هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ القاضي: أبو بكر مُحمَّدُ بنُ عبد اللهِ بنِ مُحمَّد المعافري ابنُ العربيِّ الإشبيليُّ الأندلسيُّ المالكيُّ، صاحِبُ التَّصانيفِ, الحافِظُ المشهورُ مِن عُلَماءِ الأندلس، وُلِدَ ونشأ وتعلَّمَ بإشبيليَّة, كانت ولادتُه سنة 468, ثمَّ لَمَّا استولى المرابطونَ عليها رحل مع أبيه إلى المَشرِق, ثمَّ رجع إلى الأندلُسِ بعد أن دَفَنَ أباه في رِحلتِه إلى المشرق, ثم عاد مِن قُرطبةَ إلى مراكش وسُجِنَ فيها, ولَمَّا أُطلِقَ سَراحُه عاد إلى الأندلُسِ مَرَّةً أخرى. صَنَّفَ ابنُ العربيِّ وجَمَع، وبرَع في فُنونِ العِلمِ، وكان فصيحًا بليغًا خَطيبًا, واشتهر اسمُه، وكان رئيسًا مُحتَشِمًا وافِرَ الأموالِ، بحيث أنشأَ على إشبيليَّةَ سُورًا مِن ماله الخاصِّ، وهو أوَّلُ مَن أدخل بالأندلُسِ إسنادًا عاليًا، وعِلمًا جَمًّا, وكان ثاقِبَ الذِّهنِ، عَذْبَ المَنطِقِ، كريمَ الشمائلِ، كامِلَ السُّؤددِ، ولِيَ قَضاءَ إشبيليَّةَ، فحُمِدَت سياستُه، وكان ذا شِدَّةٍ وسَطوةٍ، فعُزِلَ وأقبَلَ على نَشرِ العِلمِ وتدوينِه, ذكَرَه ابنُ بشكوال فقال: "هو الحافِظُ المُستَبحِر، خِتامُ عُلَماءِ الأندلُسِ، وآخِرُ أئمَّتِها وحُفَّاظها، لَقِيتُه بمدينةِ إشبيليَّةَ ضَحوةَ يوم الاثنين لِلَيلتَينِ خَلَتا من جمادى الآخرة سنة 516 فأخبَرَني أنَّه رحل إلى المشرق مع أبيه يومَ الأحد مُستهَلَّ شَهرِ ربيع الأول سنة 485 وأنَّه دخل الشَّامَ ولَقِيَ بها أبا بكر مُحَمَّدَ بنَ الوليد الطرطوشي، وتفَقَّه عنده، ودخل بغدادَ وسمِعَ بها مِن جماعةٍ مِن أعيانِ مَشايخِها، ثمَّ دخَلَ الحِجازَ فحَجَّ في موسمٍ سنة 489، ثمَّ عاد إلى بغدادَ وصَحِبَ بها أبا بكرٍ الشاشيَّ وأبا حامدٍ الغزالي وغيرَهما مِن العُلَماءِ والأُدَباء، ثمَّ صَدَرَ عنهم، ولَقِيَ بمصر والإسكندريَّةٍ جماعةً مِن المحدِّثينَ فكَتَبَ عنهم واستفاد منهم وأفادهم، ثمَّ عاد إلى الأندلس سنة 493، وقَدِمَ إلى إشبيليَّةَ بعِلمٍ كَثيرٍ لم يُدخِلْه أحدٌ قبلَه مِمَّن كانت له رِحلةٌ إلى المشرق. وكان مِن أهلِ التفَنُّنِ في العلومِ والاستبحارِ فيها والجَمعِ لها، مُقَدَّمًا في المعارِفِ كُلِّها، مُتكَلِّمًا في أنواعِها، نافِذًا في جميعِها، حريصًا على أدائها ونَشرِها، ثاقِبَ الذِّهنِ في تمييزِ الصَّوابِ منها، ويجمَعُ إلى ذلك كُلِّه آدابَ الأخلاقِ مع حُسنِ المعاشرةِ ولِينِ الكَنَفِ وكثرةِ الاحتمالِ، وكَرَمِ النَّفسِ وحُسنِ العَهدِ وثَباتِ الوُدِّ. واستُقضِيَ ببلدةٍ فنَفَعَ اللهُ به أهلَها لصرامتِه وشِدَّتِه ونفوذِ أحكامِه، وكانت له في الظَّالِميَن سَوْرة مرهوبة، ثمَّ صُرِفَ عن القضاء، وأقبَلَ على نَشرِ العِلمِ وبَثِّه". قال الذهبي: "كان أبوه أبو مُحمَّدٍ مِن كِبار أصحابِ أبي محمَّد بن حزم الظاهريِّ بخلاف ابنِه القاضي أبي بكر؛ فإنَّه مُنافِرٌ لابنِ حَزمٍ، مُحِطٌّ عليه بنَفسٍ ثائرةٍ" ولابن العربي تصانيفُ عديدةٌ، منها، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، وله أحكامُ القُرآنِ، والنَّاسِخُ والمنسوخ في القرآن، والمحصول في عِلْم الأصول، وله عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، وغَيرُها من الكتب. توفِّيَ في طريقه في المغيلة بالقُربِ مِن فاس عند رجوعِه مِن مراكش، ونُقِلَ إلى فاس، ودُفِنَ بمقبرة الجيَّاني.
