كان الباعث لهذه الفتنة وخلع المؤيَّد أنه لما تسلطن لم يحرك ساكنًا ولم يتغير أحدٌ مما كان عليه، فشقَّ ذلك على الظاهريَّة، وقال كل منهم في نفسه: كأن الملك الأشرف إينال ما مات، فإن الغالبَ كلٌّ منهم كان أخذ ما بيده من الإقطاعات، وحبس ونفى في أوَّل سلطنة الأشرف إينال، كما هي عادة أوائل الدُّول، وبقى منهم جماعة كثيرة بلا رزق ولا إمرة ولم يجدوا عندهم قوةً ليخلعوا الملك المؤيد هذا ويسلطنوا غيره وحدهم، فكلَّموا الأشرفيَّة في هذا المعنى غير مرَّة، وترققوا لهم، فلم يقبلوا منهم ذلك؛ لنفرةٍ كانت بين الطائفتين قديمًا وحديثًا، وأيضا فلسان حال الأشرفية: نحن الآن في كفاية من الأرزاق والوظائف، فعلام نحرك ساكنًا، ونخاطر بأنفسنا؟ فعجز فيهم الظاهرية وقد ثقُل عليهم الملك المؤيَّد، وكثر خوفُهم منه، فإنه أوَّل ما تسلطن أبرق وأرعد، فانخزى كل أحد، قال ابن تغري بردي: "كان دخول المؤيد السلطنة بحرمة وافرة؛ لأن سنَّه كان نحو الثلاثين سنة يوم تسلطن، وكان قد ولِّيَ الأتابكية في أيَّام أبيه، وأخذ وأعطى، وسافر أميرَ حاجِّ المحمل، وحجَّ قبل ذلك أيضًا وسافر البلاد، ومارس الأمورَ في حياة والده وهذا كلُّه بخلاف من تقدَّمه من سلاطين أولاد الملوك؛ فإن الغالب منهم حدث السِّنِّ يريد له من يدبِّرُه، فإنه ما يعرف ما يرادُ منه، فيصير في حكم غيرِه من الأمراء فتتعلَّق الآمالُ بذلك الأمير، وتتردَّد الناسُ إليه، إلى أن يدبِّر في سلطنة نفسه، بخلاف المؤيَّد هذ؛ فإنَّه ولِيَ السلطنة وهو يقول في نفسه: إنه يدبِّرُ مع مملكة مصر ممالكَ العجم زيادةً على تدبير مصرَ! قلت: وكان كما زعم؛ فإنه كان عارفًا عاقلًا مباشرًا، حسن التدبير، عظيمَ التنفيذ شهمًا، وكان هو المتصرفَ في الأمور أيَّام أبيه في غالب الولايات والعَزلِ وأمور المملكة، فلما تسلطن ظنَّ كل أحد أنْ لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا؛ لمعرفة الناس بحذقه وفطنته, وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل، وعنده تؤدة في كلامه، وعقل وسكوت خارج عن الحد، يؤديه ذلك إلى التكبُّر، وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه؛ فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلَّمُ مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرًا، ولأمر من الأمور الضروريات، وفعل ذلك مع الكبير والصغير، وما كفى هذا حتى صار يبلُغُ الأمراءَ أنَّه في خلوته يسامِرُ الأطرافَ الأوباشَ الذين يُستحيا من تسميتهم، فعظم ذلك على الناس، فلما وقع ذلك وجد من عنده حقدٌ فرصةً، وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله، وبشَّع في العبارة وشنَّع، وقال هذا وغيره: إنَّه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم، وهو مستعزٌّ بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخشداشية أبيه- زملاء مهنته-وبالمال الذي خلَّفه أبوه، ومنهم من قال أيضًا: إنما هو مستعزٌّ بحسن تدبيره، فإنه قد عبَّأ لكل سؤال جوابًا، ولكل حرب ضربًا، وكان مع هذا قد قمع مباشري الدولة وأبادهم، وضيَّق عليهم، ودقَّق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة، فما أحسن هذا لو كان دام واستمر, فنفرت قلوب المباشرين منه، وأخذ أمره في إدبار؛ لعدم مثابرته على سير طريقه الأوَّل من سلطنته، فلو جَسَر لكَسَر، لكنه هاب فخاب" فلما كان آخرُ يوم الجمعة السابع عشر رمضان رسم السلطان الملك المؤيد أحمد لنقيب الجيش الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج أن يدور على الأمراء مقدَّمي الألوف، ويُعلمَهم أن السلطان رسم بطلوعهم من الغد في يوم السبت إلى الحوش السلطاني من قلعة الجبل بغير قماش الموكب، ولم يعلِمْهم لأيِّ معنى يكون طلوعهم واجتماعهم في هذا اليوم بالقلعة، وهو غيرُ العادة، وأخذ الأمراء من هذا الأمر