هو إبراهيم الشريف أحد بايات وولاة تونس من الأسرة المرادية، تولى الحكم من عام 1702 حتى 1705 وهي الفترة المتأزمة التي تلت نهاية حكم المراديين وبداية حكم الحسينيين على يد حسين بن علي. كان أمير جند البايات المراديين بتونس وآغا الصبايحية. قتل مراد باي الثالث عام 1702م بأمر من العثمانيين كما قضى على كافة أبناء وأحفاد حمودة باشا، منهيًا بذلك فترة حكم المراديين بتونس. عيَّنه جند الصبايحية بايا، ثم عُيِّن باشا من قبل السلطان العثماني، ثم صار دايا، فشغل بذلك كافة المناصب على رأس الإيالة التونسية، ولكنه فشل في استعادة النظام نظرًا لأعمال الشغب والاضطرابات التي قامت منذ رحيل آخر البايات المراديين. عُزل إبراهيم الشريف من الحكم ثم أُسِر بعد هجوم جزائري على تونس, بعد أن حكم تونس ثلاث سنوات باسم العثمانيين، ومات بعد إطلاقه من الأسر خلال هذه السنة.
كتب المأمونُ إلى نائِبِه ببغداد إسحاقَ بنِ إبراهيم أن يأخُذَ الجندُ بالتكبيرِ إذا صَلَّوا الجمعةَ، وبعد الصَّلواتِ الخَمسِ إذا قَضَوا الصلاةَ أن يَصيحوا قيامًا ويكَبِّروا ثلاثَ تكبيراتٍ، ففعل ذلك، فقال الناسُ: هذه بدعةٌ ثالثة.
تولى خير الدين التونسي منصِبَ رئاسة الوزراء في الدولةِ العثمانيةِ. ولد خير الدين في القفقاس لعائلةِ تليش الأباظية الشركسية، حوالي عام 1820م. تعهَّده والي تونس الداي أحمد، وهيأ له فُرَصَ الاستزادة من العلوم، فأكَبَّ على دراسة الفنون العسكرية والسياسية، والتاريخ والعلوم الشرعية، وأتقن اللغاتِ العربيةَ والتركية والفرنسية. أصبح رئيسًا لمكتب العلوم الحربية بباردو عام 1840م، ثم أصبح رئيسًا لفرقة الفرسان في الجيش التونسي. وعيِّن مديرًا لِمَصرف الدراهم التونسي. وفي عام 1849م رقِّيَ إلى رتبة ومنصب أمير لواء الخيالة في تونس، وفي عام 1855م أنعَمَ عليه الباي المشير محمد باشا برتبة الفريق؛ لإنقاذه تونس من قرضٍ مالي ثقيل كاد الباي السابق أن يندفِعَ إليه. ثم عيَّنه وزيرًا للبحرية عام 1857م حيث أجرى عدَّةَ إصلاحات إدارية. وساهم في صياغةِ وإصدار قانون (عهد الأمان) التونسي عام 1857م. وشارك في وضع الدستور التونسي عام 1860م. وعند إنشاءِ مجلس الشورى التونسي المنتَخَب كان خير الدين باشا الرئيس الفعليَّ للمجلس من عام 1861م. اصطدم مع سياسة الباي الجديد محمد الصادق فقَدَّم استقالتَه من الوزارة ومِن رئاسة مجلس الشورى عام 1862م وفَرَض على نفسه العزلةَ السياسية لمدة تسع سنوات بين عامي 1862م و1869م. وكان من نتائج عزلته تلك تأليفُه الكتاب الشهير الذي أسماه ((أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)) والذي تمَّ طبعُه في تونس عام 1867 م. بعد ذلك شارك مندوبًا عن تونس في اللجنة المالية المختلطة المشكَّلة لتحصيل ديون الدُّول الأوروبية من تونس، فاستطاع الحدَّ من نفوذ اللجنة وتدخُّلِها في شؤون الدولة. وفي أكتوبر 1873م عيِّنَ وزيرًا أكبر لتونس (أي رئيسًا للوزراء) فسَنَحَت له فرصةُ تحقيق برامجه الإصلاحية التي طرحَها في كتابه (أقوم المسالك) واستطاع نقل تونس من حالة الكرب والضيق والفوضى إلى حالةٍ مِن الأمنِ والرخاء والنظام. وتصدى بحزمٍ للمطامع الأجنبية في بلادِه، وخاصة المطامح الفرنسية والإيطالية المتنافسة. ولكِنَّه فوجئ بمعاتبة الباي له وغضبه من سياسته في التحمُّسِ لإعانة الدولة العثمانية في حَربِها ضِدَّ روسيا، فقَدَّم استقالته من رئاسة الوزارة في يوليو1877م. وبعد استقالته ضَيَّق عليه الباي الخناقَ ومنعه من الاتصال بالناس، فكان معتقلًا في منزله. وقد سافر للعلاجِ ثم عاد إلى تونس وظَلَّ شِبهَ مُعتَقَل حتى استدعاه السلطانُ العثماني عبد الحميد الثاني فسافر إلى الأستانة في رمضان 1877م حيث استقبله السلطانُ وعَيَّنه وزير دولة بعد رفضِه منصب وزير العدل. ولكِنَّه فوجئ في صباح يوم 4 ديسمبر 1878م بتعيينه رئيسًا لوزراء الدولة العثمانية. وكانت الدولةُ العثمانية وقتَها في ضيقٍ وحَرَجٍ كبير؛ فالجيش الروسي يقِفُ على عتبات العاصمة استانبول، والأسطول البريطاني في مضيق البوسفور، والاقتصادُ متدهور، وهناك المشكلةُ الأرمينية، ومشاكِلُ في قبرص والبوسنة! فسارع خير الدين باشا إلى عقد اتِّفاقٍ مع الروسِ يضمَنُ مصالح المسلمين في بلغاريا وروملي الشرقية،كما انسحب الأسطولُ البريطاني مِن مَضيقِ البوسفور، وسَوَّى الخلافات مع النمسا، وحُلَّت مشكلة الأرمن، واستبدل بالخديويِّ إسماعيل ابنَه توفيقًا في مصر. وقد اختلف كثيرًا مع السلطان عبد الحميد الثاني ورجالِ حاشيته إبَّانَ توليه رئاسة الوزراء، فكان أن عُزِلَ مِن منصبه في شعبان 1296 هـ ( 1879 م) وعاش بعدها بعيدًا عن السياسة حتى توفِّي بعد عشر سنوات في الأستانة عام 1889م ودفِنَ في جامع أيوب، إلا أن الحكومة التونسية بادرت في عام 1968م إلى نقل رُفاته ودفنه في تونس تقديرًا لخِدماتِه، وقد أطلق عليه الشَّعبُ التونسي لقب ((أبو النهضة التونسية)).
لَمَّا هزَمَ هَرثمةُ بنُ أعين أبا السرايا ومن كان معه من وُلاة الخلافة، وهو محمد بن محمد، وشَى بعضُ الناس إلى المأمون أنَّ هرثمة راسلَ أبا السرايا وهو الذي أمره بالظُّهور، فاستدعاه المأمونُ إلى مروٍ فأمر به فضُرِبَ بين يديه ووُطِئَ بطنُه، ثمَّ رفع إلى الحبس ثم قُتِلَ بعد ذلك بأيام، وانطوى خبَرُه بالكلية. ولَمَّا وصل بغدادَ خبَرُ قتلِه عَبَثَت العامَّة والحربيَّة بالحسن بن سهل نائب العراق، وقالوا: لا نرضى به ولا بعمَّاله ببلادنا، وأقاموا إسحاقَ بن موسى المهدي نائبًا، واجتمع أهلُ الجانبين على ذلك، والتفَّتْ على الحسَنِ بن سهل جماعةٌ من الأمراء والأجناد، وأرسل من وافق العامَّةَ على ذلك من الأمراء يحرِّضُهم على القتال، وجرت الحروبُ بينهم ثلاثةَ أيام في شعبان من هذه السنة، ثم اتفق الحالُ على أن يعطيهم شيئًا من أرزاقهم يُنفِقونها في شهرِ رمضان، فما زال يَمطُلُهم إلى ذي القعدة حتى يُدرِك الزرع، فخرج في ذي القَعدة زيدُ بن موسى الذي يقال له زيدُ النَّار، معه أخو أبي السرايا، وقد كان خروجُه هذه المرة بناحية الأنبار، فبعث إليه عليُّ بنُ هشام نائبُ بغداد عن الحسَنِ بن سهل- والحسَنُ بالمدائن إذ ذاك- فأُخِذَ وأُتِيَ به إلى عليِّ بنِ هشام، وأطفأ اللهُ ثائِرتَه.
