مُحمَّد عِزَّة دَروزة مُفكِّر وكاتب مُسلِم، وُلِد في نابلس في 21 حُزَيران 1887م وتُوُفِّيَ في دِمَشقَ في 26 تموز 1984م. كان أديبًا، وصحفيًّا، ومترجمًا، ومُؤرخًا، ومُفسرًا للقُرآن. نشأ في أُسرة من عشيرةِ "الفريحات" التي كانت تسكُنُ شَرْق الأُردُنِّ، وانحدرت إلى فِلَسطينَ، واستوطنتْ نابلس. كان والِدُهُ يملِكُ محلًّا لتِجارة الأقمشةِ في سُوق خان التُّجَّار القديمِ الشهيرِ في المدينةِ القديمةِ في نابلس. تلقَّى دَروزةُ تعليمَه الأساسيَّ في نابلس حيث حصل على الشَّهادة الابتدائية في سنة 1900م، التحَقَ بعدها بالمدرسة الرَّشادية، وهي مدرسةٌ ثانويَّةٌ مُتوسِّطةٌ، وتخرَّج منها بعد ثلاثِ سنواتٍ، حاصلًا على شهادتِها. قرأ كُتُبًا كثيرةً مختلفةً في مجالات الأدبِ، والتاريخِ، والاجتماعِ، والحُقوقِ، سواءٌ ما كان منها باللُّغة العربية، أو بالتُّركية التي كان يُجيدُها. يسَّرت له وظيفتُهُ في مصلحة البريدِ أن يطَّلِع على الدَّورياتِ المِصريَّةِ المُتداولةِ في ذلك الوقتِ كالأهرامِ والهِلالِ والمُؤيِّد والمُقطَّمِ والمُقتَطَف، وكان البريدُ يقوم بتوزيع هذه الصُّحُف على المشتركين بها. بدأ نشاطُ مُحمَّد عِزَّة دَروزة في مَيدان الحَرَكة الوطنيَّةِ مُبكرًا في سنة 1909م، وشارك في إنشاء الجمعيَّات الوطنيَّةِ، والأحزابِ السياسيَّةِ. مالَ دَروزةُ إلى اتِّخاذِ إجراءاتٍ مُتصاعدةٍ ضدَّ السُّلطة البريطانية ما لم تستجبْ لمطالب البِلاد، ولم تجِدْ بريطانيا لمُواجَهةِ هذه الثورة بُدًّا من اعتقاله هو وزملاءَه، ولمَّا تجدَّدت الثورة سنة 1937م كان المسؤولَ عن التخطيط السياسي للثَّورة الفِلَسطينيَّةِ، وكانت تتلقَّى أوامرها من دِمَشقَ، حيث كان يُقيم دَروزةُ وغيرُهُ من القياداتِ الفِلَسطينيَّةِ اللَّاجِئينَ إليها، وظلَّ هناك قائمًا على أمر الثَّورة الفِلَسطينيَّةِ حتى اعتقله الفَرَنْسيُّونَ بتحريضٍ من الإنجليز في عام 1939م، وحُوكِمَ أمام محكمةٍ عسكريَّةٍ، فأصدرت عليه حكمًا بالسجن، ثم أُفرِجَ عنه سنة 1941م فلجأ إلى تُركيا، وقضى هناك أربعَ سنواتٍ عاد بعدها إلى فلسطين، واستمرَّ دَروزةُ يقوم بدَورِهِ السياسيِّ في خِدْمةِ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ حتى اشتدَّ عليه المرضُ في سنة 1948م، فاستقالَ من عُضويَّةِ الهيئةِ العربيةِ العُليا لفلسطين، وتفرَّغ للكتابة والتأليف، وقد سجَّلَ مُذكِّراتِهِ في ستَّةِ مُجلَّداتٍ ضخمةٍ، حوتْ مسيرةَ الحركةِ العربيةِ، والقضيةَ الفلسطينيةَ خلال قرنٍ من الزَّمانِ. وكتَبَ عددًا من المُؤلَّفاتِ حول فِلَسطينَ، وحول العُروبة، والقضايا العربية، وكتَبَ أيضًا حول الإسلام، والقضايا الإسلامية، منها كتابُ: "الدُّستور القرآني والسُّنَّة النَّبويَّة في شُؤون الحياة"، وطُبع في مُجلَّدينِ كبيرَينِ. ثم وافتْهُ المنيَّةُ في دِمَشقَ بحي الرَّوضةِ في يوم الخميس 26 من تموز 1984 الموافق 28 من شوال 1404هـ.
سَيَّرَ عبدُ الملك بن مَرْوان الحَجَّاج بن يوسُف الثَّقفيَّ إلى عبدِ الله بن الزُّبير رضي الله عنه، وبعَث معه له أمانًا إنْ هو أطاعَ، فبَقِيَ الحَجَّاج مُدَّةً في الطَّائفِ يَبعَثُ البُعوثَ تُقاتِل ابنَ الزُّبير وتَظْفَرُ عليه. فكتَب الحَجَّاجُ إلى عبدِ الملك يُخبِرُه: بأنَّ ابنَ الزُّبير قد كَلَّ وتَفَرَّق عنه أَصحابُه, ويَسْتَأذِنُه بمُحاصَرةِ الحَرَمِ ثمَّ دُخولِ مكَّة، فأَمَدَّهُ عبدُ الملك بطارِقِ الذي كان يُحاصِر المدينةَ، ولمَّا حَصَرَ الحَجَّاجُ ابنَ الزُّبير نَصَبَ المَنْجَنيقَ على أبي قُبَيْسٍ ورَمَى به الكَعبةَ، وكان عبدُ الملك يُنْكِر ذلك أيَّامَ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، ثمَّ أَمَرَ به، وحَجَّ ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما تلك السَّنةَ فأَرسَل إلى الحَجَّاجِ: أنِ اتَّقِ الله، واكْفُفْ هذه الحِجارةَ عن النَّاسِ؛ فإنَّك في شَهْرٍ حَرامٍ وبَلَدٍ حَرامٍ، وقد قَدِمَت وُفودُ الله مِن أَقطارِ الأرضِ لِيُؤَدُّوا فَريضةَ الله ويَزْدادوا خيرًا، وإنَّ المَنْجنيق قد منعهم عن الطَّوافِ، فاكْفُفْ عن الرَّمْيِ حتَّى يَقْضوا ما يجب عليهم بمكَّة. فبَطَّلَ الرَّمْيَ حتَّى عاد النَّاسُ مِن عَرَفات وطافوا وسَعَوْا، ولم يَمْنَعْ ابنُ الزُّبير الحاجَّ مِن الطَّوافِ والسَّعْيِ، فلمَّا فرَغوا مِن طَوافِ الزَّيارةِ نادَى مُنادِي الحَجَّاجِ: انْصَرِفوا إلى بِلادِكم، فإنَّا نَعودُ بالحِجارَةِ على ابنِ الزُّبيرِ المُلْحِدِ. فأصاب النَّاسَ بعد ذلك مَجاعةٌ شديدةٌ بسَببِ الحِصارِ، فلمَّا كان قُبَيْلَ مَقْتَلِه تَفَرَّقَ النَّاسُ عنه، وخَرجوا إلى الحَجَّاجِ بالأمانِ، خرَج مِن عنده نحو عشرةِ آلاف، وكان ممَّن فارَقَه ابْناهُ حَمزةُ وخُبيبٌ، وأَخَذا لِأَنْفُسِهما أَمانًا، فقال عبدُ الله لابْنِه الزُّبيرِ: خُذْ لِنَفسِك أمانًا كما فعل أَخَواك، فَوَالله إنِّي لأُحِبُّ بَقاءَكُم. فقال: ما كنتُ لِأَرْغَبَ بِنَفسِي عنك. فصَبَر معه فقُتِلَ وقاتَلهم قِتالًا شديدًا، فتَعاوَرُوا عليه فقَتَلوهُ يومَ الثُلاثاءِ مِن جُمادَى الآخِرة وله ثلاثٌ وسبعون سَنةً، وتَوَلَّى قَتْلَهُ رجلٌ مِن مُرادٍ، وحمَل رَأسَهُ إلى الحَجَّاج، وبعَث الحَجَّاجُ بِرَأسِه، ورَأسِ عبدِ الله بن صَفوان، ورَأسِ عُمارةَ بن عَمرِو بن حَزْمٍ إلى المدينةِ، ثمَّ ذهَب بها إلى عبدِ الملك بن مَرْوان، وأخَذ جُثَّتَهُ فصَلَبَها على الثَّنِيَّةِ اليُمْنَى بالحُجُونِ، ثمَّ بعدَ أن أَنْزَلَهُ الحَجَّاجُ عن الخَشبةِ بعَث به إلى أُمِّه، فغَسَّلَتْهُ، فلمَّا أَصابَهُ الماءَ تَقَطَّعَ، فغَسَّلَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا فاسْتَمْسَك، وصلَّى عليه أخوه عُروةُ، فَدَفَنَتْهُ.
