هو الملك أبو النصر إسماعيل بن محمد بن علي المراكشي، الملك الثاني لدولة العلويين في مراكش. ولد سنة 1057 بتافيلات التي تقع جنوب شرقي المغرب. كانت الدولة العلوية في عهده أزهى أيامها، وقد نقل عاصمته من مراكش إلى مكناسة، توفِّي بعد أن أمضى في الحكم سبعة وخمسين عامًا، وخلفه ابنُه أحمد.
غزا الأميرُ عبد العزيز بن محمد الأحساءَ ديارَ بني خالد خصومِ الدَّعوةِ، وكانت خيلُهم نحو 30 فرسًا، فأناخ عبد العزيز في مكانٍ يسمى المطيرفي، وهجم على من كان فيه من أهلِها، فقتل منهم سبعين رجلًا، وأخذوا منهم كثيرًا من الأسلحة والأمتعة والدواب. فلما أرادو الرجوعَ إلى نجد أغاروا على المبرز، ونالوا من أهلها.
اتَّفَقَت مماليكُ يلبغا الأجلاب يوم الجمعة سادس صفر على الأميرِ أسندَمُر الناصري أمير كبير أتابك العساكر ومدَبِّر المملكة ونائب السلطنة، وركبوا معهم الأمراء وقت صلاة الجمعة، ودخلوا على أسندمر الناصري وسألوه أن يُمسِكَ جماعة من الأمراء، فمَسَك أزدمر العزي أمير سلاح وجركتمر المنجكي أمير مجلس، وبيرم العزي الدوادار الكبير، وبيبغا القوصوني، والأمير آخور كبك الصرغتمشي الجوكندا، واستمَرَّ المماليك لابسين السلاح، وأصبحوا يوم السبت ومَسَكوا خليل بن قوصون ثم أطلقوه، وانكسرت الفتنةُ إلى عشية النهار وهي ليلة الأحد، وقالوا لأسندمر: نريد عَزْلَ الملك الأشرف، وكان أسندمر مقهورًا معهم، وبلغ الخبَرُ المَلِكَ الأشرف، فأرسل في الحال إلى خليل بن قوصون فحضر، ورَكِبَ الملك الأشرف وركب ابن قوصون ومماليك الأشرف الجميعُ مع أستاذهم، وكانوا نحو المائتين لا غير، وكان الذين اجتمعوا من مماليك يلبغا فوق الألف وخمسمائة، وركِبَ مع الملك الأشرف جماعةٌ مِن الأمراء الكبار مثل أسنبغا ابن الأبو بكري وقشتمر المنصوري في آخرين، وضُرِبَت الكوسات، واجتمع على السلطان خلقٌ كثير من العوام، ولَمَّا بلغ أسندمرَ الناصري ركوبُ الملك الأشرف، أخذ جماعةً من مماليك يلبغا، وطلع من خلف القلعةِ كما فعل أولًا في واقعة آقبغا الجلب، وتقَدَّمت مماليك يلبغا وصَدَموا المماليك الأشرفية وتقاتلوا، وبينما هم في ذلك جاء أسندمر بمن معه من تحت الطبلخاناه كما فعل تلك المرَّة، فعلم به الأشرفيَّة والأمراء، فمالوا عليه فكَسَروه أقبحَ كَسرةٍ وقرب أسندمر، ثم أُمسِكَ وتمَزَّقَت المماليك اليلبغاوية، فلما جيءَ للأشرف بأسندمر وحضر بين يديه شفع فيه الأمراءُ الكبار، فأطلقه السلطان ورسم له أن يكون أتابكًا على عادتِه، ورسم له بالنزول إلى بيتِه بالكبش، ورسم للأمير خليل بن قوصون أن يكون شريكَه في الأتابكية، فنزل أسندمر إلى بيتِه ليلة الاثنين، وأرسل السلطانُ معه الأمير خليل بن قوصون صفةَ الترسيم، وهو شريكُه في وظيفة الأتابكية، ليُحضِرَه في بكرة نهار الاثنين، فلما نزلا إلى الكبش، تحالفَا وخامرا ثانيًا على السلطانِ، واجتمع عند أسندمر وخليل بن قوصون في تلك الليلة جماعةٌ كبيرة من مماليك يلبغا، وصاروا مع أسندمر كما كانوا أولًا، وأصبحا يوم الاثنين وركبا إلى سوق الخيل، فركب السلطانُ بمن معه من الأمراء والمماليك الأشرفية وغيرهم، فالتَقَوا معهم وقاتلوهم وكسَروهم، وقتلوا جماعةً كبيرة من مماليك يلبغا، وهرب أسندمر وابن قوصون واشتغل مماليكُ السلطان والعوام بمَسكِ مماليك يلبغا، يمسِكونَهم ويحضرونهم عرايا مُكَشَّفي الرؤوس، وتوجه فِرقة من السلطانية إلى أسندمر وابن قوصون فقَبَضوا عليهما وعلى ألطنبغا اليلبغاوي وجماعة أُخَر من الأمراء اليلبغاوية، فقُيِّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية، ثم جَلَس الملك الأشرف شعبان في الإيوان وبين يديه أكابِرُ الأمراء، ورسم بتسميرِ جماعةٍ مِن مماليك يلبغا نحوَ المائة وتوسيطِهم- أي: قتلهم- ونفى جماعة منهم إلى الشام، وأخذ مال أسندمر وأنفق على مماليكِه لكُلِّ واحد مائة دينار، ولكُلِّ واحد من غير مماليكِه خمسون دينارًا، ورسم للأمير يلبغا المنصوري باستقراره أتابك العساكر هو والأمير ملكتمر الخازندار، وأنعم على كلٍّ منهما بتقدمة ألف، وأنعم على تلكتمر بن بركة بتقدمة ألفٍ عوضًا عن خليل بن قوصون، وكان ذلك في سادس عشر صفر، ثم أصبح السلطانُ من الغد يوم الثلاثاء سابع عشر صفر قبض على يلبغا المنصوري ورفيقه تلكتمر المحمدي؛ لأنَّهما أرادا الإفراج عن مماليك يلبغا العمري، وقَصَد يلبغا المنصوري أن يسكن بالكبش، فمسكهما الملكُ الأشرف وأرسلهما إلى الإسكندرية، ثم أرسل السلطانُ بطلب الأمير منكلي بغا الشمسي نائب حلب إلى الديار المصرية، فحضرها بعد مدَّة وخَلَع عليه السلطانُ خِلعةَ النيابة بديار مصر، فأبى أن يكون نائبًا، فأنعم عليه بتقدمة ألفٍ وجعله أتابك العساكر، وتولى نيابةَ حلب عِوَضَه طيبغا الطويلُ، وكان أخرجه من سِجنِ الإسكندرية قبل ذلك.
هو خارِجَة بن زَيدِ بن ثابِت، أَحَد الفُقَهاء السَّبعَة بالمَدينَة، رَوَى عن أَبيهِ وعن غيره مِن الصَّحابَة، قال مُصعَبُ بن الزُّبير: كان خارِجَة بن زَيدٍ، وطَلحَة بن عبدِ الله بن عَوْف في زَمانِهِما يُسْتَفْتَيان، ويَنتَهِي النَّاسُ إلى قَولِهِما، ويَقْسِمان المَواريثَ بين أَهلِها مِن الدُّورِ والنَّخيل والأَموال، ويَكْتُبان الوَثائِقَ للنَّاسِ.
انهَزمَ بركيارق مِن عَسكرِ عَمِّهِ تتش. وكان بركيارق بنصيبين، فلمَّا سَمِعَ بمَسيرِ عَمِّهِ إلى أذربيجان، سار هو من نصيبين، وعَبَرَ دِجلةَ مِن بَلدٍ فوقَ المَوصِل، وسار إلى إربل، ومنها إلى بلدِ سرخاب بن بدرٍ إلى أن بَقِيَ بينه وبين عَمِّهِ تِسعةُ فَراسِخ، ولم يكُن معه غيُر ألف رَجُلٍ، وكان عَمُّه في خمسين ألف رَجُلٍ، فسارَ الأَميرُ يعقوبُ بن آبق مِن عَسكرِ عَمِّه، فكَبَسَهُ وهَزَمهُ، ونَهبَ سَوادَه، ولم يَبقَ معه إلا برسق، وكمشتكين الجاندار، واليارق، وهُم مِن الأُمراءِ الكِبارِ، فسار إلى أصبهان. فمَنَعَه مَن بِها مِن الدُّخولِ إليها، ثم أَذِنوا له خَديعةً منهم لِيَقبِضوا عليه، فلمَّا قارَبَها خَرجَ أَخوهُ المَلِكُ محمودٌ فلَقِيَهُ، ودَخلَ البلدَ، واحتاطوا عليه، فاتَّفقَ أنَّ أَخاهُ مَحمودًا حُمَّ وجُدِرَ، فأرادَ الأُمراءُ أن يَكحَلوا بركيارق، فماتَ محمودٌ آخر شَوَّال، فكان هذا مِن الفَرَجِ بعدَ الشِّدَّةِ، وجَلسَ بركيارق للعَزاءِ بأَخيهِ، ثم إن بركيارق جُدِرَ، بعدَ أَخيهِ، وعُوفِيَ وسَلِمَ، فلمَّا عُوفِيَ كاتَبَ مُؤَيِّدُ المُلْكِ وَزيرُه أُمراءَ العِراقيِّين، والخُراسانيِّين، واستَمالَهم، فعادوا كُلُّهم إلى بركيارق، فعَظُمَ شَأنُه وكَثُرَ عَسكرُه.