أرسل السلطانُ الظاهر برقوق من يستجلي أخبارَ تيمورلنك، فجاءت الأخبار وورد البريد بأنَّ تيمورلنك كبس قرا محمد وكَسَره، ففَرَّ منه في نحو مائتي فارس، ونزل قريب ملطية، ونزل تيمورلنك على آمد، فاستدعى السلطانُ القضاة والفقهاء والأمراء وتحدث في أخذ الأوقافِ من الأراضي الخراجيَّة، فكَثُر النِّزاعُ، وآل الأمر إلى أنه يأخُذُ مُتحَصَّل الأوقاف لسنةٍ، ورسم السلطانُ بتجهيز أربعة من الأمراء الألوف، وهم الأميرُ ألطنبغا المعلم أمير سلاح، والأمير قردم الحسني، والأمير يونس الدوادار، والأمير سودن باق، وسبعة من أمراء الطبلخاناه، وخمسة من أمراء العشرات، فتجهزوا وعُيِّنَ معهم من أجناد الحلقة ثلاثمائة فارس، وخرجوا من القاهرة في أول رجب، فساروا إلى حلب، وبها يومئذٍ في نيابة السلطنة سودن المظفري، وقَدِمَ الخبَرُ بوقعة بين قرا محمد وولد تيمورلنك انكسَرَ فيها ابن تيمورلنك، وفي تاسع عشر رجب رُسِمَ للقاضي جمال الدين محمود محتَسِبِ القاهرة بطلبِ التجَّار وأرباب الأموال، وأخْذِ زكَوات أموالهم، وأن يتولى قاضي القضاة الحنفية شمس الدين محمد الطرابلسي تحليفَهم على ما يدَّعونَ أنَّه مِلكُهم، فعُمِلَ ذلك يومًا واحدًا، ثم رد عليهم ما أُخِذَ منهم وبَطَل، فإنَّ الخبَرَ ورد برجوع تيمورلنك إلى بلادِه.
في شهر جمادى الأولى كانت الفتنة الكبيرة بمدينة تعز من بلاد اليمن؛ وذلك أن الملك المنصور عبد الله بن أحمد لما توفي في جمادى الأولى السنة الفائتة، أقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر بن الملك الأشرف إسماعيل بن عباس، فتغيَّرت عليه نيات الجند كافةً؛ من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي، نسبةً إلى علي بن بولان العكي؛ فإنه أخَّر صرف جوامكهم -مخصَّصاتهم- ومرتَّباتهم، واشتد عليهم، وعنف بهم، فنفرت منه القلوب، وكثُرت حُسَّاده؛ لاستبداده على السلطان، وانفراده بالتصرف دونه، وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام، ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد -ضابط- الاستيفاء، فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم، واطِّراحه جانبهم، ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جوعًا، فاتفق تجهيز خزانة من عدن، وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك لنقلِها، فسألوا أن يُنفَق فيهم أربعة دراهم لكلٍّ منهم يرتفق بها، فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك، وقال: ليمضوا غصبًا إن كان لهم غرضٌ في الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خير، وإلا ففَسَح الله لهم، فما للدهر بهم حاجة، والسلطان غني عنهم، فهيج هذا القول حفائِظَهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة فتنة، فبلغ الخبر السلطان، فأعلم الوزير، فقال: ما يسووا شيئًا، بل نشنق كل عشرة في موضع، وهم أعجَزُ من ذلك، فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة هذا قبيل المغرب، هجم جماعةٌ من العبيد والترك دار العدل بتعز، وافترقوا أربع فرق؛ فرقة دخلت من باب الدار، وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت بجانب آخر، فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جندار، فهبروه بالسيوف حتى هلك، وقتلوا معه علي المحالبي مشد المشدين، وعدة رجال، ثم طلعوا إلى الأشرف -وقد اختفى بين نسائه وتزيَّا بزيهن- فأخذوه ومضوا إلى الوزير ابن العلوي، فقال لهم: ما لكم في قتلي فائدة؟ أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين، فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام بن لاجين، فقبضوا عليه، وقد اختفى، وسجنوا الأشرف وأمَّه وحظيَّته في طبقة المماليك، ووكلوا به، وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريبًا من الأشرف، ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع، وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الترك، فصعد هو في جماعة ليُخرِجَ الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن عباس من مدينة ثعبات بتعز، فامتنع أمير البلد من الفتح ليلًا، وبعث الظاهر إلى برقوق بأن يتمهَّل إلى الصبح، فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف، هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميعَ ما في دار السلطان، وأفحَشوا في نهبهم، فسلبوا الحريم ما عليهن، وانتهكوا ما حرَّم الله، ولم يَدَعوا في الدار ما قيمتُه الدرهم الواحد، وأخذوا حتى الحُصُر، وامتلأت الدار وقت الهجمة بالعبيد والترك والعامة، فلما أصبح يوم الجمعة عاشره اجتمع بدار العدل الترك والعبيد، وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدم، وسائر أمراء الدولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم ووقع بينهم الكلام فيمن يقيموه، قال بنو زياد: ما تمَّ غير يحيى، فاطلَعوا له هذه الساعة، فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق، وطلعا إلى مدينة ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد، فإذا الأبوابُ مغلقة، وصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم، ودخلوا إلى القصر، فسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: حتى يصل العسكر أجمع، ففكُّوا القيد مِن رِجلَيه، وطلبوا العسكرَ بأسرِهم، فطلعوا بأجمعهم، وأطلعوا معهم بعشرة جنائب من الإسطبل السلطاني في عدة بغال، فتقدَّم الترك والعبيد وقالوا للظاهر: لا نبايعك حتى تحلفَ لنا أنَّه لا يحدث علينا منك سوءٌ بسبب هذه الفعلة، ولا ما سبقَ قبلها،، فحلف لهم ولجميع العسكر، وهم يعيدون عليه الأيمانَ، ويتوثَّقون منه، وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري، ثم حلفوا له على ما يحبُّ ويختار، فلما انقضى الحلف، وتكامل العسكر، ركب ونزل إلى دار العدل في أهبة السلطنة، فدخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يومًا مشهودًا، وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات، فطلعوا به، وقيدوه بالقيد الذي كان الظاهر يحيى مُقيَّدًا به، وسجنوه بالدار التي كان مَسجونًا بها، ثم حُمل بعد أيام إلى الدملوه، ومعه أمه وجاريته، وأنعم السلطان الملك الظاهر يحيى على أخيه الملك الأفضل عباس بما كان له، وخلع عليه وجعله نائب السلطة كما كان في أول دولة الناصر، وخمدت الفتنة، وكان الذي حرَّك هذا الأمر بني زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة، لحنقه على الوزير ابن العلوي؛ فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش، وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتَهِنُ بني زياد، ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال، وعُصِرا على كِعابهما وأصداغهما، ورُبطا من تحت إبطهما، وعُلِّقا منكسَينِ، وضُرِبا بالشيب والعصا، وهما يوردان المال، فأُخِذَ من ابن العلوي -ما بين نقد وعروضٍ- ثمانون ألف دينار، ومن ابن الحسام ثلاثون ألف دينار، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة ومهابة، بحيث خافه العسكر بأجمعهم؛ فإن له قوة وشجاعة، حتى إن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جَرِّه، وبهذه الحادثة اختَلَّ مُلكُ بني رسول.