كان لآلِ بَرْمَك نفوذٌ كبيرٌ في دولة الرشيد؛ إذ كان يحيى بن خالدٍ مُربِّيًا للرشيدِ، وكان أولادُه جعفر والفضل وموسى ومحمَّد أترابَ الرَّشيد، ثمَّ تغيَّرَت أحوالُ البرامكة وتبدَّلَ لهم الرشيدُ فجأةً، فقتل جعفرَ بنَ يحيى وسجَنَ يحيى وابنَه الفضلَ، وصادرَ أملاكَهم، وقد قيل في سبب ذلك أشياءُ؛ منها: أنهم- يعني البرامِكةَ- زاد نفوذُهم كثيرًا، وزادت مصروفاتُهم كثيرًا، حتى فاقوا الخليفةَ بذلك؛ ممَّا جعل أمرَهم مُريبًا مُخيفًا؛ فقد بنى جعفرٌ بيتًا له كلَّفَه عشرينَ مليونَ درهم، وعندما عاد الفضلُ بن يحيى مِن حَربِه في الديلم أطلق لمادِحيه ثلاثةَ ملايين درهم. وهذا السَّرفُ جعل الرشيدَ يتابِعُهم في الدواوينِ والكتاباتِ، فاكتشفَ وُجودَ خَلَلٍ كبير في مصاريفِ الدولة. وقيل: لتشَيُّعِهم وتعاطُفِهم مع العَلَويِّينَ؛ فقد حمل يحيى بن خالد البرمكي إلى يحيى بن عبد الله الطالبي في أثناء ثورتِه بالديلم مئتي ألفِ دينارٍ، كما أنَّ جعفرًا أطلَقَه بعد سَجنِه مِن دونِ عِلمِ الخليفة. وقد أحضر الخليفةُ جعفرًا وسأله، فأقرَّ بالأمرِ، فأظهرَ الرَّشيدُ أنَّه راضٍ عن عَمَلِه، فلمَّا خرج مِن مجلِسِه قال: "قتلني اللهُ بسَيفِ الهُدى على عمَلِ الضَّلالةِ إنْ لم أقتُلْك", وقد يُعدُّ هذا من أقوى أسبابِ نِقمةِ الرشيدِ عليهم، وقيل: لتعصُّبِهم للفُرسِ ومحاولةِ إقصاءِ العَرَب عن المناصبِ المُهِمَّة؛ فقد أبدَوا كراهيَتَهم لمحمَّد بن الليث لِمَيله عن العجَم، وسَعَوا لدى الرشيدِ للإيقاع بيزيدَ بن مزيد الشيباني، واتَّهَموه بالتراخي في قتالِ الخوارج. وقيل: بل لأنَّ الرشيدَ لَمَّا كان يحِبُّ أن يجتَمِعَ مع جعفر وأختِه العبَّاسة (أخت الرشيد) وهي مُحَرَّمة على يحيى، فزَوَّجَها الرشيدُ مِن جَعفرٍ على ألا يقرَبَها، بل فقط ليجتَمِعوا ويَسمُروا سويًّا، ولكِنَّ جعفرًا أتاها فحَمَلت العبَّاسةُ منه، ولَمَّا ولَدَت وجَّهَته إلى مكَّةَ، ثمَّ عَلِمَ الرشيدُ بذلك من بعضِ حواضِنِ العبَّاسة، فعَدَّ ذلك خيانةً مِن جعفرٍ، وقد تناقل المؤرِّخونَ قِصَّةَ عبَّاسة وجعفرٍ البرمكيِّ، وكأنَّها أحدَثَت فِعلًا، بينما عليَّةُ بنتُ المهدي تقولُ للرَّشيدِ بعد إيقاعِه بالبرامكة: ما رأيتُ لك يومَ سرورٍ تامًّا منذ قتَلْتَ جعفرًا، فَلأيِّما شيءٍ قَتَلْتَه؟ فقال: لو عَلِمتُ أنَّ قَميصي يعلمُ السَّببَ الذي قتلْتُ به جعفرًا لأحرقتُه. فهل كانت عليَّة بنت المهدي جاهلةً السَّبَبَ لو كان هناك مِثلُ هذه الفضيحة (قِصَّة عبَّاسة وجعفر البرمكيِّ) في قصرِ الخلافة؟!
هو سيفُ الدينِ غازي بن الملك قطب الدين مودود بن أتابك زنكي بن آق سنقر التركي. صاحِبُ الموصِل ووالد سنجر شاه صاحِب جزيرة ابن عمر. لَمَّا مات أبوه قطب الدين، وهو على تلِّ باشر، وفي سنة ست وستين مَلَك الرقة، ونصيبين وسنجار، ثم أتى الموصِلَ، فأرسل إلى صاحبها وعَرَّفَه صحة قصده، فصالحه. ونزل الموصِلَ ودخلَها، وأقرَّ صاحبها فيها، وزوَّجَه بابنته، وعاد إلى الشام، فلما تملَّك صلاح الدين وسار إلى حلب وحاصرها، سيَّرَ إليه غازي جيشًا عليه أخوه عز الدين مسعود فكسَرَه صلاح الدين, فتجهَّز غازي وسار بنفسه، فانهزم جيشُ غازي فعاد إلى حلب، ثم رحل إلى الموصل. إلى أن مات بالسل. قال ابن الأثير: "كان مليحَ الشباب، تامَّ القامة، أبيضَ اللون، وكان عاقلًا وقورًا، قليلَ الالتفات, ولا يحِبُّ الظلم، على شُحٍّ فيه وجُبن". قال الذهبي عن سيف الدين غازي: "أدار الخمرَ والزنا ببلاده بعد موت عمِّه نور الدين، فمَقَتَه أهل الخير, وقد تاب قبل موته بيسير". توفي سيف الدين غازي بعد أن أُصيب بمرض السل آخِرَ أيامه، وطال به، ثم أدركَه في آخره السرسام- ورم في حجاب الدماغ تحدث عنه حمى دائمة- فمات في صفر. وعاش نحوًا من ثلاثين سنة وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر، وكان لَمَّا اشتد مرضه أراد أن يعهَدَ بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه، وكان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة، فخاف على الدولة من ذلك؛ لأن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكَّن بالشام، وقَوِيَ أمره، وامتنع أخوه عز الدين مسعود بن مودود من الإذعان لذلك، والإجابة إليه، فأشار الأمراءُ الأكابر ومجاهد الدين قايماز بأن يجعَلَ المُلْك بعده في عِزِّ الدين أخيه؛ لِما هو عليه من الكِبَر في السن، والشجاعة والعقل وقوة النفس، وأن يعطي ابنيه بعضَ البلاد، ويكون مرجِعُهما إلى عز الدين عمِّهما والمتولي لأمرهما مجاهد الدين قايماز، ففعل ذلك، وجعل المُلْك في أخيه، وأعطى جزيرةَ ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه، وقلعة عقر الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك، فلما توفي سيف الدين مَلَك بعده الموصل والبلاد أخوه عز الدين، وكان المدبر للدولة مجاهد الدين قايماز، وهو الحاكِم في الجميع، واستقَرَّت الأمور.