سار ألب أرسلان من مرو إلى رايكان، فنَزلَ بظاهِرِها، ومعهُ جَماعةُ أُمراءِ دَولتِه، فأَخَذَ عليهم العُهودَ والمَواثِيقَ لِوَلَدِهِ ملكشاه بأنَّه السُّلطانُ بعدَه، وأَركبَه، ومشى بين يَديهِ يَحمِلُ الغاشيةَ، وخَلعَ السُّلطانُ على جَميعِ الأُمراءِ، وأَمرَهُم بالخُطبةِ له في جميعِ البلادِ التي يَحكُم عليها، ففعل ذلك، وأَقطَع البِلادَ، فأَقطَع مازندران للأَميرِ إينانج بيغو، وبلخ لأخيه سُليمان بن داود جغري بك، وخوارزم لأخيه أرسلان أرغو، ومرو لابنِه الآخر أرسلان شاه، وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس، ووِلايةَ بغشور ونواحيها لِمَسعودِ بن أرتاش، وهو من أَقاربِ السُّلطانِ، ووِلايةَ أسفرار لِمَوْدُودِ بن أرتاش.
استولى الفرنج البرتغال على آصيلا بالمغرب وظفروا فيها ببيت مال الوطاسي، وأسروا ولده محمدًا المدعو بالبرتغالي وابنته وزوجتيه وجماعة من الأعيان، وكان الخَطْبُ عظيمًا، وتمكن أبو عبد الله محمد الشيخ الوطاسي من عقد هدنة افتك فيها أهل بيته عدا ولده بقي عند البرتغال سبع سنين ثم افتكَّه والده بعدُ وكان يوم أُسر صبيًّا صغيرًا
عِزُّ الدين أيبك الجاشنكير التركماني الصالحي تركي الأصلِ والجنس، انتقل إلى مِلكِ السلطان المَلِك الصالحِ نجم ِالدين أيوب من بعض أولاد التركماني، فعُرِفَ بين المماليك البحريَّة بأيبك التركماني، وترقى عنده في الخَدَم، حتى صار أحدَ الأمراء الصالحية، وعَمَلُه جاشنكيرا - متذوّق الطعام السُّلطان- وهو من أخَصِّ موظفي القصر السلطاني إلى أن مات الملك الصالح، وبعد قَتْلِ ابنه توران شاه توَلَّت شجرة الدر السلطنة ومعها عزُّ الدين أيبك، ولما وصل الخبَرُ بذلك بغداد، بعث الخليفةُ المستعصم بالله من بغداد كتابًا إلى مصر، وهو ينكِرُ على الأمراء ويقولُ لهم: إن كانت الرجالُ قد عَدِمَت عندكم، فأعلِمونا حتى نسَيِّرَ إليكم رجلًا، واتفق ورودُ الخبر باستيلاء الملك الناصِرِ على دمشق، فاجتمع الأمراءُ والبحريَّة للمشورة، واتَّفَقوا على إقامة الأمير عزِّ الدين أيبك مُقَدَّم العسكر في السلطنة، ولَقَّبوه بالملك المعز وكان مشهورًا بينهم بدينٍ وكَرَمٍ وجَودةِ رأي، فأركبوه في يومِ السبت آخر شهر ربيع الآخر، وحمل الأمراءُ بين يديه الغاشية –غطاءً للسرج من جلد مخروز بالذهب يُحمَل أمام السلطان- نوبًا واحدًا بعد آخَرَ إلى قلعة الجبل، وجلَسُوا معه على السماط، ونودي بالزينةِ فزُيِّنَت القاهرة ومصر، فورد الخبَرُ في يوم الأحد تاليه تسليم الملك المغيث عمر الكرك والشوبك، وبتسلُّم الملك السعيد قلعة الصبيبة، فلما كان بعد ذلك تجمَّع الأمراء، وقالوا: لا بد من إقامة شخصٍ مِن بيت الملك مع المعِزِّ أيبك ليجتَمِعَ الكل على طاعتِه ويطيعه الملوكُ مِن أهله، فاتفقوا على إقامة المَلِك شرف مظفر الدين موسى بن الملك المسعودِ- ويقال له الناصر صلاح الدين- يوسف بن الملك المسعود يوسف - المعروف باسم القسيس - بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وله من العمر نحو ستُّ سنين، شريكًا للمَلِك المعز أيبك، وأن يقوم المَلِك المعز بتدير الدولة، فأقاموه سلطانًا في ثالث جمادى الأولى، وجلس على السماط وحضر الأمراء، فكانت المراسيمُ والمناشير تخرج عن الملكين الأشرف والمعز، إلا أن الأشرف ليس له سوى الاسم في الشركة لا غير ذلك، وجميعُ الأمور بيد المعز أيبك، فلما ورد الخبَرُ بذلك نودي في القاهرة ومصر أن البلادَ للخليفةِ المستعصم بالله العباسي، وأن المَلِكَ المعز عز الدين أيبك نائبُه بها، وذلك في يوم الأحد سادسه، ووقع الحثُّ في يوم الاثنين على خروج العساكِر، وجُدِّدَت الأيمان للمَلِك الأشرف موسى والملك المعز أيبك، وأن يبرز اسمُهما على التواقيع والمراسيم، ويُنقَش اسمُهما على السكة، ويُخطَب لهما على المنابر، وكانت شجرةُ الدر قد تزوجت الأمير عز الدين أيبك، في تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وخَلَعَت شجرة الدر نفسَها من مملكة مصرَ، ونزلت له عن المُلْك، فكانت مُدَّة دولتِها ثمانين يومًا.
في الخامس من رجب حصل بين المماليك الأجلاب وبعض الأمراء مناوشات، وكان عند السلطان جماعة من خشداشيته الأمراء، والسلطان ومن عنده كالمأسورين في يد الأجلاب، ثم تفرق الأجلاب إلى الأطباق بقلعة الجبل، ولبسوا آلة الحرب وعادوا إلى القصر بقوة زائدة وأمر كبير، وتوجه بعضهم لإحضار الخليفة، وتوجه بعضهم لنهب الحريم السطاني بداخل الدور، ودخل على السلطان ثلاثة أنفار منهم وهم ملثَّمون، وأرادوا منه أن يقوم وينزل إلى المخبأة التي تحت الخرجة، فامتنع قليلًا، ثم قام معهم مخافةً من الإخراق، وأخذوه وأنزلوه إلى المخبأة من غير إخراق ولا بهدلة، وأنزلوا فرشًا ومقعدًا، ونزل معه بعض مماليكِه وبعض الأجلاب أيضًا، وأغلقوا عليه الطابقة، وأخذوا النمجة والدرقة والفوطة ودفعوهم إلى خير بك، بعد أن أطلقوا عليه اسم السلطان، وقبَّل له الأرض جماعةٌ من أعيان الأمراء، وقيل إنهم لقبوه بالملك العادل، كل ذلك بلا مبايعة ولا إجماع الكلمة على سلطنته، بل بفعل هؤلاء الأجلاب الأوباش، غير أن خير بك لما أخذ النمجة والدرقة حدثته نفسه بالسلطنة، وقام وأبعد في تدبير أمره وتحصينِ القلعة، وبينما هو في ذلك فرَّ عنه غالب أصحابه الكبار مثل خشكلدي ومغلباي وغيرهما، فعند ذلك لم يجد خير بك بدًّا من الإفراج عن الملك الظاهر تمربغا ومن معه من خشداشيته ومماليكه، فأخرجوهم ونزل خير بك على رجل الملك الظاهر تمربغا يقبِّلُها، ويبكي ويسأله العفو عنه، وقد أبدى من التضرع أنواعًا كثيرة، فقَبِل السلطان عذره، هذا وقد جلس السلطان الملك الظاهر تمربغا موضع جلوس السلطان على عادته، وأخذ النمجة والدرقة، وقد انهزم غالب الأجلاب، ونزلوا من القلعة لا يلوي أحد منهم على أحد، كل ذلك والأتابك قايتباي بمن معه من الأمراء بالرملة، فلما تم جلوس الملك الظاهر تمربغا بالقصر على عادته، أمر من كان عنده من أكابر الأمراء بالنزول إلى الأتابك قايتباي لمساعدته، ولما تم أمر الأتابك قايتباي من قتال الأجلاب وانتصر، طلع من باب السلسلة، وجلس بمقعد الإسطبل بتلك العظمة الزائدة فكلَّمه بعض الأمراء في السلطنة، وحسَّنوا له ذلك، فأخذ يمتنع امتناعًا ليس بذاك، إلى أن قام بعضهم وقبَّل الأرض له، وفعل غيره كذلك، فامتنع بعد ذلك أيضًا، فقالوا: ما بقي يفيد الامتناع، وقد قبَّلنا لك الأرض، فإمَّا تذعن وإما نسلطن غيرك، فأجاب عند ذلك، فلما تمَّ أمر الأتابك قايتباي في السلطنة، طلع الأمير يشبك بن مهدي الظاهري الكاشف بالوجه القبلي إلى الملك الظاهر تمربغا، وعرَّفه بسلطنة قايتباي، وأخذه ودخل به إلى خزانة الخرجة الصغيرة فكانت مدة سلطنته ثمانية وخمسين يومًا، وحضر الخليفة والقضاة، وبايعوا الأتابك قايتباي بالسلطنة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي، ونودي في الحال بسلطنته بشوارع القاهرة، وتلقب بالملك الأشرف قايتباي المحمودي.
