قام الملك الناصرُ صلاح الدين صاحِبُ دمشق بطَلَب العونِ مِن ملك الفرنجِ فريدريك الثاني وهو في عكَّا على أن يُسَلِّمَه القُدسَ مقابِلَ هذه المساعدة ضِدَّ العسكر المصري، ولكِنَّ فريدريك رفض طلبَه ذاك لوجودِ معاهدة بينه وبين المماليكِ تمنعُ مناصرةَ خُصومِهم في الحرب، وقد قال ابن كثير في تاريخه "إن الجيشَ المصريَّ قد تمالأ أيضًا مع الفرنج على تسليمِهم القدس إن هم نصروهم على الشاميِّين, فالله أعلمُ بحقيقة الحال".
هو يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان يحيى ممَّن نجا يوم فخٍّ بمكَّة عام 169هـ فهرب إلى اليمن، ثم لمصر، ثم بغداد، ثم نزل ببلاد الديلم، واتَّبَعه خلقٌ كثيرٌ وجَمٌّ غفير، وقَوِيَت شوكتُه، وارتحل إليه الناسُ من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيدُ وقَلِقَ من أمره، فنَدَب إليه الفضلَ بن يحيى بن خالد بن برمك، فسار الفضلُ إليه وكاتَبَه بأنَّه سيسعى له بالأمانِ إن هو خرجَ مُطيعًا وأغرى صاحِبَ الديلم أن يعطيَه ألف ألف درهم إن هو سعى إلى إخراجِ يحيى للصُّلحِ، فطلب يحيى أن يكتُبَ له الرشيدُ بخَطِّ يده الأمانَ، فلما وصل الخبَرُ للرشيد سُرَّ بذلك وكتب له الأمانَ، وأشهد عليه القُضاةَ والفقهاءَ ومَشيخةَ بني هاشم، وبعثه ومعه الهدايا والأموال، ثم جاء يحيى ودخل بغدادَ بهذا الأمانِ، وأكرَمَه الرشيدُ، ثم لم يلبث الرشيدُ فتنكَّرَ ليحيى مرَّةً أخرى فحَبَسَه في سرداب حتى مات عام 180هـ، وقد كَثُرت الروايات في سبَبِ مَوتِه؛ قيل: جَوَّعَه حتى مات، وقيل: عُذِّبَ، وقيل: بل مات دون دافِعٍ، وقيل غيرُ ذلك.
في ليلةِ الجمعة تاسِعَ عَشَر صفر لَبِسَ الأمير بركة السلاحَ هو ومماليكه، ولبس الأمراءُ أيضًا وباتوا في إسطبلاتهم على احتراز، فلما أصبح نهارُ يوم الجمعة، طلب الأميرُ الكبير برقوق القضاةَ ومشايخَ العلم وندبهم للدخول بينه وبين الأمير بركة في الصُّلحِ؛ مكيدةً منه ودَهاءً، فما زالوا يتردَّدونَ بينهما عِدَّة مرار، حتى وقع الصلحُ على دَخَن، وحلف كلٌّ منهم لصاحبه، ونزعوا عنهم السلاحَ، فبعث الأميرُ برقوق بالأمير أَيْتَمِش إلى الأمير بركة، فنزل إليه وفي عُنُقِه منديل، ليفعل ما يريدُ مِن قتل أو حبس أو غير ذلك، وخضع له خضوعًا زائدًا، فلم يجِدْ بركةُ بدًّا من الإغضاءِ عنه وقبول معذرته، وخلع عليه، وأعاده إلى الأميرِ برقوق، والقلوبُ ممتلئةٌ حَنَقًا، ونودي في القاهرة بالأمان وفَتْح الأسواق، فسكن انزعاجُ الناس، فلما أصبح نهارُ الأربعاء تاسع شهر ربيع الأول أنزل برقوق السلطانَ المَلِكَ المنصور إلى عنده بالإسطبل السلطاني، ونادى للمماليكِ السُّلطانية بالحضور، فحضروا فأخرجَ جماعةً كبيرة من الأمراء ومعهم المماليك السلطانية ونَدَبَهم لقتال بركة بعد أن بلَغَه أنَّه يريدُ أن يقتُلَه غِيلةً يوم الجمعة في الصلاة، ودُقَّت الكوسات بقلعة الجبل، هذا وقد جَهَّز بركة أيضًا جماعةً كبيرة أيضًا من أصحابِه؛ لملتقى من ندبه برقوق لقتالِه، وسار كل من الفريقينِ إلى الآخر حتى تواجَها على بُعدٍ، فلم يتقَدَّمْ أحد من العسكرين إلى غريمِه، فلما كان بعد الظهر بعث الأميرُ بركة أمير آخوره سيف الدين طغاي يقول لبرقوق: ما هذا العَمَلُ، هكذا كان الاتفاق بيننا؟ فقال برقوق: هكذا وقع، قل لأستاذك: يتوجه نائبًا في أيِّ بلد شاء، فرجع أميرُ آخور بركة إليه بهذا القَولِ، فلم يوافِقْ بركة على خروجه من مصر أصلًا، فركب بركةُ بأصحابه ومماليكه من وَقتِه، وساقوا فرقتين: فرقةٌ من الطريق المعتادة، وفرقةٌ من طريق الجبل، وكان بركةُ في الفرقة التي بطريق الجَبَل، وبلغ برقوقًا ذلك فأرسل الأمراءَ والمماليك في الوَقتِ لِمُلتقاه، فلما أقبل بركةُ هرب أكثَرُ عساكر برقوق ولم يَثبُتْ إلَّا الأميرُ علان الشعباني في نحو مائة مملوك، والتقى مع بركة، وكان يلبغا الناصري بمن معه من أصحابِ بركة توجَّه من الطريق المعتادة، فالتقاه أيتمش البجاسي بجماعةٍ وكسره، وضَرَبَه بالطبر، وأخذ جاليشَه وطبلخاناتِه، ورجع مكسورًا بعد أن وقع بينهم وقعةٌ هائلة جُرِحَ فيها من الطائفتين خلائق، وأما بركة فإنه لما التقى مع علان صَدَمَه عَلَّان صدمةً تقنطَرَ فيها عن فَرَسِه، وركب غَيرَه، فلما