خرج الأسوَدُ العَنْسيُّ -واسمُه عَبهلةُ بنُ كَعبِ بنِ غَوثٍ- في آخِرِ حياةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَبْعِمائةِ مقاتلٍ، فكَتَب إلى عمَّالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها المتمَرِّدون علينا، أمسِكوا علينا ما أخَذْتُم مِن أرضِنا، ووفِّروا ما جمعتُم؛ فنحن أَولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثمَّ توجَّه مع مقاتِلِيه إلى نجرانَ فأخَذَها، ثمَّ قَصَد صنعاءَ، فخرج إليه شَهرُ بنُ باذامَ فتقاتلا، فغَلَبه الأسوَدُ وقتَلَه وتزوَّج بامرأةِ شَهرِ بنِ باذامَ، وهي ابنةُ عَمِّ فيروز الدَّيلميِّ، واسمُه آزاذُ، وكانت مؤمنةً باللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن الصَّالحاتِ، واحتَلَّ العَنسيُّ صنعاءَ، فذهب معاذُ بنُ جبَلٍ وأبو موسى الأشعريِّ إلى حَضرَموتَ، وانحاز عُمَّالُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الطَّاهِرِ، ورجَعَ عُمَرُ بنُ حرامٍ وخالِدُ بنُ سعيدِ بنِ العاصِ إلى المدينةِ، واستوثقَت اليمَنُ للأسودِ العَنسيِّ، وجَعَل أمرُه يستطيرُ استطارةَ الشَّرارةِ، واشتَدَّ مُلكُه، واستغلظ أمرُه، وارتَدَّ خَلقٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، وعامَله المسلمون الذين هناك بالتَّقِيَّةِ فبعث رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين بلغَه خَبَرُ الأسودِ العَنسيِّ كِتابَه مع قيسِ بنِ مكشوحٍ يأمرُ فيه المسلمين الذين هناك بمُقاتلةِ العَنْسيِّ ومُصاولتِه، فقام معاذُ بنُ جَبَلٍ بهذا الكتابِ أتمَّ قيامٍ، واتَّفَق معاذُ بنُ جبَلٍ ومَن التَفَّ حولَه مِن أهلِ اليَمَنِ، وقيسُ بنُ عبدِ يغوثَ أميرُ جندِ الأسوَدِ، وفَيروز الدَّيلميُّ؛ على الفتكِ بالأسوَدِ وقَتْلِه، وتعاقدوا عليه، فلمَّا كان الليلُ دَخَلوا عليه البيتَ؛ تقَدَّم إليه فيروز الدَّيلميُّ، وكان الأسوَدُ نائمًا على فراشٍ من حريرٍ، قد غَرِقَ رأسُه في جَسَدِه، وهو سَكْرانُ يَغطُّ، والمرأةُ جالسةٌ عنده، فعاجله وخالَطَه، وهو مِثلُ الجَمَلِ، فأخَذَ رأسَه، فدَقَّ عُنُقَه ووَضَع رُكبتَيه في ظَهْرِه حتى قَتَلَه، وجلس قيسٌ وداذويه وفيروز يأتمرونَ كيف يُعلِمونَ أشياعَهم، فاتَّفَقوا على أنَّه إذا كان الصَّباحُ ينادون بشِعارِهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلمَّا كان الصَّباحُ قام أحَدُهم -وهو قيس- على سُورِ الحِصنِ، فنادى بشِعارِهم، فاجتمع المسلِمون والكافِرون حول الحِصنِ، فنادى قيسٌ: أشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وأنَّ عَبهلةَ كذَّابٌ، وألقى إليهم رأسَه، فانهزم أصحابُه، وتَبِعَهم النَّاسُ يأخُذونهم ويرصُدونهم في كلِّ طريقٍ يأسِرونَهم، وظهر الإسلامُ وأهلُه، وتراجَعَ نوَّابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أعمالِهم، واتَّفَقوا على معاذِ بنِ جَبَلٍ يصلِّي بالنَّاسِ، وكتبوا بالخَبَرِ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ ظهر إلى أن قُتِلَ ثلاثةُ أشهُرٍ أو أربعةُ أشهرٍ.
في صَفَر مِن هذه السنة وصَلَ المَلِك مسعود إلى بلْخ من غزنة، فجمع أصحابَه، ولقِيَ إسماعيلَ شاه مَلِكَ خوارزم، وقاتله، ودامت الحربُ بينهما مُدَّةَ شَهر، وانهزم إسماعيلُ، والتجأ إلى طغرلبك وأخيه داود السلجقيَّة، ثم سار مسعودُ بن سبكتكين من بلخ بنفسِه، وقصد سرخس، فتجَنَّب الغزُّ لقاءه، وعدلوا إلى المُراوغة والمُخاتلة، وأظهر الغُزُّ العزمَ على دخول المفازة التي بين مروٍ وخوارزمَ، فبينما عساكِرُ مسعودٍ تَتْبَعُهم وتَطلُبُهم إذ لَقُوا طائفةً منهم، فقاتلوهم وظَفِروا بهم وقتلوا منهم، ثمَّ إنه واقعهم بنفسه في شعبان من هذه السنة وقعةً استظهَرَ فيها عليهم، فأبعدوا عنه، ثم عاودوا القُربَ منه بنواحي مرو، فواقعوهم وقعةً أخرى قُتِلَ مِن الغز التركمان فيها نحوُ ألف وخمسمِئَة قتيل، وهرب الباقون فدخلوا البرِّيَّة التي يحتَمون بها، وثار أهلُ نيسابور بمن عندهم منهم، فقَتَلوا بعضًا، وانهزم الباقونَ إلى أصحابِهم بالبرِّيَّة وعدل مسعودٌ إلى هراة؛ ليتأهَّبَ في العساكِرِ للمسير خلْفَهم وطَلَبِهم أينما كانوا، فعاد طغرلبك إلى الأطرافِ النائية عن مسعود، فنهَبَها وأثخنَ فيها، فحينئذ سار مسعودٌ يَطلُبُه، فلما قاربَه انزاح طغرلبك من بينِ يديه إلى أستوا وأقام بها، وكان الزمانُ شِتاءً، ظنًّا منه أنَّ الثَّلجَ والبردَ يَمنَعُ عنه، فطلبه مسعودٌ إليها، ففارقه طغرلبك وسلك الطريقَ على طوس، واحتمى بجبالٍ منيعة، ومضايقَ صَعبةِ المسلك، فسَيَّرَ مسعود في طلبه وزيرَه أحمد بن محمد بن عبد الصمد في