدل مسعودٌ إلى هراة؛ ليتأهَّبَ في العساكِرِ للمسير خلْفَهم وطَلَبِهم أينما كانوا، فعاد طغرلبك إلى الأطرافِ النائية عن مسعود، فنهَبَها وأثخنَ فيها، فحينئذ سار مسعودٌ يَطلُبُه، فلما قاربَه انزاح طغرلبك من بينِ يديه إلى أستوا وأقام بها، وكان الزمانُ شِتاءً، ظنًّا منه أنَّ الثَّلجَ والبردَ يَمنَعُ عنه، فطلبه مسعودٌ إليها، ففارقه طغرلبك وسلك الطريقَ على طوس، واحتمى بجبالٍ منيعة، ومضايقَ صَعبةِ المسلك، فسَيَّرَ مسعود في طلبه وزيرَه أحمد بن محمد بن عبد الصمد في عساكِرَ كثيرة، فطوى المراحِلَ إليه جريدةً- الجريدة: خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها-, فواقعوهم الغُزُّ وانتصروا على الوزير وعسكَرِه، واستأمن من أصحابِه جماعةً كثيرةً، ورأى الوزيرُ الطلَبَ له من كل جانبٍ، فعاود دخولَ المفازة إلى خوارزمَ وأوغل فيها، فلمَّا فارق الغز خراسان قصد مسعود جبلًا مِن جبال طوس منيعًا لا يُرام، وكان أهلُ الجبل قد وافقوا الغُزَّ وأفسدوا معهم، فلمَّا فارق الغزُّ تلك البلاد تحصَّنَ هؤلاء بجَبَلِهم ثقةً منهم بحصانتِه وامتناعه، فسرى مسعود إليهم جريدةً، فلم يَرُعْهم إلَّا وقد خالطهم، فتركوا أهلَهم وأموالَهم وصَعِدوا إلى قِمَّة الجبَلِ واعتَصَموا بها وامتَنَعوا، وغَنِمَ عسكَرُ مسعود أموالَهم وما ادَّخَروه. ثمَّ أمر مسعودٌ أصحابَه أن يزحَفوا إليهم في قمَّة الجبل، وباشَرَ هو القتالَ بنَفسِه، فزحَفَ النَّاسُ إليهم، وقاتلوهم قتالًا لم يَرَوا مثله، وكان الزمانُ شتاءً، والثلجُ على الجبلِ كثيرًا، فهلك من العسكر في مخارمِ الجَبَلِ وشِعابِه كثيرٌ، ثمَّ إنهم ظَفِروا بعسكر طغرلبك وأكثَروا فيهم القتلَ والأسرَ، وفرَغوا منهم، وأراحوا المسلمينَ مِن شَرِّهم. ثمَّ سار مسعود إلى نيسابور في جمادى الأولى سنة 431، ليريحَ ويستريحَ، وينتظِرَ الربيعَ ليسيرَ خَلْفَ الغز، ويطلُبَهم في المفاوزِ التي احتَمَوا بها.
هو الفَقيهُ العالِمُ، إِمامُ الحَنابِلَةِ، الشَّريفُ أبو جَعفرٍ عبدُ الخالقِ بن عيسى بن أحمدَ بن محمدِ بن عيسى بن أحمدَ بن موسى بن محمدِ بن إبراهيمَ بن عبدِ الله بن معبدِ بن العبَّاسِ بن عبدِ المُطَّلِبِ, الهاشميُّ الفَقيهُ. إِمامُ الطائفةِ الحَنبليَّةِ في زَمانِه بلا مُدافَعَةٍ. وُلِدَ سَنةَ 411هـ, وهو أَجَلُّ أَصحابِ القاضي أبي يَعلَى. كان حَسَنَ الكَلامِ في المُناظَرَةِ، وَرِعًا زاهِدًا، مُتقِنًا، عالِمًا بأَحكامِ القُرآنِ والفَرائضِ، مَرْضِيَّ الطَّريقةِ. وقال أبو الحُسينِ بن الفَرَّاءِ: "لَزِمتُه خمسَ سنين، فكان إذا بَلغَهُ مُنكرٌ قد ظَهرَ عَظُمَ ذلك عليه جِدًّا، وكان شَديدًا على المُبتَدِعَةِ، لم تَزَل كَلِمتُه عاليةً عليهم، وأَصحابُه يَقمَعونَهُم، ولا يَرُدُّ يَدَهُ عنهم أَحَدٌ"، وكان عَفيفًا نَزيهًا، يُدَرِّسُ بمَسجِدِه، ثم انتَقلَ إلى الجانبِ الشرقيِّ من بغداد يُدَرِّسُ في مَسجدٍ آخرَ، ثم انتَقلَ في سَنةِ 466هـ لأَجلِ ما لَحِقَ نَهرَ المُعَلَّى من الغَرَقِ إلى بابِ الطَّاقِ، ودَرَّسَ بجامعِ المَهديِّ. لمَّا احتَضرَ القاضي أبو يَعلَى أَوصَى أن يُغَسِّلَهُ الشَّريفُ أبو جَعفرٍ، ولمَّا احتَضرَ القائمُ بأَمرِ الله أَوصَى أيضًا أن يُغَسِّلَهُ، ففَعَلَ. وكان قد وَصَّى له القائمُ بأَمرِ الله بأَشياءَ كَثيرةٍ، فلم يَأخُذها، فقِيلَ له: خُذْ قَميصَ أَميرِ المُؤمنينَ للبَركةِ، فأَخذَ فُوطَتَه فنَشَّفَ بها القائمَ، وقال: قد لَحِقَ الفُوطةَ بَركةُ أَميرِ المُؤمنينَ. ثم استَدعاهُ المُقتَدِي، فبايَعَهُ مُنفرِدًا. ولمَّا تُوفِّي كان يومُ جَنازَتِه يومًا مَشهودًا، وحُفِرَ له إلى جانبِ قَبرِ الإمامِ أحمدَ، ولَزِمَ الناسُ قَبرَهُ ليلًا نَهارًا، حتى قِيلَ: خُتِمَ على قَبرِه أَكثرُ من عشرةِ آلافِ خَتمَةٍ. قال الذهبيُّ: "وطَوَّلَ تَرجمتَه ابنُ الفَرَّاءِ إلى أن قال فيها: وأُخِذَ الشَّريفُ أبو جعفرِ بن أبي موسى في فِتنَةِ أبي نصرِ بن القُشيريِّ، وحُبِسَ أيامَا، فسَرَدَ الصَّومَ وقال: ما آكلُ لأَحَدٍ شَيئًا. ودَخلتُ عليه في تلك الأيامِ، فرَأيتُه يقرأُ في المُصحفِ، فقال لي: قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} الصَّبْرُ: الصَّوْمُ. ولم يُفطِر إلى أن بَلغَ منه المَرضُ، فلمَّا ثَقُلَ وضَجَّ الناسُ من حَبسِه، أُخرِجَ إلى الحَريمِ الطَّاهريِّ، فمات هناك" قال عنه ابنُ كَثيرٍ: "كان أَحدَ الفُقهاءِ العُلماءِ العُبَّادِ الزُّهَّادِ المَشهورِينَ بالدِّيانَةِ والفَضلِ والعِبادةِ والقِيامِ في الله بالأَمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المُنكرِ، لا تَأخذُه في الله لَوْمَةُ لائمٍ، وكان مَشهورًا بالصَّلاحِ والدِّيانةِ، وحين وَقعَت الفِتنةُ بين الحَنابلةِ والأَشعريَّةِ بسَببِ ابنِ القُشيريِّ اعتُقِلَ هو في دارِ الخِلافةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، يَدخلُ عليه الفُقهاءُ وغَيرُهم، ويُقبِّلون يَدَهُ ورَأسَه".