وصَلَ السلطانُ بيبرس إلى المدينة النبويَّةِ في خامس عشر من ذي القعدة، فلم يقابِلْه جماز ولا مالك أميرا المدينة وفَرَّا منه، ورحل منها في سابع عشر، وأحرم فدخل مكَّةَ في خامس ذي الحجة، وأعطى خواصَّه جملةً من المال ليفَرِّقوها سرًّا، وفرق كساويَ على أهل الحرمينِ وصار كواحدٍ مِن الناس، لا يحجُبُه أحَدٌ ولا يحرُسُه إلا الله، وهو منفَرِدٌ يصلي ويطوف ويسعى، وغَسَلَ البيتَ، وصار في وسط الخلائق، وكلُّ من رمى إليه إحرامَه غَسَلَه وناولَه إيَّاه، وجلس على باب البيت، وأخذ بأيدي النَّاسِ ليُطلِعَهم إلى البيت، فتعلَّق بعض العامَّة بإحرامه ليَطلَعَ فقَطَعه، وكاد يرمي السُّلطانَ إلى الأرض، وهو مستبشر بجميعِ ذلك، وعَلَّق كسوة البيت بيده وخواصِّه، وتردد إلى مَن بالحرمين من الصالحين، هذا وقاضي القضاة صدر الدين سليمان بن عبد الحق الحنفي مرافِقُه طول الطريق، يستفتيه ويتفهَّمُ منه أمر دينه، ولم يغفُل السلطان مع ذلك تدبيرَ الممالك، وكتاب الإنشاء تكتُبُ عنه في المهمات، وكتب إلى صاحِبِ اليمن كتابًا ينكر عليه أمورًا، ويقول فيه: سطرتُها من مكة المشرَّفة، وقد أخذت طريقها في سبع عشرة خطوة يعني بالخطوة المغزلة، ويقول له: الملك هو الذي يجاهِدُ في الله حَقَّ جهاده، ويبذلُ نَفسَه في الذبِّ عن حوزةِ الدين، فإن كنتَ ملكًا فأخرج التتارَ، وأحسَن السلطانُ إلى أميري مكة، وهما الأمير نجم الدين أبي نمي والأمير إدريس بن قتادة، وإلى أمير ينبُع وأمير خليص وأكابر الحجاز، وكتب منشورين لأميري مكَّة، فطلبا منه نائبًا تقوى به أنفسُهما، فرتَّبَ الأمير شمس الدين مروان نائب أمير جاندار بمكة، يرجع أمرُهما إليه ويكون الحَلُّ والعقد على يديه، وزاد أميري مكة مالًا وغِلالًا في كلِّ سنة بسبَبِ تسبيل البيتِ للنَّاسِ، وزاد أمراءَ الحجاز إلَّا جمازًا ومالكًا أميري المدينة، فإنهما انتزحا من بين يديه، وقضى السلطانُ مَناسِكَ الحج وسار من مكَّةَ في الثالث عشر، فوصل إلى المدينة في العشرينَ منه، فبات بها وسار من الغدِ، فجَدَّ في السير ومعه عدةٌ يسيرة حتى وصل إلى الكرك بُكرةَ يوم الخميس آخره، ولم يعلم أحدٌ بوصوله إلا عند قبر جعفر الطيَّار بمؤتة، فالتَقَوه هناك، ودخل السلطانُ مدينة الكرك وهو لابس عباءةً، وقد ركب راحلةً، فبات بها ورحل من الغد.
لما استقلَّ السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي بأمر السوس، واجتمعت الكلمةُ عليه؛ صرفَ عَزمَه إلى جهاد العدوِّ الذي بثغوره وحصونه، وأرهف حدَّه لتطهيرها من بقايا شغبه، فانتصر عليهم واستأصل شأفتَهم وقطع من تلك النواحي دابِرَهم، وحسم آفتَهم، ففتح حصن فونتي الذي بناه البرتغاليون بالسوس بعد أن أقاموا فيه اثنتين وسبعين سنة، وكان السلطان السعدي منصورًا بالرعب!