تقنطر انهزم عنه أصحابُه، فصار في قِلَّة، فثبت ساعة جيدةً ثم انكسر وانهزم إلى جهةِ قُبَّة النصر، وأقام به إلى نِصفِ الليل، فلم يجسُرْ أحد من البرقوقيَّة على التوجه إليه وأخْذِه، فلما كانت نصفُ ليلة الخميس رأى بركة أصحابَه في قلة، وقد تخَلى عنه أكثَرُ مماليكه وحواشيه، وهرب من قُبَّة النصر هو والأمير آقبغا صيوان إلى جامع المقسي خارج القاهرة، فغُمِزَ عليه في مكانه فمُسِكَ هو وآقبغا من هناك، وطُلِعَ بهما إلى برقوق، وتتَبَّعَ برقوق أصحابَ بركة ومماليكه فمسك منهم جماعةً كبيرة مع من مُسِك مع بركة من الأمراء، وبَقِيَت القاهرة ثلاثة أيام مغلقة والنَّاسُ في وَجَل بسبب الفتنة، فنادى برقوقٌ عند ذلك بالأمان والاطمئنان، وأمَّا أمرُ بركة فإنه لما كان شهر رجب من هذه السنة ورد الخبَرُ من الأمير صلاح الدين خليل بن عرام نائب الإسكندرية بموت الأمير زين الدين بركة الجوباني اليلبغاوي بسِجنِ الإسكندرية، فلما بلغ الأتابك برقوقًا ذلك بعث بالأميرِ يونس النوروزي الدوادار بالإسكندرية لكَشفِ خَبَرِ الأمير بركة وكيف كانت وفاتُه، فتوجه يونُسُ إلى الإسكندرية، ثم عاد إلى مصر ومعه ابنُ عرام نائب الإسكندرية، وأخبر برقوقًا بأنَّ الأمرَ صَحيحٌ، وأَّنه كشف عن موته وأخرجه من قَبرِه فوجد به ضرباتٍ: إحداها في رأسِه، وأنه مدفون بثيابِه مِن غير كفن، وأن يونُسَ أخرجه وغَسَّله وكَفَّنه ودفنه وصلَّى عليه خارج باب رشيد، وبنى عليه تربة، وأن الأمير صلاح الدين خليل بن عرام هو الذي قتَلَه، فحَبَس برقوقٌ ابنَ عرام بخزانة شمائل وهي السِّجنُ المخصَّص لأصحاب الجرائم، ثم عصره وسأله عن فصوصٍ تركها بركة عنده، فأنكرها وأنكر أنَّه رآها، فلما كان يوم الخميس خامس عشرين شهر رجب طلع الأمراءُ للخدمة على العادة، وطُلِبَ ابن عرام من خزانة شمائل، فطلعوا به إلى القلعةِ على حمار، فرَسَم برقوق بتسميره، فخرج الأميرُ مأمور القلمطاوي حاجب الحجاب، وجلس بباب القلة هو وأميرُ جاندار، وطلب ابن عرام بعد خدمةِ الإيوان، فعُريَ وضُرِبَ بالمقارع ستة وثمانين شيبًا، ثم سفر على جمل بلعبة تسمير عطب، وأنزل من القلعة إلى سوق الخيل بالرميلة بعد نزول الأمراء، وأوقفوه تجاه الإسطبل السلطاني ساعةً، فنزل إليه جماعةٌ من مماليك بركة وضَرَبوه بالسيوف والدبابيس حتى هَبَروه وقطَّعوه قطَعًا عديدة، ثم إنَّ بَعضَهم قَطَع أذنه وجعل يَعَضُّها صفة الأكل، وأخذ آخَرُ رجله، وآخر قَطَعَ رأسَه وعَلَّقَها بباب زويلة، وبقيت قِطَعٌ منه مرمية بسوق الخيل، وذُكِرَ أن بعض مماليك بركة أخذ من لحمه قطعةً شواها، والله أعلم بصحة ذلك، ثم جُمِعَ ابن عرام بعد ذلك ودُفِنَ بمدرسته خارج القاهرة عند جامع أمير حسين بن جندر بحكر جوهر النوبي.
رأى النَّاصِرُ أميرُ الأندلس أن تكونَ الدَّعوةُ له في مخاطباته والمُخاطَباتِ له في جميعِ ما يَجري ذِكرُه فيه، بأميرِ المؤمنين، فعَهِدَ إلى أحمد بن بقيٍّ القاضي صاحِبِ الصلاة بقُرطبةَ بأن تكون الخُطبةُ يوم الجمعة مُستهَلَّ ذي الحجة بذلك. ونَفَذت الكتبُ إلى العمَّال فيه، ونُسخة الرسالة النافذة في ذلك: بسم اللهِ الرَّحمنِ الرحيم. أمَّا بعدُ؛ فإنَّا أحقُّ من استوفى حَقَّه، وأجدرُ من استكمَلَ حَظَّه، ولَبِسَ من كرامة الله ما ألبَسَه؛ لِلَّذي فضَّلَنا اللهُ به، وأظهَرَ أثرَتَنا فيه، ورفع سلطانَنا إليه، ويَسَّرَ على أيدينا إدراكَه، وسهَّلَ بدَولتنِا مَرامَه، ولِلَّذي أشاد في الآفاقِ مِن ذِكْرِنا، وعُلُوِّ أمرِنا، وأعلن مِن رجاء العالَمينَ بنا، وأعاد مِن انحرافِهم إلينا، واستبشارهم بدولتنا. والحمدُ لله وليُّ النِّعمةِ والإنعامِ بما أنعَمَ به، وأهلُ الفَضلِ بما تفضَّلَ علينا فيه, وقد رأينا أن تكونَ الدَّعوةُ لنا بأميرِ المؤمنين، وخروجَ الكتب عنا وورودَها علينا بذلك؛ إذ كُلُّ مدعُوٍّ بهذا الاسم غيرِنا مُنتَحِلٌ له، ودخيلٌ فيه، ومتَّسِمٌ بما لا يستحِقُّه. وعَلِمْنا أنَّ التماديَ على تركِ الواجِبِ لنا من ذلك حَقٌّ أضعناه، واسمٌ ثابتٌ أسقطناه. فأْمُرِ الخطيبَ بموضِعِك أن يقولَ به، وأَجْرِ مُخاطباتِك لنا عليه، إن شاء الله. والله المستعان, كُتِبَ يوم الخميس لليلتينِ خلتا من ذي الحجة سنة 316.