أمرٌ مريج، وخلا كل واحد بمن يثق به، وعرفه الخبر، وهو لا يشكُّ أن السلطان يريد القبضَ عليه من الغد، ووجد لذلك من كان عنده كمينٌ من الملك المؤيد أو يريد إثارةَ فتنة فرصةً، وحرَّض بعضهم بعضًا، إلى أن ثارت المماليك الظاهرية في تلك الليلة، وداروا على رفقتهم وإخوانهم وعلى من له غرضٌ في القيام على الملك المؤيد، وداموا على ذلك ليلتَهم كلها، فلما كان صبح نهار السبت تفرَّقوا على أكابر الدولة والأمراء في بيت الأتابك خشقدم لعمل المصلحة، وقد اجتمعت طوائفُ المماليك والجميع في بيت الأمير الكبير، ولم يطلع إلى القلعة في هذا اليوم أحدٌ من الأمراء والأعيان إلا جماعة يسيرة جدًّا، فلما تكامل جمعهم في بيت الأمير الكبير وصاروا على كلمة واحدة؛ على خلع الملك المؤيَّد أحمد من السلطنة، وسلطنة غيره، وتكلموا فيمن يولونه السلطنة, فأجمع رأي الجميع على سلطنة أحد من أعيان الأمراء، ثم تكلموا فيمن يكون هذا السلطان، فقال جانبك: الرأي عندي سلطنةُ الأمير الكبير خشقدم المؤيدي؛ فإنه من غير الجنس يعني كونه روميَّ الجنس وأيضًا إنه رجل غريبٌ ليس له شوكة، ومتى أردتم خلعَه أمكنكم ذلك، وحصل لكم ما تقصدونه من غير تعب، فأعجب الجميعَ هذا الكلامُ، بخلاف المماليك الأشرفية، وإن كانوا هم أيضًا متفقين على خلع المؤيد؛ لتطَلُّعهم تسلطُنَ خشداشهم الأمير جانم نائب الشام، ولو أنَّ أمر المؤيد طرقهم بغتةً ما طاوعوا على الرُّكوبِ في مثل هذا اليوم قبل مجيء خشداشهم جانم، فبويع خشقدم ولقِّبَ بالملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم ونودي بالحال بسلطنته بشوارع القاهرة، ثم شرعوا بعد ذلك في قتالِ الملك المؤيد أحمد، كل ذلك والملك المؤيَّدُ في القلعة في أناس قليلة من مماليكه ومماليك أبيه الأجلاب، ثم التحم القتال بين الطائفتين مناوشةً لا مصاففةً، غير أن كلًّا من الطائفتين مُصِرٌّ على قتال الطائفة الأخرى، والملك المؤيَّد في قلة عظيمة من المقاتلة ممن يعرف مواقِعَ الحرب وليس معه إلا أجلاب، فلم ينقضِ النهار حتى آل أمرُ الملك المؤيد إلى زوال، وهو مع ذلك ينتظر من يجيء إليه لمساعدته، حتى من ليس له غرض عند أحد بعينه جاء إلى الأمير الكبير مخافة على رزقه ونفسه؛ لِما علم من قوة شوكة الأمير الكبير وما يؤول أمره إليه، هذا مع حضور الخليفة والقضاة الأربعة عند الأمير الكبير وجميع أعيان الدولة من المباشرين وأرباب الوظائف وغيرهم، والملك المؤيَّد في أناس قليلة جدًّا، وظهر ذلك للملك المؤيد عيانًا، فأراد أن يسَلِّمَ نفسه، ثم أمسك عن ذلك من وقته، فلما رأى الملك المؤيد أنَّ ذلك لا يفيده إلا شدةً وقسوةً أمر عساكره ومقاتلته بالكفِّ عن القتال، وقام من وقته وطلع القلعة بخواصِّه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى حيث شاؤوا، ثم دخل هو إلى والدته خوند زينب بنت البدري حسن بن خاص بك، وترك باب السلسلة لمن يأخذه بالتسليم، وتمزَّقت عساكره في الحال كأنها لم تكن، وزال ملكه في أقل ما يكون، وخُمِدت الفتنة كأنَّها لم تكن، ثم أرسل الأتابك خشقدم في الحال جماعةً من أصحابه قبضوا على الملك المؤيد أحمد هذا من الدور السلطانية، فأُمسِكَ من غير ممانعة، وسلَّم نفسه، وأُخرِجَ من الدور إلى البحرة من الحوش السلطاني، وحُبِسَ هناك بعد أن اقتِيدَ واحتُفظ به، وكانت مدة حكمه أربعة أشهر وستة أيام، ثم رسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بتوجُّهِه وتوجه أخيه محمد إلى سجن الإسكندرية.
اجتمع جمع من العساكر السنجرية مع الأمير أرغش، وحصروا قلعة كردكوه بخراسان، وهي للإسماعيلية، وضيَّقوا على أهلها وطال حصرها، وعدمت عندهم الأقوات؛ فأصاب أهلها تشنج وكزاز، وعجز كثير منهم عن القيام فضلًا عن القتال، فلما ظهرت أمارات الفتح رحل الأمير أرغش، فقيل: إنهم حملوا إليه مالًا كثيرًا وأعلاقًا نفيسة، فرحل عنهم.