هو الوَزيرُ الكَبيرُ، نِظامُ المُلْكِ، قِوامُ الدِّينِ، أبو عليٍّ الحَسنُ بن عليِّ بن إسحاقَ الطُّوسيُّ، وَزيرُ السُّلطانِ ملكشاه السلجوقي، عاقِلٌ، سائِسٌ، خَبيرٌ، سَعيدٌ، مُتَدَيِّنٌ، مُحتَشِمٌ، عامِرُ المَجلِس بالقُرَّاءِ والفُقَهاءِ. أَنشأَ المَدرسةَ النِّظامِيَّة الكُبرى ببغداد، ثم أَنشأَ مَدارسَ أُخرى في عَددٍ من البُلدانِ, ورَغَّبَ في العِلمِ، وأَدَرَّ على الطَّلَبَةِ الصِّلاتِ، وأَملَى الحَديثَ، وبَعُدَ صِيتُه. وُلِدَ سَنةَ 408هـ بنوقان، إحدى مَدينَتي طُوس، وكان من أَولادِ الدَّهَّاقِين بناحِيَةِ بيهق، وكان فَقيرًا مَشغولًا بسَماعِ الحَديثِ والفِقْهِ، وقَرأَ النَّحْوَ، خَتَمَ القُرآنَ وله إحدى عشرة سَنَةً، وعَمِلَ بالكِتابَةِ والدِّيوانِ، وخَدَمَ بغزنةَ، ثم بعدَ حينٍ اتَّصَلَ بداود بن ميكائيل السلجوقيِّ فظَهَرَ له منه النُّصْحُ والمَحَبَّةُ،، فأَخذَهُ بِيَدِهِ وسَلَّمَهُ إلى وَلَدِه ألب أرسلان، وقال له: يا محمد، هذا حَسَنٌ الطُّوسيُّ اتَّخِذهُ والِدًا ولا تُخالِفهُ. فلمَّا وَصَلَ المُلْكُ إلى ألب أرسلان استَوزَرَهُ، فدَبَّرَ مُلكَه عشر سنين. ولمَّا ماتَ ألب أرسلان، ازدَحَم أَولادُه على المُلْكِ، فقام بأَمْرِ ملكشاه حتّى تَمَّ أَمرُه ومَلَكَ السَّلطَنَةَ. كان نِظامُ المُلْكِ عاليَ الهِمَّةِ، وافِرَ العَقلِ، عارِفًا بتَدبيرِ الأُمورِ، وخَفَّفَ المَظالِمَ، ورَفَقَ بالرَّعايا، وبَنَى الوُقوفَ، وهاجَرَت الكِبارُ إلى جَنابِه، وازدادَت رِفعَتُه. قال الذهبيُّ: "كان شافِعيًّا أَشعَريًّا. سار إلى غزنة، فصار كاتِبًا نَجيبًا، إليه المُنتَهى في الحِسابِ، وبَرَعَ في الإنشاءِ، وكان ذَكِيًّا، لَبيبًا، يَقِظًا، كامِلَ السُّؤدَدِ. قيل: إنه ما جَلَسَ إلا على وُضوءٍ، وما تَوضَّأ إلا تَنَفَّلَ، ويَصومُ الاثنين والخميس، جَدَّدَ عِمارةَ خوارزم، ومَشهدَ طوس، وعَمِلَ بيمارستانا، وبَنَى مَدارِسَ بمَرو، وهراة، وبلخ، والبَصرَة، وأصبهان، وكان حَلِيمًا رَزينًا جَوادًا، صاحِبَ فُتُوَّةٍ واحتِمالٍ ومَعروفٍ كَثيرٍ إلى الغايَةِ، ويُبالِغ في الخُضوعِ للصَّالِحين". قال ابنُ عَقيلٍ: "بَهَرَ العُقولَ سِيرَةُ النِّظامِ جُودًا وكَرمًا وعَدلًا، وإحياءً لِمَعالِمِ الدِّين، كانت أيامُه دَولةَ أَهلِ العِلمِ، ثم خُتِمَ له بالقَتلِ وهو مارٌّ إلى الحَجِّ، في رمضان، فماتَ مَلِكًا في الدنيا، مَلِكًا في الآخرة" في عاشر رمضان قُتِلَ نِظامُ المُلْكِ أبو عليٍّ الحَسنُ بن عليِّ بن إسحاقَ الوَزيرُ بالقُرْبِ من نهاوند، وكان هو والسُّلطانُ في أصبهان، وقد عاد إلى بغداد، فلمَّا كان بهذا المكان، بعد أن فَرَغَ من إفطارِه، وخَرجَ في مَحِفَّتِه إلى خَيمةِ حَرَمِه، أَتاهُ صَبِيٌّ دَيلميٌّ من الباطِنيَّةِ، في صورة مُستَميحٍ، أو مُستَغيثٍ، فضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ كانت معه، فقَضَى عليه وهَرَبَ، فعَثَرَ بطُنُبِ خَيمَةٍ، فأَدرَكوهُ فقَتَلوهُ، فسَكَنَ عَسكرُه وأَصحابُه، وقيل: إن قَتْلَهُ كان بتَدبيرِ السُّلطانِ، فلم يُمهَل بعدَه إلا نحوَ شَهرٍ، وبقي كانت وِزارتُه لبَنِي سلجوق أربعًا وثلاثين سَنةً- وقيل: أربعين سَنةً- تُوفِّي عن سِتٍّ وسبعين سَنةً.
سار سِنجر إلى لقاء التُّرك، فعبَرَ إلى ما وراء النَّهرِ، فشكا إليه محمودُ بنُ محمد خان من الأتراك القارغلية، فقَصَدهم سنجر، فالتجؤوا إلى كوخان الصيني ومَن معه من الكُفَّار، وأقام سنجر بسمرقند، فكتب إليه كوخان كتابًا يتضَمَّنُ الشَّفاعةَ في الأتراكِ القارغلية، ويَطلُبُ منه أن يعفوَ عنهم، فلم يُشَفِّعْه فيهم، وكتَبَ إليه يدعوه إلى الإسلامِ ويتهَدَّدُه إن لم يُجِبْ عليه، ويتوعَّدُه بكَثرةِ عساكرِه، ووَصْفِهم، وبالَغَ في قتالِهم بأنواعِ السِّلاحِ، حتى قال: وإنَّهم يَشُقُّونَ الشَّعرَ بسِهامهم، فلم يرْضَ هذا الكتابَ وزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، فلم يُصغِ إليه، وسَيَّرَ الكِتابَ، فلمَّا قُرئَ الكِتابُ على كوخان أمَرَ بنَتفِ لحيةِ الرَّسولِ، وأعطاه إبرةً، وكَلَّفَه شَقَّ شَعرةٍ مِن لحيَتِه فلم يَقدِرْ أن يفعَلَ ذلك، فقال: كيف يَشُقُّ غَيرُك شَعرةً بسَهمٍ وأنت عاجِزٌ عن شَقِّها بإبرةٍ؟ وقيل: سَبَبُ المعركة أنَّ سنجرَ كان قَتَلَ ابنًا لخوارزم شاه أتسز بن محمد، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا، وهم مِن الأتراك المجوس بما وراءَ النهر، وحَثَّهم على قَصدِ مملكةِ السُّلطان سنجر، فساروا في ثلاثمئة ألف فارسٍ بقيادة مَلِكِهم كوخان، وسار إليهم سنجر في عساكِرِه، واستعَدَّ كوخان للحَربِ، وعنده جنودُ الترك والصين والخطا وغيرهم، وقصد السُّلطانُ سنجر، فالتقى العسكرانِ بما وراءَ النَّهرِ بمَوضعٍ يقال له قطوان، وكانا كالبَحرينِ العَظيميَنِ، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى وادٍ يقالُ له درغم، وكان على ميمنةِ سِنجر الأميرُ قماج، وعلى مَيسَرتِه ملك سجستان، والأثقالُ وراءهم، فاقتتلوا خامِسَ صَفَر, وكانت الأتراكُ القارغليَّة الذين هربوا من سنجر مِن أشَدِّ النَّاسِ قِتالًا، ولم يكُنْ ذلك اليومَ مِن عَسكَرِ السُّلطان سنجر أحسَنُ قتالًا من صاحِبِ سجستان، فانجَلَت الحربُ عن هزيمة المسلمين، فقُتِلَ منهم ما لا يُحصى مِن كَثرتِهم، واشتمل وادي درغم على عشرةِ آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السُّلطانُ سنجر مُنهَزِمًا، وأُسِرَ صاحب سجستان والأميرُ قماج وزوجةُ السُّلطان سنجر، وهي ابنةُ أرسلان خان، فأطلَقَهم الكُفَّارُ، ولَمَّا انهزم سنجر قَصَد خوارزم شاه مدينةَ مَروٍ، فدخلها مُراغمةً للسُّلطانِ سنجر، وقَتَل جمعًا مِن أهلها، وقَبَضَ على أبي الفضل الكرماني الفقيهِ الحنفي وعلى جماعةٍ مِن الفقهاء وغيرِهم من أعيانِ البَلَدِ، وممَّن قُتِلَ الحسامُ عُمَرُ بن عبد العزيز بن مازة البُخاري الفقيهُ الحنفي المشهور. ولم يكُنْ في الإسلامِ وَقعةٌ أعظَمُ من هذه ولا أكثَرُ مِمَّن قُتِلَ فيها بخراسان، واستقَرَّت دولة الخطا والترك الكُفَّار بما وراء النهر، وبَقِيَ كوخان إلى رَجَب من سنة 537 فمات فيه.