عصى الأميرُ يلبغا الناصريُّ نائِبُ حَلَب على السلطان برقوق، وأمر السلطانُ بخروج العسكر إليه، ولكن الأمير قرابغا فرج الله والأمير بزلار العمري الناصري والأمير دمرداش اليوسفي والأمير كمشبغا الخاصكي الأشرفي وآقبغا قبجق، اجتمع معهم عدَّةٌ كثيرة من المماليك المنفيِّين بطرابلس، وثبوا على نائبها الأمير أسندمر المحمدي وقبضوا عليه، وقتلوا من أمراءِ طرابلس الأميرَ صلاح الدين خليل بن سنجر وابنه، وقبضوا على جماعةٍ كبيرة من أمراء طرابلس، ثمَّ دخل الجميعُ في طاعة الناصري، وكاتبوه بذلك ومَلَكوا مدينة طرابلس، ثمَّ إنَّ مماليك الأمير سودون العثماني نائِبِ حماة اتَّفَقوا على قتله، ففر منهم إلى دمشق، وأنَّ الأمير بيرم العزي حاجِبَ حجَّاب حماة سَلَّم حماة إلى الأمير يلبغا الناصري ودخل تحت طاعته، ثم تواترت الأخبار على السلطان بدخول سائر الأمراء بالبلاد الشاميَّة والمماليك الأشرفيَّة واليلبغاوية في طاعة الناصري، وكذلك الأميرُ سولي بن دلغادر أمير التركمان، ونعير أمير العربان، وغيرهما من التركمان والأعراب، دخل الجميعُ في طاعة الناصري على محاربة السلطانِ الملك الظاهر برقوق، وأنَّ الناصري أقام أعلامًا خليفتيَّة، وأخذ جميعَ القلاع بالبلاد الشاميَّة، واستولى عليها ما خلا قلعةَ الشام وبعلبك والكرك، ثم في يوم الثلاثاء أول ربيع الآخر قَدِمَ البريد بأنَّ الأمير كمشبغا المنجكي نائِبَ بعلبك دخل تحت طاعة يلبغا الناصري، وكذلك في خامِسِه قَدِمَ البريد بأن ثلاثة عشر أميرًا من أمراء دمشق ساروا إلى حلب ودخلوا في طاعة الناصري، وأما العسكر المصري الظاهري فإنه سار من غزَّةَ حتى دخل دمشق في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر، ودخلوا دمشق بعد أن تلقَّاهم نائبها الأمير حسام الدين طرنطاي، ودخلوا دمشق قبل وصول الناصري بعساكره إليها بمدة، وأقبل المماليكُ السلطانية على الفَسادِ بدمشق، واشتغلوا باللَّهوِ، وأبادوا أهلَ دمشق، حتى سَئِمَتهم أهل الشام وانطلقت الألسنةُ بالوقيعة فيهم وفي مُرسِلِهم، وبينما هم في ذلك جاءهم الخبَرُ بنزول يلبغا الناصري بعساكره على خان لاجين خارج دمشق في يوم السبت تاسع عشر شهر ربيع الآخر، فعند ذلك تهيَّأ الأمراء المصريون والشاميون إلى قتالِهم، وخرجوا من دمشق في يوم الاثنين في الحادي والعشرين إلى برزة، والتقوا بالناصري على خان لاجين، وتصافُّوا ثم اقتَتَلوا قتالًا شديدًا ثَبَت فيه كلٌّ من الفريقين ثباتًا لم يُسمَعْ بمِثلِه، ثم تكاثر العسكَرُ المصري وصَدَقوا الحملة على الناصري ومن معه، فهزموهم وغيَّروه عن موقفه، ثم تراجع عسكر الناصري وحمل بهم، والتقى العسكَرُ السلطاني ثانيًا واصطدما صدمةً هائلة ثبت فيها أيضًا الطائفتانِ وتقاتلا قتالًا شديدًا، قُتلَ فيها جماعة من الطائفتين، حتى انكسر الناصريُّ ثانيًا، ثم تراجع عسكَرُه وعاد إليهم والتقاهم ثالثَ مَرَّة، فعندما تنازلوا في المرة الثالثة والتحم القتالُ لَحِقَ الأمير أحمد بن يلبغا بعساكِرِ الناصري بمن معه من مماليكه وحواشيه، ثم تَبِعَه الأمير أيدكار العمري حاجِبُ الحجاب أيضًا بطَلَبِه ومماليكه، ثم الأمير فارس الصرغتمشي ثم الأمير شاهين أمير آخور بمن معهم، وعادوا قاتلوا العسكر المصري، فعند ذلك ضَعُفَ أمرُ العساكر المصرية وتقهقروا وانهزموا أقبحَ هزيمة، فلما ولَّوا الأدبار في أوائل الهزيمة، هَجَم مملوكٌ من عسكر الناصري يقال له يلبغا الزيني الأعور وضرب الأميرَ جاركس الخليلي بالسيف فقتَلَه وأخَذَ سَلَبَه، وترك رمَّتَه عاريةً، إلى أن كفَّنَتْه امرأة بعد أيام ودفنته، ثم مَدَّت التركمان والعرب أيديَهم ينهبون من انهزم من العسكر المصري ويقتُلون ويأسرون من ظَفِروا به، وساق الأميرُ الكبير أيتمش البجاسي حتى لحق بدمشق وتحصَّن بقلعتها، وتمزَّق العسكر المصري وذهب كأنَّه لم يكن، ودخل الناصريُّ من يومه إلى دمشق بعساكره، ونزل بالقَصرِ من الميدان، وتسَلَّم القلعة بغير قتال، وأوقع الحوطةَ على سائر العسكر، وأنزل بالأميرِ الكبير أيتمش وقَيَّده هو والأمير طرنطاي نائب الشام وسجَنَهما بقلعة دمشق، وتتبَّعَ بقيَّةَ الأمراء والمماليك حتى قبض من يومِه أيضًا على الأمير بكلمش العلائي في عدة من أعيان المماليك الظاهرية، فاعتقلهم أيضًا بقلعة دمشق، ثم مَدَّت التركمان والأجناد أيديَهم في النهب، فما عَفَوا ولا كفُّوا وتمادَوا على هذا عدة أيام، وقَدِمَ هذا الخبر على الملك الظاهر برقوق من غزة في يوم السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر، فاضطرب الناسُ اضطرابًا عظيمًا، لا سيَّما لما بلغهم قتل الأمير جاركس الخليلي والقبض على الأمير الكبير أيتمش البجاسي، وغُلِّقَت الأسواق، وانتُهِبَت الأخباز، وتشغبت الزعر، وطغى أهلُ الفساد، هذا مع ما للنَّاسِ فيه من الشغل بدفن موتاهم، وعِظَم الطاعون بمصر، وأما السلطان الملك الظاهر برقوق فإنه لما بلغه ما وقع لعسكره وَجَمَ وتحَيَّرَ في أمره، وعَظُم عليه قتلُ جاركس الخليلي والقبض على أيتمش أكثَرَ من انهزام عسكره، فإنَّهما ويونس الدوادار كانوا هم القائمينَ بتدبير مُلكِه، وأخذ يفحصُ عن أخبار يونس الدوادار فلم يقِفْ له على خبر؛ لسرعة مجيء خبَرِ الوقعة له من مدينةِ غزة، ولم يأتِه أحَدٌ ممن باشر الواقعة، غيرَ أنَّه صَحَّ عنده ما بلغه، وبقَتلِ يونس الدوادار استشعر كلُّ أحد بذهاب مُلْك المَلِك الظاهر، ثم قدم الخبر بدخول الأمير مأمور القلمطاوي نائب الكرك في طاعة الناصري، وأنَّه سَلَّم له الكرك بما فيها من الأموال والسلاح، ثم أخذ السلطان ينقلُ إلى قلعة الجبل المناجيقَ والمكاحل والعُدَد، وأمر السلطانُ سُكَّان قلعةِ الجَبَلِ من الناس بادِّخار القوتِ بها لشهرينِ، وسار الناصريُّ بمن معه من العساكر يريد الديارَ المصريَّة، وهو يظُنُّ أنه يلقى العساكِرَ المصرية بالقرب من الشام، واستمَرَّ في سَيرِه على هِينةٍ إلى أن وصل إلى غزَّة، فتلقَّاه نائبها حسام الدين بن باكيش بالتقادُم والإقامات، فسأله الناصري عن أخبار عسكر مِصرَ، فقال: لم يَرِدْ خَبَرٌ بخروج عسكر من مصر، ثم سار الناصري من الغد يريد ديار مصر، وأرسل أمامَه جماعة كبيرة من أمرائه ومماليكِه كَشَّافة، واستمَرَّ في السير إلى أن نزلَ مدينة قطيا، وجاء الخبَرُ بنزول الناصري بعساكِرِه على قطيا، فلم يتحرك السلطان بحركة، وفي ليلة وصول الخبَرِ فَرَّ من أمراء مصر جماعة كبيرة إلى الناصري، وهي ليلةُ الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الأولى، ثم في يوم الجمعة نزلت عساكِرُ الناصري بالبئر البيضاء، فأخذ عند ذلك عسكَرُ السلطان يتسَلَّلُ إلى الناصري شيئًا بعد شيءٍ، ثمَّ نَصَب السلطان السناجق السلطانية على أبراج القلعة، ودُقَّت الكوسات الحربية، فاجتمعت العساكِرُ جميعها، وعليهم آلةُ الحرب والسلاح، ثم ركِبَ السلطان والخليفة المتوكل على الله معه من قلعة الجبلِ بعد العصر، وسار السلطانُ بمن معه حتى وقفا خلفَ دار الضيافة، وقد اجتمع حولَ السلطان من العامَّةِ خلائِقُ لا تُحصى كثرةً، فوقف هناك ساعة، ثم عاد وطلع إلى الإسطبل السلطاني، وجلس فيه مِن غير أن يلقى حَربًا، ثم ركب السلطان ثانيًا من القلعةِ، ومعه الخليفةُ المتوكل على الله، ونزل إلى دار الضيافة، فقدم عليه الخبَرُ بأن طليعة الناصري وصلت إلى الخراب طرف الحسينية، فلقيتهم كشافة السلطان فكسَرَتهم، ثم ندب السلطانُ الأمراء فتوجَّهوا بالعساكر إلى جهة قبَّة النصر، ونزل السلطانُ ببعض الزوايا عند دار الضيافة إلى آخر النهار، ثم عاد إلى الإسطبل السلطاني وصحبته الأمراء الذين توجَّهوا لقبة النصر، والكوسات تُدَقُّ، وهم على أُهبة اللقاء وملاقاة العدو، وخاصكية السلطان حوله، والنفوطُ لا تفتُرُ، والرميلة قد امتلأت بالزعر، والعامة ومماليك الأمراء، ولم يزالوا على ذلك حتى أصبحوا يوم الاثنين، وإذا بالأمير آقبغا المارديني حاجب الحجاب والأمير جمق بن أيتمشر البجاسي والأمير إبراهيم بن طشتمر العلائي الدوادار قد خرجوا في الليل ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية ولحِقوا بالناصري، ثم أصبح السلطانُ من الغد، وهو يوم خامس جمادى الآخرة، فَرَّ الأمير قرقماس الطشتمري الدوادار الكبير، وقرا دمرداش الأحمدي أتابك العساكر بالديار المصرية، والأمير سودون باق، أمير مجلس ولحقوا بالناصري، ولما بلغ السلطان نفاقُ هؤلاء الأمراء عليه بعد أن أنعم عليهم بهذه الأشياء، علم أن دولته قد زالت، فأغلق في الحالِ باب زويلةَ وجميع الدروب، وتعطَّلَت الأسواق، وامتلأت القاهرةُ بالزعر، واشتدَّ فسادَهم، وتلاشت الدولةُ الظاهرية وانحَلَّ أمرُها، وخاف والي القاهرة حسام الدين بن الكوراني على نفسِه، فقام من خلف باب زويلة وتوجَّه إلى بيته واختفى، وبَقِيَ الناس غوغاء، وقطع المسجونون قيودَهم بخزانة شمائل، وكَسَروا باب الحبس وخرجوا على حميةٍ جملةً واحدة، فلم يرُدَّهم أحدٌ؛ لشُغلِ كُلِّ واحد بنفسه، وكذلك فعَلَ أهل حبس الديلم، وأهلُ سجن الرحبة، هذا والسلطان إلى الآن بقلعة الجبل، والنفوطُ عَمَّالة، والكوسات تُدَقُّ حربيًّا، ثم أمر السلطان مماليكَه فنزلوا ومنعوا العامَّةَ من التوجه إلى يلبغا الناصري، فرجمهم العامَّةُ بالحجارة، فرماهم المماليكُ بالنشَّاب، وقتلوا منهم جماعةً تزيد عِدَّتُهم على عشر أنفس، ثم أقبلت طليعة الناصري مع عِدَّة من أعيان الأمراء من أصحابِه، فبَرَز لهم الأمير قجماس ابن عم السلطان في جماعة كبيرة وقاتلهم، وأكثر الرمي عليهم من فوق القلعة بالسهام والنفوط والحجارة بالمقاليع، وهم يوالون الكَرَّ والفَرَّ غَيرَ مَرَّة، وثبتت المماليك السلطانية ثباتًا جيدًا، غير أنهم في عِلمٍ بزوال دولتهم، هذا وأصحابُ السلطان تتفَرَّقُ عنه شيئًا بعد شيء، فمنهم من يتوجه إلى الناصري، ومنهم من يختفي خوفًا على نفسه، حتى لم يبقَ عند السلطان إلا جماعةٌ يسيرة ممن ذكرنا من الأمراء، فلما كان آخِرُ النهار أراد السلطان أن يسَلِّمَ نفسَه، فمنعه من بقِيَ عنده من الأمراء وخاصكيته، ثم بعد العصر من اليوم قَدِمَ جماعة من عسكر الناصري عليهم الطواشي طقطاي الرومي الطشتمري، والأمير بزلار العمري الناصري، وكان من الشجعان، والأمير ألطنبغا الأشربي، في نحو الألف وخمسمائة مقاتل يريدون القلعة، فبرز لهم الأمير