هو هارونُ الرَّشيدُ أميرُ المؤمنينَ ابنُ المهديِّ محمد بن أبي جعفر المنصور، أبو محمد، ويقال أبو جعفر. وأمُّه الخَيزُران أمُّ ولَدٍ. كان مولِدُه في شوَّال سنة 147هـ وقيل غيرُ ذلك, وبويِعَ له بالخلافةِ بعد موت أخيه الهادي في ربيع الأوَّل سنة 170هـ، بعهدٍ مِن أبيه المهدي. وكان الرشيدُ أبيضَ طويلًا سمينًا جَميلًا، وقد غزا الصائفةَ في حياة أبيه مرارًا، وعقد الهدنةَ بين المسلمين والرومِ بعد محاصرتِه القُسطنطينيَّة، ثمَّ لَمَّا أفضَت إليه الخلافةُ في سنة سبعين كان من أحسَنِ النَّاسِ سِيرةً وأكثَرِهم غَزوًا وحَجًّا، وكان يتصَدَّقُ مِن صُلبِ مالِه في كلِّ يومٍ بألفِ دِرهمٍ، وإذا حَجَّ أحَجَّ معه مائةً من الفُقَهاء وأبنائِهم، وإذا لم يحُجَّ أحَجَّ ثلاثَمائة بالنَّفقةِ السابغةِ والكُسوةِ التَّامَّة، وكان يحِبُّ التشَبُّهَ بجَدِّه أبي جعفرٍ المنصورِ إلَّا في العطاءِ؛ فإنَّه كان سريعَ العَطاءِ، جزيلَه، وكان يحِبُّ الفُقَهاءَ والشُّعَراءَ ويُعطيهم. كان هارونُ الرَّشيد قد سار إلى خراسانَ لقِتالِ رافِعِ بنِ الليثِ، وكان مريضًا ثم اشتَدَّ مَرَضُه عند دخولِهم طوس- قرية من قرى سناباذ- ومات ودفُنَ فيها عن عمر سبع وأربعين سنة, بعد أن دامَت خلافتُه عشرين عامًا، وقيل: ثلاثةً وعشرين, وقد كانت حافِلةً بالفتوحِ والعِمارة.
هو الظاهِرُ لإعزازِ دينِ الله أبو الحَسَن عليُّ بن أبي علي المنصور الحاكم الفاطمي العُبيدي الإسماعيليُّ الباطنيُّ, أمُّه أم ولد تدعى رقية، وُلِدَ بالقاهرة سنة 395، وبويع بالحُكمِ بعد أبيه في يوم عيد الأضحى سنة 411، وله من العمرِ 16 سنة و3 أشهر، وكان له مِصرُ، والشام، والخطبة له بإفريقيَّة، وكان جميلَ السِّيرةِ، حَسَن السياسةِ، مُنصِفًا للرعية، إلَّا أنَّه مُشتَغِلٌ بلذَّاته محِبٌّ للدَّعَة والراحة، قد فوَّض الأمورَ إلى وزيره أبي القاسِمِ عليِّ بنِ أحمد الجرجرائي- وكان مقطوعَ اليدينِ مِن المِرفَقينِ- لِمَعرفته بكفايته وأمانته، في سنة ثماني عشرة، فاستمَرَّ في الوزارة مدةَ ولايةِ الظاهر، ثمَّ لوَلَده المُستنصِر، توفِّي الظاهِرُ في منتصف شعبان بمصر وكان عمُره ثلاثًا وثلاثين سنة، وكانت مُدَّة حُكمِه خَمسَ عشرة سنة وتسعةَ أشهر وسبعة عشر يومًا، ولَمَّا مات الظاهِرُ ولِيَ بعده ابنُه تميم معد، ولقب المستنصر بالله، وتكَفَّل بأعباء المملكة بين يديه الأفضَلُ أميرُ الجيوش، واسمُه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان عمرُ المستنصرِ يومَ نُصِّبَ حاكِمًا سبعَ سنينَ وعِدَّة أشهر، وبقي حاكمًا أكثَرَ مِن ستين سنةً.