عساكِرَ كثيرة، فطوى المراحِلَ إليه جريدةً- الجريدة: خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها-, فواقعوهم الغُزُّ وانتصروا على الوزير وعسكَرِه، واستأمن من أصحابِه جماعةً كثيرةً، ورأى الوزيرُ الطلَبَ له من كل جانبٍ، فعاود دخولَ المفازة إلى خوارزمَ وأوغل فيها، فلمَّا فارق الغز خراسان قصد مسعود جبلًا مِن جبال طوس منيعًا لا يُرام، وكان أهلُ الجبل قد وافقوا الغُزَّ وأفسدوا معهم، فلمَّا فارق الغزُّ تلك البلاد تحصَّنَ هؤلاء بجَبَلِهم ثقةً منهم بحصانتِه وامتناعه، فسرى مسعود إليهم جريدةً، فلم يَرُعْهم إلَّا وقد خالطهم، فتركوا أهلَهم وأموالَهم وصَعِدوا إلى قِمَّة الجبَلِ واعتَصَموا بها وامتَنَعوا، وغَنِمَ عسكَرُ مسعود أموالَهم وما ادَّخَروه. ثمَّ أمر مسعودٌ أصحابَه أن يزحَفوا إليهم في قمَّة الجبل، وباشَرَ هو القتالَ بنَفسِه، فزحَفَ النَّاسُ إليهم، وقاتلوهم قتالًا لم يَرَوا مثله، وكان الزمانُ شتاءً، والثلجُ على الجبلِ كثيرًا، فهلك من العسكر في مخارمِ الجَبَلِ وشِعابِه كثيرٌ، ثمَّ إنهم ظَفِروا بعسكر طغرلبك وأكثَروا فيهم القتلَ والأسرَ، وفرَغوا منهم، وأراحوا المسلمينَ مِن شَرِّهم. ثمَّ سار مسعود إلى نيسابور في جمادى الأولى سنة 431، ليريحَ ويستريحَ، وينتظِرَ الربيعَ ليسيرَ خَلْفَ الغز، ويطلُبَهم في المفاوزِ التي احتَمَوا بها.
في يومِ الجُمُعة سابِعَ عشر جمادى الآخرة، استولى الفرنجُ على مدينة عكا، وكان أوَّل وَهَن دخل على مَن بالبلد أنَّ الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب، كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثَلَهم وأكبَرَهم، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليمَ البلدِ بما فيه على أن يُطلِقَ المسلمين الذين فيه، ويُمَكِّنَهم من اللَّحاق بسلطانهم، فلم يجِبْه إلى ذلك، فعاد عليُّ بن أحمد إلى البلد، فوَهَن من فيه، وضَعُفَت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمَّتْهم أنفُسُهم، ثمَّ إن أميرين ممن كانا بعكَّا، لَمَّا رأيا ما فعلوا بالمشطوب، وأن الفرنجَ لم يجيبوا إلى الأمان، اتخذوا الليلَ جَمَلًا، وركبوا في شيني صغيرٍ، وخرجوا سرًّا من أصحابهم، ولَحِقوا بعسكر المسلمين، وهم عزُّ الدين أرسلان الأسدي، وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناسُ ورأوا ذلك ازدادوا وهنًا إلى وهنِهم، وضعفًا إلى ضَعفِهم، وأيقنوا بالعطب، ثم إنَّ الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليمِ البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشَّرطُ بينهم أن يُطلِقَ مِن أسراهم بعَدَدِ مَن في البلد ليُطلِقوا هم مَن بعكا، وأن يسَلِّمَ إليهم صليبَ الصلبوت، فلم يَقنَعوا بما بذل، فأرسل إلى مَن بعكا من المسلمين يأمُرُهم أن يَخرُجوا مِن عكا يدًا واحدةً ويسيروا مع البحرِ ويَحمِلوا على العدوِّ حملةً واحدة، ويتركوا البلدَ بما فيه، ووعَدَهم أنه يتقَدَّمَ إلى تلك الجهة التي يخرجونَ منها بعساكره، يقاتِلُ الفرنج فيها ليلحقوا به، فلم يدركوا ذلك، وحملوا على الفرنجِ مِن جميع جهاتهم ظنًّا منهم أن الفرنجَ يَشتَغِلونَ عن الذين بعكا، وصلاح الدين يُحَرِّضُهم، وهو في أوَّلِهم، وكان الفرنجُ قد زحفوا من خنادِقِهم ومالوا إلى جهة البلد، فقَرُبَ المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويَضَعونَ السيف فيهم، فوقع الصوتُ فعاد الفرنجُ ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتِلُهم، فاتفقوا على تسليمِ البلد، فلما ملكه الفرنج غَدَروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحَبَسوهم، وأظهروا أنَّهم يفعلون ذلك ليَصِلَ إليهم ما بُذِلَ لهم بالتسليم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يُطلِقوا من عندهم، فعَلِمَ النَّاسُ غَدْرَهم، وإنما يُطلِقونَ غِلمانَ العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبَهُ له، ويمسكون عندهم الأمراءَ وأرباب الأموال، يَطلُبونَ منهم الفداءَ، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب، ركب الفرنج، وخرجوا إلى ظاهِرِ البلد بالفارس والراجل، وركب المسلمون إليهم وقَصَدوهم، وحملوا عليهم، فانكشَفوا عن موقِفِهم، وإذا أكثَرُ من كان عندهم من المسلمينَ قتلى قد وَضَعوا فيهم السيفَ وقتلوهم واستبقَوا الأمراءَ والمُقَدَّمين ومن كان له مال، وقَتَلوا مَن سواهم من سوادِهم وأصحابِهم ومن لا مال له، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصَرَّفَ في المال الذي كان جَمَعَه، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق.