عن عُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ أنَّه سألَ وَحْشِيًّا قاتلَ حَمزةَ، ألا تُخبِرُنا بِقتلِ حَمزةَ؟ قال: نعم، إنَّ حَمزةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بنَ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ ببَدرٍ، فقال لي مولايَ جُبيرُ بنُ مُطْعِمٍ: إن قَتلتَ حَمزةَ بِعَمِّي فأنت حُرٌّ، قال: فلمَّا أن خرج النَّاسُ عامَ عَيْنَيْنِ، وعَيْنَيْنُ جبلٌ بِحِيالِ أُحُدٍ، بينه وبينه وادٍ، خرجتُ مع النَّاسِ إلى القِتالِ، فلمَّا أن اصْطَفُّوا للقِتالِ، خرج سِباعٌ فقال: هل مِن مُبارِزٍ؟ قال: فخرج إليه حَمزةُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ، فقال: يا سِباعُ، يا ابنَ أُمِّ أَنْمارٍ مُقَطِّعَةِ البُظورِ، أَتُحادُّ الله ورسولَهُ صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثمَّ شَدَّ عليه، فكان كأَمسِ الذَّاهبِ، قال: وكَمَنْتُ لِحَمزةَ تحتَ صَخرةٍ، فلمَّا دَنا مِنِّي رَميتُهُ بِحَربَتي، فأضعُها في ثُنَّتِهِ حتَّى خَرجتْ مِن بين وَرِكَيْهِ، قال: فكان ذاك العهدُ به، فلمَّا رجع النَّاسُ رجعتُ معهم، فأَقمتُ بمكَّةَ حتَّى فَشا فيها الإسلامُ، ثمَّ خَرجتُ إلى الطَّائفِ، فأَرسلوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رسولًا، فقِيلَ لي: إنَّه لا يَهيجُ الرُّسُلَ. قال: فخَرجتُ معهم حتَّى قَدِمتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رآني قال: «آنت وَحْشِيٌّ؟». قلتُ: نعم. قال: «أنت قَتلتَ حَمزةَ؟». قلتُ: قد كان مِنَ الأمرِ ما بَلغكَ. قال: «فهل تَستَطيعُ أن تُغَيِّبَ وَجهَك عَنِّي» قال: فَخرجتُ فلمَّا قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فخرج مُسَيْلِمَةُ الكذَّابُ، قلتُ: لأَخرُجَنَّ إلى مُسَيْلِمَةَ، لَعَلِّي أقتُلُه فأُكافِئَ به حَمزةَ، قال: فخرجتُ مع النَّاسِ، فكان مِن أَمرهِ ما كان، قال: فإذا رجلٌ قائمٌ في ثَلْمَةِ جِدارٍ، كأنَّهُ جَمَلٌ أَوْرقُ ثائِرُ الرَّأسِ، قال: فَرمَيْتُه بِحَربَتي، فأَضعُها بين ثَدييهِ حتَّى خَرجتْ مِن بين كَتِفَيْهِ، قال: ووثبَ إليه رجلٌ مِنَ الأنصارِ فضَربهُ بالسَّيفِ على هامَتِهِ.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَمرَو بنَ العاصِ إلى سُواعٍ لِيَهدِمَهُ، وسُواعٌ صَنَمٌ لقومِ نوحٍ عليه السَّلامُ، ثمَّ صار بعدَ ذلك لقَبيلةِ هُذيلٍ المُضَريَّةِ, وظَلَّ هذا الوَثَنُ مَنصوبًا تَعبُدهُ هُذيلٌ وتُعَظِّمُهُ, حتَّى إنَّهم كانوا يَحُجُّون إليه حتَّى فُتِحَتْ مكَّةُ ودخلَت هُذيلٌ فيمَن دخَل في دينِ الله أفواجًا، وكان مَوضعُه بِرُهاطٍ على قُرابةِ 150 كيلو مترًا شمالَ شرقيِّ مكَّةَ، فلمَّا انتهى إليه عَمرٌو قال له السَّادِنُ: ما تُريدُ؟ قال: أمَرني رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن أَهدِمَهُ. قال: لا تَقدِرُ على ذلك. قال: لِمَ ؟ قال تُمْنَعُ. قال: حتَّى الآنَ أنت على الباطلِ؟ وَيْحَكَ فهل يَسمعُ أو يُبصِرُ؟ ثم دَنا فكسَرهُ، وأمَر أصحابَهُ فهدموا بيتَ خَزانَتِهِ فلم يَجِدوا فيه شيئًا، ثمَّ قال للسَّادِنِ: كيف رأيتَ؟ قال: أَسلمتُ لله.
ركِبَ المأمون إلى بلاد الروم فحاصر حِصنَ لؤلؤةَ مائة يومٍ، ثم ارتحلَ عنها واستخلف على حصارِها عجيف بن عنبسة، فخدعته الرومُ فأسَروه فأقام في أيديهم ثمانيةَ أيام، ثم انفَلَت منهم واستمَرَّ محاصِرًا لهم، فجاء توفيل ملِكُ الروم بنفسِه، فأحاط بجيشِه من ورائه، فبلغ المأمونَ فسار إليه، فلمَّا أحس توفيل بقدومِه هرب وبعث وزيرَه صنغل، فسأله الأمانَ والمصالحةَ، لكنَّه بدأ بنَفسِه قبل المأمون فرَدَّ عليه المأمونُ كتابًا بليغًا مضمونُه التقريعُ والتوبيخُ؛ قال فيه: وإنِّي إنما أقبل منك الدخولَ في الحنيفيَّة، وإلَّا فالسيفُ والقَتلُ، والسلامُ على من اتَّبع الهُدى.
في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبَبُ عودهم أنَّهم كانوا ينقلون ما يريدونَه مِن الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجونَ على مَن يجلِبُ لهم الميرةَ فيَقطَعونَ الطريق ويَغنَمونَ ما معهم، ثم إنَّ ملك الإنكليز قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صَوِّروا لي مدينةَ القدس؛ فإني ما رأيتُها، فصوروها له، فرأى الواديَ يُحيطُ بها ما عدا موضِعًا يسيرًا من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عُمقِه، فأُخبِرَ أنه عميق، وَعرَ المسلك، فقال: هذه مدينةٌ لا يُمكِنُ حَصرُها ما دام صلاح الدين حيًّا وكَلِمةُ المسلمين مجتمعةً، فأشاروا عليه بالعَودِ إلى الرملة، فعادوا خائبينَ خاسرين.