كان العباسُ بنُ المأمون مع عَمِّه المعتَصِم في غزوةِ عَمُّورية، وكان عجيفُ بن عنبسة قد نَدَّمَه إذ لم يأخُذ الخلافةَ بعد أبيه المأمونِ، ولامَه على مبايعتِه عَمَّه المعتصِمَ ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمِّه وأخذِ البيعةِ من الأمراء له، وجهَّزَ رجلًا يقال له الحارِثُ السَّمَرقندي وكان نديمًا للعبَّاسِ، فأخذ له البيعةَ مِن جماعةٍ مِن الأمراء في الباطنِ، واستوثَقَ منهم وتقَدَّم إليهم أنَّه يلي الفتكَ بعَمِّه، فلما فتحوا عَمُّوريَّة واشتغل الناسُ بالمغانم، أشار عليه أن يقتُلَه، فوعده مَضِيقَ الدَّربِ إذا رجَعوا، فلما رجعوا فَطِنَ المعتَصِمُ بالخبَرِ، فأمر بالاحتفاظِ وقُوَّةِ الحَرَس وأخذَ بالحَزمِ، واجتهد بالعزمِ، واستدعى بالحارِثِ السَّمرقنديِّ فاستقَرَّه فأقَرَّ له بجُملةِ الأمر، وأخْذِ البيعةِ للعبَّاسِ بنِ المأمون من جماعةٍ مِن الأمراء أسماهم له، فاستكثَرَهم المعتَصِمُ واستدعى بابنِ أخيه العبَّاسِ فقَيَّده وغَضِبَ عليه وأهانه، ثم أظهَرَ له أنه قد رَضِيَ عنه وعفا عنه، فأرسَلَه مِن القيدِ وأطلق سراحَه، فلما كان من اللَّيلِ استدعاه واستحكاه عن الذي كان قد دبَّرَه من الأمر، فشرَحَ له القضيَّةَ، وذكر له القِصَّةَ، فإذا الأمرُ كما ذكر الحارِثُ السمرقندي. فلما أصبح استدعى بالحارثِ فأخلاه وسأله عن القضيَّة ثانيًا فذكَرَها له كما ذكرها أوَّلَ مَرَّة، فقال: وَيحَك، إنِّي كنتُ حريصا على ذلك، فلم أجِدْ إلى ذلك سبيلًا بصِدقِك إيَّأي في هذه القِصَّة. ثم أمر المعتَصِمُ حينئذٍ بابن أخيه العبَّاسِ فقُيِّدَ وسُلِّمَ إلى الأفشين، وأمر بعجيف وبقيَّة الأمراءِ الذين ذكرهم فاحتفظَ عليهم، ثم أخَذَهم بأنواعِ النِّقْمات التي اقتَرَحها لهم، فقتَلَ كُلَّ واحدٍ منهم بنوعٍ لم يَقتُل به الآخرَ، ومات العباسُ بنُ المأمون بمنبج، فدفن هناك، وكان سبَبُ موتِه أنَّه أجاعه جوعًا شديدًا، ثم جيءَ بأكلٍ كثيرٍ، فأكلَ منه وطلَبَ الماءَ فمُنِعَ حتى مات، وأمر المعتَصِمُ بلَعْنِه على المنبرِ وسمَّاه اللَّعينَ.
كثُرَ تنافرُ الأمراء واختلافهم، وانقطع نوروز، وجكم الجركسي الظاهري، وقنباي، عن الخدمة، ودخل شهر رمضان وانقضى، فلم يحضروا للهناء بالعيد، ولا صلَّوا صلاة العيد مع السلطان، فلما كان يوم الجمعة ثاني شوال ركبوا للحرب، فنزل السلطان من القصر إلى الإسطبل عند سودن طاز، وركب نوروز وجكم وقنباي، وقرقماس الرماح، ووقعت الحربُ من بكرة النهار إلى العصر، ورأس الأمراءَ نوروز وجكم، وخصمهم سودن طاز، فلما كان آخر النهار بعث السلطان بالخليفةِ المتوكل على الله وقضاة القضاة الأربع إلى الأمير الكبير نوروز في طلب الصلح، فلم يجد بدًّا من ذلك، وترك القتال، وخلع عنه آلة الحرب، فكفَّ الأمير جكم الدوادار أيضًا عن الحرب، وعد ذلك مكيدةً من سودن طاز، فإنه خاف أن يغلِبَ ويُسَلِّمَه السلطان إلى الأمراء، فأشار عليه بذلك حتى فعله، فتمَّت مكيدته بعدما كاد أن يؤخذ؛ لقوة نوروز وجكم عليه، وبات الناس في هدوء، فلما كان يوم السبت الغد ركب الخليفة وشيخ الإسلام البلقيني، وحلَّفوا الأمراء بالسمع والطاعة للسلطان، وإخماد الفتنة، فطلع الأمير نوروز إلى الخدمة في يوم الاثنين خامسه، وخُلِعَ عليه، وأُركِبَ فرسًا خاصًّا بسرج، وكنفوش ذهب، وطلع الأمير جكم في ثامنه وهو خائف، ولم يطلع