كان الآشوريون -وهم نصارى نساطرة- يقيمون في ولاية "وان" شرقيَّ الأناضول، وعاشوا تحت ظِلِّ الدولة الإسلامية آمنينَ على دمائِهم وأعراضِهم وأموالِهم، فلما اندلعت الحربُ العالمية الأولى، واستولى الروسُ على "وان" أغرَوا الآشوريِّينَ بالتمَرُّد على العثمانيين، وأمدُّوهم بالمالِ والسلاح، ولَمَّا انسحبت روسيا من "وان" بعد قيام الشيوعيَّةِ وجدت الدولةُ العثمانيةُ نفسَها مضطرةً للفَتكِ بهم؛ لِمَا أظهَروه من الخيانة والتمرُّدِ والقتل، ففَرَّ مَن استطاع منهم إلى إيران، ثمَّ عَمِلت بريطانيا على نقلِهم إلى العراق وأقاموا لهم مخيَّمات في ديالي وبعقوبة، ثم قاموا في العراق بإحداثِ عِدَّةِ فِتَن، منها فتنة سوق العتمة في محرم 1342 / 15 آب 1923م، وأخرى في رمضان من نفس العام، وهمَّت القبائل بالفتكِ بهم، فحمتهم بريطانيا، وألزمت الحكومة بإعطائهم الأراضيَ وإعفائِهم من الضرائِبِ، فأخذوا أكثَرَ ممَّا يستحقون، وعُين الضابط الإنجليزي فايكر لإسكانهم وله مطلقُ الحرية، ثم جاء إلى العراق نقيبٌ إنجليزي يُدعى هرمز رسام ادَّعى أنه نسطوري أصلُه من الموصِل، فأخذ يتجوَّلُ بين النساطرة الآشوريين ويحَرِّضُهم على طلب الانفصال عن العراق، وأسَّس جمعية لجنة إنقاذ الأقليات العراقية غير المسلِمة، وحاول الآشوريون عرقلةَ دخول العراق للأمَمِ المتحدة؛ لأنَّ بريطانيا ستتخلَّى عنهم حينَها، فأصبح بطريق الآشوريين "مار شمعون" يطالِبُ بسلطةٍ واسعةٍ على قومِه إداريًّا، ودعا قومَه للتمَرُّد، واستدعت الحكومةُ العراقية مار شمعون ونصحَتْه بالكَفِّ عن هذه الأفكارِ، فلم يمتَنِعْ، فمُنِعَ من العودة للمَوصِل؛ مما أثار الأوساطَ النصرانية كافةً، وكان الملك فيصل في لندن فأبرق منها بالسَّماحِ له بالعودة دون قيودٍ؛ وذلك بناءً على طلب بريطانيا منه ذلك، ولكِنَّ الحكومة لم تستجبْ ودُعِيَ بعض وجوه الآشوريين لعَقدِ مؤتمر، ولكن الآشوريين أعلنوا أنهم يريدون الانتقالَ إلى سوريا تحت حماية فرنسا، فانتقل ما يقارب من 1350 رجلًا، وأخبرت العراق فرنسا أنَّها لا تسمح بعودةِ أيِّ رجل من هؤلاء، إلَّا أن الفرنسيين أعلموا الحكومةَ العراقية في 11 ربيع الثاني 1352هـ أنهم قرَّروا إعادتهم، فأعادوهم بالسلاحِ، وبدؤوا التحرُّكَ للعراق فلاقَتْهم القوات العراقية فحصل اشتباكٌ قُتِلَ من الآشوريين ما يزيدُ على الألف، وقام النساطرة في الداخل باعتداءاتٍ على السكَّان، واضطر الملكُ فيصل للعودة من أوربا، وحاولت عُصبةُ الأمم التدخُّلَ، واندلعت الثورةُ الآشورية في عمومِ العراق في 14 من ربيع الثاني، فتشَكَّلت الوفودُ واللجان العالمية وكَثُرت الاحتجاجات وترجيات الأُمَم؛ لاستقبال المظلومين، وكل ذلك بدافع العصبية الدينية النصرانية، حتى انتهت أزمتُهم بحماية إنجلترا لهم، وإعادة تسكينِهم وتعويضِهم.
هو عبد السلام محمد عارف الجميلي: ثاني رؤساء العراق بعد سقوطِ المَلَكيَّة وقيام الجمهورية العراقية، وقد وُلِدَ في مدينة "حديثة" على نهر الفرات في أسرة فقيرة، ثم انتقل مع أسرته إلى بغداد والتحق بالمدارس الحكومية، ثم دخل الكليةَ الحربيَّةَ وتخرَّج منها برتبة ملازم، ثم اشترك في حربِ فلسطين، وقابل هناك عبدَ الكريم قاسم، وانضمَّ عن طريقه إلى اللجنة المركزية للثورة العراقية، وقام بدورٍ كبير في الثورة على المَلَكية في ذي الحجة سنة 1377هـ؛ حيث قاد اللواءَ العشرين ببغداد، واستولى على مبنى الإذاعة وأصدر بيانَ الثورة، وأعلن قيامَ الجمهورية؛ ولذلك كان يُعِدُّ نفسَه القائدَ الفعليَّ للثورة، وقد تمَّ تعيينُه نائبًا للرئيس عبد الكريم قاسم. أصبح عبد السلام عارف رئيسًا للعراق سنة 1382هـ بعد خلافاتٍ شديدة مع عبد الكريم قاسم انتهت بمقتل قاسم بعد سلسلةٍ من المظاهرات والاضطرابات ضِدَّ حُكمِه، كان عبدُ السلام عارف ذا مُيولٍ أخلاقيَّة إسلامية، ولكنَّه كان شديدَ الانبهار بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان يرى وجوبَ الانضمامِ إلى مصر على نمطِ الاتحاد المصري السوري، فلما تولى الرياسةَ نظَّم الحكمَ على النَّمَطِ النَّاصري؛ مما أثار عليه حزبَ البعث والأحزاب الشيوعية، ثم زادت الأمورُ اضطرابًا بعد فشل الاتحاد بين مصر وسوريا؛ بسبب حزبِ البعث السوري، فبَطَش عارف بالبعثيين في العراق لإرضاء عبد الناصر، ثم أخذ في إرساءِ قواعد الوَحدة بين مصر والعراق، وحضر حفلَ تدشين بناء السد العالي سنة 1384ه، وبدأ في تنظيمِ الدستور العراقي بصورةٍ تشبه لحدٍّ كبيرٍ الدستورَ المصري، وأمَّم المصارِفَ والصناعات الكبرى، ولكنَّه قام أيضًا بإلغاء الأحكامِ العرفيَّة، والمحاكم العسكرية، وأطلق سراحَ المعتقلين السياسيين. بعد ذلك أخذ الخلافُ يظهر بين أتباع الحزب الناصري الذين يريدون الوَحدةَ مباشرةً دون دراسةٍ والخضوعَ التامَّ لعبد الناصر، وبين عبد السلام عارف الذي لم يقبَلْ بالوحدة، وحاول الناصريونَ الانقلابَ على عارف أثناء وجوده في مؤتمر القمة العربية بالدار البيضاء سنة 1385هـ، وطلب جمال عبد الناصر من عبد السلام عارف العفوَ عن المتآمرين وقادةِ الانقلاب، ولكنَّ عارفًا رفض بشدة، ثم زادت الشُّقَّةُ بين الرجلين وشعر عبد الناصر بأنَّ عارفًا لم يكن يومًا من أتباعِه أو أنصارِه. وفي يوم 23 من ذي الحجة سنة 1385هـ وأثناء رحلة داخلية لعبد السلام عارف بالطائرة الهليكوبتر وعند قرية «القرنة» قرب البصرة انفجرت الطائرةُ بسبب قنبلةٍ وُضِعَت فيها، ليلقى عبد السلام عارف ورفاقُه مصرعَهم في الحال، وقد أذاعت الحكومةُ العراقيَّةُ أنَّ سَبَبَ الحادثة العواصِفُ الرَّعديةُ! وهكذا انتهت حياتُه بصورةٍ غامضة.
هو الشَّيخُ العلَّامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب التميمي مفتي الديار السعودية. وُلِدَ يوم عاشوراء من عام 1311هـ، ونشأ نشأةً عِلميَّةً في بيتِ عِلمٍ ودين، فحَفِظَ القرآنَ مبكرًا، ثم بدأ الطلَبَ على العلماء قبل أن يبلُغَ السادسة عشرة، ثم أصيب بمرَضٍ في عينيه وهو في هذه السن ولازمه حتى فَقَد بصَرَه وهو في سن السابعة عشرة، وكان يَعرِفُ القراءة والكتابة قبل فَقدِه لبصرِه. كان متوسِّطَ الطول، مليءَ الجِسم، متوسِّط اللون، ليس بالأبيض ولا بالأسمر، خفيفَ شعرِ العارِضَين جدًّا، يوجَدُ شَعرٌ قليل على ذَقَنِه، إذا مشى يمشي بوقارٍ وسكينة، وكان كثيرَ الصَّمت، وإذا تكلَّم لا يتكلَّم إلَّا بما يفيد، وكان ذكيًّا، و كان صاحِبَ غَيرة شديدة على دين الله، مع حزمٍ وشِدَّة يرهب لها الجميع، وكان رغمَ شِدَّتِه وحزمه وهيبةِ الناسِ له صاحِبَ دُعابةٍ خُصوصًا مع خاصَّته، ومن مشايخِه الذين تعَلَّم عليهم عَمُّه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخُ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع. ومن أعمالِه أنَّه تولى القضاءَ في الغطغط، وكان إمامًا وخطيبًا للجامع الكبير بالرياض، ولما افتُتِحَت رئاسةُ المعاهد والكليات كان هو الرئيسَ، ولما تأسَّسَت رئاسةُ القضاء عُمِّد رسميًّا برئاسةِ القضاء، ولما افتُتِحَت رئاسةُ البنات كان هو المشرفَ العامَّ عليها، وكان هو مفتي البلاد، ولما افتُتِحَت رابطةُ العالم الإسلامي كان هو رئيسَ المجلس التأسيسي لها، وكان أمينُ الرابطة وقتها محمد سرور الصبان، ولما افتُتِحَت الجامعة الإسلامية في المدينة كان هو المؤسِّسَ لها، وعَيَّن نائبًا له الشيخ عبد العزيز بن باز, وفي سنة 1373 هـ أنشأ المكتبةَ السعودية العامة في الرياض، وجمع فيها حوالي 15.000 كتابٍ مطبوعٍ، و 117 مخطوطًا، وأملى من تأليفِه كُتُبًا، منها: ((الجواب المستقيم))، و ((تحكيم القوانين))، ومجموعة من أحاديث الأحكام، والفتاوى في عدة مجلَّدات، وكان الملكُ عبد العزيز قد أمر بجَمعِها وطباعتها. ومن تلاميذه: الشيخ عبد الله بن حُمَيد، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ سليمان بن عبيد، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبد الله بن جبرين. وقد أصيب الشيخُ بمرضٍ، فصدر أمرٌ ملَكيٌّ بنقله إلى لندن لمواصلة العلاج، فلما وصل لندن أجرَوا له الفحوصاتِ اللازمةَ فرأوا أنَّ المرضَ بلغَ غايةً لا ينفَعُ معها علاجٌ، ثم دخل في غيبوبة وهو هناك، فأُتيَ به إلى الرياضِ على طائرة خاصة، وبَقِيَ في غيبوبة حتى وافته المنيَّةُ -رحمه الله- صباحَ يوم الأربعاء 24 رمضان، وصلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر من نفس اليوم، وأمَّ النَّاسَ عليه الشيخُ ابن باز، وامتلأ المسجِدُ وجميعُ الطُّرُقات المؤدية إليه، حتى إن كثيرًا من النَّاسِ لم يُدركوا الصلاةَ عليه، ودُفِن في مقبرة العود.