كانت وقعة بين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية، وبين الملك رضوان، صاحب حلب، انهزم فيها رضوان وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح، وبه نائب الملك رضوان، فضيق الفرنجُ على المسلمين، فأرسل النائِبُ بالحصن إلى رضوان يعرِّفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسَه، ويطلب النجدة، فسار رضوان في عسكر كثير من الخيَّالة، وسبعة آلاف من الرجَّالة، منهم ثلاثة آلاف من المتطوِّعة، فساروا حتى وصلوا إلى قِنَّسرين، وبينهم وبين الفرنج قليل، فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح، فأراد أن يجيبَ فمنعه أصبهبذ صباوة، وكان قد قصده وصار معه بعد قتل إياز، فامتنع من الصلح واصطفُّوا للحرب، فانهزمت الفرنجُ من غير قتال، ثم قال الفرنج: نعود ونحمِلُ عليهم حملة واحدة، فإن كانت لنا، وإلا انهزمنا، فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا وانهزموا، وقُتِل من المسلمين وأُسِر الكثير، وأما الرَّجَّالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا، فاشتغلوا بالنهب، فقتلهم الفرنج، ولم ينجُ إلا الشريد فأُخِذ أسيرًا، وهرب من في أرتاح إلى حلب، وملكه الفرنج، وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق، فصار معه ومن أصحابه.
هو السُّلطانُ صاحِبُ العراق، المَلِك أبو كاليجار المرزبان بنُ سلطان الدَّولة بن بهاء الدَّولة بن عضد الدَّولة بن بُوَيه الديلمي الشيعي. تمَلَّك بعد ابنِ عَمِّه جلال الدَّولة، وجرَت له خطوبٌ وحُروب، وعاش نيِّفًا وأربعين سنة، وقهر ابنَ عَمِّه الملك العزيز، توفِّيَ رابع جمادى الأولى، بمدينة جناب من كرمان، ولما توفِّيَ نَهَب الأتراكُ مِن العسكر الخزائِنَ والسلاحَ والدوابَّ، وكانت ولايتُه على العراق أربع سنين وشهرين وأيامًا، ومدَّة ولايته على فارس والأهواز خمسًا وعشرين سنةً، وانتقل ولدُه أبو منصور فلاستون إلى مخيَّم الوزير أبي منصور، وكانت مُنفَرِدةً عن العسكر، فأقام عنده، وأراد الأتراكُ نَهبَ الوزير والأمير، فمَنَعَهم الديلم، وعادوا إلى شيراز، فمَلَكَها الأميرُ أبو منصور، واستشعر الوزيرُ، فصَعِدَ إلى قلعة خرمة فامتنع بها، فلمَّا وصل خبر وفاته إلى بغداد، وبها ولَدُه الملك الرحيم أبو نصر خرة فيروز، أحضَرَ الجُندَ واستحلفهم، وراسل الخليفةَ القائِمَ بأمر الله في معنى الخطبة له، وتلقيبِه بالملك الرحيم، وتردَّدَت الرسُلُ بينهم في ذلك إلى أن أُجيبَ إلى مُلتَمِسه سوى الملك الرحيم؛ فإنَّ الخليفةَ امتنع من إجابته وقال: لا يجوز أن يُلَقَّب بأخَصِّ صفاتِ الله تعالى، واستقَرَّ مُلكُه بالعراق، وخوزستان، والبصرة، وكان بالبصرةِ أخوه أبو علي بن أبي كاليجار، وخلف أبو كاليجار من الأولاد الملك الرحيم، والأمير أبا منصور فلاستون، وأبا طالب كامرو، وأبا المظفر بهرام، وأبا علي كيخسرو، وأبا سعد خسروشاه، وثلاثة بنين أصاغر، فاستولى ابنُه أبو منصور على شيراز، فسيَّرَ إليه الملك الرحيم أخاه أبا سعد في عسكرٍ، فملكوا شيراز، وخطبوا للملك الرحيم، وقبَضوا على الأمير أبي منصورٍ ووالدته، وكان ذلك في شوال. ووَلَّت دولةُ بني بُوَيه في أيَّام الملك الرحيم، وقامت دولةُ بني سُلجوق.