بدأت الحملة الصليبية السادسة سنة 625 (1227م)كمحاولة لإعادة السيطرة على بيت المقدس. بدأت بعد سبع سنوات فقط من فشل الحملة الصليبية الخامسة التي ترأسها الإمبراطور فريدريك الثاني هوهنشتاوفن الألماني الذي نذر النذر الصليبي للحملة السابقة ولم يف به حينها، وأراد الإمبراطور أن يحقق مقاصده دون أن يسحب سيفه من غمده، فتزوج في صيف سنة 622 (1224م) من ابنة ملك بيت المقدس يوحنا دي بريان (يولاندي والمعروفة أيضًا باسم إيزابيلا) وتزوج كذلك من ماريا من مونتفيرات، وأخذ يطالب بعرش مملكة زالت من الوجود من زمان في فلسطين، واستغل الحرب بين الأيوبيين الملك الكامل صاحب مصر مع أخيه الملك المعظم صاحب دمشق ودخل في مفاوضات مع السلطان الكامل، الأمر الذي أثار غضب روما، وقيَّم البابا أونوريوس الثالث مسلك فريدريك الثاني بكل قساوة واتهمه بإهمال قضية الرب؛ بل إنه هدده بالحرمان من الكنيسة وفرض غرامة مقدارها 100 ألف أوقية من الذهب إذا لم تقم الحملة الصليبية في آخر المطاف، وقد أرجئ البدء بها إلى 624 (1226م) وبدأ فريدريك الثاني ببناء السفن واستأنفت روما في الدعوة إلى الحرب المقدسة، ولكن الدعوات قوبلت باللامبالاة، وفي هذه الأثناء، وقبل خمسة أشهر من الموعد المعين، توفي البابا أونوريوس الثالث. وفي صيف 624 (1226م) تجمع بضع عشرات من الآلاف من المجندين، معظمهم من ألمانيا والبقية من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا في معسكر قرب برنديزي والبعض الآخر في أبحر صقلية، ولكن الأمراض وقلة المؤن ومرض فريدريك الثاني أدى إلى إرجاء الحملة، ولكن البابا الجديد غريغوريوس التاسع أصدر صك حرمان من الكنيسة بحق فريدريك الثاني، وتشفيًا بالبابا أبحر الإمبراطور فريدريك إلى سوريا 626 (1228م)، فكان من البابا أن منع الحملة الصليبية، ووصف فريدريك بأنه قرصان، وبأنه يريد سرقة مملكة القدس، فكانت أول حملة صليبية لا يباركها البابا، ولكن فريدريك الثاني لم يأبه فاستولى على قبرص ووصل إلى عكا، حيث بدأ المفاوضات مع السلطان الكامل أسفرت سنة 627 (1229م) عن صلح لمدة 10 سنوات تنازل بمقابله الملك الكامل عن بيت المقدس باستثناء منطقة الحرم، وبيت لحم والناصرة وجميع القرى المؤدية إلى القدس، وقسم من دائرة صيدا وطورون (تبنين حاليًّا)، وعزز الإمبراطور الألماني بعض الحصون والقلاع وأعاد تنظيمها، ووقع مع مصر عدّة اتفاقيات تجارية، وتعهد فريدريك الثاني بمساعدة الملك الكامل ضد أعدائه أيًّا كانوا، مسلمين أم نصارى، وضمن عدم تلقي القلاع الباقية خارج سيطرته أية مساعدة من أي مكان. ووقع الاتفاق الذي عرف باتفاق يافا.
هو السُّلطانُ الملك المعز عِزُّ الدنيا والدين، أيبك التركماني، الصالحي الجاشنكير- جاشنكير متذوِّق طعام السلطان- صاحب مصر. لما قتل المماليكُ المعظَّم توران شاه، خَطَبوا لشجرةِ الدر أمِّ خليل أيامًا، وكانت تعلِّمُ على المناشير، وتأمُرُ وتنهى، ويُخطَبُ لها بالسلطنة. ولما وصل الخبَرُ بذلك إلى بغداد فبعث الخليفة المستعصم بالله من بغداد كتابا إلى مصر وهو ينكِرُ على الأمراء ويقولُ لهم: "إن كانت الرجالُ قد عَدِمَت عندكم فأعلِمونا حتى نسَيِّرَ إليكم رجلًا" فاجتمع الأمراءُ والبحرية للمشورة واتفقوا على إقامة الأمير عز الدين أيبك مقَدَّم العسكر في السلطنة ولقَّبوه بالملك المعز. كان المعزُّ أكبر الصالحية، دَيِّنًا عاقلًا ساكًنا، كريمًا تاركًا للشرب. ملكوه في أواخر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين، وتزوَّجَ بأم خليل، فأنِفَ من سلطنتِه جماعة، فأقاموا في الاسمِ الملك الأشرف موسى بن الناصر يوسف ابن المسعود أطسز بن السلطان الملك الكامل وله عشرُ سنين، وذلك بعد خمسة أيام، فكان التوقيع يبرز وصورته: رسم بالأمر العالي السلطاني الأشرفي والملكي المعزي. واستمَرَّ ذلك والأمور بيد المعز، وكان في المعِزِّ تُؤَدة ومداراة، ثم استقَلَّ بالملك بلا منازعة، وكسر الناصِرَ لَمَّا أراد أخذ الديار المصرية وقَتَلَ فارِسَ الدين أقطاي الجمدار- جمدار حامل ملابس السلطان- سنة ثنتين وخمسين، وخلع بعده الأشرفَ، واستقَلَّ بالملك وحده، وهو واقِفُ المدرسة المعزية بمصرَ ومجازُها من أحسن الأشياء. كان موتُه في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، أصبح المعز بداره ميتًا فاتَّهَم مماليكُه زوجته شجرة الدر، وقد كان عَزَم على تزوُّجِ ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأمرت جواريها أن يمسِكنَه لها فما زالت تضربُه بقباقيبِها والجواري يَعركنَ في أنثَيَيه حتى مات وهو كذلك، وقيل بل أعدت له شجرة الدرِّ خمسةً ليقتلوه منهم محسن الجوجري، وخادمٌ يعرف بنصر العزيزي، ومملوكٌ يسمى سنجر، فلما كان يوم الثلاثاء ركب الملك المعز من الميدان بأرضِ اللوق، وصَعِدَ إلى قلعة الجبل آخِرَ النهار، ودخل إلى الحمام ليلًا، فأغلق عليه الباب محسن الجوجري، وغلام كان عنده شديدُ القوة ومعهما جماعة، وقتلوه بأن أخذه بعضُهم بأنثييه وبخناقه، فاستغاث المعز بشَجَرةِ الدر فقالت اتركوه، فأغلظ لها محسن الجوجري في القول، وقال لها: متى ترَكْناه لا يبقي علينا ولا عليك، ثم قتلوه، وأقامت الأتراكُ بعده ولَدَه عليًّا، بإشارةِ أكبر مماليكه الأمير سيف الدين قطز، ولَقَّبوه الملك المنصور، وخُطِبَ له على المنابر وضُرِبَت السكة باسمه وجَرَت الأمور على ما يختاره برأيه ورسمه، عاش المعِزُّ نيفًا وخمسين سنة، وكان قد مكث في الملك نحوًا من سبع سنين.