قَدِمَ الحُجَّاجُ مِن خُراسان إلى بغداد؛ لِيَسيروا إلى الحجازِ، فبلَغَهم عَيثُ الأعرابِ في الأرضِ بالفَسادِ، وأنَّه لا ناصِرَ لهم ولا ناظِرَ يَنظُرُ في أمرِهم، فرجعوا إلى بلادِهم ولم يحُجَّ من بلادِ المَشرِقِ أحدٌ في هذه السَّنةِ.
احتَرقَت بغداد، الكَرخُ وغَيرهُ، وبين السُّورَينِ، واحتَرقَت فيه خَزانَةُ الكُتُبِ التي وَقَفَها أردشيرُ الوزيرُ، ونُهِبَت بَعضُ كُتُبِها، وجاء عَميدُ المُلْكِ الكندريُّ، فاختارَ من الكُتُبِ خَيرَها، وكان بها عَشرةُ آلاف وأربعمائة مُجلَّد من أَصنافِ العُلومِ، منها مائةُ مُصحَفٍ بخُطوطِ ابنِ مُقْلَة، وكان العامَّةُ قد نَهَبوا بَعضَها لمَّا وَقعَ الحَريقُ، فأَزالَهم عَميدُ المُلْكِ، وقَعدَ يَختارُها، فنُسِبَ ذلك إلى سُوءِ سِيرَتِه، وفَسادِ اختِيارِه، وشَتَّانَ بين فِعلِه وفِعلِ نِظامِ المُلْكِ الذي عَمَّرَ المَدارِسَ، ودَوَّنَ العِلمَ في بِلادِ الإسلامِ جَميعِها، ووَقَفَ الكُتُبَ وغَيرَها.
قال ابنُ كَثيرٍ: "في يومِ الخَميسِ حادي عشر المُحرَّمِ حَضرَ إلى الدِّيوانِ أبو الوَفا عليُّ بنُ محمدِ بنِ عَقيلٍ العَقيليُّ الحَنبليُّ، وقد كَتبَ على نَفسِه كِتابًا يَتضمَّن تَوبتَه من الاعتِزالِ، وأنَّه رَجعَ عن اعتِقادِ كَوْنِ الحَلَّاجِ من أَهلِ الحَقِّ والخَيرِ، وأنه قد رَجعَ عن الجُزءِ الذي عَمِلَه في ذلك، وأنَّ الحَلَّاجَ قد قُتِلَ بإجماعِ عُلماءِ أَهلِ عَصرِه على زَندَقتِه، وأنَّهم كانوا مُصِيبينَ في قَتلِه وما رَمَوْهُ بهِ، وهو مُخطِئٌ، وأَشهَدَ عليه جَماعةً من الكُتَّابِ، ورَجعَ من الدِّيوانِ إلى دارِ الشَّريفِ أبي جَعفرٍ فسَلَّمَ عليه وصالَحه واعتَذرَ إليه، فعَظَّمَه"
لَمَّا ولِيَ السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله الخلافةَ، اشتغل بتأسيس ما بيده وتحصينِه بالعَدَد والعُدَّة، ولم تطمح نفسه إلى الزيادة على ما ملك أبوه من قَبلِه. وغزاه حسن بن خير الدين باشا التركي صاحبُ تلمسان في جيشٍ كثيفٍ من الأتراك، فخرج إليه السلطان الغالب بالله فالتقيا بمقربةٍ من وادي اللبن من عمالة فاس، فكانت الدائرة على حَسنٍ، فرجع منهزمًا يطلب صياصيَ الجبال إلى أن بلغ إلى باديس، وكانت يومئذ للترك ورجع الغالب بالله إلى فاس، لكنَّه لم يدخلها لوباءٍ كان بها يومئذ.