وفي يومِ الجُمُعةِ العاشِرَ من شعبان قُرِئَ بالجامع الكتابُ السلطانيُّ الوارِدُ باعتقال شيخ الإسلامِ ابن تيمية، وهذه الواقِعةُ سَببُها فُتيا وُجِدَت بخطِّه في السَّفَرِ وإعمالِ المطِيِّ إلى زيارةِ قُبورِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبورِ الصالحين، وفي يوم الأربعاء مُنتصَفَ شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبسِ جماعةٍ مِن أصحاب الشيخِ تقي الدين ابن تيمية في سِجنِ الحكم، وذلك بمرسومِ نائب السلطنة وإذنِه له فيه، فيما تقتضيه الشريعةُ في أمرهم، وعُزِّرَ جماعة منهم على دوابَّ، ونودي عليهم ثمَّ أُطلِقوا، سوى شمسِ الدين محمد بن قيِّم الجوزيَّة؛ فإنَّه حُبِسَ بالقلعة، وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان تم اعتقال الشيخ الإمام العالم العلَّامة تقيُّ الدين ابن تيمية بقلعة دمشق، حضَرَ إليه من جهة نائب السلطنة تنكز وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أنَّ مرسومَ السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوبًا لِيَركَبَه، وأظهر السرورَ والفرح بذلك، وقال: أنا كنت منتَظِرًا لذلك، وهذا فيه خير كثيرٌ ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعًا من داره إلى بابِ القلعة، وأُخلِيَت له قاعة وأجري إليها الماءُ ورُسِمَ له بالإقامةِ فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدُمُه بإذن السلطانِ، ورُسِمَ له ما يقومُ بكفايته، والسَّبَبُ في كل ذلك هو أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية حَرَّم إعمالَ المطِيِّ لزيارة القبورِ بناءً على قَولِه صلَّى الله عليه وسلم: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ)) ثم إنَّ مُناوئي الشيخ وأعداؤه أشاعوا عنه أنَّه يقول بحُرمةِ زيارة القبور عمومًا، والشيخُ كما هو معلوم من فتاويه وكُتُبِه أنَّه لا يقولُ بحُرمةِ الزيارةِ مُطلقًا إنَّما يقول: يحرُمُ شَدُّ الرَّحلِ والسَّفَرُ لأجلِ زيارة القبور، أمَّا زيارتها من غير سَفَرٍ ولا شَدِّ رَحلٍ فيقولُ بسُنِّيَّتِه.
أهلَّت هذه السَّنةُ والنَّاسُ في أمرٍ مَريجٍ؛ لغيبة السلطانِ النَّاصِرِ أحمد بالكرك، وعند الأمراءِ تشوُّش كبير، ثمَّ قَدِمَ كِتابُ السلطان إلى الأمراءِ يُطَيِّبُ خواطِرَهم، ويُعَرِّفُهم أنَّ مِصرَ والشام والكرك له، وأنَّه حيث شاء أقام، ورسم أن تُجهَّزَ له الأغنامُ مِن بلاد الصعيد، وأكَّد في ذلك، وأوصى آقسنقر بأن يكون مُتَّفِقًا مع الأمراءِ على ما يكون من المصالحِ، فتنكَّرَت قلوبُ الأمراء ونفَرَت خواطرهم، واتَّفَقوا على خَلعِ السلطان وإقامة أخيه إسماعيل في يومِ الأربعاء حادي عشر المحرم، فكانت مدة ولايته ثلاثةَ أشهر وثلاثة عشر يومًا، منها مدَّةُ إقامته بالكرك ومراسيمُه نافذة بمصرَ أحد وخمسون، وإقامته بمصرَ مدة شهرين وأيام، وكانت سيرتُه سيئة، نَقَم الأمراءُ عليه فيها أمورًا، منها أنَّ رُسُلَه التي كانت تَرِدُ مِن قِبَلِه إلى الأمراء برسائِلِه وأسرارِه أوباشُ أهل الكرك، فلما قَدِموا معه إلى مصر أكثَروا من أخذِ ولاياتٍ ومِناصِبَ وهم غيرُ أهل لها، ومنها تحكُّمهم على الوزيرِ وغَيرِه، وحَجْبُهم السلطانَ حتى عن الأمراءِ والمماليك وأربابِ الدولة، فلا يمكِنُ أحدًا من رؤيتِه سوى يومي الخميس والاثنين نحو ساعة، ومع ذلك فإنَّه جمع أموالَ أبيه وغيرها من الأموال والحيواناتِ والمتاع ونَقَله كُلَّه إلى الكرك، ثم جلس السلطانُ الجديدُ الصالحُ إسماعيلُ على تخت الملك يوم الخميسِ ثاني عشر المحرم، بعد خَلْعِ أخيه باتِّفاقِ الأمراء على ذلك؛ لأنَّه بلَغَهم عنه أنَّه لَمَّا أخرجه الأميرُ قوصون فيمن أُخرِجَ إلى قوص أنَّه كان يصومُ يومي الاثنين والخميس، ويشغَلُ أوقاته بالصَّلاةِ وقراءة القرآن، مع العِفَّة والصيانة عمَّا يُرمَى به الشباب من اللهو واللعب، وحَلَف له الأمراءُ والعساكر، وحَلَف لهم السلطانُ ألَّا يؤذيَ أحدًا، ولا يقبِضَ عليه بغير ذنب يُجمَعُ على صِحَّتِه، ودُقَّت البشائِرُ، ولُقِّبَ بالملك الصالح عماد الدين، ونودي بالزِّينة.
هو شيخُ الإسلام الحافظ العلامة أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن معطي العبدوسي المالكي، مفتي فاس وعالِمُها ومحَدِّثُها. قال فيه السيوطي: "كان عالِمًا بارعًا صالحًا مشهورًا" وقال الشيخ أحمد زروق الفاسي: "كان أبو محمد العبدوسي عالِمًا صالحًا مفتيًا، حُملتُ إليه وأنا رضيع ولم أزل أتردَّدُ إليه في ذلك السن؛ لكون جدتي تقرأُ عليه مع أختيه فاطمة وأم هانئ، وكانتا فقيهتين صالحتين، وكان قطبًا في السخاءِ، إمامًا في نصح الأمة، أمات كثيرًا من البِدَع بالمغرب، وأقام الحدود والحقوق وتولَّى آخِرَ أمره خطابةَ جامع القرويين، ثم توفى سنة تسع وأربعين، وكان أكثر علمه فقهَ الحديث، سمعت شيخنا القوري يقول: إنهم حسبوا الخارج من يده والداخل فيها فوجدوا الخارج أكثر، وحدَّثنا أنه حَفِظَ مختصر مسلم للقرطبي في كل خميس خمسة أحاديث، وشهرةُ أخلاقه وسخائه أبينُ من أن تُذكَر، كان لا يدَّخِر شيئًا حتى لم يوجَدْ يوم مات إلا بدنان وإحرامان ودراعتان إحداهما للأمير يحيى بن زيان، فقال: هكذا يكون الفقيهُ وإلا فلا. وكان يشترط العزلَ في النكاحِ، فرارًا من الولدِ؛ لفساد الزمانِ، قالوا: وكان لا تفارِقُ كُمَّه الشمائلُ عاملًا بها، وحَدَّثَت زوجته أنه كان يعمل الخوصَ خُفيةً ويعطيه لمن لا يعرفُ أنَّها له يبيعُها، ثم يتقَوَّتُ بها في رمضان، ومناقبُه كثيرة جمع فيها بعض أصحابنا تأليفًا ذكر فيه كثيرًا, وكان العبدوسي أقوى من جَدِّه موسى في العمل، وإنَّ جَدَّه أقوى منه في العلم, وكان شيخ الجماعة الفقهاء والصوفية، وتخرَّج به جماعةٌ، كالفقيه المحقق ابن آملال، والفقيه القوري، وأبي محمد الورياجلي، وغيرهم" قال شمس الدين السخاوي: كان أبو محمد هذا واسِعَ الباع في الحفظ، وليَ الفُتيا بالمغرب الأقصى، وإمامة جامع القرويين بفاس، ومات فجأة وهو في صلاةٍ"
هو السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ المأمون بن أحمد المنصور الذهبي، ملك السعديين في المغرب الأقصى. كان المأمونُ وَلِيَّ عهد أبيه المنصور وخليفتَه على فاس وأعمالها سائرَ مدة أبيه، وكان للمنصور اعتناءٌ تام به واهتمامٌ بشأنه حتى قيل إن المنصور كان لا يختِمُ على صندوق من صناديق المال إلا قال: "جعل الله فتحَه على يد ابنِه الشيخ رجاءَ أن يقوم بالأمر بعدَه، فلم يُقدَّرْ له، وخرج الأمرُ عن مرادِه؛ فقد أساء المأمون السيرةَ وأضَرَّ بالرعية، قال اليفرني: "كان فسيقًا خبيث الطويَّة مُولَعًا بالعبث بالصبيان، مدمنًا للخمر سفاكًا للدماء غير مكتَرِث بأمور الدين من الصلاة وشرائطها، ولَمَّا ظهر فساده وبان للناس عَوارُه، نهاه وزير أبيه القائد أبو إسحاق إبراهيم السفياني عن سوء فعلِه، فلم ينتَهِ واستمر على قبح سيرتِه، فأعاد عليه اللومَ فلَجَّ في مذهبِه، ولما أكثَرَ عليه مِن التقريع سقاه السمَّ فكان فيه حَتفُه, فلما كثرت قبائحُ المأمون وترددت الشكايات لأبيه، كتب إليه لينكَفَّ عن غيِّه وينزجر عن خبثِه، فما زاده التحذيرُ إلا إغراءً، فلما رأى المنصور أنه لم يكترثْ بأمرِه ولم ينزجِرْ عن قبائحه، عزم على التوجُّه إلى فاس بقصد أن يمكُرَ به ويؤدِّبَه بما يكون رادعًا له، فلما سمع الشيخ بذلك جمع عساكِرَه وهيأَ جنده لمدافعة أبيه، فتحيَّل عليه أبوه حتى أسَرَه ثم سجنه في مكناسة، وظل في سجنِه حتى أخرجه أخوه أبو فارس ليحارِبَ به أخاهما زيدان، وتمكن الشيخ وتغلب على أخيه زيدان، ثم على أبي فارس، وسيطر على حكم المغرب، فظلم الرعيةَ وأسرف على نفسِه إلى أن توفي في هذا العام. بعد تذمُّر وسخَط أهل تطوان ونواحيها من أفعال الشيخ المأمون، اجتمع أعيانُ القوم وتآمروا على قتل الشيخ وأتباعه، فقُتِل السلطان الشيخ المأمون في وسط محلَّتِه المعروفة بفج الفرس, وانتُهِبت تلك المحلة وتفرَّقت جموعه, وتولى بعده أخوه زيدان في حُكم المغرب.