وَلِيَ الأندلُسَ عليُّ بنُ حَمُّود بنِ أبي العَيشِ بنِ ميمون بنِ أحمَدَ بنِ عليِّ بنِ عبد اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ إدريس بن إدريسَ بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقيل في نَسَبِه غيرُ ذلك، مع اتِّفاقٍ على صِحَّةِ نَسَبِه إلى أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه، وكان سَبَبُ تَوَلِّيه أنَّ الفتى خيرانَ العامريَّ لم يكُنْ راضيًا بولايةِ سُلَيمانَ بنِ الحاكِمِ الأُمويِّ؛ لأنَّه كان من أصحابِ المؤيَّدِ، فلمَّا مَلَك سُلَيمانُ قُرطُبةَ انهزم خيرانُ في جماعةٍ كثيرةٍ مِن الفتيان العامريِّينَ، ثمَّ هَرَب وقَوِيَ أمرُه، وكان عليُّ بنُ حمود بمدينةِ سبتة، وكان أخوه القاسمُ بنُ حمود بالجزيرةِ الخَضراءِ مُستَوليًا عليها، فحَدَثَ لعليِّ بنِ حمود طَمَعٌ في مُلكِ الأندلُسِ لِمَا رأى من الاختلافِ، وكان خيرانُ يُكاتِبُ النَّاسَ، ويأمُرُهم بالخُروجِ على سُلَيمانَ، فوافَقَه جَماعةٌ منهم عامِرُ بنُ فتوح وزيرُ المؤَيَّد، وهو بمالقةَ، وكاتَبوا عليَّ بنَ حَمُّود، وهو بسبتة؛ لِيَعبُرَ إليهم ليقوموا معه ويَسيروا إلى قُرطبة، فعَبَرَ إلى مالقة في سنة 405، ثم تجَهَّزوا وجَمَعوا مَن وافقهم، وساروا إلى قُرطبةَ وبايعوا عليًّا على طاعةِ المُؤَيَّد الأمويِّ، فلمَّا بلغوا غرناطةَ وافَقَهم أميرُها، وسار معهم إلى قُرطبة، فخرج سُلَيمانُ والبربَرُ إليهم، فالتَقَوا واقتتلوا، فانهزم سُلَيمانُ والبربَرُ، وقُتِلَ منهم خَلقٌ كثيرٌ، وأُخِذَ سُليمانَ أسيرًا، فحُمِلَ إلى عليِّ بنِ حمُّود ومعه أخوه وأبوه الحاكِمُ بنُ سُلَيمانَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ الناصر، ودخَلَ عليُّ بنُ حمود قُرطُبةَ في المحَرَّم سنة 407 ودخل خيرانُ وغَيرُه إلى القَصرِ؛ طمعًا في أن يجدوا المؤيَّدَ حَيًّا، فلم يَجدِوه، فأَخَذَ عليُّ بنُ حَمُّود سليمانَ وقَتَلَه سابعَ المحَرَّم، وقتَلَ أباه وأخاه، واستولى عليُّ بنُ حمود على قُرطُبة، ودعا النَّاسَ إلى بيعتِه، فبُويِعَ، واجتَمَعَ له المُلْكُ، ولُقِّبَ المتوكِّلَ على الله.
لَمَّا توفِّيَ يَمينُ الدَّولة وكان قد عَهِدَ لابنه محمَّدٍ دون مسعودٍ، وكان ابنُه مَسعودٌ بأصبهان، فلمَّا بلَغَه الخبَرُ سار إلى خراسان، واستخلف بأصبهانَ بَعضَ أصحابِه في طائفةٍ مِن العسكر، فحين فارَقَها ثار أهلُها بالوالي عليهم فقَتَلوه، وقَتَلوا مَن معه من الجُندِ، وأتى مسعودًا الخبَرُ، فعاد إليها وحَصَرها، وفتَحَها عَنوةً، وقَتَل فيها فأكثَرَ، ونهبَ الأموالَ، واستخلف فيها رجُلًا كافيًا، وكَتَب إلى أخيه محمَّدٍ يُعلِمُه بذلك، وأنَّه لا يريدُ مِن البلادِ التي وصَّى له أبوه بها شيئًا، وأنَّه يكتفي بما فتَحَه من بلاد طبرستان، وبلَد الجبل، وأصبهان، وغيرها، ويطلُبُ منه المُوافَقةَ، وأن يُقَدِّمَه في الخُطبةِ على نَفسِه، فأجابه محمَّدٌ جَوابَ مُغالِطٍ، وكان مسعودٌ قد وصلَ إلى الريِّ، فأحسَنَ إلى أهلِها، وسار منها إلى نَيسابور، ففعل مثل ذلك، وأمَّا مُحمَّدُ فإنه أخذَ على عَسكَرِه العهودَ والمواثيقَ على المُناصَحةِ له، والشَّدِّ منه، وسار في عساكِرِه إلى أخيه مسعودٍ مُحاربًا له، وكان بعضُ عساكِرِه يَميلُ إلى أخيه مسعودٍ لِكِبَرِه وشجاعتِه، ولأنَّه قد اعتاد التقَدُّمَ على الجيوشِ، وفَتْح البلاد، وبعضُهم يخافُه لقُوَّةِ نَفسِه، وكان محمَّدٌ قد جعَلَ مُقَدَّمَ جَيشِه عَمَّه يوسُفَ بن سبكتكين، وكان من أعيانِ أصحابِ أبيه محمودٍ مِمَّن أشار عليه بموافقةِ أخيه وترْكِ مخالفته، فلم يُصْغِ إلى قوله، وسار فوصَلَ إلى تكناباذ أوَّلَ يوم من رمضان، وأقام إلى العيدِ، فعَيَّدَ هناك، فلمَّا كان ليلةُ الثلاثاء ثالثَ شَوَّال ثار به جُندُه، فأخذوه وقَيَّدوه وحَبَسوه، وكان مشغولًا بالشَّرابِ واللَّعِبِ عن تدبيرِ المَملكةِ، والنَّظَر في أحوال الجُندِ والرعايا، فلمَّا قَبَضوا عليه نادوا بشِعارِ أخيه مسعود، ورفعوا محمدًا إلى قلعةِ تكناباذ، وكتبوا إلى مسعودٍ بالحال. فكان اجتماعُ المُلْكِ له واتِّفاقُ الكَلِمةِ عليه في ذي القَعدةِ، وكان وصولُ مسعودٍ إلى غزنةَ ثامنَ جُمادى الآخرة من سنة 422، فلما وصلَ إليها وثَبَّتَ مُلكَه بها أتَتْه رُسُلُ الملوكِ مِن سائِرِ الأقطار إلى بابه، واجتمَعَ له مُلْكُ خُراسانَ، وغزنة، وبلاد الهند والسند، وسجستان، وكرمان، ومكران، والري، وأصبهان، وبلد الجبل، وغير ذلك، وعَظُم سلطانُه وخِيفُ جانِبُه.