بطا الطولوتمري الظاهري الخاصكي، والأمير شكر باي العثماني الظاهري، وسودون شقراق في نحو عشرين مملوكًا من الخاصكية الظاهرية، وتلاقوا مع عسكر الناصري فصدموهم صدمةً واحدة كسروهم فيها وهزموهم إلى قبة النصر، ولم يُقتَلْ منهم غير سودون شقراق؛ فإنَّه أُمسِكَ وأُتي به إلى الناصري فوسَّطه، ولم يَقتُل الناصريُّ في هذه الوقعة أحدًا غيره، لا قبله ولا بعده- يعني صَبرًا- غيرَ أن جماعة كبيرة قُتِلوا في المعركة، وورد الخبَرُ بنصرتهم على الملك الظاهر، فلم يغتَرَّ بذلك، وعلم أنَّ أمرَه قد زال، فأخذ في تدبيرِ أمره مع خواصه، فأشار عليه من عنده أن يستأمِنَ من الناصري، فعند ذلك أرسل الملك الظاهر الأمير أبا بكر بن سنقر الحاجب والأمير بيدمر المنجكي شاد القصر بالنمجاة إلى الأمير يلبغا الناصري أنْ يأخذا له أمانًا على نفسِه، ويترققا له، فسارا من وقتهما إلى قبة النصر، ودخلا على الناصري وهو بمخَيَّمه، واجتمعا به في خلوةٍ، فأمَّنَه على نفسه، وأخذَ منهما منجاة الملك- سيف خاص بالملك أو السلطان- وقال: الملك الظاهر أخونا وخشداشنا- زميلنا في المهنة- ولكِنَّه يختفي بمكان إلى أن تُخمَدَ الفتنة، فإنَّ الآن كل واحد له رأي وكلام، حتى ندَبِّرَ له أمرًا يكون فيه نجاتُه، فعادا بهذا الجواب إلى الملك الظاهر برقوق، وأقام السلطانُ بعد ذلك في مكانه مع خواصِّه إلى أن صلى عشاء الآخرة، وقام الخليفةُ المتوكل على الله إلى منزله بالقلعةِ على العادة في كلِّ ليلة، وبقي الملك الظاهر في قليل من أصحابه، وأذِنَ لسودون النائب في التوجُّه إلى حال سبيله والنظَرِ في مصلحة نفسه، فودَّعَه وقام ونزل من وقته، ثم فَرَّق الملك الظاهر بقيَّة أصحابه، فمضى كلُّ واحد إلى حال سبيله، ثم استتر الملك الظاهر وغيَّرَ صِفَتَه، حتى نزل من الإسطبل إلى حيث شاء ماشيًا على قَدَمَيه، فلم يَعرِفْ له أحد خبرًا، وانفَضَّ ذلك الجمع كلُّه في أسرع ما يكون، وسكَنَ في الحال دَقُّ الكوساتِ ورَمْيُ مدافع النفط، ووقعَ النَّهبُ في حواصل الإسطبل، حتى أخذوا سائِرَ ما كان فيه من السروج واللجم وغيرها والعبي، ونهبوا أيضًا ما كان بالميدان من الغَنَمِ الضأن، وكان عِدَّتُها نحو الألفي رأس، ونُهِبَت طباق المماليك بالقلعة، وطار الخبَرُ في الوقت إلى الناصري، فلم يتحَرَّك من مكانه، ودام بمخَيَّمه، وأرسل جماعةً من الأمراء من أصحابه، فسار من عسكره عِدَّةٌ كبيرة واحتاطوا بالقلعة، وأصبح الأمير يلبغا الناصري بمكانه، وهو يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة، وندب الأمير منطاش في جماعة كبيرة إلى القلعة، فسار منطاش إلى قلعة الجبل في جموعه، وطلع إلى الإسطبل السلطاني، فنزل إليه الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد، وسار مع منطاش إلى الناصري بقبَّة النصر، حتى نزل بمخَيَّمه، فقام الناصري إليه وتلقَّاه وأجلسه بجانبه ووانسه بالحديث، وأمَّا الناصري فإنه لَمَّا نزل إليه الخليفة وأكرمه، وحضَرَ قضاة القضاة والأعيان للهناء، أمَرَهم الناصري بالإقامة عنده، وأنزل الخليفةَ بمُخَيَّم، وأنزل القضاةَ بخَيمةٍ أخرى ثم طلب الناصريُّ مَن عنده من الأمراء والأعيان وتكَلَّم معهم فيما يكون، وسألهم فيمن يُنصَب في السلطنةِ بعد الملك الظاهر برقوق، فأشار أكابِرُهم بسلطنة الناصري، فامتنع الناصريُّ مِن ذلك أشدَّ امتناع، وهم يُلِحُّونَ عليه ويقولون له: ما المصلحةُ إلَّا ما ذكَرْنا، وهو يأبى، وانفَضَّ المجلس من غير طائل، ثم استدعى الأميرُ الكبير يلبغا الناصري الأمراءَ واستشارهم فيمن ينصِبُه في سلطنة مصر، فكَثُر الكلام بينهم، وكان غَرَضُ غالب الأمراء سلطنة الناصري ما خلا منطاش وجماعة من الأشرفية، حتى استقَرَّ الرأي على إقامة الملك الصالح أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان في السلطنة ثانيًا، بعد أن أعيا الأمراءَ أمرُ الناصري في عدم قبوله السلطنةِ، وهو يقول: المصلحةُ سَلطنةُ الملك الصالح أمير حاج؛ فإن الملك الظاهر برقوقًا خلَعَه من غير مُوجِبٍ، فطلعوا في الحال من الإسطبل إلى القلعة، واستدعَوا الملك الصالح وسَلْطَنوه، وغيَّروا لَقَبَه بالملك المنصور، وأما الملك الظاهر برقوق فإنه دام في اختفائِه إلى أن قُبِضَ عليه بعد أيام متخفيًا في بيت مملوك له، ثم رُسِمَ بسجنه إلى الكرك، فأخرج إليها وسُجِنَ هناك بعد أن حَكَم مصر أميرًا كبيرًا وسُلطانًا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا، وزالت دولةُ الملك الظاهر كأن لم تكن، فكانت مُدَّة تحَكُّمه منذ قُبِض على الأمير طَشْتَمُر الدوادار في تاسع ذي الحجة سنة 779، إلى أن جلس على تخت الملك وتلقَّب بالملك الظاهر في تاسع عشر شهر رمضان سنة 784، أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، ويقال له في هذه المدة الأمير الكبير أتابك العساكر، ومن حين تسلطَنَ إلى أن اختفي ست سنين، وثمانية أشهر، وسبعة عشر يومًا، فيكون مدة حكمه أميرًا وسلطانًا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا، وترك مُلْكَ مِصرَ وله نحو الألفي مملوك اشتراهم، سوى المُستخدَمينَ.