جرت حروب بأفريقية من بلاد المغرب، وذلك أنه لما مات أبو فارس عبد العزيز، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبى عبد الله، ولى عمه أبا الحسن على بن أبي فارس بجاية وأعمالها، فلما مات المنتصر، وقام من بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن أبي عبد الله، امتنع عمه أبو الحسن من مبايعته، ورأى أنه أحق منه، ووافقه فقيه بجاية منصور بن علي بن عثمان وله عصبة وقوة، فاستبد بأمر بجاية وأعمالها، فسار أبو عمرو من تونس في جمع كبير لقتاله، فالتقيا قريبًا من تبسة وتحاربا، فانهزم أبو الحسن إلى بجاية، ورجع أبو عمرو إلى تونس، ثم خرج أبو الحسن من بجاية، وضم إليه عبد الله بن صخر من شيوخ إفريقية، ونزل بقسنطينة وحصرها وقاتل أهلها مدة، فسار إليه أبو عمرو من تونس في جمع كبير، فلما قرب منه سار أبو الحسن عائدًا إلى جهة بجاية، فتبعه أبو عمرو حتى لقيه وقاتله، فانهزم أبو عمرو بعدما قتل أبو الحسن عدةً من أصحابه، وعاد كل منهما إلى بلده، فلما كان في هذه السنة أعمل أبو عمرو الحيلةَ في قتل عبد الله بن صخر حتى قتله، وحُمِل رأسه إليه بتونس، ففَتَّ ذلك في عضد أبي الحسن، ثم جهز أبو عمرو العساكر من تونس في إثر ذلك، فنازلت العساكر بجاية عدة أيام، حتى خرج الفقيه منصور بن علي إلى قائد العسكر، وعقد معه الصلح ودخل به إلى بجاية، وعبر الجامع وقد اجتمع به الأعيان، وجاء أبو الحسن ووافق على الصلح، وأن تكون الخطبة لأبي عمرو، ويكون هو ببجاية في طاعته، وترجع العساكر عن بجاية إلى تونس، فلما تم عقد الصلح أقيمت الخطة باسم أبي عمرو، وعادت العساكر تريد تونس، فبلغهم أن أبا عمرو خرج من تونس نحوهم لقتال أبي الحسن، فأقاموا حتى وافاهم، ووقف على ما كان من أمر الصلح، فرضي به، وأخذ في العود إلى جهة تونس، فورد عليه الخبر بأن أبا الحسن خاف على نفسه من أهل بجاية، فخرج ليلًا حتى نزل جبل عجيسة، فأقر عساكرَه حيث ورد عليه الخبر، وسار جريدة في ثقاته، ودخل مدينة بجاية، فسُرَّ أهلها بقدومه، وزينوا البلد، فرتب أحوالها واستخلف بها أصحابه، وعاد إلى معسكره، واستدعي شيوخ عجيسة، فأتاه طائفة منهم فأرادهم على تسليم أبى الحسن إليه، وبذل لهم المال، فأبوا أن يسلموه، فتركهم وعاد إلى تونس، فكثُرَ جمع أبي الحسن بالجبل، وأقام به مدة، ثم خاف من عجيسة أن تغدر به، ولم يأمنهم على نفسه، فسار ونزل جبل عياض قريبًا من الصحراء.
إنَّ الملك الظاهر يلباي الإينالي لما تسلطن وتم أمره غطَّاه المنصب، وصار كالمذهول، ولزم السكوتَ وعدم الكلام، وضَعُف عن بتِّ الأمور، وردْع الأجلاب، بل صارت الأجلاب في أيامه كما كانت أولًا وأعظم، فلم يَحسُن ذلك ببال أحد، وصار الأمير خيربك الدوادار الثاني هو صاحب الحل والعقد في مملكته، وإليه جميعُ أمور المملكة، وشاع ذلك في الناس والأقطار، فبهذا وأشباهه اضطربت أحوالُ الديار المصرية، ولما كان عصر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى، وطلعت الأمراء الألوف إلى القلعة ليبيتوا بالقصرِ على العادة، امتنعت المؤيدية عن الطلوع بمن وافقهم ما خلا الأمير جانبك الإينالي الأشرفي المعروف بقلقسيز أمير مجلس، وهو كبير الأشرفية الكبار يومئذ، واستمالت الظاهرية أيضًا الأمير جانبك قلقسيز الأشرفي أمير مجلس، فمال إليهم، ووعدهم بممالأة خشداشيته- زملائه- الأشرفية إليهم، وخذلان يشبك الدوادار، فعند ذلك صار الملك الظاهر يلباي وحده أسيرًا في أيدي القلعيين، فلما أصبحوا يوم الخميس خامس جمادى الأولى أعلن الأمير يشبك الفقيه الوثوب على الخشقدمية، ولبسوا آلة الحرب، وركب بمن معه من المؤيدية والأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، والسيفية، واجتمع عليهم خلائقُ من كل طائفة، ومالت زعر الديار المصرية إليهم، وبلغ مَن بالقلعة أمرهم، فخافوهم خوفًا شديدًا، ولَبِسوا هم أيضًا آلة الحرب، ونزلوا بالسلطان الملك الظاهر يلباي إلى مقعد الإسطبل السلطاني المطل على الرميلة، وشرعوا في قتال الأمير يشبك بمن معه في الأزقة والشوارع بالصليبية، وأصبح يوم الجمعة سادس جمادى الأولى والقتال قائم بين الفريقين بشارع الصليبية من أول النهار إلى آخره، فلما جاء الليل ليلة السبت أدخل يلباي إلى مبيت الحراقة، وبات به على هيئة عجيبة، إلى أن أصبح النهار وأخذوه وطلعوا به إلى القصر الأبلق، وحبسوه في المخبأة التي تحت الخرجة، بعد أن طلعوا به ماشيًا على هيئة الخَلعِ من السلطنة ثم سُجِنَ بعد ذلك بسجن الإسكندرية إلى أن توفي في العام التالي وقد جاوز السبعين من عمره، وأخذ الناس في سلطنة الملك الظاهر تمربغا، وزال ملك يلباي هذا كأنه لم يكن، وكانت مدة ملكه شهرين إلا أربعة أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم فقط، أما السلطان الجديد الظاهر أبو سعيد تمربغا فجلس بصدر المقعد بالإسطبل السلطاني المعروف بالحراقة، وحضر الخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف، والقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، وتخلف المالكي لتوعكه، والحنبلي لإبطائه، وحضر غالب أرباب الدولة والأعيان وبايعوه بالسلطنة، فقام من وقته ودخل مبيت الحراقة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي.