عبر علاء الدين محمد خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا، وسبب ذلك أن الخطا كانوا قد طالت أيامهم ببلاد تركستان، وما وراء النهر، وثقُلت وطأتُهم على أهلها، ولهم في كل مدينة نائب يجبي إليهم الأموال، فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارى، أنف وضجر من تحكُّم الكفار على المسلمين، فراسل خوارزم شاه يقول له: إن اللهَّ عزَّ وجلَّ قد أوجب عليك بما أعطاك مِن سَعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقِذَ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، فسيَّرَ إليه صاحبُ سمرقند وجوه أهل بخار وسمرقند، بعد أن حلفوا صاحبهم على الوفاء بما تضمنه، وضمنوا عنه الصدق والثبات على ما بذل، وجعلوا عند خوارزم رهائن، فشرع في إصلاح أمر خراسان، وتقرير قواعدها، وجمع عساكره جميعها، وسار إلى خوارزم، وتجهَّزَ منها، وعبر جيحون، واجتمع بسلطان سمرقند، ولَمَّا سمع الخطا به حشدوا وجمعوا وجاؤوا إليه، فجرى بينهم وقعات كثيرة ومغاورات، فتارة له وتارة عليه، ثم دخل خوارزم شاه نيسابور، وأصلح أمرها، وجعل فيها نائبًا، وسار إلى هراة، فنزل عليها مع عسكره الذين يحاصرونه، وزحف إليه بعسكره، فلم يكن فيه حيلة، فاتفقَ جماعة من أهل هراة وقالوا: هلك الناسُ من الجوع والقلة، وقد تعطلت علينا معايشنا، وقد مضى سنة وشهر، وكان الوزير يعِدُ بتسليم البلد إلى خوارزم شاه إذا وصل إليه، وقد حضر خوارزم شاه ولم يسَلِّم، ويجب أن نحتال في تسليم البلد والخلاص من هذه الشدة التي نحن فيها، فانتهى ذلك إلى الوزير، فبعث إليهم جماعة من عسكره، وأمرهم بالقبضِ عليهم، فمضى الجند إليهم، فثارت فتنة في البلد عظُمَ خَطبُها، فاحتاج الوزير إلى تداركها بنفسه، فمضى لذلك، فكتب من البلد إلى خوارزم شاه بالخبر، وزحف إلى البلد وأهله مختلطون، فخربوا برجين من السور، ودخلوا البلد فملكوه، وقبضوا على الوزير، فقتله خوارزم شاه، وملَكَ البلد، وذلك سنة 605، وأصلح حاله، وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من أعيان أمرائه، فلم يزل بيده حتى هلك خوارزم شاه.
هو السلطان الأشرف سيف الدين أبو النصر إينال بن عبد الله العلائي الظاهري ثم الناصري، أصله شركسي الجنس، أُخذَ من بلاده، فاشتراه خواجا علاء الدين علي، وقدم به إلى القاهرة، فاشتراه الملك الظاهر برقوق، ودام إينال كتابيًّا بطبقة الزمام، إلى أن مَلَكه الملك الناصر فرج بن برقوق وأعتقه. وهو السادس والثلاثون من ملوك الترك. تولى السلطنة بعد أن خلع المنصور عثمان بن السلطان جقمق سنة 857. تسلَّط في أيامه مماليك السلطان الأجلاب وتعدوا على العامة نهبًا وقتلًا دون أن يعمل السلطان لهم ما يردعهم, ولما أصيب السلطان بمرض الموتِ يوم السبت ثالث جمادى الأولى لزم الفراش، وفي يوم الأربعاء الرابع عشر طلب السلطان إينال الخليفةَ والقضاة الأربعة إلى القلعة، وطلعت الأمراء والأعيان، واجتمع الجميع بقاعة الدهيشة، وكان الطلب لسلطنة ولده المقام الشهابي أحمد قبل موته، فلما تكامل الجمعُ خلع السلطان نفسَه من السلطنة بالمعنى؛ لأنه ما كان إذ ذاك يستطيع الكلامَ، بل كلَّمَهم بما معناه أن الأمر يكون من بعده لولدِه، فعلموا من ذلك أنه يريد خلعَ نفسه وسلطنة ولده، ففعلوا ذلك، وتوفي السلطان من الغد، وكانت مدة تملكه ثماني سنين وشهرين وستة أيام، فجُهز من وقته، وغُسل وكُفن، وصُلي عليه بباب القلة من قلعة الجبل، ودُفن من يومه بتربته التي عمرها بالصحراء، وقد ناهز الثمانين من العمر، أما السلطان الجديد المؤيد أبو الفتح أحمد بن إينال فتسلطن في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى وتلقَّب بالمؤيد أحمد وانتدب كاتب السر لتحليف الأمراء، فحلف من حضر من الأمراء الأيمان المؤكدة، فلما انقضى التحليف وتمت البيعة قام كل أحد من الأمراء والخاصكية والأعيان وبادر إلى لبس الكلفتاة والتتري الأبيض، كما هي العادة، وأُحضِرت خِلعة السلطنة الخليفتية السوداء، ولُفَّت له عمامة سوداء حرير، وقام المقام الشهابي أحمد بن إينال ولبس الخلعة والعمامة على الفور.