غزا عمرُو بنُ عبد الله الأقطَع الصائفةَ، فأخرج سبعةَ عشرَ ألف رأس، وغزا قريباس، وأخرج خمسةَ آلافِ رأس، وغزا الفضلُ بن قارن بحرًا في عشرينَ مركبًا، فافتتح حِصنَ أنطاكية، وغزا بلكاجور، فغَنِمَ وسَبَى، وغزا عليُّ بن يحيى الأرمني، فأخرج خمسةَ آلافِ رأس، ومن الدوابِّ والرمك والحمير، ونحوًا من عشرةِ آلاف رأس، وفيها كان الفداءُ على يدِ عليِّ بنِ يحيى الأرمني، ففُودِيَ بألفين وثلاثمائة وسبعة وستين نفسًا.
هو الحافِظُ أبو بكرٍ أَحمدُ بن عليِّ بن ثابتِ بن أَحمدَ بن مَهدِيٍّ، الخَطيبُ البغداديُّ، أَحدُ الحُفَّاظِ الأَعلامِ المَشهورِينَ، صاحبُ ((تاريخ بغداد)) وغَيرِه من المُصنَّفاتِ العَديدةِ المُفيدةِ، وُلِدَ سَنةَ 392هـ، وكان أبوه أبو الحَسنِ الخَطيبُ قد قَرأَ على أبي حَفصٍ الكِتَّانيِّ، وصار خَطيبَ قَريةِ درزيجان، إحدى قُرى العِراقِ، فحَضَّ وَلدَه أبا بكرٍ على السَّماعِ في صِغَرِه، فسَمِعَ وله إحدى عشرة سَنةً، نَشأَ ببغداد، وتَفَقَّهَ على أبي طالبٍ الطَّبريِّ وغَيرِه من أَصحابِ الشيخِ أبي حامدٍ الأسفراييني، وسَمِعَ الحَديثَ الكَثيرَ، ورَحلَ إلى البَصرةِ, ونيسابور, وأصبهان، وهمذان, والشامِ, والحِجازِ. وسُمِّيَ الخَطيبَ لأنه كان يَخطُب بدرزيجان، ولمَّا وقعت فِتنةُ البساسيري ببغداد سَنةَ 450هـ خَرجَ الخَطيبُ إلى الشامِ فأَقامَ بدِمشقَ بالمأذَنةِ الشرقيَّةِ مِن جامِعِها، وكان يَقرأُ على الناسِ الحَديثَ، وكان جَهورِيَّ الصوتِ، يُسمَع صَوتُه من أَرجاءِ الجامعِ كُلِّها، فاتَّفَق أنه قَرأَ على الناسِ يومًا فَضائلَ العبَّاسِ فثَارَ عليه الرَّوافِضُ من أَتباعِ الفاطِميِّين، فأَرادوا قَتْلَه فتَشَفَّعَ بالشَّريفِ الزَّينبيِّ فأَجارَهُ، وكان مَسكَنُه بدارِ العقيقي، ثم خَرجَ من دِمشقَ فأَقامَ بمَدينةِ صور، فكَتبَ شَيئًا كَثيرًا من مُصنَّفاتِ أبي عبدِ الله الصوري بِخَطِّهِ كان يَستَعيرُها من زَوجَتِه، فلم يَزَل مُقيمًا بالشامِ إلى سَنةِ 462هـ، ثم عاد إلى بغداد فحَدَّثَ بأَشياءَ من مَسمُوعاتِه، وله مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ مُفيدةٌ، نحو من سِتِّينَ مُصَنَّفًا، ويُقالُ: بل مائة مُصَنَّف، منها كتاب ((تاريخ بغداد))، وكتاب ((الكفاية))، و((الجامع))، و((شرف أصحاب الحديث))، و((المتفق والمفترق))، و((السابق واللاحق))، و((تلخيص المتشابه في الرسم))، و((اقتضاء العلم للعمل))، و((الفقيه والمتفقه))، وغير ذلك، ويُقال: إن هذه المُصَنَّفات أَكثرُها لأبي عبدِ الله الصوري، أو ابتَدأَها فتَمَّمَها الخَطيبُ، وجَعَلَها لِنَفسِه، قال الذهبيُّ: "ما الخَطيبُ بِمُفْتَقِرٍ إلى الصوري، هو أَحْفَظُ وأَوْسَعُ رِحلةً وحَديثًا ومَعرِفةً" كان الخَطيبُ أولا أَوَّلَ أَمرِهِ يَتكلَّم بمَذهبِ الإمامِ أَحمدَ بن حَنبلٍ، فانتَقلَ عنه إلى مَذهبِ الشافعيِّ. كان مَهيبًا وَقورًا، ثِقَةً مُتَحَرِّيًا، حُجَّةً، حَسَنَ الخَطِّ، كَثيرَ الضَّبْطِ، فَصيحًا، خُتِمَ به الحُفَّاظِ، قال ابنُ ماكولا: "كان أبو بكرٍ آخِرَ الأَعيانِ، ممَّن شاهَدناه مَعرِفةً، وحِفظًا، وإتقانًا، وضَبطًا لِحَديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَفَنُّنًا في عِلَلِهِ وأَسانيدِه، وعِلمًا بصَحيحِه وغَريبِه، وفَرْدِه ومُنكَرِه ومَطروحِه، ولم يكُن للبَغداديِّينَ بعدَ أبي الحَسنِ الدَّارقطنيِّ مِثلُه". كان الخَطيبُ يقول: "مَن صَنَّفَ فقد جَعلَ عَقلَهُ على طَبَقٍ يُعرِضُه على الناسِ", "كان للخَطيبِ ثَروةٌ من الثِّيابِ والذَّهبِ، وما كان له عَقِبٌ، فكَتبَ إلى القائمِ بأَمرِ الله قال له: إنَّ مالي يَصيرُ إلى بَيتِ مالٍ، فَأْذَنْ لي حتى أُفَرِّقَهُ فيمَن شِئتُ. فأَذِنَ له، ففَرَّقَها على المُحَدِّثين". تُوفِّيَ يومَ الاثنين ضُحًى، وله ثِنتانِ وسَبعون سَنةً، في حُجرَةٍ كان يَسكُنها بِدَربِ السلسلةِ، جِوارَ المَدرسةِ النِّظاميَّةِ، واحتَفلَ الناسُ بجِنازَتِه، وكان فيمَن حَملَ نَعشَه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، ودُفِنَ إلى جانبِ قَبرِ بِشْرٍ الحافيِّ.