هو الشيخُ أبو محمد عثمان بن محمد الملقب بـ (فودي) بن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد أحدُ علماء نيجيريا، كان مالكيَّ المذهب. ولِدَ في قرية طقِل في شمال نيجيريا، سنة 1169هـ يعتبرُ عثمان دان فوديو مؤسِّسَ دولة تكرور في سوكوتو في غربِ أفريقيا قريبًا من نهر الكونغو، وكان قد عاد من الحجِّ وهو ممتلئٌ حماسةً للإصلاح الديني، فكَثُر أتباعُه والمتحمِّسون لأفكارِه، فلما زاد عددُ أتباعه ومريديه، وفكَّرَ في الاتصال بأحدِ الملوك ليشُدَّ مِن أزره، فلجأ إلى أقوى ملوكِ الهوسة- وهو وقتذاك- الملِكُ نافتا (ملك غوبر)، وشرح له الإسلامَ الصحيح وطلبَ إليه إحياءَ معالم الدين، وإقامةَ العدل بين الناس. فاستجاب له أوَّلَ الأمر وأسند إليه الفتوى والإرشادَ بمجلِسِه وديوانه، غيرَ أنَّ بعض مدَّعي العلمِ الحاقدين قاموا يعَيِّرونه لاتصاله بالمَلِك ويتَّهمونه بالرياء والسعي إلى الجاه والسلطان، ووشَوا به عنده، ومنهم من أنكر عليه بعضَ أقواله وأفعاله، فوقعت بينه وبين المَلِك جفوة سافر بسَبَبِها الشيخ إلى بلاد زمفرة وكبي. يقول الإمام محمد بللو ابن الشيخ عثمان بن فودي عن معاناة والده: "ثم إنَّه لما برز هكذا، وكثُرَ أتباعه من العلماء والعوام، وتراسل الخلقُ إلى الاقتداء به، وكفاه اللهُ من ناوأه من علماءِ وَقتِه، حتى نشر أعلامَ الدين، وأحيا السنة الغرَّاء، فتمكَّنت في البلد أيَّ تمكين- نصَبَ أهل الدنيا له العداوةَ مِن أمراء هذه البلاد،..... وإنما غاظهم ما يرون من ظهورِ الدين وقيام ما درس مِن معالم اليقين، وذَهاب بقاءِ ما هم فيه من الضَّلالِ والباطِلِ والتخمين، مع أنَّ سَلطنتَهم.. مؤسَّسة على قواعِدَ مخُالِفة للشريعة.... فلمَّا أوضح الشيخُ الطريق، واهتدى إليه أهلُ التوفيق... وبقِيَ أهل الدنيا من علماءِ السوء والملوك في طغيانِهم يعمهون،... فجعل أولئك الملوك والعلماء يؤذون الجماعةَ (أتباعه)، ويعترضون كلَّ من ينتسب إلى الشيخ،... ولم يزَلْ كُلُّ من تولى من ملوكِ بلادنا مجتَهِدًا في إطفاءِ ذلك النور، ويكيد بالشيخِ وبجماعته، ويمكُرُ بهم ويحتال في استئصالهم" استطاع الشيخ عثمان بالدعوة أن يوحِّدَ تلك الجماعات المتناثرة في شتى أقاليم الحوصة ويجعل منها جماعةً واحدةً مُتماسِكةً، فأصبح له جَيشٌ قوي، ثم تعرض لولايات الحوصة الإسلامية، فسقطت واحدة تلوَ الأخرى في يدِه، وكان قد قسَّم مملكتَه على ولديه، ومات في هذه السنة بعد أن أسَّس مملكةً كبيرة سُرعان ما هبَّ الإنجليز للتدخل فيها, ولفودي مؤلَّفات كثيرة تجاوزت 150 كتابًا. توفِّي في ولاية سقطو (سوكوتو) بنيجيريا.
كان فيصل بن الحسين ثالثُ الأبناء قد نُصبَ ملكًا على سوريا الجزءِ الأكبر من بلاد الشام، لكِنَّه لم يلبث أن طُرِدَ في العاشر من ذي القعدة 1338هـ / 25 تموز 1920م عندما دخل الفرنسيون إلى سوريا، وكانت إنجلترا بعد أن نكَثَت كلَّ العهود التي أعطتها للشريف حسين ظنَّت أنَّ فيصلًا أنسب أبنائه لحُكمِ العراق التي كانت تحت سيطرتها، فكتب وزيرُ الخارجية الإنجليزي كرزون إلى نائب الحاكِمِ الملكي في العراق يسألُه عن هذا الرأي، فرد النائب باقتراح أحدِ هؤلاء: هادي العمري، نقيب أشراف بغداد، عبد الرحمن الكيلاني، أحد أبناء الحسين بن علي، أحد أفراد الأسرة الخديوية في مصر. مع ترشيحِه هو لهادي العمري، كان تفضيل بريطانيا لفيصل ابن الشريف حسين ليكونَ ملكًا على العراق لعدَّةِ أسباب: منها تهدئة خواطر العرب الذين أُصيبوا بخيبةِ أملٍ بعد عزم دول الحُلَفاء بفرضِ سياسة الانتداب على البلاد العربية التي كانت تحت حُكمِ الدولة العثمانية، ووعد بلفور الذي يهدِّدُ مستقبل فلسطين، وكذلك اطمئنان الإنجليز من شِدَّةِ ولاء الشريف حسين وأبنائه للإنجليز واستعدادهم لتنفيذ سياساتها في المنطقة بكلِّ إخلاص. لذلك دعت الحكومةُ البريطانية فيصلًا لزيارة لندن، وقابل الملك جورج الخامس الذي عَرَض عليه مُلكَ العراق، لكن فيصل أبدى اعتراضًا، وهو أن أخاه عبد الله رشَّحه الشاميون لمُلك العراق، فقام لورنس بالتفاوض مع عبد الله على أن يكون هو ملكًا على شرق الأردن، ويترك مُلْك العراق لأخيه فيصل، فوافق، ثم قام برسي كوكس ممثِّل الحكومة البريطانية في العراق بتشكيل حكومةٍ وطنية، فكُوِّنت بمساعدة عبد الرحمن الكيلاني، وكُوِّن مجلس شورى، ثم قَبْلَ تنصيبِ الملك فيصل على العراق ساومه ونستون تشرشل على أن يكونَ بينهما معاهدة -يعني بين العراق وإنجلترا- تقوم مقامَ الانتداب وتؤدِّي غرضَه، يعني: في تحقيق مصالح إنجلترا في العراق، ثم ليبدوَ الأمر ليس مفروضًا على العراق؛ لأن المرشَّحين لمنصب الملك على العراق كُثُر، ومع أنه اقترح غير النظام المَلَكي، لكنَّ إنجلترا رأت أنَّ النظام الملكي حاليًّا أنسب لوضع العراق، ثم أخذت بإشاعةِ الخبر والدعاية لفيصل في العراق، ثم صرحت الحكومةُ البريطانية بموافقتها على ترشيحه، وبعد أن انتهت التمهيداتُ سافر فيصل إلى العراق على متنِ الباخرة البريطانية نورث بروك في ميناء البصرة في السابع عشر من شوال 1339هـ / 23 حزيران 1921م فاستُقبِلَ استقبالًا حارًّا، ثم سافر إلى بغداد، وكلما مرَّ على قرية عُمِلت له الاحتفالات، ووصل إلى بغداد في 23 شوال 1339هـ / 29 حزيران 1921م وبايعه مجلس الوزراء في الخامس من ذي القعدة من العام نفسه / 5 تموز، وأعدت وزارة الداخلية صورةً لمضبطه يُعلِنُ فيها الأهالي تأييدَهم، وتُوِّجَ مَلِكًا على العراق في يوم 18 ذي الحجة 1339هـ / 23 آب 1921م.