في هذه السَّنَةِ استَولَى الفِرنجُ على مَدينةِ طُليطِلة من بِلادِ الأندلس، وأَخذُوها من المسلمين، وهي من أَكبرِ البلادِ وأَحصَنِها. وسببُ ذلك أن الأذفونش، (ألفونسو السادس) مَلِكَ قشتالة، كان قد قَوِيَ شَأنُه، وعَظُمَ مُلكُه، وكَثُرت عَساكِرُه، مُذ تَفرَّقَت بِلادُ الأندلس، وصار كلُّ بَلدٍ بِيَدِ مَلِكٍ، كما دَبَّ النِّزاعُ بينهم واستَعانوا بالفِرنجَةِ على بَعضٍ، فحينئذٍ طَمِعَ الفِرنجُ فيهم، وأَخَذوا كَثيرًا من ثُغورِهم. وكان ألفونسو خَدَمَ صاحِبَ طُليطلة القادرَ بالله بنَ المأمونِ بن يحيى بن ذي النونِ، وعاش في طُليطلة سَنواتٍ، فعَرِفَ مِن أين يُؤتَى البلدُ، وكيف الطريقُ إلى مُلْكِها, ولم يكن أحدٌ من مُلوكِ الطَّوائفِ قادِرًا على نَجْدَتِها، حتى إنَّ المُعتَمِدَ بن عبَّاد صاحِبَ أشبيلية وهو أَقوَى مُلوكِ الطَّوائفِ لمَّا رَأى استِفحالَ أَمرِ ألفونسو وقُوَّتَه رَأى أن يَعقِدَ مُهادَنةً وصُلْحًا معه يَأمَن بها على أَراضِيه، فبَعَثَ وَزيرَهُ ابنَ عمَّارٍ لِيَتفاوَضَ مع ألفونسو، وتَمَّت المُعاهدَةُ والاتِّفاقُ على بُنودٍ منها: أن يُؤَدِّي المُعتَمِدُ الجِزيةَ سَنويًّا, ويُسمَح للمُعتَمِد بِغَزْوِ أراضي طُليطلة الجنوبية على أن يُسَلِّم منها إلى ألفونسو الأراضي الواقعةَ شمالي طليطلة, و لا يَعتَرِض المُعتَمِد على استِيلاءِ ألفونسو على طُليطلة, وفي شَوَّال سَنةَ 474هـ ضَربَ ألفونسو الحِصارَ على طُليطلة، وشَدَّدَ غاراتَه عليها، وظلَّ على ذلك أَربعَ سَنواتٍ كاملةً؛ يُخَرِّب في الزُّروعِ والأراضي والقُرى، وعاشَ الناسُ في ضِيقٍ وكَربٍ، وليس بين المسلمين مُجِيرٌ، قال ابنُ بسام: "دَخلَ على الأذفونش يومئذٍ جَماعةٌ فوَجَدوه يَمسَح الكرى من عَينيهِ، ثائرَ الرَّأسِ، خَبيثَ النَّفْسِ، فأَقبلَ عليهم بوَجهٍ كَريهٍ، وقال لهم: إلى متى تَتَخادَعون، وبأيِّ شَيءٍ تَطمعون؟ قالوا: بِنا بُغيَةٌ، ولنا في فُلانٍ وفُلانٍ أُمنِيَّةٌ، وسَمُّوا له بَعضَ مُلوكِ الطَّوائفِ، فصَفَّقَ بِيَديهِ، وتَهافَت حتى فَحَصَ برِجلَيهِ، ثم قال: أين رُسُلُ ابنِ عبَّادٍ؟ فجِيءَ بهم يَرفُلون في ثِيابِ الخَناعَةِ، وينبسون بأَلسِنَةِ السَّمعِ والطَّاعةِ. فقال لهم: مُذ كم تَحُومون عليَّ، وتَرومون الوصولَ إليَّ؟ ومتى عَهْدِكم بفُلانٍ؟ وأين ما جِئتُم به ولا كُنتم ولا كان؟ فجاءوا بجُملَةِ مِيرَةٍ، وأَحضَروها, ثم ما زادَ على أن رَكَلَ ذلك برِجلِه، وأَمَرَ بانتِهابِه كُلِّهِ؛ ولم يَبقَ مَلِكٌ من مُلوكِ الطَّوائفِ إلا أَحضرَ يَومئذٍ رُسُلَه، وكانت حالُه حالَ مَن كان قَبلَه. وجَعلَ أَعلاجَه يَدفَعون في ظُهورِهم، وأَهلُ طُليطلة يَعجَبون مِن ذُلِّ مَقامِهم ومَصيرِهم، فخَرجَ مَشيَختُها من عندِه وقد سُقِطَ في أَيدِيهم. وطَمِعَ كلُّ شيءٍ فيهم. وخَلُّوا بينه وبين البلدِ، ودَخلَ طُليطلة على حُكمِه، وأَثبَتَ في عَرصَتِها قَدَمَ ظُلمِه، حُكْمٌ مِن الله سَبَقَ به القَدَرُ، وخَرجَ ابنُ ذي النون خائبًا مما تَمَنَّاهُ، حدَّثنِي مَن رَآهُ يَومئذٍ بتلك الحالِ وبِيَدِه اصطرلاب يَرصُد فيه أيَّ وَقتٍ يَرحَل، وعلى أيِّ شَيءٍ يُعَوِّل، وأيَّ سَبيلٍ يَتَمَثَّل، وقد أَطافَ به النَّصارَى والمسلمون، أولئك يَضحَكون مِن فِعْلِه، وهؤلاء يَتَعجَّبون مِن جَهلِه. وعَتَا الطاغِيةُ الأذفونش -قَصَمَهُ الله- لحين استِقرارِه بطُليطلة واستَكبَر، وأَخَلَّ بمُلوكِ الطَّوائفِ في الجَزيرَةِ وقَصَّرَ، وأَخذَ يَتَجنَّى ويَتَعتَّب، وطَفِقَ يَتَشَوَّف إلى