قُتِلَ الفتح أحمدُ بن البققي بالدِّيار المصريَّة في يوم الاثنين الرابعَ والعشرين من ربيع الأول، حَكَم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثَبَت عنده من تنقيصِه للشَّريعةِ واستهزائِه بالآيات المحكماتِ، ومعارضةِ المُشتَبِهاتِ بَعضِها ببعض، فيُذكَرُ عنه أنه كان يحِلُّ المحَرَّمات من اللواطِ والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتَمِعُ به من الفَسَقةِ من الترك وغيرِهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغالٌ وهيئةٌ جميلة في الظاهر، وبزّتُه ولبستُه جيدة، وقد كان ذكيًّا حاد الخاطِرِ له معرفةٌ بالأدب والعلوم القديمة، فحُفِظَت عنه سقطاتٌ، منها أنه قال: لو كان لصاحِبِ مقامات الحريري حظٌّ لتُلِيَت مقاماتُه في المحاريبِ، وأنَّه كان يُنكِرُ على من يصوم شهر رمضانَ، ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناوَلَ حاجةً مِن الرَّفِّ صَعِدَ بقدميه على الربعةِ، وكان مع ذلك جريئًا بلسانِه، مستخفًّا بالقضاة يَطنُزُ بهم ويستجهِلُهم، ثم أكثَرَ من الوقيعة في حقِّ زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكيَّة وتنَقَّصَه وسَبَّه، فلما بلغه ذلك عنه اشتَدَّ حَنَقُه وقام في أمرِه، فتقَرَّبَ الناس إليه بالشَّهادةِ على ابن البققي، فاستدعاه وأحضَرَ الشهود فشَهِدوا وحكَم بقتله، وأراد مِن ابن دقيق العيد تنفيذَ ما حَكَم به فتوقَّفَ، وقام في مساعدةِ ابن البققي ناصرُ الدين محمد بن الشيخي وجماعةٌ من الكُتَّاب، وأرادوا إثباتَ جنِّه ليُعفى من القتل، فصَمَّمَ ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطانِ ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وما زالا به حتى أذِنَ في قتله، فنزلا إلى المدرسة الصالحيَّة بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجنِ في الحديد ليُقتَلَ، فصار يصيحُ ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربِّيَ اللهُ، ويتشَهَّد؟!! فلم يلتَفِتوا إلى ذلك، وضُرِبَ عُنُقُه وطيف برأسِه على رمح، وعُلِّقَ جَسَدُه على باب زويلة، وفيه يقولُ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحَرِّضُ على قتله، وكتَبَ بها إلى ابنِ دقيق العيد:
قل للإمامِ العادل المرتضي
وكاشِفِ المُشكِلِ والمبهَمِ
لا تمهِلِ الكافِرَ واعمَلْ بما
قد جاء في الكافِرِ عن مُسلمِ
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملةِ حماقاته:
يا لابسًا لي حُلَّةً مِن مَكْرِه
بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زردًا تضايقَ نَسجُه
وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أنَّ اللهَ لا يُمهِلُه لذلك.
ورد الخبَرُ في أول رجب بحركة خدابندا (ويقال له خربندا) وسبب ذلك رحيلُ بعض الأمراء إليه هاربين من السلطان الناصر منهم قراسنقر وغيره وإقامتُهم عنده، وتقويةُ عَزمِه على أخذ الشام، وكان السلطانُ تحت الأهرام بالجيزة، فقَوِيَ عزمُه على تجريد العساكر، ولم يزل هناك إلى عاشِرِ شعبان، فعاد إلى القلعة، وكتب إلى نوَّاب الشام بتجهيز الإقامات، وعرض السلطانُ العسكر، وترحَّلوا شيئًا بعد شيء، من أوَّل رمضان إلى الثامن عشر منه، حتى لم يبقَ بمِصرَ أحد من العسكر، وخرج السلطانُ في ثاني شوال، ونزل مسجِدَ تبر خارج القاهرة، ورحل في يوم الثلاثاء ثالثَه، ورتَّب بالقلعة سيف الدين أيتمش المحمدي، فلما كان ثامنه قَدِمَ البريد برحيل التتر ليلة سادس عشر رمضان من الرحبة، وكان من أمرهم فيها أنَّه لما وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يومًا وقاتلهم نائبُها الأمير بدر الدين موسى الأزدكشي خمسة أيام قتالًا عظيما، ومنعهم منها، فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خِدمةِ السلطان خربندا ويُهدُوا له هدية ويطلبون منه العفوَ، فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدَوا له خمسةَ رؤوس خيل، وعشرة أباليجَ سكر، فقَبِلَ ذلك, وأخذ الرحبةَ منهم بالأمان وعَفَا عن أهلها ولم يسفِكْ فيها دمًا، وبات بها ليلة الأربعاء في الخامس والعشرين من رمضان, فلما أصبح ارتحل وترك لأهلِ الرحبة أشياءَ كثيرةً مِن أثقال مناجيق وغيرها وكان معه يومئذٍ قرا سنقر والأفرم وسليمان بن مهنا، وكان أهلها قد حلفوا لخربندا فلمَّا ارتحل عنها واستقر الأمر التمس قاضيها ونائبُها وطائفةٌ حلفت لخربندا عَزْلهم من السلطانِ لمكان اليمينِ له فعَزَلهم, وكانت بلادُ حلب وحماة وحمص قد أجلَوا منها وخَرب أكثَرُها ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة، وطابت الأخبار وسكنت النفوس ودَقَّت البشائر وتَرَكت الأئمَّةُ القنوت، وخَطَب الخطيبُ يوم العيد وذكَّر الناسَ بهذه النعمة، وكان سبب رجوع التتر قِلَّة العَلَف وغلاء الأسعار وموت كثير منهم، وأشار على سلطانِهم خربندا بالرجوعِ الرشيد وجوبان،، وعودهم إلى بلادِهم بعدما أقاموا عليها من أول رمضان، ففَرَّق السلطانُ الناصر العساكِرَ في قانون وعسقلان، وعزم على الحَجِّ، ودخل السلطانُ دمشق في التاسع عشر، وخرج منها ثاني ذي القعدة إلى الكرك، ويذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان مِمَّن قَدِمَ ورجع إلى دمشق بصُحبةِ السلطان، فكان يومًا مشهودًا خرج الناس لرؤيتِه.