دعَت السُّعودية واشنطن إلى الضَّغط على إسرائيلَ وحمْلِها على تنْفيذ قرارِ مجلِس الأمْن رقم (242) الصادرِ في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967، الذي يَقضي بالانسحابِ من جميع الأراضي العربيَّة المحتلَّة في حُزيران (يونيو) 1967، وإلَّا فإنَّ الولاياتِ المتحِدةَ سوف تُواجِه عقَبات تَقليص تَصديرِ النِّفط. لم تأخُذْ الولاياتُ المتحِدةُ وأوربَّا الغربية هذه التَّحذيراتِ على مَحملِ الجِدِّ، فألْمحتِ السُّعودية في صَيف 1973 إلى أنها ستُؤيِّد مصرَ عند نُشوب حربٍ جديدةٍ مع إسرائيلَ. بدأت الحربُ في 6 أكتوبر، وفي 7 أكتوبر -أي في اليوم الثاني للحرْبِ- أرسَل وزير الخارجيةِ الأمريكي كِيسنجر برقيةً إلى الملِك فَيصل يَدعوه فيها إلى إقناعِ مصرَ وسوريا بوَقْف العملياتِ الحربيةِ، وردَّ الملِكُ فَيصل بأنه يُؤيِّد مصرَ وسوريا تأييدًا تامًّا، ودَعا واشنطن إلى بَذْل الجهودِ لحمْلِ إسرائيلَ على الانسحاب مِن الأراضي التي تَحتلُّها. عقَدَ وُزراءُ النِّفط في عشْرة بُلدان عربيةٍ اجتماعًا في 17 أكتوبر، اتُّخِذ فيه قرارٌ بتَقليصِ استخراج النِّفط بنِسبة لا تقلُّ عن 5 % شهريًّا، حتى تتمَّ تَسوية النِّزاع في الشرْق الأوسط. وفي الواقع قلَّصت السُّعودية والكويتُ الإنتاجَ بنِسبة 10 % دفعةً واحدةً، ولمَّا أقامت الولاياتُ المتحِدةُ "جسرًا جويًّا" لتزويدِ إسرائيلَ بالسلاحِ، عمَدَت السُّعودية وسائرُ البُلدان العربيَّة إلى اتِّخاذ إجراءاتٍ تباعًا، وذلك بوَقْفِ ضَخِّ النِّفط إلى الولايات المتحِدةِ، ومِن ثَم إلى هُولندا التي اتَّخذت مَوقفًا مواليًا لإسرائيلَ، كما فُرِضَ الحظْرُ على تَصديرِ النِّفط الخامِّ لمعاملِ التَّكريرِ التي تُصدِّر مُشتقَّات النِّفط إلى الولايات المتحِدة، أو تَبيعها إلى الأسطولِ البَحريِّ الأمريكي. وعلاوةً على فرْض الحظْرِ قام العراقُ بتَأميم حِصَّة الولايات المتحِدة وهُولندا في "شركة نِفط البصرة". فجاء ردُّ فِعل دُولِ أوربَّا الغربية دون إبطاءٍ؛ ففي صباح 6 تشرين الثاني (نوفمبر) دعَت حُكومات البُلدان "التسعة" إلى تَنفيذ قَرارات مجلِس الأمْن حول العمليات الحربيةِ، وكذلك القرار رقم (242) بكلِّ بُنوده، بما في ذلك الجلاءُ عن الأراضي العربيَّة المحتلَّة عام 1967. وفي مَطلع ديسمبر (كانون الأول) 1973 قرَّر أعضاءُ منظَّمة البلدان العربيَّة المصدِّرة للنِّفط (أوبك التي أُسِّست عام 1968) المجتمِعون في الكويت إلغاءَ القرار القاضي بتَقليص استخراجِ النِّفط بنِسبة 5% في شهر ديسمبر (كانون الأول). وعزوا القرارَ إلى الرَّغبة في تحسينِ أوضاع البلدان الأعضاءِ في الجماعة الاقتصاديةِ الأوروبية التي اتَّخَذت موقفًا وُديًّا حيالَ العرَب. كما أشار البلاغُ الصادرُ عن اجتماع الكويتِ إلى أن الدُّول الإفريقية والإسلاميَّة سوف تَحصُل على النِّفط وَفق العقود المتَّفَق عليها. واستمرَّ لمدةٍ من الوقت حظْرُ تَصدير النِّفط إلى الولايات المتحِدة وهُولندا.