تم الإعلانُ عن قيام دولة الكيان الصهيوني يوم 14 مايو 1948م، وفيما يلي نصُّ إعلان الكيان نفسِه، ونحن نذكُرُه هنا لأغراضِ المعرفةِ بالعَقلِ الصهيوني ومبادئِه في تأسيس دولته.. بصَرفِ النظر عما يعتريه من تشويهٍ متعَسِّف للتاريخ والجغرافيا. "أرضُ إسرائيل هي مهْدُ الشعب اليهودي، هنا تكوَّنت شخصيتُه الروحية والدينية والسياسية، وهنا أقام دولةً للمرة الأولى، وخَلَق قيمًا حضارية ذات مغزًى قومي وإنساني جامع، وفيها أعطى للعالم كتابَ الكتب الخالد. بعد أن نُفِيَ عَنوةً من بلاده حافَظَ الشَّعبُ على إيمانه بها طيلةَ مدة شتاته، ولم يكُفَّ عن الصلاة أو يفقِدِ الأملَ بعودته إليها واستعادة حريته السياسية فيها. سعى اليهود جيلًا تلوَ جيل مدفوعين بهذه العلاقةِ التاريخية والتقليدية إلى إعادة ترسيخ أقدامِهم في وطنهم القديم. وعادت جماهيرُ منهم خلالَ عقود السنوات الأخيرة. جاؤوا إليها روَّادًا ومدافعين فجعلوا الصحارى تتفتَّحُ وأحيوا اللغة العبرية وبنَوا المدن والقرى وأوجَدوا مجتمعًا ناميًا يسيطِرُ على اقتصاده الخاص وثقافته، مجتَمع يحب السلام لكنه يعرف كيف يدافع عن نفسه، وقد جلب نعمةَ التقدم إلى جميع سكان البلاد، وهو يطمح إلى تأسيس أمة مستقلة. انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في سنة 5657 عبرية (1897 ميلادية) بدعوةٍ من تيودور هرتزل الأب الروحي للدولة اليهودية، وأعلن المؤتمرُ حَقَّ الشعب اليهودي في تحقيق بَعثه القومي في بلاده الخاصة به. واعترف وعد بلفور الصادر في 2 نوفمبر 1917 بهذا الحَقِّ، وأكَّدَه من جديدٍ صَكُّ الانتداب المقَرَّر في عصبة الأمم، وهي التي منحت بصورةٍ خاصة موافَقَتَها العالمية على الصلة التاريخية بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل، واعترافها بحَقِّ الشعب اليهودي في إعادة بناء وطنه القومي"!!
هو معالي الوزير عبد الله بن سليمان الحمدان وزير الملك عبد العزيز، وُلِدَ سنة 1305هـ 1887م بمدينة عنيزة في القصيم. قصد الهند بعد أن تجاوز الطفولةَ، ثم تنقَّل بينها وبين البحرين وبعض بلاد الخليج في طلب الرزق، ثم استقرَّ في الرياض؛ حيث كان له أخٌ اسمُه محمد يعمل في ديوان الملك عبدالعزيز قبل أن يتمَّ تنظيم الديوان، ولما مَرِضَ محمد ناب عنه عبد الله سنة 1338هـ 1919م، ولما رأى الملك عبد العزيز حُسنَ خَطِّه وذكاءَه ونشاطَه سَلَّمه صندوقَ دراهمه يُنفِقُ منه على بيتِه وأضيافِه. تقدَّم ابن سليمان في عمله حتى كفى الملكَ همَّ توفير المال. استمرَّ ابنُ سليمان وهو الشخصية الأولى في الدولة بعد الملك وكبار الأمراء مدةَ وزارته الطويلة، فلم يبلغْ إنسان من رجال عبد العزيز ما بلغه عنده من وثوقٍ ونفوذِ كلمة، وتمكُّنٍ؛ لذا لم يقتصِرْ عمله على المالية، بل أضيفت له مهامُّ خطيرة أخرى، كالدفاع قبل أن تنشأ وزارةُ الدفاع، ووكالةِ الخارجية أحيانًا، وشُؤون المعادن، ومنها البترول وما يتَّصِل بذلك من اتفاقيات ومداولات داخلية وخارجية؛ فهو الذي وقَّع اتفاقيةَ منح شركة "استاندر أويل أوف كاليفورنيا" -التي أصبحت فيما بعدُ أرامكو- حقَّ امتياز التنقيب عن النفط، وكانت من عادة ابن سليمان حين يجمعُه بالملك بلدٌ واحد أن يدخل عليه في غرفة النوم بعد صلاة الفجر كلَّ يوم، فيَعرِض عليه ما يهمُّه ويخرج بالموافقة على ما يريد، وكانت لا تخرجُ برقية من ديوان الملك إلَّا أرسلت بالبرق ثلاث نُسَخٍ منها: إلى ولي العهد، والنائب العام، وابن سليمان. استقال ابنُ سليمان بعد وفاة الملك عبد العزيز من العمل من الحكومة، وتحوَّل إلى رجل أعمال، فأنشأ فنادِقَ وشركات. خدم الملك 35 سنة، وسمِّي ابن سليمان وزيرًا للمالية سنة 1347هـ / 1929م، واستقال في مطلع محرم 1374هـ 1954م وتوفِّي بجدة.