وزَرَ رضوانُ بنُ ولخشي مكانَ بهرام النصراني، وتلقَّبَ بالأفضلِ، ولكِنَّه أساء السيرةَ، وصار بينه وبين الحافِظِ حاكِمِ مِصرَ العُبَيديِّ مُشاحناتٌ حتى حاول الوزيرُ خَلْعَه، فقام الحافِظُ بتدبير الأمرِ والعَمَلِ على إخراجِ الوزيرِ مِن مِصرَ بإثارةِ النَّاسِ عليه، فطلب رضوانُ الشَّامَ، فدخل عسقلانَ ومَلَكَها وجعلَها مَعقِلَه، ثم خرج رضوانُ مِن عسقلان ولحِقَ بصلخد، فنزل على أمينِ الدولة كمشتكين صاحِبِها فأكرَمَه وأبَرَّه، وأقام عنده ثلاثة أشهر. ثم أنفَذَ إلى دمشق، واستفسَدَ مِن الأتراك بها مَن قَدَرَ عليه, ثمَّ عاد الأفضَلُ رضوان مِن صلخد في جمعٍ فيه نحوُ الألف فارس، وكان النَّاسُ في مدة غيبته يَهتُفونَ بعَودِه، فبَرَزَت له العساكِرُ ودافعوه عند بابِ الفتوح، فلم يُطِقْ مُقابلَتَهم؛ فمضى إلى مصرَ، ونزل على سَطحِ الجُرف المعروف بالرصد، وذلك يومَ الثلاثاء مُستهَلَّ صَفَر. فاهتَمَّ الحافِظُ بأمرِه، وبعث إليه بعسكَرٍ مِن الحافظيَّة والآمريَّة وصبيان الخاص، عِدَّتُهم خَمسةَ عَشَرَ ألف فارس، مُقَدَّمُ القَلبِ تاجُ الملوك قايماز، ومُقَدَّمُ الآمرية فرَجٌ غلامُ الحافِظِ، فلَقِيَهم رضوان في قريبٍ من ثلثمئة فارس، فانكسروا، وقُتِلَ كثيرٌ منهم، وغُنِمَ مُعظَمُهم؛ ورَكِبَ أقفِيَتهم إلى قريبِ القاهرة. وعاد شاور إلى موضِعِه فلم يثبت، وأراد العودَ إلى صلخد فلم يَقدِرْ؛ لقلَّةِ الزاد وتَعَذُّرِ الطريق، فتوَجَّهَ بمَن معه من العُربانِ إلى الصعيد. فأنفذ إليه الحافِظُ الأميرَ المفَضَّل أبا الفَتحِ نَجمَ الدين سليم بن مصال في عسكرٍ ومعه أمانٌ، فسار خَلْفَه، وما زال به حتى أخَذَه وأحضَرَه إلى القَصرِ آخِرَ نهار الاثنين رابع ربيع الآخر، فعفا عنه الحافِظُ، ولم يؤاخِذْ أحدًا من الأتراكِ الذين حضَروا معه من الشام. واعتَقَلَه عنده بالقَصرِ قريبًا من الدار التي فيها بهرام.
هو عُبيدُ الله بن عبدِ الله بن عُتْبَة بن مَسعودٍ أَحَدُ الفُقَهاء السَّبعَة بالمَدينَة، مُفْتِي المَدينَة وعالِمُها، حَدَّثَ عن ابنِ عَبَّاس ولازَمَهُ طَويلًا، وعن عائِشَةَ، وأبي هُريرةَ، وغَيرِهم، وهو مُعَلِّم عُمَر بن عبدِ العزيز، كان يُطيلُ الصَّلاةَ ولا يُعَجِّلُها لِأَحَدٍ.
هو السلطانُ العثماني سليم الثالث بن مصطفى الثالث بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان بن عثمان بن أرطغرل، أحدُ خلفاء الدولة العثمانية. تولى السلطةَ بعد وفاة عمه عبد الحميد الأول سنة 1203هـ وكانت المعارك الحربية مستمرةً، فأعطى وقتَه وجهده للقتال، وكان من أصحابِ الهمة العالية والمصلحين في عصرِه, وكانت البلادُ بحاجة لإصلاحات في كافة المجالات، فعيَّن أحد الشبان هو كوشك حسين باشا قبودانا عاما، الذي استفاد من خبرته واطلاعه على التحديثات الأوربية في عددٍ من المجالات والتنظيمات خاصةً في المجال العسكري، فقام بعدد من الإصلاحات، إلَّا أن هذه التحديثات كان لها ردودُ فِعلٍ سلبية جدًّا من الانكشارية الذين ثاروا على السلطان وطالبوا بإلغاء جميعِ التحديثات خاصَّةً النظام العسكري الجديد، وقد حصل الانكشارية على تأييدِ بَعضِ العلماء الذين شاركوهم في الاعتراض على هذه التحديث؛ بحُجَّة أنها تقليد للغرب الكافر, فثار الجنودُ غيرُ النظاميين وأيدَتْهم الانكشارية، فقتلوا المؤيِّدين للنظامِ العسكري الجديد، واضطر السلطانُ أن يصدِرَ أمرًا بإلغاء النظام العسكري الجديد، ولكن لم يقبل الثائرون بهذا، بل قرَّروا عَزلَ السلطان، فنودي بعزله في 21 من ربيع الثاني، وولَّوا بعده ابن عمه مصطفى الرابع بن عبد الحميد الأول, وبَقِيَ سليم معزولًا مدة عام وشهر، ثم حدثت محاولة لاستعادة السلطان سليم لحكم البلاد، ولكِنَّ رجال مصطفى الرابع قتلوا السلطانَ سليم الثالث ظنًّا منهم أن ذلك قد يخمِدُ الثورة، إلا أنَّ الثائرين اشتعلوا غضبًا، وانتهى الأمر بقتل مصطفى الرابع وتولية محمود الثاني. أمضى سليم الثالث في الحكم تسعة عشر عامًا.
في هذه السنةِ نقَضَ الشريفُ غالب شريفُ مكَّةَ الصلحَ مع الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، ففارقه وزيرُه وزوج أخته عثمانُ بن عبد الرحمن المضايفي الذي خرجَ مِن مكة وترك الشريفَ غالبًا ونابَذَه، ووَفد المضايفي على الإمامِ عبد العزيز وبايعه على دينِ اللهِ ورَسولِه والسَّمعِ والطاعةِ، فعَيَّنه أميرًا على الطائف والحجازِ، وزَوَّده برسائِلَ إلى مشائخ القبائل يُعلِمُهم بهذا التعيين، ويطلُبُ منهم طاعتَه ومساعدته واعطاء الولاء لدولةِ الدرعيةِ، فكان لانشقاقِ المضايفي أثرٌ كبير في إضعافِ كِفَّة الأشراف, فبعدَ إعلانه الانشقاقَ ونزوله قرية العبيلا, انضمَّت إليه كثير من قبائل الحجاز وأعلنت خروجَها على الأشراف، فسار الشريفُ غالب بالعساكر والجموع ونازل المضايفي في العبيلا، ووقع قتالٌ، ولم يحصُل الشريفُ على طائِلٍ ورحَل عنه ودخَلَ الطَّائِفَ.