شرع المنصورُ في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مَقدَمِه من خراسان، وكان سبب بنائِها أنَّ بعضَ الجند شغَّبوا على المنصور وحاربوه على باب الذَّهبِ، فدخل عليه قُثَمُ بنُ العبَّاس، وهو شيخُهم، وله الحرمةُ والتقدُّم عندهم، فاستشاره المنصور، فقال له أن يتركَ الأمرَ له، فقام قُثَم بحيلةٍ فافترق الجند، فصارت مُضَرُ فِرقةً، وربيعةُ فرقة، والخراسانية فرقة. فقال قُثَم للمنصور: قد فرَّقتُ بين جُندِك وجعلتُهم أحزابًا، كلُّ حزبٍ منهم يخافُ أن يُحدِثَ عليك حدثًا فتضرِبَه بالحزبِ الآخر، وقد بقيَ عليك في التدبير بقيَّة، وهي أن تعبُرَ بابنِك المهدي فتُنزِلَه في ذلك الجانب، وتحَوِّل معه قطعةً من جيشِك فيصير ذلك بلدًا وهذا بلدًا، فإن فسدَ عليك أولئك ضربتَهم بهؤلاء، وإن فسدَ عليك هؤلاء ضربتَهم بأولئك، وإن فسد عليك بعضُ القبائل ضربتَهم بالقبيلة الأخرى (على مبدأ: فَرِّقْ تَسُد)، فقَبِلَ رأيه واستقام مُلكُه، وبنى الرصافة وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورًا وخندقًا، وعَمِلَ عندها ميدانًا وبستانًا، وأجرى إليها الماءَ مِن نهرِ المهدي
هو حَيدرُ بنُ كاوس الملقَّب بالأفشين، أصلُه من التُّرك مِن أشروسنة تركستان، كان مجوسيًّا مِن سُلالةِ حُكَّام أشروسنة، اعتنق الإسلامَ زمنَ المأمونِ وأقام ببغدادَ عند المعتصِم، وعَظُم محلُّه عنده, وهو من كِبارِ قادةِ المأمونِ والمعتَصِم، تولى إخمادَ الكثيرِ مِن الفِتَن والثَّوراتِ، وأهمُّها ثورةُ بابك الخرمي، ولكن كان يطمَحُ لتولِّي خُراسان بدل عبدالله بن طاهرٍ، فقيل: إنَّه هو الذي حرَّضَ المازيار للخروجِ على ابنِ طاهرٍ حتى يولِّيَه المعتَصِمُ حَربَه، ومِن ثمَّ ولايةَ خُراسان، ولَمَّا قُبِض على المازيار أقَرَّ بكُتُب الأفشين له، فغَضِبَ المعتَصِمُ منه وأمر بالقبضِ عليه، فتمَّ ذلك ليلًا فحبَسَه ثمَّ عَمِلَ له مجلِسَ قَضاءٍ بحُضورِ أحمدَ بنِ أبي دؤاد المعتزلي، ووزيرِه محمَّد بن عبد الملك بن الزيَّات، ونائبِه إسحاقَ بنِ إبراهيم بن مصعب، فاتُّهِم الأفشينُ في هذا المجلس بأشياءَ تدُلُّ على أنَّه باقٍ على دينِ أجدادِه مِن الفُرسِ، وكان ذلك في أواخِرِ عام 225هـ، ثم بقي في السجنِ إلى أن مات فيه، ثم أُخرِجَ فصُلِبَ بجَنبِ بابك الخرمي ثمَّ أُنزِلَ وأُحرِقَ.
كان صالحُ بنُ النضر الكناني من أهلِ بُست، قد ظهر بتلك الناحية يقاتِلُ الخوارج، وسمَّى أصحابَه المتطوِّعةَ، حتى قيل له: صالح المطوِّعي وصَحِبَه جماعةٌ؛ منهم: درهم بن الحسن، ويعقوب بن الليث, وغَلَبوا على سجستان، ثم أخرَجَهم عنها طاهرُ بن عبد الله أميرُ خراسان. وهلك صالح إثر ذلك، وقام بأمر المتطوِّعةِ دِرهمُ بن الحسن، فكَثُرَ أتباعه. وكان يعقوبُ بن الليث شهمًا، وكان دِرهَم مُضعفًا، واحتال صاحِبُ خراسان حتى ظَفِرَ بدرهم وحَبَسه ببغداد، فاجتمعت المتطوِّعةُ على يعقوب بن الليث، وملَّكوه أمْرَهم؛ لِمَا رأَوا من تدبيرِه، وحُسنِ سياستِه، وقيامِه بأمورهم، وقام بقتال الخوارجِ الشراةِ، وأتيح له الظَّفَرُ عليهم، وأثخن فيهم وخرَّبَ قُراهم، وكانت له شريةٌ في أصحابه لم تكن لأحدٍ قَبله، فحَسُنَت طاعتُهم له وعَظُمَ أمرُه، ومَلَك سجستانَ مُظهِرًا طاعةَ الخليفةِ وكاتِبِه، وقلَّدَه حرب الشراة، فأحسن الغَناءَ فيه وتجاوَزَه إلى سائر أبوابِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر, فاستبَدَّ يعقوبُ بالأمر، وضَبَط البلاد، وقَوِيَت شوكتُه وقصَدتْه العساكِرُ من كلِّ ناحية.
وَلِيَ مِصرَ ثانيًا مِن قِبَل الخليفة الراضي بالله مُحمَّد بن طغج بن جف الفرغاني على الصَّلاةِ والخراج بعد عزلِ الأمير أحمد بن كيغلغ عنها، بعد أمور وقعت. دخل محمَّدُ بنُ طغج مصر أميرًا عليها بعد أن سلَّمَ الأميرُ أحمد بن كيغلغ في يوم الخميس لسِتٍّ بقِينَ مِن شهرِ رمضان وأقَرَّ على شرطته سعيدَ بنَ عثمانَ ثمَّ ورد عليه بالدِّيار المصرية أبو الفتح الفضلُ بنُ جعفر بن محمد بالخِلَع من الخليفةِ الراضي بالله بولايتِه على مصر فلَبِسَها وقَبَّلَ الأرض, ورسَمَ الخليفةُ الراضي بالله بأن يزادَ في ألقاب الأمير محمَّد هذا الإخشيدُ، في شهر رمضان سنة 327 فلُقِّبَ بالإخشيد، والإخشيد بلسانِ الفرغانة: مَلِك الملوك, كما أن أصبَهَبذ: لقبُ ملوك طبرستان, وصول: لقبُ ملوك جرجان, وخاقان: لقبُ ملوك التُّرك, والأفشين: لقبُ ملوك أشروسنة, وسامان: لقب ملوك سمرقند, وقيصر: لقب ملوك الروم, وكسرى: لقب ملوك العَجَم, والنجاشي والحطي: لقب ملوك الحبشة, وفرعون قديمًا: لقبُ ملوك مصر, وحديثًا السُّلطان.