لمَّا خَرجَ طُغرلبك من بغداد خَلْفَ أَخيهِ إبراهيمَ ينال استَغلَّ الفُرصةَ البساسيري، فلمَّا كان يومُ الأحدِ الثامن من ذي القعدة جاء إلى بغداد ومعه الرَّاياتُ البِيضُ المِصريَّةُ العُبيدِيَّةُ، وعلى رَأسِه أَعلامٌ مَكتوبٌ عليها اسمُ المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ، أَميرُ المؤمنين، فتَلقَّاهُ أَهلُ الكَرخِ الرَّافِضَةُ وسَألوهُ أن يَجتازَ من عندهم، فدَخلَ الكَرخَ وخَرجَ إلى مشرعةِ الزَّاويا، فخَيَّمَ بها والنَّاسُ إذ ذاك في مَجاعةٍ وضُرٍّ شَديدٍ، ونَزلَ قُريشُ بن بَدران وهو شَريكُ البساسيري في هذه الفِتنةِ، في نحوٍ مِن مائتي فارسٍ على مشرعةِ بابِ البَصرةِ، وكان البساسيري قد جَمعَ العَيَّارِينَ وأَطمَعَهُم في نَهبِ دارِ الخِلافةِ، ونَهَبَ أَهلُ الكَرخِ مِن الشِّيعةِ دُورَ أَهلِ السُّنَّةِ ببابِ البَصرةِ، ونُهِبَت دارُ قاضي القُضاة الدَّامغاني، وتملك وهلك أَكثرُ السِّجِلَّاتِ والكُتبِ الحُكمِيَّة، وبِيعَت للعطَّارِين، ونُهِبَت دُورُ المُتعلِّقِين بخِدمةِ الخَليفةِ، وأَعادَت الرَّوافضُ الأذانَ بحيَّ على خَيرِ العَملِ، وأُذِّنَ به في سائرِ نواحي بغداد في الجُمُعاتِ والجَماعاتِ وخُطِبَ ببغداد للمُستَنصِر العُبيدي على مَنابِرِها، وضُربَت له السِّكَّةُ على الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وحُوصِرَت دارُ الخِلافةِ، فدافَع الوزيرُ أبو القاسم بن المسلمة المُلَقَّب برَئيسِ الرُّؤساءِ، بمن معه من المُستَخدِمين دون دارِ الخِلافةِ, فلم يُفِد ذلك شيئًا، فرَكِبَ الخَليفةُ بالسَّوادِ والبُردَةِ، وعلى رَأسِه اللِّواءُ وبِيَدِه سَيفٌ مُصَلَّتٌ، وحولَه زُمرةٌ مِن العبَّاسيِّين والجواري حاسِراتٌ عن وُجوهِهنَّ، ناشِراتٌ شُعورِهِنَّ، ومَعهُنَّ المصاحِفُ على رُؤوسِ الرِّماحِ، وبين يَديهِ الخَدَمُ بالسُّيوفِ، ثم إنَّ الخَليفةَ أَخذَ ذِمامًا من أَميرِ العَربِ قُريشٍ لِيَمنَعهُ وأَهلَهُ ووَزيرَهُ ابن المسلمة، فأَمَّنَهُ على ذلك كُلِّه، وأَنزلَه في خَيمةٍ، فلامَهُ البساسيري على ذلك، وقال: قد عَلِمتَ ما كان وقعَ الاتفاقُ عليه بيني وبينك، من أنَّك لا تَبُتَّ برَأيٍ دُوني، ولا أنا دُونكَ، ومهما مَلكْنَا بيني وبينك. ثم إن البساسيري أخذَ القاسمَ بن مَسلمةَ فوَبَّخَهُ تَوبيخًا مُفضِحًا، ولامَهُ لَومًا شَديدًا ثم ضَربهُ ضَربًا مُبرِحًا، واعتَقلهُ مُهانًا عنده، ونَهبَت العامَّةُ دارَ الخِلافةِ، ثم اتَّفقَ رأيُ البساسيري وقُريشٍ على أن يُسَيِّروا الخليفةَ إلى أَميرِ حَديثَةِ عانَة، وهو مهارش بن مجلي النَّدوي، وهو مِن بني عَمِّ قُريشِ بن بدران، وكان رجلًا فيه دِينٌ وله مُروءةٌ، فلمَّا بلغ ذلك الخَليفةَ دَخلَ على قُريشٍ أن لا يخرج من بغداد فلم يَفِد ذلك شيئًا، وسَيَّرَهُ مع أَصحابِهما في هَودَج إلى حَديثَةِ عانَة، فكان عند مهارش حَولًا كامِلًا، وليس معه أَحدٌ من أَهلِه، وأما البساسيري، وما اعتَمدَهُ في بغداد، فإنَّه رَكِبَ يومَ عيدِ الأضحى وأَلبَس الخُطباءَ والمُؤذِّنينَ البَياضَ، وكذلك أَصحابَه، وعلى رَأسِه الأَلوِيَةُ العُبيديَّة المِصريَّة، وخَطَب للمُستَنصِر العُبيدي المِصري، وانتَقَم البساسيري من أَعيانِ أَهلِ بغداد انتِقامًا عَظيًما، وغَرَّقَ خَلْقًا ممن كان يُعادِيه، وبَسَطَ على آخرين الأرزاقَ ممن كان يُحبُّه ويُواليه، وأَظهرَ العَدلَ، ثم إنَّه عَلَّقَ ابنَ المسلمة رَئيسَ الرُّؤساءِ بِكَلُّوبٍ في شِدْقَيْهِ، ورُفِعَ إلى الخَشبةِ، إلى أن مات.
هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي, وأمه: سلامة البربريَّة. وُلِدَ سنة 95, وكان أسمرَ, طويلًا, نحيفًا, مَهيبًا, خفيفَ العارِضَينِ, مُعرق الوجه, رحْبَ الجبهة, كأنَّ عينيه لسانان ناطقان, تخالِطُه أبَّهة المُلك بِزِيِّ النسَّاك, تَقبَلُه القلوبُ، وتَتبَعُه العيون, وكان فحْلَ بني العباس؛ هيبةً وشجاعةً، ورأيًا وحزمًا، ودهاءً وجبروتًا، وكان جمَّاعًا للمال, حريصًا تاركا للَّهوِ واللَّعب, كامِلَ العقلِ بعيدَ الغَورِ، حسَن المشاركةِ في الفقهِ والأدب والعِلم. أباد جماعةً كبارًا حتى توطَّدَ له المُلك، ودانت له الأمَمُ على ظُلمٍ فيه، وقُوَّةِ نَفسٍ، ولكنَّه يرجِعُ إلى صِحَّة إسلامٍ وتديُّنٍ في الجُملة، وتَصَوُّنٍ وصلاةٍ وخيرٍ، مع فصاحةٍ وبلاغةٍ وجَلالةٍ، وعظَ المنصور عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فأبكاه، وكان المنصورُ يهابُ عَمرًا ويُكرِمُه، وقد كان المنصورُ يُصغي إلى أقوال المنجِّمين، وهذا من هناتِه مع فضيلتِه. كان حاكمًا على ممالك الإسلام بأسرِها, سوى جزيرة الأندلس، وكان ينظُرُ في حقيرِ المال، ويثَمِّرُه، ويجتهد بحيث إنَّه خلَّفَ في بيوت الأموالِ مِن النقدين أربعة عشر ألف ألف دينار، وستمئة ألف ألف درهم، وكان كثيرًا ما يتشبَّه بالثلاثة في سياسته وحَزمِه، وهم: معاوية، وعبد المَلِك، وهشام. لَمَّا رأى المنصورُ ما يدلُّ على قُربِ مَوتِه سار للحَجِّ، فلمَّا وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحَرِ قبل أن يصِلَ مكة، ولم يحضُرْه عند وفاتِه إلَّا خَدَمُه، والربيعُ مولاه، فكتم الربيعُ مَوتَه، واشتغلوا بتجهيزِ المنصور، ففرغوا منه العصرَ، وكُفِّنَ، وغطِّيَ وجهُه وبدَنُه، وجُعِلَ رأسُه مكشوفًا لأجل إحرامِه، وصلَّى عليه عيسى بن موسى، وقيل: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودُفِنَ في مقبرة المُعَلَّاة، وحَفَروا له مائة قبرٍ ليغُمُّوا على النَّاسِ، ودُفِنَ في غيرها، عاش أربعًا وستِّينَ سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلَّا أربعة وعشرين يومًا.
سببُ ذلك أنَّ المهديَّ لَمّا استقامت له البلادُ، ودان له العباد، وباشر الأمورَ بنَفسِه، وكفَّ يدَ أبي عبد الله، ويدَ أخيه أبي العبَّاس - وهما أكبَرُ دعاته- داخَلَ أبا العبَّاسِ الحسَدُ، وعظُمَ عليه الفطامُ عن الأمر والنهي، والأخذِ والعطاء، فأقبل يُزري على المهديِّ في مجلسِ أخيه، ويتكلَّمُ فيه، وأخوه ينهاه، ولا يرضى فِعلَه، فلا يزيدُه ذلك إلَّا لجاجًا، ولم يزَلْ حتى أثَّر في قلب أخيه، فقال أبو عبدِ الله يومًا للمهديِّ: "لو كنتَ تجلِسُ في قصرِك، وتتركُني مع كُتامةَ آمُرُهم وأنهاهم؛ لأنِّي عارِفٌ بعاداتهم، لكان أهيبَ لك في أعيُنِ النَّاسِ". وكان المهديُّ سمِعَ شيئًا ممَّا يجري بين أبي عبد الله وأخيه، فتحقَّقَ ذلك، ثم صار أبو العبَّاسِ يقول: "إنَّ هذا ليس الذي كنَّا نعتقد طاعته، وندعو إليه؛ لأنَّ المهديَّ يختم بالحجَّة، ويأتي بالآياتِ الباهرة"، فأخذ قولُه بقلوبِ كثيرٍ مِن الناس، فاتَّفقَ هو وأخوه ومَن معهما على الاجتماعِ، وعَزَموا على قتل المهديِّ، واجتمع معهم قبائِلُ كُتامةَ إلَّا قليلًا منهم، وكان معهم رجل يُظهِرُ أنَّه منهم، وينقُل ما يجري إلى المهديِّ، ودخلوا عليه مِرارًا فلم يجسِروا على قتلِه، فأمر المهديُّ عروبةَ ورجالًا معه أن يرصُدوا أبا عبدالله وأخاه أبا العبَّاس، ويقتُلوهما، فلمَّا وصلا إلى قرب القصرِ حمل عروبة على أبي عبدالله، فقال: لا تفعَلْ يا بُنيَّ، فقال: الذي أمَرتَنا بطاعتِه أمَرَنا بقَتلِك؛ فقُتِلَ هو وأخوه، فقيل: إنَّ المهديَّ صلَّى على أبي عبدالله، وقال: رحمك اللهُ أبا عبدالله، وجزاك خيرًا بجميلِ سَعيِك. وثارت فتنةٌ بسبَبِ قَتلِهما، وجرَّدَ أصحابُهما السيوف، فركب المهديُّ وأمَّن النَّاسَ، فسَكَنوا، ثمّ تَتَّبَعهم حتى قتَلَهم. وثارت فتنة ثانية بين كُتامة وأهل القَيروان قُتِلَ فيها خلقٌ كثيرٌ، فخرج المهديُّ وسكَّن الفتنةَ، وكفَّ الدُّعاةَ عن طلَبِ التشيُّعِ من العامَّة، ولَمَّا استقامت الدولة للمهديِّ عَهِدَ إلى ولده أبي القاسم نِزار بالخلافةِ.