لم يزلْ أفتكين الشَّرابيُّ مولى مُعِزِّ الدولة بن بُوَيه طُولَ مُقامِه بدمشق يكاتِبُ القَرامِطةَ ويكاتِبونَه بأنَّهم سائرون إلى الشام، إلى أن وافَوا دمشق بعد موتِ المعِزِّ الفاطمي في هذه السنة، وكان الذي وافى منهم: إسحاقُ، وكِسرى، وجعفر، فنزلوا على ظاهرِ دمشق، ومعهم كثيرٌ مِن العجم أصحابِ أفتكين الذين تشَتَّتوا في البلاد وقتَ وَقعتِه مع الديلم، فلَقُوهم بالكوفة في الموقعات، فأركبوهم الإبِلَ، وساروا بهم إلى دمشق، فكساهم أفتكين؛ فقَوِيَ عسكَرُه بهم وتلَقَّى أفتكين القرامِطةَ وحَمَل إليهم وأكرَمَهم وفَرِحَ بهم، وأمِنَ مِن الخوف، فأقاموا على دمشق أيامًا ثم ساروا إلى الرملةِ وبها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فالتجأ إلى يافا، ونزل القرامطةُ الرملة، ونصبوا القتالَ على يافا حتى مَلَّ كُلٌّ مِن الفريقين القِتالَ، وصار يُحَدِّثُ بَعضُهم بعضًا. وجبى القرامطةُ المال فأمِنَ أفتكين من مصرَ، وظَنَّ أن القرامِطةَ قد كَفَوه ذلك الوجهَ، وعمِلَ على أخذ الساحل، فسار بمن اجتمَعَ إليه، ونزل على صيدا، وبها ابنُ الشيخ، ورؤساءُ المغاربة، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي، فقاتلوه قتالًا شديدًا، فانهزم عنهم أميالًا، فخرجوا إليه، فواقعهم وهَزَمهم وقتل منهم، وصار ظالمُ إلى صُور، فيقال إنَّه قتل يومئذٍ أربعة آلافٍ مِن عساكِرِ المغاربة، قُطِعَت أيمانُهم وحُمِلَت إلى دمشق، فطِيفَ بها. ونزل أفتكين على عكَّا، وبها جمَعَ مِن المغاربة، فقاتلوه، فسيَّرَ العزيز بالله القائِدَ جَوهرًا بخزائن السلاح والأموال إلى بلاد الشام في عسكرٍ عظيمٍ لم يَخرُجْ قَبلَه مثلُه إلى الشام، من كثرة الكراعِ والسِّلاح والمال والرجال، بلَغَت عِدَّتُهم عشرين ألفًا بين فارسٍ وراجل، فبلغ ذلك أفتكين وهو على عكَّا، والقرامطة بالرملة، فسار أفتكين مِن عكَّا ونزل طبَريَّة، وخرج القرامِطةُ مِن الرملة، ونزلها جوهرٌ. وسار إسحاق وكسرى مِن القرامطة بمن معهم إلى الأحساءِ؛ لقِلَّةِ مَن معهم من الرجالِ الذين يلقَونَ بها جوهرًا، وتأخَّرَ جعفر من القرامطة فلَحِقَ بأفتكين وهو بطبرية، وقد بعث في جمعٍ في حوران والبثنية، وسار جوهر من الرملة يريدُ طَبَريَّة، فرحل أفتكين، واستحَثَّ النَّاسَ في حَملِ الغَلَّة من حوران والبثنية إلى دمشقَ، وصار أفتكين إلى دمشقَ، ومعه جعفر القرمطي، فنزل جوهرٌ على دمشق لثمانٍ بَقِينَ مِن ذي القعدة فيما بين داريا والشماسية، فجمَعَ أفتكين أحداثَ البلد، وأمَّنَ مَن كان قد فزع منه، فاجتمع حُمَّال السِّلاح والذعار إليه، ورئيسُهم قسام التراب. وأخذ جوهرٌ في حفر خندقٍ عظيمٍ على عسكره، وجعل له أبوابًا، وكان ظالمُ بنُ موهوب معه، فأنزله بعسكَرِه خارج الخندق، وصار أفتكين فيمن جمعَ مِن الذعار، وأجرى لكبيرِهم قسَّام رِزقًا. ووقع النفيُ على قُبَّة الجامع والمنابر، وساروا فجرى بينهم وبين جوهرٍ وقائِعُ وحُروبٌ شديدة وقتالٌ عظيم، وقُتِلَ بينهم خلقٌ كثيرٌ مِن يوم عرفةَ، فجرى بينهم اثنتا عشرة وقيعةً إلى آخر ذي الحجة. ولم يزل إلى الحادي عشر من ربيع الأول سنة 367 فكانت بين الفريقينِ وقعةٌ عظيمة، انهزم فيها أفتكين بمَن معه، وهَمَّ بالهرب إلى أنطاكية، ثم إنَّه استظهر. ورأى جوهرٌ أنَّ الأموال قد تَلِفَت، والرجالَ قد قُتِلَت والشِّتاءَ قد هجم، فأرسل في الصُّلح،ِ فلم يُجِب أفتكين، وذلك أنَّ الحُسَين بن أحمد الأعصم القرمطيَّ بعَثَ إلى ابنِ عَمِّه جعفر المقيم عند أفتكين بدمشقَ: إنِّي سائِرٌ إلى الشام، وبلغ ذلك جوهرًا، فتردَّدَت الرسل بينه وبين أفتكين حتى تقرَّرَ الأمرُ أنَّ جوهرًا يرحل، ولا يتبَعُ عَسكَرَه أحد، فسُرَّ أفتكين بذلك، وبعَثَ إلى جوهرٍ بجِمالٍ ليَحمِلَ عليها ثِقْلَه؛ لقِلَّة الظهر عنده، وبقي من السلاح والخزائنِ ما لم يَقدِرْ جَوهرٌ على حَملِه، فأحرقه، ورحل عن دمشق في ثالث جمادى الأولى. وقَدِمَ البشيرُ مِن الحسن بن أحمد القرمطي إلى عمِّه جعفر بمجيئه، وبلغ ذلك جوهرًا، فجَدَّ في السَّيرَ، وكان قد هلك من عسكرِه ناسٌ كثير من الثَّلجِ، فأسرع بالمسيرِ مِن طبرية، ووافى الحسَنُ بنُ أحمد من البريَّة إلى طبرية، فوجد جوهرًا قد سار عنها، فبعث خلْفَه سريَّةً أدركَتْه، فقابلهم جوهرٌ، وقتل منهم جماعةً، وسار فنزل ظاهِرَ الرملة، وتَبِعَه القرمطي، وقد لَحِقَه أفتكين، فسارا إلى الرملة، ودخل جوهرٌ زيتون الرملة، فتحصَّنَ به، فلما نزل الحسنُ بنُ أحمد القرمطي الرملةَ هلك فيها، وقامَ مِن بعده بأمرِ القرامطةِ ابنُ عَمِّه أبو جعفر، فكانت بينه وبين جوهرٍ حروب كثيرة. ثم إنَّ أفتكين فسَدَ ما بينه وبين أبي جعفرٍ القرمطيِّ، فرجع عنه إلى الأحساءِ، وكان حسَّانُ بنُ علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي أيضًا مع أفتكين على محاربةِ جَوهرٍ، فلم يرَ منه ما يحِبُّ، وراسله العزيزُ فانصرف عن أفتكين، وقَدِمَ القاهرة على العزيز، واشتدَّ الأمر على جوهر، وخاف على رجالِه، فسار يريدُ عسقلان، فتَبِعَه أفتكين. واستولى قَسَّام التراب على دمشقَ وخطَبَ للعزيز، فسار أبو تغلِبَ بنُ حمدان إلى دمشق، فقاتله قسَّام ومنعه، فسارَ إلى طبرية. وأدرك أفتكين جوهرًا، فكانت بينهما وقعةٌ امتدت ثلاثة أيام انهزم في آخرها جوهَرٌ، وأخذ أصحابَه السَّيفُ، فجَلوا عما معهم، والتحَقوا بعسقلان، فظَفِرَ أفتكين من عسكرِ جوهرٍ بما يَعظُمُ قَدرُه، واستغنى به ناسٌ كثيرون. ونزل أفتكين على عسقلانَ، فجَدَّ جوهرٌ حتى بلغ من الضُّرِّ والجَهدِ مَبلغًا عظيما، وغَلَت عنده الأسعارُ، فبلغ قفيزُ القمح أربعين دينارًا، وأخذت كتامة تسُبُّ جوهرًا وتنتَقِصُه، وكانوا قد كايَدوه في قتالهم، فراسل أفتكين يسألُه: ماذا يريدُ بهذا الحصار، فبعث إليه: لا يزولُ هذا الحصارُ إلا بمالٍ تؤدِّيه إليَّ عن أنفُسِكم. فأجابه إلى ذلك، وكان المالُ قد بقي منه شيءٌ يسير، فجمع من كان معه من كتامة، وجمع منهم مالًا، وبعث إليه أفتكين يقول: إذا أمَّنتُكم لابدَّ أن تخرجوا من هذا الحِصنِ مِن تحت السيفِ، وأمَّنَهم وعَلَّقَ السَّيفَ على باب عسقلان، فخرجوا من تحتِه. وسار جوهر إلى مصر، فكان مدَّة قتالهم على الزيتون وقَفلتِهم إلى عسقلان حتى خرجوا منها نحوًا من سبعة عشر شهرًا بقية سنة 366 إلى أن دنا خروجُ سنة 367. وقدم جوهرٌ على العزيز، فأخبره بتخاذُلِ كتامةَ، فغَضِبَ غضبًا شديدًا، وعذر جوهر في باطنه، وأظهر التنكير له، وعزَلَه عن الوزارة، وولَّى يعقوبَ بنَ كلس عوضَه في المحرم سنة 368.