كانت ملطيَّة إقطاعًا للجوبان أطلقها له ملك التتر فاستناب بها رجلًا كرديًّا يقال له مندوه فتعدى وأساء وظلم، وكاتب أهلُها السلطانَ الناصر بن قلاوون وأحبُّوا أن يكونوا من رعيَّتِه، فلمَّا ساروا إليها وأخذوها وفعلوا ما فعلوا فيها جاءها بعد ذلك الجوبان فعمَرها وردَّ إليها خلقًا من الأرمن وغيرِهم، وكان سبَبُ غزو ملطيَّة أن السلطان بعث فداوية من أهل مصياف لقتلِ قرا سنقر، فكان مندوه الكرديُّ يدل على قصاد السلطانِ فأخذ منهم جماعةً، فشق ذلك على السُّلطانِ، وأخذ في العَمَلِ عليه، فبلغه مندوه أنه صار يجني خراجَ ملطية، وكان نائبُها من جهة جوبان يقال له بدر الدين ميزامير بن نور الدين، فخاف من مندوه أن يأخُذَ منه نيابة ملطية، فما زال السلطانُ يتحَيَّل حتى كاتَبَه ميزامير، وقرَّرَ معه أن يسَلِّمَ البلد لعساكره، فجهَّزَ السلطانُ العساكر، وورَّى أنَّها تقصِدُ سيس حتى نزلت بحلب، وسارت العساكِرُ منها مع الأمير تنكز على عينتاب إلى أن وصل الدرنبد، فألبس الجميعَ السلاحَ وسلك الدرنبد إلى أن نزل على ملطية يوم الثلاثاء ثالث عشريه، وحاصرها ثلاثةَ أيام، فاتَّفق الأمير ميزامير مع أعيان ملطية على تسليمها، وخرج في عِدَّة من الأعيان إلى الأمير تنكز، فأمَّنَهم وألبسهم التشاريفَ السلطانيَّةَ المجهَّزة من القاهرة، وأعطى الأميرَ ميزامير سنجقًا- راية- سلطانيًّا، ونودي في العسكر ألا يدخُلَ أحد إلى المدينة، وسار الأمير ميزامير ومعه الأمير بيبرس الحاجب والأمير أركتمر حتى نزل بداره، وقبض على مندوه الكردي، وتكاثر العَسكرُ ودخلوا إلى المدينة ونهبوها، وقتَلوا عِدَّة من أهلها، فشَقَّ ذلك على الأمير تنكز، وركِبَ معه الأمراء، ووقف على الأبواب وأخذ النهوبَ مِن العسكر، ورحل من الغد وهو الرابع عشر من محرم بالعسكر، وترك نائِبَ حلب مقيمًا عليها لهدم أسوارها، ففَرَّ مندوه قبل الدخول إلى الدربند وفات أمرُه، فلما قطعوا الدربند أُحضِرَت الأموال التي نُهِبَت والأسرى، فسُلِّمَ من فيهم من المسلمين إلى أهله، وأُفرِدَ الأرمن، فلما فُتِحَت ملطية سار الأمير قجليس إلى مصر بالبشارة، فقَدِمَ يوم الخميس ثالث صفر، ودُقَّت البشائر بذلك، وتبعه الأمير تنكز بالعساكر- ومعه الأمير ميزامير وولده- حتى نزل عينتاب ثم دابق، فوجد بها تسعة عشر ألف نولٍ تُعمَل الصوف، وتُجلَبُ كُلُّها إلى حلب، ثم سار تنكز، فقَدِمَ دمشق في سادس عشر ربيع الأول، وسير ميزامير وابنه في ثلاثين رجلًا مع العسكر المصري إلى القاهرة فقَدِموا في خامس ربيع الآخر.
هو الملك الظاهر برقوق أبو سعيد أولُ من ملك مصر من الجراكسة، وَلِيَ سلطانها سنة 784 وبنى المدرسة البرقوقية بمصر بين القصرين. ثم خُلِع، ثم أعيد إلى أن مات سنة 801؛ ففي يوم الثلاثاء خامس شهر شوال ابتدأ مرض السلطان الظاهر برقوق، وذلك أنه ركب للعب الكرة بالميدان في القلعة على العادة، فلما فَرَغ منه قدم إليه عسل نحل ورد من كختا، فأكل منه ومن لحم بلشون، ودخل إلى قصوره، فعكف على شرب الخمر، فاستحال ذلك خلطًا رديًّا لزم منه الفراش من ليلة الأربعاء، وتنوَّع مرضه حتى أُيس منه لشدة الحمى، وضَعْف القوى، فأرجفت بموته في يوم السبت تاسعه، واستمَرَّ أمره يشتد إلى يوم الأربعاء الثالث عشر، فشنع الإرجاف، وغُلِّقت الأسواق، فلما أصبح يوم الخميس استدعى الخليفةُ المتوكل على الله أبا عبد الله محمدًا، وقضاة القضاة وسائر الأمراء الأكابر والأصاغر وجميع أرباب الدولة إلى حضرة السلطان، فحَدَّثهم في العهد لأولاده، فابتدأ الخليفة بالحَلِف للأمير فرج ابن السلطان أنَّه هو السلطان بعد وفاة أبيه، ثم حلف بعده القضاة والأمراء، ثم مات بعد منتصف ليلة الجمعة خامس عشر شوال، وقد تجاوز الستين سنة، منها مدةُ حكمه بديار مصر منذ صار أتابك العساكر عوضًا عن الأمير طشتمر العلاي الدوادار، إلى أن جلس على تخت السلطة أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، ومنذ تسلطن إلى أن مات ست عشرة سنة وأربعة أشهر وسبعة وعشرون يومًا، منها سلطته إلى أن خُلِع ست سنين وثمانية أشهر وعشرون يومًا، وسلطته منذ أعيد إلى أن مات تسع سنين وثمانية أشهر، والفترة بينهما ثمانية أشهر وتسعة أيام، ومدةُ حكمه أتابكًا وسلطانًا إحدى وعشرون سنة وعشرة أشهر وستة عشر يومًا، اجتمع بالقلعة الأمير الكبير أيتمش وسائر الأمراء وأرباب الدولة، واستدعى الخليفة وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام البلقيني، ومن عادته الحضور، فلما تكاملوا بالإسطبل السلطاني أُحضِرَ فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وخطب الخليفة وبايعه بالسلطة، وقلَّده أمور المسلمين، فقَبِل تقليده، وأُحضِرَت خِلعة سوداء أُفيضت على فرج، ونُعِت بالملك الناصر، ومضى حتى جلس على التخت بالقصر، وقبَّل الأمراءُ كُلُّهم له الأرضَ على العادة، وألبس الخليفة التشريفَ وكان عمره يومها قرابة الثلاث عشرة سنة.
هو السلطان محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن يزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان بن الغازي عثمان، السلطانُ العثماني الثالثَ عشر من سلاطين العثمانيين، ولِدَ في ذي القعدة سنة 974, وكانت والدتُه جاريةً بندقيةَ الأصلِ أحبَّها والده فاصطفاها زوجةً له. أمَّره أبوه على مغنيسا في أواخر سنة 991 ودام واليًا بها إلى موت والده، فجلس مكانه سنة 1003, وقد افتُريَ عليه أنَّه بدأ حكمه بقتل تسعة عشر أخًا من إخوته الذكور. كان السلطان في بداية حكمِه قد ترك إدارةَ الدولة لوزرائه, فأثَّرَ هذا في قوَّة الدولة فضَعُفت داخليًّا وتعرَّضت لعدة هزائم من خصومِها في الخارج، فنصحه عددٌ من العلماء بقيادة جيوش الدولة، فتولى قيادة غالبِ معاركها فدَبَّ في جيشِه الحميَّةُ والغيرة، ففتح قلعةَ أراو الصعبة التي عجز جدُّه السلطان سليمان القانوني عن فتحِها على الرغم من قوَّته وقوة دولته في حينها، كما قابل قواتِ السلطان محمد الثالث التحالفُ النمساوي المَجَري المعادي للدولة العثمانية في معركة كرزت، فحطَّمها ودمرها. حدث في عهده تمرُّدان؛ الأول: ثورة الفرارين، وهم الذين فرُّوا أثناء معركة كرزت، فأمر السلطان بنفيهم إلى الأناضول فتمردوا على الدولة أكثَرَ من مرة, والثورة الأخرى: ثورة الخيالة (السباه) في إستانبول، ثاروا بسبب عجز الدولة عن تعويضِهم عمَّا فقدوه من ريع أملاكِهم أثناء ثورة الفرارين في الأناضول. كان السلطان محمد الثالث سلطانًا وقورًا وجيهًا مَهيبًا صالحًا عابدًا سخيًّا، مخلِصًا عدلًا. وله من الأولاد الذكور سليم خان مات في رمضان سنة 1005 ومحمود خان قتله أبوه في ذي الحجة سنة 1011 وأحمد خان وارثه، بعد أن أخمد الحركاتِ التمردية، والثورات العنيفة، وقاد الجيوشَ بنفسه، وكانت وفاته في نهار الأحد الثامن عشر من رجب من هذه السنة، ومدة حكمه تسع سنين وشهران ويومان، وله من العمر ثمانٍ وثلاثون سنة، وتولَّى بعده ابنه أحمد الأول الذي تولى الحكم وعمره 14 سنة ولم يجلسْ أحد قبلَه من سلاطين العثمانيين في هذه السنِّ على العرش، ثم أبقى أخاه مصطفى محجوزًا مع الجواري والخَدَم بدلَ قتلِه.