هي أم المؤيد زينبُ بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجاني الأصل النيسابوري الدار، الصوفي المعروف بالشعري- وتدعى حرة- وُلِدَت سنة 524 بنيسابور، وكانت عالمة، وأدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة. سمعت من أبي محمد إسماعيل بن أبي القاسم ابن أبي بكر النيسابوري القارئ، وأبي القاسم زاهر وأبي بكر وجيه ابني طاهر الشحاميين، وأبي المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي وغيرهم، وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي، والعلامة أبو القاسم محمود ابن عمر الزمخشري صاحب " الكشاف " وغيرهما من السادات الحُفَّاظ. قال ابن خلكان: "ولنا منها إجازة كتبتها في بعض شهور سنة 610، ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة 608 بمدينة إربل بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين" توفيت الحرة سنة 615 في جمادى الآخرة بمدينة نيسابور" قال الذهبي: "حدثت أم المؤيد أكثر من ستين سنة، روى عنها: عبد العزيز بن هلالة، وابن نقطة، والبرزالي، والضياء، وابن الصلاح، والشرف المرسي، والصريفيني، والصدر البكري، ومحمد بن سعد الهاشمي، والمحب ابن النجار، وجماعة كثيرة. وسمعت بإجازتها على التاج بن عصرون، والشرف بن عساكر، وزينب الكندية. وكانت شيخة صالحة، عالية الإسناد معمرة، مشهورة، انقطع بموتها إسناد عال". قال ابن خلكان: "الشَّعْري بفتح الشين المثلثة وسكون العين المهملة وفتحها وبعدها راء، هذه النسبة إلى الشعر وعمله وبيعه، ولا أعلم من كان في أجدادها يتعاطاه فنسبوا إليه، والله أعلم".
بعد أن ترددت الرسل بين الملك الكامل صاحب مصر وفردريك الثاني ملك ألمانيا انتهوا على صلح عشر سنوات يسلم الكامل بيت المقدس للصليبيين نكاية بإخوانه في الشام بسبب خلاف بينه وبينهم, وجاء في بنود الاتفاق الذي عرف باتفاق يافا: 1/ أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين، ويبقيها على ما هي من الخراب، ولا يجدد سورها. 2/ أن يكون سائر قرى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج. 3/ أن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى يكون بأيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه والٍ من المسلمين، ويقيمون فيه شعار الإسلام من الأذان والصلاة. 4/ أن تكون القرى التي فيها بين عكا وبين يافا، وبين القدس، بأيدي الفرنج، دون ما عداها من قرى القدس. ثم في 22 ربيع الأول من هذه السنة، ( 18فبراير 1229 م) تسلم الفرنج بيت المقدس صلحًا، ولما تسلم الفرنج البيت المقدس، استعظم المسلمون ذلك وأكبروه واستقبحوا ما فعله الكامل، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه. وقد ذكر سبط ابن الجوزي ردة الفعل على تسليم الكامل بيت المقدس للصليبيين بقوله: "قامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدت العظائم، بحيث أقيمت المآتم، وأشار علي الملك الناصر داود بن الملك المعظم أن أجلس بجامع دمشق، وأذكر ما جرى على البيت المقدس، فما أمكنني مخالفته، ورأيت من جملة الديانة الحمية للإسلام موافقته، فجلست بجامع دمشق، وحضر الناصر داود، على باب مشهد علي، وكان يومًا مشهورًا، لم يتخلف من أهل دمشق أحد, وقد انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين، فيا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، وكم خرت لهم على تلك المساكن من دمعة، والله لو صارت عيونهم عيونًا لما وفت، ولو تقطعت قلوبهم أسفًا لما شفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات"
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الحافِظُ شَمسُ الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي خاتمةُ الحُفَّاظ، كان من أسرة تُركمانيَّة الأصل، تنتهي بالولاءِ إلى بني تميم، سكنت مدينة ميافارقين من أشهَرِ مدن ديار بكر، ولِدَ في كفر بطنا قرب مدينة دمشق في شهرِ ربيع الآخر سنة 673, وهو حافِظٌ لا يُجارَى ولافِظٌ لا يُبارى، أتقَنَ عِلمَ الحديث ورجالَه، ونظَرَ عِلَلَه وأحوالَه، وعرف تراجم الناس وأزال الإبهام في تواريخهم, واشتهَرَ بالعِلمِ والورع؛ قال السيوطي: "حُكِيَ عن شيخ الإسلام أبي الفضلِ ابنِ حَجَر أنَّه قال: شَرِبتُ ماء زمزم لأصِلَ إلى مرتبة الذهبيِّ في الحفظِ, ثم قال السيوطي: والذي أقولُه: إن المحَدِّثين عيالٌ الآن في الرجالِ وغَيرِها من فنونِ الحديث على أربعةٍ: المِزِّي، والذَّهَبي، والعِراقي، وابن حجر" ومُصَنَّفاته كثيرةٌ جِدًّا تُنبِئ عن عِلمِه الزاخر في الحديث والرجال والتاريخ، فله كتب مشهورة، منها: كتاب تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام، وكتاب سير أعلام النبلاء، وله في الرجال كتب كثيرة أشهرها: ميزان الاعتدال في أحوال الرجال، وتذكرة الحُفَّاظ، وطبقات القُراء، وله تعليقات على المستدرك، وله كتاب الكبائر، والطب النبوي، وغيرها كثير يصعُب حَصرُه هنا، وقف الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على تاريخه الكبير المسمى بتاريخ الإسلام جزءًا بعد جزء إلى أن أنهاه مطالعةً وقال: "هذا كتابُ عَلَمٍ اجتمَعْتُ به وأخذتُ عنه وقرأتُ عليه كثيرًا من تصانيفه، ولم أجِدْ عنده جمودَ المحدِّثين، ولا كَودَنة النَّقلة، بل هو فقيهُ النَّظَر، له دُربة بأقوالِ النَّاسِ ومذاهِبِ الأئمة من السلف وأرباب المقالاتِ، وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفِه مِن أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبيِّنَ ما فيه من ضَعفِ مَتنٍ أو ظَلامِ إسنادٍ أو طَعنٍ في رواتِه، وهذا لم أرَ غَيرَه يراعي هذه الفائدةَ فيما يورده. توفي في ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة، وصُلِّيَ عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودُفِنَ بباب الصغير.
كانت المنظماتُ الصهيونيةُ تُصعِّد ضغوطَها منذ عام 1960م لاستصدار وثيقةٍ من الفاتيكان بتبرئة اليهود من دمِ المسيح، وقد صَدَرت بالفعل وثيقة فاتيكانية بعنوان (نوسترا ايتاتي) تعلن أن موت السيد المسيح -على زعمهم- لا يمكن أن يُعزَى عشوائيًّا إلى جميع الذين عاشوا في عهده أو إلى يهود اليوم. وكان البابا يوحنا الثالث والعشرون قد ألغى من الصلاة الكاثوليكية مقطعًا يتحدَّث عن اليهود الملعونين، كما ألغى من النصوصِ الدينية جُرْمَ قَتْل الرب، على اعتبار أن الوثيقة المذكورة نصَّت أيضًا على ألا يُنظَرَ إلى اليهود كمنبوذين من الرب وملعونين، كما لو جاء ذلك في الكتاب المقدس. وسَعَت الجماعاتُ اليهودية والصهيونية إلى استثمار سريع لوثيقة 1965م، ولكِنَّ عدوان يونيو 1967م ووقوع القدس في القبضة اليهودية أوجد متغيَّرًا جديدًا أمام الفاتيكان، فركَّز منذ ذلك الوقت على تدويل القدس، وأظهر تعاطفًا مع الكفاح الفلسطيني، وبدأت تظهرُ أيضًا تعبيرات الشعب اليهودي في تصريحاته، والإشارة إلى ما تحمَّله (الشعب اليهودي) من مآسٍ. وبعد عشرين عامًا خطا البابا يوحنا بولس الثاني الخطوةَ التالية في الاتجاه نفسه، فألغى عمليًّا التعديلات التي سبق أن أُدخِلت على الوثيقة الأصلية بتأثير اعتراضات الكنائس المسيحية في البلدان العربية في حينه، وأصدر في 24/6/1985م وثيقة لجنة الفاتيكان للعَلاقات الدينية التي تضمنت تبرئة سائر أجيال اليهود من دمِ المسيح، كما تضمَّنت الربطَ الوثيق بين اليهود وإسرائيل؛ توطئةً لما قام لاحقًا من علاقات مباشرة ودبلوماسية بينهما. ورافق إصدارَ الوثيقة تعميمٌ جديد يقضي بمزيد من تعليمات الفاتيكان لسائر الكنائس الكاثوليكية؛ لتعديل ما ينبغي تعديلُه من نصوص الصلوات والمناهج المدرسية وغيرها، وفقًا للنصوص البابوية. وزاد على ذلك في 13/4/1986م قيام يوحنا بولس الثاني بزيارة كنيس يهودي في روما، وذلك لأول مرة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية؛ حيث خاطب سَدَنَتَه بقوله: الأحبَّاء الأعزَّاء والإخوة الكبار، وكان بينهم الحاخام الأكبر في الكنيس اليهودي، وقد اعتُبرت خطوةً رئيسة لمزيد من التقارب مع اليهود.
وُلِدَ الشيخ عبد العزيز في الرياض في الثانيَ عَشَرَ من ذي الحِجة سنةَ 1330ه،ـ ونشأ في بيئة علمٍ وصلاحٍ، حفِظ القرآنَ قبل أنْ يبلُغَ سنَّ البلوغ، وكان قد بدأ يضعُفُ بصرُه إثْرَ مرضٍ أصابَه في عينَيْه حتى فقَدَ بصرَه نهائيًّا سنةَ 1350هـ، وعمرُه 20 عامًا، فزاد ذلك من هِمَّته لطلب العلمِ مُلازمًا العلماءَ بذكاءٍ مُفرطٍ، وذاكرةٍ حادَّةٍ، وسرعةِ بَديهةٍ، واستحضارٍ لمسائل العلمِ، معَ ما أُوتيَ من فِراسةٍ، وكان مُتواضِعًا زاهدًا حليمًا، واسعَ الصدرِ، كريمَ الأخلاق، وبرز -رحمه الله- في علومٍ شَتَّى في: التوحيد، والتفسير، والفقه، والأصول، والحديث، والفِرَق والمذاهب، وكان عالمًا ربَّانيًّا، تلقَّى علومَه على يد عدد من المشايخ مثلِ: الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهم، وكان قد عُيِّن قاضيًا في الخَرْج، ثم الدلم، ثم أصبحَ بعد وفاة المفتي ابن إبراهيم مفتيًا للملكة العربية السعودية، وكان قد تولَّى التدريس بعد القضاء في المعهد العلمي بالرياض سنةَ 1372هـ، ثم أصبَحَ رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سنةَ 1395هـ، بعد أنْ كان نائبًا لرئيسها الأسبق ابن إبراهيم، كانت حياته مليئةً بالعلم والتعليم، قدَّم للأمة الإسلامية خلالَها من علمه وفِقهِه ما نفع اللهُ به المسلمين، ممَّا جعلَه إمامَ عصره بحقٍّ، وقد تركَ تُراثًا كبيرًا في شَتَّى العلوم من فتاوى، وشروح، ودروس في الفقه والتوحيد، وغيرها من فنون الإسلام، ومؤلَّفاتُه شاهدةٌ على صفاء ذهنِه وعِلمِه، وقد جُمعت رسائلُه وفتاواه في مجلَّدات، أمَّا وفاته فقد كان يشكو من عدة أمراضٍ -رحمه الله- ثم في ليلة الخميس ضاق نَفَسُه حتى نُقِلَ إلى مُستشفى الملك فَيْصل بالطائف، حيث تُوفيَ هناك في السابع والعشرين من محرم 1420هـ، ثم صُلِّيَ عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمُعة، ودُفنَ في مَقبرةِ العدل، رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.