خرَجَ التُّركُ- وهم وثنيُّونَ- مِن الصِّينِ، وكان سبَبُ خُروجِهم أنَّ طغان خان مَلِكَ تُركستان التُّركي كان مُسلِمًا فاضِلًا يُحِبُّ أهلَ العِلمِ والدِّينِ. لَمَّا مَرِضَ مرضًا شديدًا، وطال به المَرَضُ، طَمِعوا في البلادِ لذلك، فساروا إليها ومَلَكوا بعضَها وغَنِموا وسَبَوا، وبَقِيَ بينهم وبين بلاساغون ثمانيةُ أيام، فلمَّا بلَغَه الخبَرُ كان بها مريضًا، فسألَ اللهَ تعالى أن يُعافِيَه لِينتَقِمَ مِن الكَفَرةِ، فاستجابَ اللهُ له وشفاه، فجمَعَ العساكِرَ، وكتب إلى سائِرِ بلادِ الإسلامِ يَستنفِرُ النَّاسَ، فاجتمع إليه من المتطَوِّعةِ مئةُ ألف وعِشرون ألفًا، فلمَّا بلغ التُّركَ خَبَرُ عافيتِه وجَمْعِه العساكِرَ وكَثرةُ مَن معه، عادوا إلى بلادِهم، فسار خَلْفَهم نحوَ ثلاثةِ أشهُرٍ حتى أدرَكَهم وهم آمنونَ لبُعدِ المسافةِ، فكبَسَهم وقَتَلَ منهم زيادةً على مِئَتي ألف رجلٍ، وأسَرَ نحوَ مئةِ ألف، وغَنِمَ مِن الدوابِّ وغير ذلك من الأواني الذهبيَّةِ والفضيَّة ومعمول الصينِ ما لا عهدَ لأحدٍ بمِثلِه، وعاد إلى بلاساغون، فلَمَّا بلَغَها عاوَدَه مَرَضُه فمات منه.
زاد شَغبُ الأتراكِ بهَمذانَ على صاحِبِهم شَمسِ الدَّولةِ بنِ فَخرِ الدَّولة، وكان قد تقَدَّمَ ذلك منهم غيرَ مَرَّة، وهو يحلُمُ عنهم بل يَعجِزُ، فقَوِيَ طمَعُهم، فزادوا في التوثُّبِ والشغبِ، وأرادوا إخراجَ القُوَّادِ القوهيَّة الأكرادِ مِن عنده، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، فعَزَموا على الإيقاعِ بهم بغيرِ أمْرِه، فاعتَزَل الأكرادُ مع وزيرِه تاجِ الملك أبي نصر بنِ بهرامَ إلى قلعةِ برجين، فسار الأتراكُ إليهم فحَصَروهم، ولم يلتَفِتوا إلى شمسِ الدَّولة، فكتب الوزيرُ إلى أبي جعفرِ بنِ كاكويه، صاحبِ أصبهان، يستنجِدُه، وعَيَّنَ له ليلةً يكونُ قُدومُ العساكِرِ إليه فيها بغتةً، ليخرُجَ هو أيضًا تلك الليلةَ لِيَكبِسوا الأتراك. فعل أبو جعفرٍ ذلك، وسيَّرَ ألفَي فارس، وضَبَطوا الطرقَ لِئَلَّا يسبِقَهم الخبَرُ، وكبسوا الأتراك سَحَرًا على غفلةٍ، ونزل الوزيرُ والقوهيَّةُ من القلعةِ، فوضعوا فيهم السَّيفَ، فأكثَروا القَتلَ، وأخَذوا المالَ، ومَن سلِمَ مِن الأتراكِ نجا فقيرًا، وفعَلَ شَمسُ الدَّولة بمَن عندَه في همذان كذلك، وأخرَجَهم، فمضى ثلاثُمِئَة منهم إلى كرمان، وخدموا أبا الفوارِسِ بنَ بهاء الدَّولة صاحِبَها.
بَعثَ ناصرُ الدولةِ حُسينُ بن حمدان الفقيه أبا جَعفرٍ محمدَ بن أحمدَ بن البُخاريِّ رَسولًا منه إلى السُّلطانِ ألب أرسلان، مَلِكِ العِراقِ، يَسألهُ أن يُسَيِّرَ إليه العَساكرَ لِيُقيمَ الدَّعوةَ العبَّاسيَّةَ بدِيارِ مصر، وتكون مصر له. فتَجَهَّزَ ألب أرسلان مِن خُراسان في عِساكرَ عَظيمةٍ، وبَعثَ إلى محمودِ بن ثمال بن صالحِ بن مرداس، صاحبِ حَلَب، أن يَقطعَ دَعوةَ المُستَنصِر ويُقيمَ الدَّعوةَ العبَّاسيَّة، فقُطِعَت دَعوةُ المُستَنصِر من حَلَب ولم تَعُد بعدَ ذلك. وانتهى ألب أرسلان إلى حَلَب في جُمادى الأُولى سَنةَ 463هـ وحاصَرَها شَهرًا، فخَرجَ إليه صاحبُها محمودُ بن ثمال بن صالحِ بن مرداس، فأَكرَمه وأَقَرَّهُ على وِلايَتِه. وأَخذَ يُريدُ المَسيرَ إلى دِمشقَ لِيَمُرَّ منها إلى مصر، وإذا بالخَبَرِ قد طَرَقَهُ أنَّ مُتَمَلِّكَ الرُّومِ قد قَطعَ بِلادَ أرمينية يُريدُ أَخْذَ خُراسان، فشَغَلهُ ذلك عن الشامِ ومصر ورَجعَ إلى بِلادِه؛ فواقَعَ جَمائِعَ الرُّومِ على خلاط وهَزمَهُم. وكان قد تَركَ طائفةً من عَسكرِه الأتراكِ ببلادِ الشامِ فامتَدَّت أَيدِيهم إليها ومَلَكَتْهَا كُلَّها، فخَرجَت عن أَيدِي الفاطِميِّين ولم تَعُد إليهم.