حدثت معركةُ بقعاء بين زعماء القصيم وجبل شمر، وملخَّصُها أن غازي ضبيان رئيسُ الدهامشة من عنزة أغار على ابن طوالة من شمر، فأخذ منهم إبلًا وأغنامًا لأهل حائل، فأغار عبد الله بن علي بن رشيد رئيس الجبل على غازي فأخذ منهم إبلًا كثيرةً، فغضب لهم أميرُ بريدة؛ لأن غازيًا من أهل القصيم، فنادى أمير بريدة في حرب ابن رشيد، وكان أهل القصيم قد اتَّفَقوا فيما بينهم لمحاربة كلِّ من يقصدهم بعداوة مهما كانوا، وأجمعوا على حرب ابن رشيد، وكان معهم حلفاءُ وأتباعٌ، فأغاروا على شمر فأخذوا منهم أموالًا كثيرة من الإبل والغنم والأثاث، فأشار يحيى بن سليم أمير عنيزة لعبد العزيز أمير بريدة: دعنا نرجع؛ فهذا العز والنصر كفاية، فأقسم ألَّا يرجِعَ، فتجهز يحيى بن سليم بجنودٍ كثيرة من أهل عنيزة وأتباعهم وتجهَّز عبد العزيز أمير بريدة بأهلِ بريدة وجميـع بلدان القصيم واجتمعوا على موضعِ ماء يسمى (بقعاء) ليقاتِلَ ابن الرشيد في بلده حائل، فساروا إلى الجبل ونزلوا بقعاء المعروفة في جبل شمر، فخرج إليهم أهلها فأمسكوهم عندهم، ونزلت عُربان عنزة على ساعد -الماء المعروف عند بقعاء- فلما علم بذلك عبد الله بن رشيد أمر أخاه عبيد العلي وفرسانًا معه أن يُغيروا على عربان عنزة، فشَنُّوا عليهم الغارة قبل الفجر فحصل قتالٌ عظيم بينهم، مرة يهزِمُهم العربان، ومرة يهزمهم عبيد وأتباعه هذا، ويحيى وعبد العزيز في شوكة أهل القصيم ينتظرون الغارةَ في بقعاء إلى طلوع الشمس، فلما لم يأتهم أحدٌ والقتال راكد على أصحابهم، فزع يحيى بن سليم بالخفيف من الرجالِ وأهل الشجاعة على أرجُلِهم، فلما وصلوا فإذا عبد الله بن رشيد ومعه باقي جنوده قد ورد عليهم مع أخيه عبيد، فانهزم عربان القصيم لا يلتَفِتُ أحد على أحد، وتبعتهم خيول شمر يأخذون من الإبل والأغنام، وتركوا يحيى بن سليم ومن معه في مكانِهم لا ماء معهم ولا رِكابَ، فلما رأى عبد العزيز ومن معه ذلك انهزموا وركبوا ركائبَ يحيى ومن معه وتركوهم، ثم وقع القتال بين يحيى وابن رشيد ثم أُسِرَ في نهايتها يحيى بن سليم وقُتِل. وقد قُتِلَ في هذه المعركة كثيرٌ من رؤساء أهل القصيم ووجهائهم وتجَّارهم، وغَنِمَ فيها ابن رشيد كثيرًا من المال والسلاح.
هو علي محمد ابن المرزا رضى البزَّاز الشيرازي الملقَّب بالباب مؤسِّس فرقة "البابية" وهي إحدى الفِرَق التي حرَّفت العقيدة الإسلامية، وهي أصلُ فرقة البهائية, وهو إيرانيُّ الأصل، ولِدَ بشيراز سنة 1235هـ، ومات أبوه وهو رضيعٌ، فرَبَّاه خاله المرزا سيد علي التاجر، ونشأ في أبي شهر فتعَلَّم مبادئَ القراءة بالعربية والفارسية، وتلقى شيئًا من علوم الدين، وتقشَّف، فكان يمكث في الشَّمسِ ساعات عديدة. وأثَّر ذلك في عَقلِه، ولَمَّا بلغ الخامسةَ والعشرين سنة 1260هـ جاهَرَ بعقيدة ظاهِرُها توحيد الأديان، وقِوامُها تلفيقُ دينٍ جديد. والبابيَّةُ فرقةٌ ضالةٌ كافرةٌ مَوطِنُها الأول إيران، وسمِّيت "بالبابية" نسبة لزعيمِها الأول، والذي لقَّب نفسَه بالباب. وإن كانت البابيةُ في أصلها بيضةً رافضيةً إلَّا أنها اتُّهِمَت بقضية تدرج مؤسسيها في الكذب، وأنها دُعِمَت مِن قِبَل الغرب الكافر. فقد ادعى مؤسِّسُها " علي محمد الشيرازي " عام 1260هـ لنفسه أنَّه الباب والوسيلة للوصولِ إلى الإمام المنتظر، ثم تحوَّل عن ذلك وزعَمَ أنَّه هو بعينه الإمام المنتظر عند الباطنية، ثم تجاوز ذلك وزعم أنَّه نبي مرسَلٌ وأنَّ له كتابًا أفضل من القرآن اسمه "البيان"، وبعد ذلك تطور به الأمرُ وزعم أن الإله حلَّ فيه -تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا- وقد أوعزت اليهوديَّةُ العالمية إلى يهود إيران أن ينضمُّوا تحت لواء هذه الحركة بصورةٍ جماعية، ففي طهران دخل فيها (150) يهوديًّا، وفي همدان 100 يهودي، وفي كاشان 50 يهوديًّا، وفي منطقة كلبا كليا 85 يهوديًّا، كما دخل حبرانِ من أحبار اليهود إلى البابيَّة في همدان، وهما: الحبر الباهو، والحبر لازار. ودخول هذا العدد الكبيرِ مِن اليهود في مدَّةٍ قصيرة في هذه النِّحْلة يكشِفُ الحجم الكبير للتآمُرِ، والأهدافَ الخطيرة التي يسعى اليهودُ لتحقيقها من وراء دَعمِ هذه الحركات التي تُسعَّرُ ضِدَّ الإسلام والمسلمين. ولَمَّا خشيت حكومة إيران الفتنةَ بسبب دعوته سجَنَت بعض أصحابه. وانتقل هو إلى شيراز، ثم إلى أصبهان، فتلقى حاكمُها أمرًا بالقبض على الباب، فاعتُقل وسُجِنَ في قلعة "ماكو" بأذربيجان، ثم انتقل إلى قلعة "جهريق" على أثر فتنة بسببه، ومنها إلى تبريز، وحُكِم عليه فيها بالقتل وذلك بفتوى من العلماء بارتدادِه، فأُعدِمَ رميًا بالرصاص. وألقِيَ جسَدُه في خندق تبريز، فأخذه بعضُ مريديه إلى طهران. وفي حيفا (بفلسطين) قبر ضخمٌ للبهائية يقولون إنهم نقَلوا إليه جثَّةَ الباب خِلسةً, وله عدة مصنفات، منها كتاب "البيان" طُبِع بالعربية والفارسية.