هو شاعِرُ الزَّمانِ المَشهورُ، أبو الطَّيِّب أحمَدُ بنُ حُسَين بن حسن الجعفي الكوفي, الأديبُ الشهيرُ بالمتنبي. ولد سنة 303 بالكوفة في مَحلَّةٍ تسمى كندة فنُسِبَ إليها، وليس هو من كِندَةَ القبيلة، بل هو جعفيٌّ. قَدِمَ الشامَ في صباه, ثم أقام بالبادية يقتَبِسُ اللغة والأخبار, واشتغل بفنونِ الأدب ومَهَر فيها، وكان من المُكثِرينَ مِن نقلِ اللغة والمطَّلِعينَ على غَريبِها وحواشيها، ولا يُسألُ عن شَيءٍ إلَّا واستشهد فيه بكلامِ العَرَبِ مِن النَّظمِ والنَّثرِ، وكان من أذكياءِ عَصرِه. بلغ الذِّروةَ في النَّظمِ، وأربى على المتقَدِّمين, وسار ديوانُه في الآفاق، واعتنى العُلَماءُ به فشرحوه في أكثَرَ مِن أربعينَ شرحًا ما بين مُطَوَّلات ومُختصَراتٍ، ولم يُفعَلْ هذا بديوانٍ غَيرِه. كما أنَّ له حِكمًا وأمثالًا ومعانيَ مُبتكَرةً, وإنَّما قيل له المتنبِّي؛ لأنَّه ادَّعى النبُوَّةَ في باديةِ السَّماوة، وافتَتَن به بعضُ ضِعافِ العُقولِ، وكَذَب عليهم أنَّه يُوحى إليه قرآنٌ يُؤَلِّفُه مِن نَفسِه وشَيطانِه، وكان لؤلؤ أميرُ حمص من قِبَل الإخشيد قبض عليه ثمَّ أطلقه بعدما استَتابه، وقيل: إنَّه قال: أنا أوَّلُ مَن تنبَّأ بالشِّعرِ. تنقَّلَ في البلاد يمدحُ الأمراءَ مقابِلَ المال، لازم سيفَ الدولةِ كثيرًا ومدح كافور متولِّيَ أعمالِ مِصرَ ثمَّ هجاه ومدح مُعِزَّ الدَّولة البويهي, وقد نال بالشِّعرِ مالًا جليلا, يقال: وصل إليه من ابنِ العميدِ ثلاثون ألف دينار، وناله مِن عَضُدِ الدولة مثلها. كان المتنبي يركَبُ الخيلَ بزِيِّ العَرَب، وله شارةٌ وغِلمانٌ وهَيئةٌ. مدح كافورَ وفي رجليه خُفَّان وفي وسَطِه سيفٌ ومِنطَقةٌ ويركَبُ بحاجبين من مماليكِه وهما بالسُّيوفِ والمناطق، ولَمَّا لم يُرضِه كافور هجَاه وفارَقَه ليلةَ عيدِ النَّحرِ سنة 350، ووجَّهَ كافور خَلْفَه رواحِلَ إلى جِهاتٍ شَتَّى فلم يُلحَقْ، وكان كافور وعده بولايةِ بعضِ أعمالِه، فلمَّا رأى تعاليَه في شِعرِه وسُمُوَّه بنَفسِه، خافه، وعوتِبَ فيه فقال كافور: يا قومِ، مَن ادَّعى النبوَّةَ بعدَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم، أمَا يدَّعي المملكةَ مع كافور؟! فحَسْبُكم! والمتنبي هو القائِلُ: لولا المشقَّةُ ساد الناسُ كُلُّهم... الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتَّالُ, وله عِدَّةُ أبياتٍ فائقة يُضرَبُ بها المثَلُ. وكان مُعجَبًا بنَفسِه, كثيرَ الفَخرِ والتَكبُّرِ, فمُقِتَ لذلك. يقال: إنَّ أبا المتنبِّي كان سَقَّاءً بالكوفةِ، وإلى هذا أشار بعضُ الشُّعَراءِ في هجو المتنبِّي، حيث قال: أيُّ فَضلٍ لشاعرٍ يطلُبُ الفضلَ مِن النَّاسِ بُكرةً وعَشِيَّا * عاش حينًا يبيعُ في الكوفةِ الماءَ، وحينًا يبيعُ ماءَ المُحَيَّا. وخبَرُ قَتْلِه أنَّ فاتِكَ الأسدي في جماعةٍ مِن الأعرابِ اعتَرَضوا المتنبِّي ومَن معه وكانوا متَّجِهينَ إلى بغدادَ قافلينَ مِن شيراز، عند النُّعمانيَّة مِن دير العاقول قُربَ النهروان. فقُتِلَ المتنبي ومعه ابنُه مُحَسَّد وغلامُه مُفلِح, وقيل: لَمَّا فَرَّ أبو الطيِّب حين رأى الغَلَبة، قال له غلامُه: لا يتحَدَّثُ النَّاسُ عنك بالفِرارِ أبدًا وأنت القائِلُ: فالخَيلُ واللَّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني... والحَربُ والضَّربُ والقِرطاسُ والقَلَمُ. فكَرَّ راجعًا حتى قُتِلَ، وكان هذا البيتُ سبَبَ قَتلِه.