قنباي، ولا قرقماس، وطُلِبا فلم يُوجَدا، وجُهِّز إليهما خلعتان، على أن يكون قنباي نائبًا بحماة، وقرقماس حاجبًا بدمشق، ونزل جكم بغير خِلعة حنقًا وغضبًا، فما هو إلا أن استقر في داره، ونزل إليه سرماش رأس نوبة، وبشباي الحاجب بطلب قنباي، ظنًّا أنه اختفى ليلبس الخلعة بنيابة حماة، فأنكر أن يكون عنده وصرفهما، وركب من ليلته بمن معه من الأمراء والمماليك وأعيانهم قمش الخاصكي الخازندار، ويشبك الساقي، ويشبك العثماني، وألطبغا جاموس، وجانباي الطيبي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي الدوادار، وصاروا كلهم على بركة الحبش خارج مصر، ولحق به الأمير قنباي، وقرقماس الرماح، وأرغز، وغنجق، ونحو الخمسمائة من مماليك السلطان، وأقاموا إلى ليلة السبت عاشره، فأتاهم الأمير نوروز، والأمير سودن من زاده رأس نوبة، والأمير تمربغا المشطوب، في نحو الألفين، فسُرَّ بهم، وأقاموا جميعًا إلى ليلة الأربعاء، وأمرُهم يزيد ويقوى بمن يأتيهم من الأمراء والمماليك، فنزل السلطان من القصر في ليلة الأربعاء الرابع عشر إلى الإسطبل عند سودن طاز، وركب بكرةَ يوم الأربعاء فيمن معه، وسار من باب القرافة بعد ما نادى بالعرض، واجتمع إليه العسكر كله، وواقع جكم ونوروز، وكسرهما، وأسَرَ تمربغا المشطوب، وسودن من زاده، وعلى بن أينال، وأرغر، وفرَّ نوروز وجكم في عدة كبيرة يريدون بلاد الصعيد، وعاد السلطان ومعه الأمير سودن طاز إلى القلعة مُظفَّرًا منصورًا، وبعث بالأمراء المأسورين إلى الإسكندرية في ليلة السبت السابع عشر، وانتهى نوروز وجكم إلى منية القائد وعادوا إلى طموه، ونزلوا على ناحية منبابه من بر الجيزة تجاه القاهرة، فمنع السلطان المراكبَ أن تعديَ بأحدٍ منهم في النيل، وطلب الأمير يشبك الشعباني من الإسكندرية، فقدم يوم الاثنين التاسع عشر إلى قلعة الجبل، ومعه عالم كبير ممن خرج إلى لقائه، فباس الأرض ونزل إلى داره، وفي ليلة الثلاثاء عِشرينه: ركب الأمير نوروز نصف الليل، وعدى النيل، وحضر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس الأتابك، وكان قد تحدَّث هو والأمير إينال باي بن قجماس له مع السلطان، حتى أمنه ووعده بنيابة دمشق، وكان ذلك من مكر سودن طاز، فمشى ذلك عليه، حتى حضر فاختلَّ عند ذلك أمر جكم وتفرَّق عنه من معه، وفرَّ عنه قنباي وصار فريدًا، فكتب إلى الأمير بيبرس الأتابك يستأذنه في الحضور، فبعث إليه الأمير أزبك الأشقر رأس نوبة، والأمير بشباي الحاجب، وقدما به ليلة الأربعاء في الحادي والعشرين إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، فتسلَّمه عدوه الأمير سودن طاز وأصبح وقد حضر يشبك وسائر الأمراء للسلام عليه، فلما كانت ليلة الخميس الثاني والعشرين قُيِّدَ وحمل في الحراقة -سفينة- إلى الإسكندرية، فسُجِن بها حيث كان الأمير يشبك مسجونًا، وفي يوم الخميس هذا خرج المحمَلُ وأمير الحاج نكباي الأزدمري، أحد أمراء الطبلخاناه، وكان قد ألبس الأمير نوروز تشريف نيابة دمشق في بيت الأمير بيبرس يوم الأربعاء، فقُبِض عليه من الغد يوم الخميس، وحُمل إلى باب السلسلة، وقُيِّد وأخرج في ليلة الجمعة الثالث والعشرين إلى الإسكندرية، فسُجِن بها أيضًا، وغضب الأميران بيبرس وإينال باي، وتركا الخدمة السلطانية أيامًا، ثم أُرضيا، واختفى الأميران قانباي وقرقماس، فلم يُعرَف خبرهما.