وُلِد الشَّيخُ محمَّدُ بنُ ناصرٍ العبوديُّ عام 1345هـ في مدينةِ بُرَيدة بمِنطقةِ القَصيمِ بالمملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ، وتلقَّى تعليمَه الأوَّليَّ فيها على يَدِ عَدَدٍ من العُلَماءِ، ثمَّ عَمِل مُدَرِّسًا ثمَّ مديرًا للمعهدِ العِلميِّ في بُرَيدةَ، ثمَّ أصبح الأمينَ العامَّ للجامعةِ الإسلاميَّةِ بالمدينةِ المنوَّرةِ لثلاثةَ عَشَرَ عامًا، ثمَّ أصبح وكيلًا للجامعةِ ثمَّ مديرًا لها، ثمَّ شَغِل منصِبَ الأمينِ العامِّ المساعِدِ لرابطةِ العالمِ الإسلاميِّ، أتاح له عَمَلُه في الرَّابطةِ وقَبْلَها في الجامعةِ الإسلاميَّةِ بالمدينةِ زيارةَ كثيرٍ من بُلدانِ العالمِ؛ ممَّا مكَّنه أن يؤلِّفَ أكثَرَ من مائةٍ وستِّينَ كتابًا في أدَبِ الرَّحلاتِ، ويكونُ بهذا قد حقَّق رقْمًا قياسيًّا في كُتُبِ الرَّحلاتِ العربيَّةِ.
مُنِح ميداليةَ الاستحقاقِ في الأدَبِ عام 1394هـ، وتوفِّي رحمه الله في الرِّياضِ عن عُمرٍ ناهز 97 سنةً.
رأى السلطانُ الناصر بن قلاوون أن يُقَدم برشنبو النوبي، وهو ابنُ أخت داود ملك النوبة، فجَهَّز صحبته الأميرَ عِزَّ الدين أيبك على عسكر، فلما بلغ ذلك كرنبس ملك النوبة بعَث ابن أختِه كنز الدولة بن شجاع الدين نصر بن فخر الدين مالك بن الكنز يسألُ السلطانَ في أمره، فاعتقل كنز الدولة، ووصل العسكَرُ إلى دنقلة، وقد فَرَّ كرنبس وأخوه أبرام، فقُبِضَ عليهما وحُملا إلى القاهرة، فاعتُقِلا، ومَلَك عبد الله برشنبو دنقلةَ، ورجع العسكَرُ في جمادى الأولى سنة سبع عشرة، وأفرج عن كنز الدولة، فسار إلى دنقلة وجمع النَّاسَ وحارب برشنبو، فخذله جماعتُه حتى قُتِلَ، وملك كنزُ الدولة، فلما بلغ السلطانَ ذلك أطلق أبرام وبعَثَه إلى النوبة، ووَعَدَه إنَّ بعث إليه بكنز الدولة مقيَّدًا أفرج عن أخيه كرنبس، فلما وصل أبرام خرج إليه كنز الدولة طائعًا، فقبض عليه ليرسِلَه، فمات أبرام بعد ثلاثة أيام من قَبضِه، فاجتمع أهلُ النوبة على كنزِ الدولة ومَلَّكوه البلادَ.
عبَرَ عبد الرحمن بن حبيب الفهري، المعروف بالصقلبي- وإنَّما سمي به لطولِه وزُرقتِه وشُقرتِه- من إفريقية إلى الأندلس مُحاربًا لهم، ليدخُلوا في طاعة العباسيَّين، وكان عبورُه في ساحل تدمير، وكاتبَ سليمانَ بن يقظان بالدخول في أمرِه، ومحاربةِ عبد الرحمن الداخل، والدُّعاءِ إلى طاعة المهدي. وكان سليمان ببرشلونة، فلم يجِبْه، فاغتاظَ عليه، وقصَدَ بلدَه فيمن معه من البربرِ، فهزمه سليمان، فعاد الصقلبيُّ إلى تدمير، وسار عبد الرحمن الداخل نحوَه في العدَد والعُدَّة، وأحرق السفُنَ تضييقًا على الصقلبي في الهرب، فقصدَ الصقلبي جبلًا منيعًا بناحية بلنسية، فبذلَ الداخل ألف دينارٍ لِمَن أتاه برأسِه، فاغتاله رجلٌ من البربر، فقتله، وحمل رأسَه إلى عبد الرحمن، فأعطاه ألفَ دينار، وكان قتْلُه سنة اثنتينِ وستين ومائة
هو ملك التتار، وصاحِبُ العراق والجزيرة وخراسان وغير ذلك، أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكيزخان, ويقال: اسمه أباقا، كان مقدامًا شجاعًا، عالي الهمة، لم يكن في إخوتِه مِثلُه، وهو على دينِ التتار لم يدخل في الإسلام، وكان ذا رأيٍ وحزم وخبرةٍ بالحرب، ولما توجَّه أخوه منكوتمر بالعساكِرِ إلى الشام لم يكن ذلك بتحريضِه، بل أشير عليه فوافق. قال الذهبي: "كان كافِرَ النفس، سفاكًا للدماء، قتل في الروم خلقًا كثيرًا؛ لكونهم دخلوا في طاعة الملك الظاهرِ، وفرحوا بمجيئه إليهم، وقد نفذ الملك الظاهر إليه رسُلَه وهديه" قال ابن عبد الظاهر في السيرة: "وصِفَتُه أنه شاب أسمر أكحل، ربع القامة، جهوري الصوت، فيه بحة يسيرة، عليه قباء نفطي رومي، وسراقوج بنفسجي، تزوج زوجةَ أبيه ألجي خاتون وهي كهلة" هلك أباقا بنواحي همذان عن نحو خمسين سنة، منها مدة ملكه سبع عشرة سنة، وقام في الملك بعده أخوه تكدار بن هولاكو، الذي اعتنق الإسلامَ بعد ذلك وتسمَّى بأحمد ولَقَّب نفسه بالسلطان فانقلبت بعد ذلك سياسةُ الدولة الإيلخانية ناحية بلاد الإسلام، وكان قد أرسل رسالة إلى السلطان قلاوون يُعلِمُه بإسلامه وما قام به من بناء المساجد والمدارس والأوقاف وتجهيز الحُجَّاج، وطلب منه كذلك العمَلَ على اجتماع الكلمة لإخماد الحروب والفِتَن والتحالُفِ ضدَّ الصليبيينَ.