قام العقيد حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري في سوريا، ويعَدُّ الانقلاب الذي قاده العقيد "حسني الزعيم" في سوريا في 29 شعبان سنة 1368هـ/ 30 مارس هو الانقلابَ الأوَّلَ في تاريخ الدول العربية الحديثة. فبعد رحيلِ الفرنسيين عن سوريا كان الأمريكيون يخشون من تنامي التيارات العقائدية داخِلَ البلاد، خاصة الشيوعية واليسارية، ورأى الأمريكيون أنَّ تَرْكَ المسرح السوري للقوى السياسية للتفاعل فيه سيقود حتمًا إلى أن يوجد السوفييت في سوريا؛ ولذا رأوا ضرورةَ إحداث انقلاب عسكري للمحافظة على الأوضاع القائمة. فشجعت المفوضية الأمريكية في دمشق الجيشَ السوري على القيام بانقلاب. وقد رأى الأمريكيون أن حسني الزعيم أفضَلُ الخيارات المطروحة أمامهم؛ حيث كان يتَّفِقُ معهم في العداء للسوفييت، ومن ثم عقَد الأمريكيون معه عدةَ لقاءات عام 1948م. وكانت الأوضاعُ في سوريا قلقةً مضطربة خاصةً بعد نكبة فلسطين؛ حيث اتُّهِم بعض قيادات الجيش بالفساد، وجرى التحقيق مع بعضهم، واتُّهِم بعض السياسيين بسرقةِ المجهود الحربي للجيش، فاستقال وزير الدفاع، ثم استقالت الوزارة، واحتدمت النقاشاتُ بين السياسيين في البرلمان، حتى إن الشرطة تدخَّلت أكثر من مرة لفَضِّها، وانهارت الحكومةُ للمرة الثانية خلال فترة وجيزة. استغل حسني الزعيم الذي عُيِّن قائدًا للجيش في ذي القعدة 1367ه / سبتمبر 1948م هذه الظروف للقيام بانقلابه، فقام بإصدارِ أوامره إلى وحدات من الجيش بمحاصرةِ مبنى الرئاسة والبرلمان والوزارات المختلفة، وتمَّ اعتقال الرئيس "القوتلي"، ورئيس الوزراء، وعدد من القيادات والشخصيات السياسية. ثم قام حسني الزعيم عَقِبَ نجاح انقلابه بحَلِّ البرلمان، وشكَّل لجنة دستورية لوضع دستورٍ جديد، وقانون انتخابي جديد، وأعلن أنه سيتِمُّ انتخابه من الشعب مباشرة، وبدأ بخوضِ الانتخابات الرئاسية كمرشح وحيد، وفاز فيها بنسبة 99.99% في يونيو 1949م!! وقد نمت في عهدِه أجهزة المخابرات والأمن بطريقة غير مسبوقة، وتم استخدامُ أساليب الاعتقال والتعذيب مع المعارضين. أمَّا أخطر سياساته فهي اتجاهُه للتعاون مع الغرب بطريقة مبالَغ فيها، ووقَّع على اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، وبدأ يعتَمِدُ على الأقليات في المخابرات والجيش. رضي الشعب عن الزعيم بادئَ الأمر، ولكِنَّه بعد ذلك أخذ يرصُدُ أخطاءه الكثيرة، واستنكَرَ سياسته القائمة على كمِّ الأفواه وخنق الحريات، وحَلِّ البرلمان وتعليق الدستور. وكانت التجربةُ الاستبدادية القصيرة لحكم الزعيم كافيةً لتغذية السَّخط والتبرم بين صفوف الضبَّاط والمثقَّفين، فلم يلبَثْ أن حدَث الانقلابُ الثاني ليلة 14 أغسطس 1949، وذهب ضحيَّتَه الزعيمُ ورئيس وزرائِه.
لم يُبايِعْ الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضي الله عنه لِيَزيدَ، وبَقِيَ في مكَّة هو وابنُ الزُّبيرِ؛ ولكنَّ أهلَ الكوفَة راسَلوا الحُسينَ لِيَقْدُمَ عليهم لِيُبايِعوهُ ويَنصُروهُ فتكونُ له الخِلافَة، وكان على الكوفَة عُبيدُ الله بن زيادٍ، فبعَث الحُسينُ ابنَ عَمِّهِ مُسلِم بن عَقِيلَ لِيَعلَمَ له صِدْقَ أهلِ الكوفَة، فقَبَضَ عليه ابنُ زيادٍ وقَتَلَهُ، وتَوالَت الكُتُبُ مِن أهلِ الكوفَةِ للحُسينِ لِيَحضُرَ إليهم حتَّى عزَم على ذلك، فناصَحَهُ الكثيرُ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ منهم: ابنُ عُمَر، وأخوهُ محمَّدُ بن الحَنَفِيَّةِ، وابنُ عبَّاسٍ، وأبو سَعيدٍ الخُدريُّ وعبدُ الله بن الزُّبيرِ.... ألَّا يَفْعَلَ، وأنَّهم سَيَخْذُلونَه كما خَذلوا أباهُ وأخاهُ مِن قَبلُ؛ لكنَّ قَدَرَ الله سابقٌ فأَبَى إلَّا الذِّهابَ إليهم، فخرَج مِن مكَّة في ذي الحَجَّة، ولمَّا عَلِمَ ابنُ زيادٍ بمَخْرَجِه جَهَّزَ له مَن يُقابِلهُ، فلمَّا قَدِمَ الحُسينُ وقد كان وَصَلَهُ خبرُ مَوتِ مُسلِم وأخيهِ مِن الرَّضاعِ فقال للنَّاس مَن أَحَبَّ أن يَنْصرِفَ فليَنْصَرِفْ، ليس عليه مِنَّا ذِمامٌ. فتَفَرَّقوا يَمينًا وشِمالًا حتَّى بَقِيَ في أصحابِه الذين جاؤوا معه مِن مكَّة، وقابَلَهم الحُرُّ بن يَزيدَ مِن قِبَلِ ابنِ زيادٍ لِيُحْضِرَ الحُسينَ ومَن معه إلى ابنِ زيادٍ؛ ولكنَّ الحُسينَ أَبَى عليه ذلك، فلم يَقْتُلْه الحُرُّ وظَلَّ يُسايِرُهُ حتَّى لا يَدخُلَ الكوفَة، حتَّى كانوا قريبًا مِن نِينَوَى جاء كتابُ ابنِ زيادٍ إلى الحُرِّ أن يُنْزِلَ الحُسينَ بالعَراءِ بغَيرِ ماءٍ، ثمَّ جاء جيشُ عُمَر بن سعدِ بن أبي وقَّاص كذلك للحُسينِ، إمَّا أن يُبايِع، وإمَّا أن يَرى ابنُ زيادٍ فيه رَأيَهُ، وعرَض الحُسينُ عليهم إمَّا أن يَتركوهُ فيَرجِع مِن حيث أَتَى، أو يَذهَب إلى الشَّام فيَضَعُ يَدَهُ في يَدِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، وإمَّا أن يَسيرَ إلى أيِّ ثَغْرٍ مِن ثُغورِ المسلمين فيكون واحدًا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم. فلم يَقْبَلوا منه شيئًا مِن ذلك، وأَرسَل ابنُ زيادٍ طائفةً أُخرى معها كِتابٌ إلى عُمَر بن سعدٍ أن ائْتِ بهم أو قاتِلْهُم، ثمَّ لمَّا كان اليومُ العاشر مِن مُحرَّم الْتَقى الصَّفَّانِ، وذَكَّرَهُم الحُسينُ مَرَّةً أُخرى بكُتُبِهم له بالقُدومِ فأنكروا ذلك، ووَعَظَهُم فأَبَوْا فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا، ومال الحُرُّ إلى الحُسينِ وقاتَل معه، وكان آخِرَ مَن بَقِيَ مِن أصحابِ الحُسينِ سُويدُ بن أبي المُطاعِ الخَثْعَميُّ، وكان أوَّلَ مَن قُتِلَ مِن آلِ بَنِي أبي طالِبٍ يَومئذٍ عَلِيٌّ الأكبرُ ابنُ الحُسينِ، ومكَث الحُسينُ طويلًا مِن النَّهارِ كُلمَّا انتهى إليه رجلٌ مِن النَّاسِ رجَع عنه وَكَرِهَ أن يَتَوَلَّى قَتْلَهُ وعِظَمَ إثْمِهِ عليه.