انتِزاعِ سُلطانِهم والفَراغِ مِن شانِهم" في الوقتِ الذي كانت قُوَّاتُ ألفونسو تُحاصِر فيه طُليطلة كان مُلوكُ الطَّوائفِ يُقَدِّمُون مِيثاقَ الوَلاءِ والمَحَبَّةِ له؛ مُمَثَّلَةً في الجِزيَةِ والإتاوَةِ، ولم يَجرُؤ أَحدٌ منهم على الاعتِراضِ عليه في ذلك إلاَّ المُتَوكِّل بن الأَفطَس الذي أُخْرِج من طُليطلة قُبيلَ دُخولِ الطَّاغيةِ، وفي الوقتِ نَفسِه الذي تُحَاصَر فيه طُليطلة كانت مَمالكُ الطَّوائفِ الأُخرى تَتَنازَع فيما بينها، أو تَرُدُّ غاراتِ النَّصارَى المُتواصِلَة عليها. ثم قام ألفونسو باتِّخاذِ طُليطلة عاصِمةً له وحَوَّلَ مَسجِدَها إلى كَنيسةً.
كان مِن آثارِ هِجرتِه صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إلى المدينةِ تلك المُؤاخاةُ التي حَدثت بين المُهاجرين والأنصارِ رضي الله عنهم، حتَّى كان يَرِثُ بعضُهم بعضًا في أوَّلِ الأمرِ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: «وَرَثَةً»: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: " كان المُهاجِرون لمَّا قَدِموا المدينةَ يَرِثُ المُهاجِرُ الأنصاريَّ دون ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأُخُوَّةِ التي آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فلمَّا نزلت: {{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسَختْ". ثمَّ قال: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} «إلَّا النَّصرَ، والرِّفادَةَ، والنَّصيحةَ، وقد ذهب الميراثُ، ويوصي له».
وعن أنسٍ قال: لمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ المُهاجرون فقالوا: يا رسولَ الله، ما رَأينا قومًا أَبْذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزلنا بين أَظهُرهِم، لقد كَفَوْنا المُؤنَةَ وأشرَكونا في المَهْنَإِ حتَّى لقد خُفْنا أن يَذهبوا بالأجرِ كُلِّهِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ما دَعَوتُم الله لهم، وأَثْنَيْتُم عليهِم».
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رضي الله عنه: لمَّا قَدِمْنا المدينةَ آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعدِ بنِ الرَّبيعِ، فقال سعدُ بنُ الرَّبيعِ: إنِّي أَكثرُ الأنصارِ مالًا، فَأَقْسِمُ لك نِصفَ مالي، وانْظُرْ أيَّ زَوجتيَّ هَوِيتَ نَزلتُ لك عنها، فإذا حَلَّتْ تَزوَّجتَها. قال: فقال له عبدُ الرَّحمنِ: لا حاجةَ لي في ذلك، هل مِن سوقٍ فيه تِجارةٌ؟ قال: سوقُ قَيْنُقاعٍ. قال: فغَدا إليه عبدُ الرَّحمنِ، فأتى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قال: ثمَّ تابع الغُدُوَّ، فما لَبِثَ أن جاء عبدُ الرَّحمنِ عليه أثرُ صُفْرَةٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَزوَّجتَ؟». قال: نعم. قال: «ومَن؟»، قال: امرأةً مِنَ الأنصارِ. قال: «كَم سُقْتَ؟»، قال: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهبٍ -أو نَواةً مِن ذَهبٍ- فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ ولو بِشاةٍ».
وفي اليمَنِ نبغ رجلٌ يدعو إلى القرامطة يُدعى بالداعية الذي سار إلى مدينةِ صنعاء، فحاربه أهلُها فظَفِرَ بهم وقتَلَهم، فلم يُفلِتْ إلَّا اليسير، وتغلَّب على سائرِ مُدُنِ اليمن، ثم اجتمَعَ أهل صنعاء وغيرُها فحاربوا الداعيةَ فهزموه، فانحاز إلى موضعٍ من نواحي اليمن، وبلغ الخبَرُ الخليفة، فخلع على المظفَّر بن حاج في شوال، وسيَّرَه إلى عمله باليمَنِ، وأقام بها إلى أن مات.