حُنينُ: وادٍ إلى جَنبِ ذي المَجازِ، قريبٌ مِنَ الطَّائفِ، وبينه وبين مكَّةَ بضعةَ عشرَ مِيلًا مِن جِهَةِ الشرائع والسيل الكبير، وقِيلَ سُمِّيَ بِحُنَيْنٍ؛ نِسبَةً إلى رَجلٍ يُدعَى: حُنينَ بنَ قابِثَةَ بنِ مَهْلائِيلَ.
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أقامَ بمكَّةَ 19 يومًا، حتَّى جاءَتْ هَوازِنُ وثَقيفٌ فنزلوا بحُنينٍ يُريدون قِتالَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمَعوا قبلَ ذلك حين سَمِعوا بمَخرجِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ المدينةِ، وهُم يَظنُّون أنَّه إنَّما يُريدُهم، فلمَّا أَتاهُم أنَّه قد نزَل مكَّةَ، أخَذوا في الاسْتِعدادِ لِمُواجهَتِه، وقد أَرادوها مَوقِعَةً حاسِمةً، فحَشدوا الأموالَ والنِّساءَ والأَبناءَ حتَّى لا يَفِرَّ أَحدُهم ويَترك أهلَهُ ومالَهُ، وكان يَقودُهم مالكُ بنُ عَوفٍ النَّضْريُّ، واسْتنفَروا معهم غَطَفانَ وغيرَها. فاسْتعَدَّ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم لِمُواجَهتِهم، فاسْتَعارَ مِن يَعْلى بنِ أُميَّةَ ثلاثين بَعيرًا وثلاثين دِرْعًا، واسْتَعارَ مِن صَفوانَ بنِ أُميَّةَ مائةَ دِرْعٍ، واسْتعمَل عَتَّابَ بنَ أَسِيدِ بنِ أبي العاصِ أَميرًا على مكَّةَ، وقد ثبَت في الصَّحيحين أنَّ الطُّلقاءَ قد خرَجوا معه إلى حُنينٍ. واسْتقبَل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بجَيشِه وادِيَ حُنينٍ في عَمايَةِ الصُّبْحِ، وانْحَدروا فيه، وعند دُخولِهم إلى الوادي حَملوا على هَوازِنَ فانْكشَفوا، فأَكَبَّ المسلمون على ما تَركوهُ مِن غَنائِمَ، وبينما هُم على هذه الحالِ اسْتقبَلَتْهُم هَوازِنُ وأَمطَرتْهُم بِوابِلٍ مِنَ السِّهامِ، ولم يكنْ المسلمون يَتوقَّعون هذا فضاقَتْ عليهم الأَرضُ بما رَحُبَتْ، فوَلَّوْا مُدْبِرين لا يَلْوِي أحدٌ على أحدٍ، وانْحازَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم ذاتَ اليَمينِ وهو يقولُ: (أين النَّاسُ؟ هَلُمُّوا إليَّ، أنا رسولُ الله، أنا رسولُ الله، أنا محمَّدُ بنُ عبدِ الله). وأمَر الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عَمَّهُ العبَّاسَ -وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوتِ- أن يُنادِيَ النَّاسَ بالثَّباتِ، وخَصَّ منهم أصحابَ بَيعةِ الرِّضوانِ، فأَسرَعوا إليه، ثمَّ خَصَّ الأَنصارَ بالنِّداءِ، ثمَّ بني الحارثِ بنِ الخَزرجِ، فطاروا إليه قائِلِين: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ. ودارت المَعركةُ قَويَّةً ضِدَّ هَوازِنَ، وقال الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عندما رأى المَعركةَ تَشْتَدُّ: (هذا حين حَمِيَ الوَطيسُ). ثمَّ أخَذ حَصَياتٍ -أو تُرابا- فرَمى به وُجوهِ الكُفَّارِ وهو يقولُ: (شاهَتِ الوُجوهُ). فما خلَق الله تعالى منهم إنسانًا إلَّا مَلأَ عَينَيْهِ تُرابًا بتلك القَبضةِ، فوَلَّوْا مُدْبِرين، والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (انْهزَموا ورَبِّ محمَّدٍ)، وفي رِوايةٍ أُخرى: (انْهزَموا ورَبِّ الكَعبةِ, انْهزَموا ورَبِّ الكَعبةِ). وقد رُوِيَ: أنَّ قَتْلى بني مالكٍ مِن ثَقيفٍ لِوَحدِها قد بلَغ 70 قَتيلًا، وقُتِلَ بأَوْطاسٍ مِن بني مالكٍ 300، وقُتِلَ خُلَقٌ كَثيرٌ مِن بني نَصرِ بنِ مُعاوِيَةَ ثمَّ مِن بني رِئابٍ، ورُوِيَ: أنَّ سَبْيَ حُنينٍ قد بلَغ 6000 مِنَ النِّساءِ والأَبناءِ. بينما قُتِلَ مِنَ المسلمين أربعةٌ.
كان أبو بكرٍ قد كتَب إلى خالدٍ أن يَلحقَ بالشَّام لِمُساندةِ أَجنادِ المسلمين، وأَمَدَّ هِرقلُ الرُّومَ بباهان، فطلَع عليهم وقد قَدَّمَ الشَّمامِسَةَ والرُّهْبانَ والقِسِّيسينَ يَحُضُّونهم على القِتالِ، ولمَّا قَدِمَ خالدٌ الشَّامَ أشار على الأُمراءِ أن يَجتمِعوا تحت قِيادةٍ واحدةٍ، فقال لهم: إنَّ تَأْمِيرَ بعضِكم لا يُنْقِصُكم عند الله ولا عند خَليفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهَلُمُّوا فَلْنَتَعاوَر الإمارةَ، فليَكُنْ عليها بَعضُنا اليومَ، والآخرُ غدًا، حتَّى يتَأَمَّرَ كُلُّكُم، ودَعوني أَتَوَلَّى أَمْرَكم اليومَ, فأَمَّرُوه. خرَجت الرُّومُ في تَعْبِئَةٍ لم يَرَ الرَّاءون مِثلَها قَطُّ، مِائتي ألفٍ وأربعين ألفًا، منهم ثمانون ألفًا مُقَيَّدٌ بالسَّلاسِل. وخرَج خالدٌ في تَعْبِئَةٍ لم تُعَبِّئْها العَربُ قبلَ ذلك، وكان المسلمون سِتَّة وثلاثين ألفًا. وقِيلَ سِتَّة وأربعين ألفًا, جعلهم خالدٌ في سِتَّة وثلاثين كُرْدُوسا إلى الأربعين كُرْدُوس، شَهِدَ اليَرموك ألفٌ مِن أصحابِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيهم نحوٌ مِن مِائةٍ مِن أهلِ بدرٍ, وكان أبو سُفيانَ يَسيرُ فيَقِفُ على الكَراديس فيقول: الله الله، إنَّكم ذَادَةُ العَربِ، وأنصارُ الإسلامِ، وإنَّهم ذَادَةُ الرُّومِ وأنصارُ الشِرْكِ! اللَّهمَّ إنَّ هذا يومٌ مِن أيَّامِك، اللَّهمَّ أَنزِلْ نَصرَك على عِبادِك. قال رجلٌ لخالدٍ: ما أكثرَ الرُّومَ وأَقَلَّ المسلمين! فقال خالدٌ: ما أَقَلَّ الرُّومَ وأكثرَ المسلمين! إنَّما تَكْثُرُ الجُنودُ بالنَّصرِ وتَقِلُّ بالخُذلانِ، لا بعددِ الرِّجالِ، والله لوَدِدْتُ أنَّ الأشقرَ -يعني فَرَسَهُ- بَرَأَ مِن تَوَجُّعِه وأنَّهم أَضْعَفُوا في العَدَدِ. خرَج جَرَجَةُ أحدُ قادةِ الرُّومِ حتَّى كان بين الصَّفَّيْنِ، ونادى: لِيَخرُج إليَّ خالدٌ، فخرَج إليه خالدٌ، فوافَقَهُ بين الصَّفَّيْنِ، حتَّى اختلفت أَعناقُ دابَّتَيْهِما، فحاوَرهُ خالدٌ حتَّى دخَل في الإسلامِ وكانت وَهْنًا على الرُّومِ. أَمَّرَ خالدٌ عِكرِمةَ والقَعقاعَ، والْتَحَم النَّاسُ، وتَطارَد الفِرْسانُ وهُم على ذلك إذ قَدِم البَريدُ مِن المدينةِ، بموتِ أبي بكرٍ وتَأْميرِ أبي عُبيدةَ، فأسرَّ خالدٌ الخَبَرَ حتَّى لا يُوهِنَ الجيشَ، وحَمِيَ الوَطيسُ، واشْتَدَّ القِتالُ, وقام عِكرمةُ بن أبي جهلٍ يُنادي: مَن يُبايِع على الموتِ؟ فبايَعَهُ أربعمائة مِن وجوه المسلمين، فقاتلوا حتَّى أُثْبِتُوا جميعًا, فهزَم الله الرُّومَ مع اللَّيلِ، وصعَد المسلمون العَقبةَ، وأصابوا ما في العَسكرِ، وقتَل الله صناديدَهُم ورءوسَهُم وفِرسانَهُم، وقتَل الله أخا هِرقل، وأُخِذَ التَّذارِقُ، وقاتَل جَرَجَةُ قِتالًا شديدًا مع المسلمين، إلى أن قُتِلَ عند آخرِ النَّهارِ، وصلَّى النَّاسُ الأوُلى والعصرَ إيماءً، وتَضَعْضَع الرُّومُ، ونهد خالد بالقلبِ حتَّى كان بين خَيْلِهِم ورَجْلِهم، فانهزم الفِرْسان وتركوا الرَّجَّالةَ. ولمَّا رَأي المسلمون خيلَ الرُّومِ قد تَوجَّهَت للمَهْرَبِ أَفرَجوا لها، فتَفرَّقَت وقُتِلَ الرَّجَّالةُ، واقتحموا في خَندقِهم فاقْتَحَمه عليهم، فعَمِدوا إلى الوَاقُوصَةِ حتَّى هوى فيها المُقتَرِنون وغيرُهم، ثمانون ألفًا مِن المُقْتَرِنين، ودخَل خالدٌ الخَندقَ ونزَل في رِواقِ تَذارِق، وانتهت الهَزيمةُ إلى هِرقل وهو دون مَدينةِ حِمْصَ، فارْتَحَلَ.
كان انتِصارُ المسلمين في القادِسيَّة دافعًا لهم للاستمرار في زَحْفِهم نحو المدائنِ عاصِمَةِ الفُرْسِ، وسار سعدٌ بجُنودِه حتَّى وصَل إلى بَهُرَسِيرَ "المدائن الغَربيَّة" وكانت إحدى حواضِر فارِسَ، فنزَل سعدٌ قريبًا منها، وأرسَل مجموعةً مِن جُنودِه لاستِطلاعِ المَوقِف، وعاد الجُنودُ وهُم يَسوقون أَمامَهم آلافَ الفَلَّاحين، مِن أهلِ تلك المدينةِ. وحينما عَلِمَ شيرزارُ دَهْقانُ -أمير- ساباط بالأَمْرِ أرسَل إلى سعدِ يَطلُب منه إطلاقَ سَراحِ هؤلاء الفَلَّاحين، ويُخبِره أنَّهم ليسوا مُقاتِلين، وإنَّما هُم مُجرَّد مُزارِعين أُجَراء، وأنَّهم لم يُقاتلوا جُنودَه؛ فكتب سعدٌ إلى عُمَر يَعرِض عليه المَوقِف ويَسألُه المَشورةَ: إِنَّا وَرَدْنا بَهُرَسِيرَ بعدَ الذي لَقِينا فيما بين القادِسيَّة وبَهُرَسِيرَ، فلم يأتِ أحدٌ لِقِتالٍ، فبَثَثْتُ الخُيولَ، فجمعتُ الفَلَّاحين مِن القُرى والآجامِ. فأجابه عُمَر: إنَّ مَن أتاكُم مِن الفَلَّاحين إذا كانوا مُقيمين لم يُعينوا عليكم فهو أَمانُهم، ومَن هرَب فأَدركْتُموهُ فشَأنُكم به. فلمَّا جاءهُ خِطابُ عُمَر خَلَّى سعدٌ سَبيلَهُم. وأرسَل سعدٌ إلى الدَّهاقين - رُؤساء المُدُن والأقاليم- يَدعوهُم إلى الإسلامِ، على أن يكونَ لهم ما هُم عليه مِن الإمارةِ والحُكْمِ، أو الجِزْيَة ولهم الذِّمَّةُ والمَنَعَةُ، فدخَل كثيرٌ منهم الإسلامَ لِما وَجدوه مِن سَماحةِ المسلمين وعَدْلِهم مع ما هُم عليه مِن بأسٍ وقُوَّةٍ، ولكنَّ بَهُرَسِيرَ امتنَعَت عنه، وظَنَّ أهلُها أنَّ حُصونَها تَحولُ دون فَتحِ المسلمين لها، فحاصَرها سعدٌ بِجُنودِه طُوالَ شَهرينِ يَرمونَها بالمجانيق، ويَدُكُّونها بالدَّباباتِ التي صنعوها مِن الجُلودِ والأخشابِ، ولكنَّ المدينةَ كانت مُحَصَّنةً فنصَب سعدٌ حولَها عِشرين مَنْجَنيقًا في أماكنَ مُتفرِّقةٍ لِيَشْغَلَهُم ويُصرِفَهم عن مُلاحظَةِ تَقَدُّمِ فِرْسانِه نحو المدينةِ لاقتِحامِها، وأَحَسَّ الفُرْسُ بمُحاولَةِ المسلمين اقْتِحامَ المدينة؛ فخرَج إليهم عددٌ كبيرٌ مِن الجُنودِ الفُرْس لِيُقاتِلوهم ويمنعوهم مِن دُخولِ المدينةِ، وضرَب المسلمون أَرْوَعَ الأمثلةِ في البُطولةِ والفِداءِ، وقُوَّةِ التَّحَمُّلِ والحِرصِ على الشَّهادةِ، وكان القائدُ زُهْرَةُ بن الجويّة واحدًا مِن أولئك الأبطالِ الشُّجْعانِ، استطاع أن يَصِلَ إلى قائدِ الفُرْسِ شهْربَرَاز، فضرَبه بِسَيفِه فقتَله، وما إن رأى جُنودُ الفُرْسِ قائِدَهم يَسقُط على الأرضِ مُضْرَجًا في دِمائِه حتَّى تَمَلَّكَهُم الهَلَعُ والذُّعْرُ، وتَفرَّق جمعُهم، وتتَشتَّت فِرْسانُهم، وظَلَّ المسلمون يُحاصِرون بَهُرَسِيرَ بعدَ أن فَرَّ الجُنودُ والْتَحَقوا بالفَيافِي والجِبالِ، واشْتَدَّ حِصارُ المسلمين على المدينةِ؛ حتَّى اضْطَرَّ أهلُها إلى أكلِ الكِلابِ والقِطَطِ، فأرسَل مَلِكُهم إلى المسلمين يَعرِض الصُّلْحَ على أن يكونَ للمسلمين ما فَتحوهُ إلى دِجْلَة، ولكنَّ المسلمين رَفَضوا وظَلُّوا يُحاصِرون المدينةَ، ويَضرِبونَها بالمجانيق، واسْتَمرَّ الحالُ على ذلك فَترةً مِن الوقتِ، وبَدَتْ المدينةُ هادِئةً يُخَيِّمُ عليها الصَّمتُ والسُّكونُ، وكأنَّهُ لا أثَرَ للحياةِ فيها، فحمَل المسلمون عليها ليلًا، وتَسَلَّقوا أَسوارَها وفَتحوها، ولكنَّ أحدًا لم يَعتَرِضْهُم مِن الجُنودِ، ودخَل المسلمون بَهُرَسِيرَ "المدائن الغَربيَّة" فاتحين بعد أن حاصروها زمنًا طويلًا.