وكان أصحابُ الحُسينِ يُدافِعون عنه، ولمَّا قُتِلَ أصحابُه لم يَجْرُؤْ أَحَدٌ على قَتْلِه، وكان جيشُ عُمَر بن سعدٍ يَتَدافعون، ويخشى كُلُّ فَردٍ أن يَبُوءَ بِقَتْلِه، وتَمَنَّوْا أن يَسْتَسْلِمَ؛ لكنَّ شِمْرَ بن ذي الجَوْشَنِ صاح في الجُنْدِ: وَيْحَكُم، ماذا تَنتَظِرون بالرَّجُلِ! اقْتُلوهُ، ثَكَلَتْكُم أُمَّهاتُكم. وأَمَرَهُم بِقَتْلِه, فحَمَلوا عليه مِن كُلِّ جانِبٍ، وضَرَبهُ زُرْعَةُ بن شَريكٍ التَّميميُّ, ثمَّ طَعَنَهُ سِنانُ بن أَنَسٍ النَّخَعيُّ واحْتَزَّ رَأسَهُ. ويُقالُ: إنَّ الذي قَتَلَهُ عُروةُ بن بَطَّار التَّغْلِبيُّ وزيدُ بن رُقادٍ الجَنْبِيُّ. ويُقالُ: إنَّ المُتَوَلِّي الإجهازَ عليه شِمْرُ بن ذي الجَوْشَن الضَّبِّيُّ، وحمَل رَأسَهُ إلى ابنِ زيادٍ خَوْلِيُّ بن يَزيدَ الأَصْبَحيُّ. ودُفِنَ الحُسينُ رضي الله عنه وأصحابُه أهلُ الغاضِريَّة مِن بَنِي أَسَدٍ بعدَ قَتلِهم بيَومٍ. قال شيخُ الإسلامِ في قَتلِه رضي الله عنه: قُتِلَ الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضِي الله عنهما يومَ عاشوراءَ، قَتَلَتْهُ الطَّائفةُ الظَّالمةُ الباغيةُ، وأَكرَم الله الحُسينَ بالشَّهادةِ، كما أَكرَم بها مَن أَكرَم مِن أهلِ بَيتِه، أَكرَم بها حَمزةَ وجَعفَرًا، وأباه عَلِيًّا، وغَيرَهُم، وكانت شَهادتُه ممَّا رفَع الله بها مَنزِلَتَه، وأَعْلَى دَرَجتَهُ، والمَنازِلُ العاليةُ لا تُنالُ إلَّا بالبَلاءِ، قَتلوهُ مَظلومًا شَهيدًا شَهادةً أَكرَمَهُ الله بها، وأَلْحَقَهُ بأهلِ بَيتِه الطَّيِّبين الطَّاهِرين، وأَهانَ بها مَن ظَلمَهُ واعْتَدى عليه، وأَوْجَبَ ذلك شَرًّا بين النَّاسِ، فصارَت طائِفَة جاهِلَة ظالِمَة: إمَّا مُلْحِدة مُنافِقَة، وإمَّا ضَالَّة غاوِيَة، تُظْهِر مُوالاتِه ومُوالاةِ أهلِ بَيتِه، تَتَّخِذُ يومَ عاشوراء يومَ مَأْتَم وحُزْن ونِياحَة، وتُظْهِر فيه شِعارَ الجاهليَّة مِن لَطْمِ الخُدودِ، وشَقِّ الجُيوبِ، والتَّعَزِّي بِعَزاءِ الجاهليَّة. ومِن كَرامَةِ الله للمؤمنين أنَّ مُصيبةَ الحُسينِ وغَيرِه إذا ذُكِرَت بعدَ طولِ العَهْدِ يُسْتَرْجَعُ فيها، كما أمَرَ الله ورسولُه؛ لِيُعْطَى مِن الأجرِ مِثلُ أَجْرِ المُصابِ يومَ أُصِيبَ بها. وإذا كان الله تعالى قد أَمَرَ بالصَّبْرِ والاحْتِسابِ عند حَدَثان العَهْدِ بالمُصيبَةِ فكيف مع طولِ الزَّمانِ, فكان ما زَيَّنَهُ الشَّيطانُ لأهلِ الضَّلالِ والغِيِّ مِن اتِّخاذِ يومِ عاشوراء مَأتمًا، وما يَصنعون فيه مِن النَّدْبِ والنِّياحَةِ، وإنشادِ قَصائدِ الحُزنِ، ورِوايةِ الأخبارِ التي فيها كَذِبٌ كثيرٌ -والصِّدقُ فيها ليس فيه إلَّا تَجديدُ الحُزنِ- والتَّعَصُّبِ، وإثارةِ الشَّحناءِ والحَرْبِ، وإلقاءِ الفِتَنِ بين أهلِ الإسلامِ؛ والتَّوسُّلِ بذلك إلى سَبِّ السَّابِقين الأوَّلين، وكَثْرَةِ الكَذِبِ والفِتَنِ في الدُّنيا، ولم يَعرِفْ طوائفُ الإسلامِ أكثرَ كَذِبًا وفِتَنًا ومُعاونةً للكُفَّارِ على أهلِ الإسلامِ مِن هذه الطَّائفَةِ الضَّالَّةِ الغاويَةِ، فإنَّهم شَرٌ مِن الخَوارِج المارِقين.
بعدَ رُجوعِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الحُديبيةِ كتَب إلى المُلوكِ يَدعوهُم إلى الإسلامِ, ولمَّا أراد أن يُكاتِبَهُم قِيلَ له: إنَّهم لا يَقرءون كِتابًا إلَّا وعليه خاتمٌ، فاتَّخذَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خاتمًا مِن فِضَّةٍ، نَقْشُهُ: محمَّدٌ رسولُ الله، وكان هذا النَّقْشُ ثلاثةَ أَسطُرٍ: محمَّدٌ سطرٌ، ورسولُ سطرٌ، والله سطرٌ. وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: « فَكأنِّي بِوَبِيصِ -أو بِبَصِيصِ- الخاتمِ في إصبعِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم -أو في كَفِّهِ-». واختار مِن أصحابِه رُسُلًا لهم مَعرفةٌ وخِبرةٌ، وأَرسلَهُم إلى المُلوكِ فبعَث دِحيةَ بنَ خَليفةَ الكَلبيَّ إلى قَيصرَ مَلِكِ الرُّومِ، فقَرأ الكِتابَ ولم يُسْلِمْ, وبعَث عبدَ الله بنَ حُذافةَ السَّهميَّ إلى كِسرى مَلِكِ الفُرْسِ، فلمَّا قُرِئَ الكِتابُ عليه مَزَّقَهُ، ولمَّا بلَغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَزَّقَ الله مُلْكَهُ). وقد كان كما قال, وبعَث عَمرَو بنَ أُميَّةَ الضَّمْريَّ إلى النَّجاشيِّ مَلِكِ الحَبشةِ، فلمَّا أَعطاهُ كِتابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَخَذهُ ووَضعَهُ على عَينِه، ونزَل عن سَريرهِ على الأرضِ، وبعَث حاطِبَ بنَ أبي بَلْتَعَةَ إلى المُقَوْقِسِ مَلِكِ الإسكندريَّةِ, فأخَذ كِتابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فجَعلهُ في حُقِّ مِن عاجٍ، وختَم عليه، ثم كتَب إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كِتابًا, ولم يُسْلِمْ, وأَهداهُ جاريتين هُما مارِيَةُ، وشيرين وسِيرينُ، وبَغلةً تُسمَّى دُلْدُلَ. وبعَث عَمرَو بنَ العاصِ السَّهميَّ إلى جَيْفَرٍ وعياد عَبَّادٍ ابْنَي الجُلُنْديِّ الأَزديِّين مَلِكَي عُمانَ، فأجابا إلى الإسلامِ جميعًا، وصدَّقا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم, وبعَث سَليطَ بنَ عَمرٍو أَحَدَ بني عامرِ بنِ لُؤَيٍّ إلى هَوذةَ بنِ عليٍّ الحَنفيِّ مَلِكِ اليَمامةِ, فرَدَّ عليه رَدًّا دون رَدٍّ، وكتَب إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (ما أحسنَ ما تدعو إليه وأَجملَهُ، والعربُ تَهابُ مَكاني، فاجعلْ لي بعضَ الأمرِ أَتَّبِعُكَ). وبعَث العَلاءَ بنَ الحَضرميِّ إلى المُنذِرِ بنِ ساوى العَبديِّ مَلكِ البَحريْنِ فلمَّا أَتاهُ كِتابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَسلمَ, وبعَث شُجاعَ بنَ وَهْبٍ الأَسَديَّ إلى الحارثِ بنِ أبي شِمْرٍ الغسَّانيِّ مَلِكِ تُخومِ الشَّامِ, فلمَّا بلَغهُ الكِتابُ رَمى به وقال: مَن يَنزِعُ مُلكي مِنِّي؟ أنا سائرٌ إليه, ولم يُسْلِمْ. واسْتأذنَ قَيصرَ في حربِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فثَنَّاهُ عن عزمِه، فأَجازَ الحارثُ شُجاعَ بنَ وَهْبٍ بالكِسْوَةِ والنَّفَقةِ، ورَدَّهُ بالحُسنى, وبعَث المُهاجرَ بنَ أبي أُميَّةَ المَخزوميَّ إلى الحارثِ بنِ عبدِ كُلالٍ الحِمْيَريِّ مَلِكِ اليَمنِ وقد أَسلمَ هو وأَخواهُ جميعًا.
هو بِشرُ بنُ غِياثِ بنِ أبي كريمةَ العَدَويُّ، مولاهم، البغداديُّ، المِرِّيسيُّ. شيخُ المعتزلة، وأحدُ من أضَلَّ المأمونَ، كان والِدُ بِشرٍ يهوديًّا، وصنَّف بِشرٌ كِتابًا في التَّوحيدِ، وكِتابَ (الإرجاء)، وكِتابَ (الرَّدُّ على الخوارجِ)، وكِتاب (الاستطاعة)، و(الرَّدُّ على الرَّافضةِ في الإمامةِ)، وكِتاب (كُفرُ المُشَبِّهة)، وكِتاب (المعرفة)، وكِتابُ (الوعيد) .نظَر في الفقهِ أوَّلَ أمرِه فأخذ عن القاضي أبي يوسُفَ، وروى عن حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ. ثُمَّ نظر في عِلمِ الكلامِ، فغلب عليه، ودعا إلى القولِ بخلقِ القرآنِ، حتى كان عينَ الجَهْميَّةِ في عصرِه وعالِمَهم، فمقَتَه أهلُ العلمِ، وكفَّره عِدَّةٌ منهم، ولم يُدرِكْ جَهْمَ بنَ صَفوانَ، بل تلقَّف مقالاتِه من أتباعِه . ومات بِشرٌ سنةَ 218هـ.وقد وقَف العُلَماءُ منه موقفًا شديدًا، ونُقِل عن كثيرٍ تكفيرُه، ومنهم: سفيانُ بنُ عُيَينةَ، وعبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، وعبَّادُ بنُ العوَّامِ، وعليُّ بنُ عاصمٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ، ووكيعٌ، وأبو النَّضرِ هاشِمُ بنُ القاسِمِ، وشبابةُ بنُ سوارٍ، والأسودُ بنُ عامرٍ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وبِشرُ بنُ الوليدِ، ويوسُفُ بنُ الطَّبَّاعِ، وسُليمانُ بنُ حسَّانَ الشَّاميُّ، ومُحمَّدٌ ويَعلَى ابنا عُبَيدٍ الطَّنافسيَّانِ، وعبدُ الرَّزَّاقِ بنُ همَّامٍ، وأبو قتادةَ الحرَّانيُّ، وعبدُ الملِكِ بنُ عبدِ العزيزِ الماجِشونُ، ومُحمَّدُ بنُ يوسُفَ الفِريابيُّ، وأبو نُعَيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مَسلَمةَ القَعْنبيُّ، وبِشرُ بنُ الحارثِ، ومُحمَّدُ بنُ مُصعَبٍ الزَّاهِدُ، وأبو البَختريِّ وَهبُ بنُ وَهبٍ السَّوائيُّ المدنيُّ قاضي بغدادَ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ، وعبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ الحُمَيديُّ، وعليُّ بنُ المدينيِّ، وعبدُ السَّلامِ بنُ صالحٍ الهَرَويُّ، والحَسَنُ بنُ عليٍّ الحلوانيُّ .وسبَبُ هذا الموقِفِ الشديدِ تجاهَه أنَّ الأصولَ والمناهِجَ التي سلكها المِرِّيسيُّ أصولٌ ومناهِجُ كُفريَّةٌ تقومُ على التلبيسِ والخِداعِ اللَّفظيِّ، وذلك أنَّه قد توسَّع في بابِ التأويلاتِ وصَرفِ النُّصوصِ، وخاض فيها أكثَرَ ممَّن سبقه من الجَهْميَّةِ، فآراؤه ومقالاتُه تمثِّلُ المرحلةَ الثَّالثةَ من مراحلِ الجَهْميَّةِ وأطوارِها بَعدَ الجَعْدِ والجَهْمِ؛ لأنَّ المِرِّيسيَّ نهَج نهجًا أكثَرَ تلبيسًا وتمويهًا وخُبثًا من أسلافِه، حيث كان منهَجُ الجَعْدِ والجَهْمِ يصادِمُ النُّصوصَ بعُنفٍ، أمَّا المِرِّيسيُّ فقد سلك مسلَكَ التأويلِ، وعَرَض مَذهَبَ الجَهْميَّةِ بأسلوبٍ ماكرٍ، ولديه شيءٌ من العِلمِ والفقهِ، يُلبِّسُ به على النَّاسِ. ومن وُجوهِ خُطورةِ فِكرِه أنَّ توسُّعَه في بابِ التأويلاتِ صار نهجًا لكثيرٍ من المُتكلِّمين بَعدَه، كابنِ فُورَك، والبغداديِّ، والشَّهْرَستانيِّ، والجُوَينيِّ، والرَّازيِّ، والماتُريديِّ، وأتباعِهم من متأخِّري الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ.