سَيَّرَ عبدُ الملك بن مَرْوان الحَجَّاج بن يوسُف الثَّقفيَّ إلى عبدِ الله بن الزُّبير رضي الله عنه، وبعَث معه له أمانًا إنْ هو أطاعَ، فبَقِيَ الحَجَّاج مُدَّةً في الطَّائفِ يَبعَثُ البُعوثَ تُقاتِل ابنَ الزُّبير وتَظْفَرُ عليه. فكتَب الحَجَّاجُ إلى عبدِ الملك يُخبِرُه: بأنَّ ابنَ الزُّبير قد كَلَّ وتَفَرَّق عنه أَصحابُه, ويَسْتَأذِنُه بمُحاصَرةِ الحَرَمِ ثمَّ دُخولِ مكَّة، فأَمَدَّهُ عبدُ الملك بطارِقِ الذي كان يُحاصِر المدينةَ، ولمَّا حَصَرَ الحَجَّاجُ ابنَ الزُّبير نَصَبَ المَنْجَنيقَ على أبي قُبَيْسٍ ورَمَى به الكَعبةَ، وكان عبدُ الملك يُنْكِر ذلك أيَّامَ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، ثمَّ أَمَرَ به، وحَجَّ ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما تلك السَّنةَ فأَرسَل إلى الحَجَّاجِ: أنِ اتَّقِ الله، واكْفُفْ هذه الحِجارةَ عن النَّاسِ؛ فإنَّك في شَهْرٍ حَرامٍ وبَلَدٍ حَرامٍ، وقد قَدِمَت وُفودُ الله مِن أَقطارِ الأرضِ لِيُؤَدُّوا فَريضةَ الله ويَزْدادوا خيرًا، وإنَّ المَنْجنيق قد منعهم عن الطَّوافِ، فاكْفُفْ عن الرَّمْيِ حتَّى يَقْضوا ما يجب عليهم بمكَّة. فبَطَّلَ الرَّمْيَ حتَّى عاد النَّاسُ مِن عَرَفات وطافوا وسَعَوْا، ولم يَمْنَعْ ابنُ الزُّبير الحاجَّ مِن الطَّوافِ والسَّعْيِ، فلمَّا فرَغوا مِن طَوافِ الزَّيارةِ نادَى مُنادِي الحَجَّاجِ: انْصَرِفوا إلى بِلادِكم، فإنَّا نَعودُ بالحِجارَةِ على ابنِ الزُّبيرِ المُلْحِدِ. فأصاب النَّاسَ بعد ذلك مَجاعةٌ شديدةٌ بسَببِ الحِصارِ، فلمَّا كان قُبَيْلَ مَقْتَلِه تَفَرَّقَ النَّاسُ عنه، وخَرجوا إلى الحَجَّاجِ بالأمانِ، خرَج مِن عنده نحو عشرةِ آلاف، وكان ممَّن فارَقَه ابْناهُ حَمزةُ وخُبيبٌ، وأَخَذا لِأَنْفُسِهما أَمانًا، فقال عبدُ الله لابْنِه الزُّبيرِ: خُذْ لِنَفسِك أمانًا كما فعل أَخَواك، فَوَالله إنِّي لأُحِبُّ بَقاءَكُم. فقال: ما كنتُ لِأَرْغَبَ بِنَفسِي عنك. فصَبَر معه فقُتِلَ وقاتَلهم قِتالًا شديدًا، فتَعاوَرُوا عليه فقَتَلوهُ يومَ الثُلاثاءِ مِن جُمادَى الآخِرة وله ثلاثٌ وسبعون سَنةً، وتَوَلَّى قَتْلَهُ رجلٌ مِن مُرادٍ، وحمَل رَأسَهُ إلى الحَجَّاج، وبعَث الحَجَّاجُ بِرَأسِه، ورَأسِ عبدِ الله بن صَفوان، ورَأسِ عُمارةَ بن عَمرِو بن حَزْمٍ إلى المدينةِ، ثمَّ ذهَب بها إلى عبدِ الملك بن مَرْوان، وأخَذ جُثَّتَهُ فصَلَبَها على الثَّنِيَّةِ اليُمْنَى بالحُجُونِ، ثمَّ بعدَ أن أَنْزَلَهُ الحَجَّاجُ عن الخَشبةِ بعَث به إلى أُمِّه، فغَسَّلَتْهُ، فلمَّا أَصابَهُ الماءَ تَقَطَّعَ، فغَسَّلَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا فاسْتَمْسَك، وصلَّى عليه أخوه عُروةُ، فَدَفَنَتْهُ.
هو أبو الفتوح الملك الصَّالح إسماعيلُ- صاحب حلب- بن نور الدين محمود بن الأتابك زنكي, وصى له والده محمود بمملكته وهو ابن إحدى عشرة سنة، فملَّكوه بدمشق، وحلفوا له بحلب، فأقبل صلاح الدين من مصر، وأخذ منه دمشق، فترحل إسماعيل إلى حلب، وكان شابًا ديِّنًا خَيِّرًا، عاقلًا بديع الجمال، محبَّبًا إلى الرعية وإلى الأمراء، ثم سار السلطان صلاح الدين، وحاصر حلب مُدَّةً، ثم ترحل عنها، ثم حاصرها، فصالحوه، وبذلوا له المعرَّةَ وغيرها، ثم نازل حلب ثالثًا، فبذل أهلُها الجهد في نصرة الملك الصالح، فلما ضَجِرَ السلطان، صالَحَهم وترحل، وأخرجوا إليه بنت نور الدين، فوَهَبها عزاز- بليدة قريبة من حلب- وكان تدبير مملكة حلب إلى أم الملك الصالح، وإلى شاذبخت الخادم وابن القيسراني. تعلل الملك الصالحُ بقولنج خمسة عشر يومًا، "فلما اشتد به المرض عَرَض عليه طبيبه خمرًا للتداوي، فأبى، وقال: قد قال نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله لم يجعَلْ شفاءَ أمتي فيما حَرَّمَ عليها))، ولعلي أموتُ وهو في جوفي. ولما اشتد مرضُه أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصَّاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إنَّ عماد الدين ابن عمك أيضًا، وهو زوجُ أختك، وكان والدُك يحِبُّه ويؤثره، وهو تولى تربيتَه، وليس له غير سنجار، فلو أعطيتَه البلد لكان أصلحَ، وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغِبْ عني، ولكن قد عَلِمتُم أن صلاح الدين قد تغلَّبَ على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سَلَّمتُ حلب إلى عماد الدين يعجِزُ عن حفظها، وإن ملكها صلاحُ الدين لم يبق لأهلنا معه مقامٌ، وإنْ سَلَّمتُها إلى عز الدين أمكَنَه حِفظُها بكثرة عساكره وبلادِه، فاستحسنوا قوله، وعجبوا من جودة فطنته مع شِدَّةِ مَرَضِه وصِغَرِ سنه. توفي في رجب، وعمره نحو تسع عشرة سنة, ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراءَ عنده من حلب، فحضروا وساروا جميعًا إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، فأقام أتابك عز الدين مسعود بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقَّة.
هو أبو سعيدٍ الحسَنُ بنُ بهرام الجنابي القرمطي- قَبَّحه اللهُ- أخذ القرمطةَ عن حمدانَ بنِ قرمط, وهو رأسُ القرامطة، ظهر سنة 286 بالبحرين، فدعا الناسَ إلى مذهبِه القرمطي، واجتذب إليه اللُّصوصَ وقُطَّاعَ الطُّرُقِ، واشتَدَّ خَطَرُه، فاستولى على اليمامة وعمان وهَجَر والقَطيف، قاتَلَه جيشُ المعتَضِد فهَزَم الجيشَ وقَتَلَهم سوى قائِدِهم، ترَكَه ليُخبِرَ الخليفة بما رآه منه، كان موتُ أبي سعيد في الحمَّام، قتَلَه خادِمٌ صقلبيٌّ له كان قد أسَرَه فيمن أسَرَ، وكان شجاعًا قويًّا جَلْدًا, فحَسُنَت منزلتُه عنده حتى صار على طعامِه وشَرابِه. وكان الخادِمُ ينطوي على إسلامٍ، فلم يرَ أبا سعيدٍ يُصَلِّي صلاةً، ولا صام شهرَ رمضان. فأبغَضَه وأضمَرَ قَتْلَه، فخلَّاه وقد دخل حمامًا في الدار ووثب عليه بخِنجرٍ فذَبَحَه، ثم خرج ودعا بعضَ قُوَّادِ أبي سعيدٍ، فقال له: كَلِّم أبا سعيدٍ. فلمَّا دخل ذبَحَه، ثم استدعى آخَرَ، ففعل به كذلك حتى فعل ذلك بجماعةٍ مِن الكبارِ، ثم استدعى في الآخِرِ رجلًا، فدخل في أوَّلِ الحمام، فلما رأى الدماءَ تجري، أدبر مسرعًا وصاح، فصاح النساء واجتمعوا على الغُلامِ فقَتَلوه, دام حُكم أبي سعيد 16 عامًا, وقد خلَّف من الأموالِ شيئًا كثيرًا، فمن ذلك ألفُ ألفِ دينار، ومن آنية الذهب والفضة نحوُ مائة ألف دينار، ومن البقر ألف ثور، ومن الخيل والبغال والجمال ألفُ رأس, وكان قد عهِدَ بالأمر لابنه سعيدٍ، ولكنه كان ضعيفًا, فأوصى أبو سعيد أن يبقى سعيدٌ في الحكم حتى يكبر أخوه الأصغَرُ سُلَيمان أبو طاهرٍ، فيُسَلِّمُه الأمرَ، ففعل سعيد.
خَرجَ المُستَنصِرُ الفاطمي على عادَتهِ في كلِّ سَنَةٍ يَركبُ على النُّجُبِ ومعه النِّساءُ والحَشَمُ إلى جب عميرة، وهو موضع نُزهَةٍ، ويُغيِّر هَيئتَه، كأنَّه خارجٌ يُريدُ الحَجَّ على سَبيلِ الهَزْرِ والمَجانَةِ، ومعه الخَمْرُ مَحمولٌ في الرَّوايا عِوَضًا عن الماءِ، ويَدورُ به سُقاتِه عليه وعلى مَن معه كأنَّه بِطريقِ الحِجاز أو كأنه ماءُ زمزم؛ واتَّفقَ أن بعضَ الأَتراكِ جَرَّدَ سَيْفًا في سَكْرَةٍ منه على بَعضِ عَبيدِ الشِّراءِ، فاجتَمعَ عليه عِدَّةٌ من العَبيدِ وقَتلوهُ. فغَضِبَ لذلك جَماعةُ الأَتراكِ واجتَمَعوا بأَسرِهم ودَخَلوا على المُستَنصِر، وقالوا: إن كان هذا الذي قُتِلَ مِنَّا على رِضاكَ فالسَّمعُ والطَّاعة، وإن كان قَتْلُه عن غيرِ رِضا أَميرِ المؤمنين فلا صَبرَ لنا على ذلك. وأَنكرَ المُستَنصِر أن قَتْلَه بِرضاهُ أو أَمرِه؛ فخَرجَ الأتراكُ واشتَدُّوا على العَبيدِ يُريدون مُحاربَتَهم، فبَرَزَت العَبيدُ إليهم؛ وكانت بين الفَريقينِ حُروبٌ بِناحِيَةِ كَومِ شَريكٍ قُتِلَ فيها عِدَّةٌ، وانهَزمَ العَبيدُ وقَوِيَت الأتراكُ؛ هذا وأُمُّ المُستَنصِر تَمُدُّ العَبيدَ بالأَموالِ والسِّلاحِ، فاتَّفقَ في بعضِ الأيامِ أن بعضَ الأَتراكِ وقفَ على شيءٍ ممَّا تَبْعَثُ به أُمُّ المُستَنصِر إلى العَبيدِ لِتُعينَهم به على مُحاربةِ الأَتراكِ، فاجتَمَعوا وصاروا إلى المُستَنصِر وتَجَرَّءُوا عليه بالقَولِ وأَغلَظوا في المُخاطبةِ؛ فأَنكرَ أن يكون عندَه مِن ذلك خَبَرٌ، وصار السَّيفُ قائمًا. فدَخلَ على أُمِّه وأَنكرَ عليها ما تَعتمِدهُ مِن تَقويَةِ العَبيدِ وإعانتِهم على مُحاربةِ الأَتراكِ، ثم انتَدبَ وَزيرَهُ أبا الفَرجِ ابن المغربي، فخَرجَ ولم يَزل يَسعى بين الأتراكِ والعَبيدِ حتى أَوقعَ الصُّلحَ بين الفَريقين. فاجتَمعَ العَبيدُ وساروا إلى ناحيةِ شبرا دمنهور. فكانت هذه الكائنةُ أوَّلَ الاختلافِ بين طَوائفِ العَسكر.
حصر ابن ردمير الفرنجي مدينةَ أفراغة من شرق الأندلس، وكان الأمير يوسف بن تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة، فجهَّز الزبير بن عمرو اللمتوني والي قرطبة ومعه ألفا فارس، وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة، وكان يحيى بن غانية، الأمير المشهور، أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس، ووالي أمرها لأمير المسلمين علي بن يوسف، فتجهَّز في خمسمائة فارس، وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة، فتجهز في مائتي فارس، فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة، وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس، وأدركه العجب، ونفذ قطعة كبيرة من جيشه. فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم بعضُهم وكسَرَهم، وردَّ بعضَهم على بعض، وقتل فيهم، والتحم القتال، وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعها مدلين بكثرتهم وشجاعتهم، وعظم القتال، فكثُرَ القتل في الفرنج، فانهزم ابن ردمير وولى هاربًا، واستولى القتل على جميع عسكرِه، فلم يسلم منهم إلا القليل، ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة، فلما رأى ما قُتِل من أصحابه مات مفجوعًا بعد عشرين يومًا من الهزيمة، وكان أشدَّ ملوك الفرنج بأسًا، وأكثرهم تجردًا لحرب المسلمين، وأعظمهم صبرًا، كان ينام على طارقته بغير وطاءٍ، وقيل له: هلا تسرَّيت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سَبَيتَ؟ فقال: الرجلُ المحارب ينبغي أن يعاشِرَ الرجال لا النساء، وأراح اللهُ منه وكفى المسلمين شَرَّه.
بعد أن فَشِلَ عليُّ بنُ إسحاق الملثَّم السنة الماضية في مُلك بجاية، سار علي إلى إفريقيَّة، فلما وصل إليها اجتمع سليمٌ ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم التركُ الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع بهاء الدين قراقوش، ودخل أيضًا من أتراكِ مِصرَ مملوك لتقي الدين بن أخي صلاح الدين، اسمُه بوزابة، فكَثُرَ جَمعُهم، وقَوِيَت شوكتُهم، فلما اجتمعوا بلغت عِدَّتُهم مبلغًا كثيرًا، وكُلُّهم كاره لدولة الموحِّدين، وقصدوا بلاد إفريقيَّةَ فمَلَكوها جميعها شرقًا وغربًا إلَّا مدينتي تونس والمهدية؛ فإن الموحدين أقاموا بهما، وحَفِظوهما على خوفٍ وضِيقٍ وشِدَّة، وكان الوالي على إفريقيَّةَ حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يُعلِمُه الحال، وقصد الملثَّم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتَمِلُ على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلُها منه الأمان، فأمَّنهم، فلما دخلها العسكَرُ نهبوا جميع ما فيها من الأموالِ والدوابِّ والغَلَّات، وسلبوا النَّاسَ حتى أخذوا ثيابَهم، وامتدت الأيدي إلى النِّساءِ والصبيان، وتركوهم هلكى، فقَصَدوا مدينة تونس، فأما الأقوياءُ فكانوا يخدُمون ويَعمَلون ما يقوم بقُوتِهم، وأما الضعفاء فكانوا يَستَعطونَ ويسألون الناس، ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلَكَهم البَردُ ووقع فيهم الوباء، فأُحصيَ الموتى منهم فكانوا اثني عشر ألفًا، هذا من موضع واحد، ولما استولى الملثَّم على إفريقية قطَعَ خطبة أولاد عبد المؤمن وخطَبَ للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلُبُ الخِلَعَ والأعلامَ السُّودَ.
كان رحيل تيمورلنك عن دمشق في يوم السبت ثالث شعبان من هذه السنة واجتاز على حلب وفعل بها ما قدر عليه ثانيًا، ثم سار منها حتى نزل على ماردين يوم الاثنين عاشر شهر رمضان من السنة، ووقع له بها أمور، ثم رحل عنها، وأوهم أنه يريد سمرقند، يورِّي بذلك عن بغداد، وكان السلطان أحمد بن أويس قد استناب ببغداد أميرًا يقال له فرج، وتوجَّه هو وقرا يوسف نحو بلاد الروم، فندب تيمور على حين غفلة أمير زاده رستم ومعه عشرون ألفًا لأخذِ بغداد، ثم تبعه بمن بقي معه ونزل على بغداد، وحصرها حتى أخذها عنوةً في يوم عيد النحر من السنة، ووضع السيف في أهل بغداد، لما استولى على بغداد ألزم جميعَ من معه أن يأتيَه كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهل بغداد؛ فوقع القتل في أهل بغداد وأعمالها، حتى سالت الدماء أنهارًا، حتى أتوه بما أراد، فبنى من هذه الرؤوس مائة وعشرين مِئذنة، فكانت عدة من قُتِل في هذا اليوم من أهل بغداد تقريبًا مائة ألف إنسان, وقيل: تسعين ألف إنسان، وهذا سوى من قُتِل في أيام الحصار، وسوى من قُتِل في يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسَه في نهر دجلة فغرق، وهو أكثر من ذلك! قال: وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين إذا عجز عن رأس رجل قطع رأس امرأةٍ من النساء وأزال شعرَها وأحضرها، قال: وكان بعضُهم يقِفُ بالطرقات ويصطاد من مَرَّ به ويقطع رأسَه، ثم رحل تيمور عن بغداد وسار حتى نزل قراباغ بعد أن جعلها دكًّا خرابًا.
فشا الموت بالطاعون في إقليمي الشرقية والغربية وجميع الوجه البحري، وكان ابتداؤه بالقاهرة ومصر منذ حلت الشمس في برج الحمل، في يوم الأحد الخامس عشر صفر، فبلغت عدة من يرد الديوان من الأموات ما بين العشرين والثلاثين في كل يوم، وبلغت عدة من ورد من الأموات بالقاهرة إلى الديوان نحو الخمسين، أكثرهم أطفال، وذلك سوى المارستان، وموتهم بأمراض حادة، وحبة الموت قَلَّ من يمرض منهم ثلاثة أيام، بل كثير منهم يموت ساعة يمرض، أو من يومه، وبلغت عدة من ورد الديوان من الأموات في ربيع الأول بمدينة بلبيس ألف إنسان، وبناحية بردين من الشرقية خمسمائة نفس، وبناحية ديروط من الغربية ثلاثة آلاف إنسان، سوى بقية القرى، وهي كثيرة جدًّا، وفي شهر ربيع الآخر أوله الخميس في ثالثه بلغت عدة من يرد الديوان من الأموات بالقاهرة إلى مائة وستة وتسعين، سوى المارستان، ومصر، وبقية المواضع التي لا ترد الديوان، وما تقصر عن مائة أخرى، هذا مع شناعة الموتان بالأرياف، وخلو عدة قرى من أهلها، وكان عدة من مات بالقاهرة وورد اسمه إلى الديوان من العشرين من صفر إلى آخر شهر ربيع الآخر 7652؛ من الرجال: ألف وخمسة وستون رجلًا، والنساء 669 امرأة، والصغار 3969 صغيرًا، والعبيد 544، والإماء 1369، والنصارى 69، واليهود 32، وذلك سوى المارستان، وسوى ديوان مصر، وسوى من لا يَرِدُ اسمه إلى الديوانين، ولا يقصر ذلك عن تتمة العشرة آلاف، ومات بقرى الشرقية والغربية مثل ذلك وأزيدُ!
كان الأمير أبو الحسن علي بن سعد ملك غرناطة متزوجًا بعائشة الحرة ابنة عمه الأمير محمد الأيسر وله منها ولدان محمد ويوسف, وكان من جملة انهماك الأمير أبي الحسن في الملذات أنه اصطفى على زوجته رومية اسمُها ثريا وهجر ابنة عمه وأولادها منه، فأدرك ابنة عمه من الغيرة ما يدرك النساء على أزواجهن، ووقع بينهما نزاع كثير وقام الأولاد محمد ويوسف مع أمهما وغلظت العداوة بينهم، وكان الأمير أبو الحسن شديد الغضب والسطوة، فكانت الأم تخاف على ولديها منه، فبقيت الحال كذلك مدة والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات، ووزيره يضبط المغارم, وفي يوم انتصار المسلمين على النصارى في موقعة لوشة بلغ الخبر لمن كان فيها أن ابني الأمير أبي الحسن محمد ويوسف هربا من القصبة خوفًا من أبيهما؛ وذلك أن شياطين الإنس صاروا يوسوسون لأمهما عائشة ويخوفونها عليهما من سطوة أبيهما ويغوونها مع ما كان بينها وبين مملوكة أبيهما الرومية ثرية من الشحناء، فلم يزالوا يغوونها حتى سمحت لهم بهما فاحتالت عليهما بالليل وأخرجتهما إليهم وساروا بهما إلى وادي آش، فقام أهل وادي آش بدعوتهما ثم قامت غرناطة أيضًا بدعوتهما واشتعلت نار الفتنة ببلاد الأندلس، ووقعت بينهم حروب بينهم إلى أن قتل الوالد ولَدَه ولم تزل نار الفتنة مشتعلة وعلاماتها قائمة في بلاد الأندلس، والعدو مع ذلك كله مشتغل بحيلته في أخذ الأندلس, ويعمل على اتحاد كلمتهم حتى تزوج فرناندو ملك أراجون من إيزابيلا ملكة قشتالة، واتحدت الممالك الصليبية في إسبانيا لأول مرة في تاريخها ضد المسلمين.
لم تلبث تونس كثيرًا تحت يد العثمانيين حتى اتفق شارل الخامس (شارلكان) ملك إسبانيا وأسبان برشلونة ورهبان مالطة على الحرب واستعادة تونس التي كانت تحت يد الإسبان قبل أن يستعيدها خير الدين بربروسا العام الماضي، مستغلين انشغال العثمانيين بحربهم ضد الصفويين الرافضة، فتوجَّه الجيش بقيادة شارلكان نفسه ملك إسبانيا بحملة بحرية كبيرة، تكوَّنت من ثلاثين ألف مقاتل إسباني وهولندي وألماني ونابولي وصقلي، على ظهر خمسمائة سفينة، وركب الإمبراطور البحرَ من ميناء برشلونة، وعندما رست سفُنُه أمام تونس قامت المعارك العنيفة بين الطرفين، لم تكن قوة خير الدين كافيةً للرد على هذا الهجوم، فكان تعدادُ جيشه سبعةَ آلاف جندي عثماني وصلوا معه، ونحو خمسة آلاف تونسي، كما تخلَّف الأعراب عن الجهاد، فكانت النتيجة الحتمية أنَّ استيلاء شارل على معقِل حلق الوادي مرسى تونس، ونصَب الإسبان حليفَهم الحسن بن محمد الحفصي حاكمًا عليها، وعملًا بمنطوق المعاهدة كان الحسن بن محمد سيسلِّم بونة والمهدية إلى شارل الخامس، فاستولى على بونة، وبما أنَّ المهدية كانت في حوزة العثمانيين فإنَّ الحسن لم يستطع الوفاءَ بعهده، فاشترط الإسبان عليه أن يكون حليفًا ومساعِدًا لفرسان القديس يوحنا بطرابلس، وأن يقوم بمعاداة العثمانيين، وأن يتحمل نفقات ألفي إسباني على الأقل يُترَكون كحامية في قلعة حلق الواد، وعاد شارل الخامس إلى إسبانيا بعد أن ارتكبوا أفظع الجرائم في تونس عند دخولهم فيها، مُظهرين الحقدَ الدفين، فجعلوا جامِعَ الزيتونة إسطبلًا لخيولهم، وأحرقوا المساجِدَ والكتب النادرة فيها، غير قتلِهم النساء والأطفال!!
نقض أهلُ حرمة عهدَهم مع الأمير سعود بن عبد العزيز وتواعَدوا مع أهل الزلفي وأرسلوا إلى سعدون بن عريعر حاكِمِ الأحساء وأتباعِه مِن العربان أنَّهم يريدون أن يَسطُوا على بلدة المجمعة، وكان فيها مرابط وضباط من جهة الإمام عبد العزيز بن محمد، وقد تحقَّق عند أهل حرمة أنَّهم إن لم يأخُذوا المجمعة ويضبطوها لم يكن لهم في بلدهم قرار, فسار رجالٌ مِن أهل حرمة في زيِّ النساءِ وأمسكوا بروجَ النخيل، ثمَّ قَدِم عليهم أهلُ الزلفي بشوكتِهم، ثم قدم سعدون بالجموعِ العظيمة من بني خالد وغيرهم، فاجتمعت تلك الجموعُ ونزلوا وسطَ النخيل وحصروا أهل المجمعةِ في بلدتهم أيامًا حتى ضاق عليهم الأمرُ، فهمُّوا بالمصالحة وأرسلوا إلى سعدون يطلبون مهلةَ يومين يرجون وصولَ المدد لهم من جهة عبد العزيز, كان حسنُ بن مشاري بن سعود يدبِّرُ الأمر من جلاجل لدَعمِ أهل المجمعة، وتمكن مع بعض رجاله من أهل العارض وسدير من دخول المجمعة ليلًا على الرغم من شدة الحصار عليها. فلما عَلِمَ ابن عريعر وأتباعُه بذلك عرفوا أنهم ممتنعون، وقد كانت صدورُ البوادي ضاقت من طولِ الحصارِ، فرحلوا من المجمعة منصرفين، ورجع أهل الزلفي إلى بلَدِهم، واستقَرَّت الحرب بين أهلِ الجمعة وأهل حرمة، فجهز عبد العزيز أخاه عبد الله بالجنودِ، فنازل أهلَ حرمة ووقع بينهم قتالٌ شديدٌ قُتِل فيه عددٌ مِن رجال حرمة، ثم رحل عنهم عبد الله بعد أن ترك لأهل المجمعة خيلًا ورِجالًا، واستمَرَّت الحربُ بينهم أيامًا.
أعلن الميرزا حسين علي دعوتَه البهائية، وأنَّه الوريثُ الحقيقي للباب علي بن محمد الشيرازي مؤسِّس فرقة البابية الضالة. وفي عكَّا بذل البهاءُ جُهدًا كبيرًا في نشر دعوتِه وكسْبِ الأنصار والأتباع، فأعلن حقيقةَ شَخصِه، وأبطل ما كان يدَّعيه "الباب" حتى انسلخ هو وأتباعُه من شريعة الباب، ولم يبقَ مِن كلامه إلا ما كان فيه إشارةٌ أو إيماءة تبشِّرُ بمَقدَم البهاء، ولم يكتفِ بادعاء النبوة، بل تجاوزها إلى ادِّعاء الألوهية، وأنه القيومُ الذي سيبقى ويخلد، وأنه روح الله، وهو الذي بعث الأنبياءَ والرسُل، وأوحى بالأديان، وزعم أنَّ الباب لم يكن إلا نبيًّا مهمته التبشير بظهوره. وجعل البهاء الصلاةَ ثلاث مرات: صبحًا وظهرًا ومساء، في كل مرة ثلاث ركعات، وأبطل الصلاةَ في جماعة إلا في الصلاة على الميت، وقصَر الوضوء على غَسلِ الوجه واليدين وتلاوة دعاءين قصيرين. وحدَّد شهر الصوم بتسعة عشر يومًا من كلِّ عام الذي هو عنده تسعة عشر شهرًا. ويكون الصوم في شهر "العلاء" (21:2 مارس)، وهذا الشهر هو آخر الشهور البهائية. وجعل الحجَّ إلى مقامه في "عكا"، وهو واجب على الرجال دون النساء، وليس له زمنٌ معين أو كيفية محدَّدة لأدائه، كما غيَّر في أحكام الزواج والمواريث، وبدَّل في أحكام العقوبات، وفرض نوعًا من الضرائب على أتباعِه لتنظيم شؤونهم تقَدَّر بنسبة (19%) من رأسِ المال وتُدفَعُ مرة واحدة فقط. وكان من تعاليم "البهاء" إسقاطُ تشريع الجهاد وتحريمُ الحرب تحريمًا تامًّا، ومصادرة الحُرِّيات إلا حرية الاستماع إلى تعاليم البهاء!!
هو الإمامُ العالمُ الفقيه المحَدِّث النحوي الناظِمُ: تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب ابن العلامة الفقيه قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السلمي السبكي الشافعي، قاضي قضاة دمشق بها، ولد بالقاهرة سنة 728. قال الصفدي: "عُنِيَ تاج الدين بالرواية وسمع كثيرًا، وقرأ بنفسه على شيخنا شمس الدين الذهبي كثيرًا من مصنفاته وغيرها، وأفتى ودرَّس، ونظم الشعر وعمل الألغاز، وراسلني وراسلته، وبالجملة فعِلمُه كثيرٌ على سِنِّه" جرت له مِحَنٌ فاتُّهِمَ بالكفر واستحلالِ الخَمرِ؛ قال ابن كثير: " عُقِدَ مجلس بسبب قاضي القضاة تاج الدين السبكي، ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول عُقِدَ مجلس حافل بدار السعادة بسَبَبِ ما رمي به قاضي القضاة تاج الدين الشافعي ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وكنت ممَّن طُلِب إليه، فحضرته فيمن حضر، وقد اجتمَع فيه القضاةُ الثلاثة، وخَلقٌ من المذاهب الأربعة، وآخَرون من غيرهم، بحضرة نائب الشام سيف الدين منكلي بغا، وكان قد كُتِبَ فيه محضران متعاكسانِ أحدهما له والآخر عليه، وفي الذي عليه خَطُّ القاضيين المالكي والحنبلي، وجماعةٍ آخرين، وفيه عظائِمُ وأشياء منكرة جدًّا ينبو السَّمعُ عن استماعه. وفي الآخَرِ خطوطُ جماعات من المذاهب بالثناء عليه، وفيه خَطِّي بأني ما رأيتُ فيه إلا خيًرا, وكثُرَ القول فيه وارتفعت الأصوات وكَثُر الجدال والمقال، وطال المجلِسُ، فأشار نائِبُ السلطنة بالصُّلحِ بينهم وبين قاضي القضاة تاج الدين، فأشار شيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل وأشرت أنا أيضًا بذلك، فقُمْنا والأمر باقٍ على ما تقدم، ثم اجتَمَعْنا يوم الجمعة بعد العصر عند نائب السلطنةِ عن طلبه فتَراضَوا كيف يكونُ جواب الكتابات مع مطالعة نائب السلطنة، ففعل ذلك وسار البريدُ بذلك إلى الديار المصرية، ثم اجتمَعْنا أيضًا يوم الجمعةِ بعد الصلاة التاسِعَ عشر من ربيع الآخر بدار السعادة، وحضر القضاةُ الثلاثة وجماعة آخرون، واجتهد نائبُ السلطنة على الصلح بين القضاة وقاضي الشافعية وهو بمصر، فحصل خلافٌ وكلام طويل، ثم كان الأمرُ أن سكنت أنفُسُ جماعة منهم.". لتاج الدين السبكي تصانيفُ، منها طبقات الشافعية الكبرى، وجمع الجوامع في أصول الفقه، والأشباه والنظائر، وشرح منهاج البيضاوي، وشرح مختصر ابن الحاجب، وكان درس بالعادلية والغزالية والأمينية والناصرية ودار الحديث الأشرفية والشامية البرانية، وباشر قضاءَ دمشقَ أربَعَ مَرَّات، وخطَبَ بالجامِعِ الأموي. توفِّيَ في عصر يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجَّة مُتأثِّرًا بالطاعون، ودفِنَ بسفح قاسيون، عن أربعٍ وأربعين سنة.
هو السلطان القان معين الدين شاه رخ ابن الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، سلطان هراة، وسمرقند، وشيراز، وما والاها من بلاد العجم وغيرها. مَلَك البلاد بعد ابن أخيه خليل بن أميران شاه بن تيمورلنك، فإنَّه لما مات والده الطاغية تيمورلنك بأهنكران شرقي سمرقند، وثب خليلٌ على الأمر وتسلطن، وبلغ شاه رخ هذا الخبر في هراة، فجمع ومشى إليه، ووقعت بينهما حروب وخطوب إلى أن ملك شاه رخ، واستقَلَّ بممالك العجم وعراقة، وعظُمَ أمره وهابته الملوك، وحُمِدَت سيرتُه، وشُكِرت أفعاله، وقَدِمَت رسله إلى البلاد المصرية مرارًا عديدة, وراسلته ملوكُ مصر، إلى أن تسلطَنَ الملك الأشرف برسباي، وقع بينهما وحشة بسبب طلب شاه رخ أن يكسوَ البيت الشريف، فأبى الأشرفُ برسباي وخشَّن له الجواب. وترددت الرسلُ بينهما مرارًا، واحتجَّ شاه رخ أنه نذر أن يكسو البيت الشريف، فلم يلتفت الأشرفُ إلى كلامه، ورد قصَّاده إليه بالخيبة. ولَمَّا آل المُلك إلى المَلِك الظاهر جقمق، أذن له بكسوتها, واستمرَّت الصحبةُ بين الملك الظاهر جقمق وبين شاه رخ إلى أن مات شاه رخ في سنة 851. تولى الملك بعده حفيدُه علاء الدولة بن باي سنقر، نصبته جدتُه لأبيه كهرشاه خاتون، أرادت بولاية علاء الدولة، وعدم ولايتها ولَدَها ألوغ بك صاحب سمرقند، أن يكون الأمرُ إليها. فلما سمع ألوغ بك ذلك عزَّ عليه، وحشد ومشى إلى والدته كهرشاه وإلى ابن أخيه علاء الدولة بن باي سنقر، ووقع له معهما أمور وحوادث، ثم قُتِلَ ألوغ بك, واستمرت الفتنة بين بني تيمور. ولم يعُدْ بيت تيمور صالحًا للحكم بعد موت شاه رخ وقتْلِ ولده ألوغ بك صاحب سمرقند. كان شاه رخ ملكًا عادلًا ديِّنًا خَيِّرًا، فقيهًا متواضعًا، محبَّبًا لرعيته، غير محجوب عنهم، لم يسلك طريقة والده الطاغية تيمورلنك- لعنه الله وقبَّحه- كان يحب أهل العلم والصلاح، ويكرِمُهم ويقضي حوائجَهم. وكان متضعفًا في بدنه، يعتريه مرضُ الفالج فلا يزال يتداوى منه. وكان يحبُ السَّماع الطيب، وله حظٌّ منه، بل كان يَعرِفُ يضرب بالعود، وكان ينادمه الأستاذ عبد القادر بن الحاج غيبى ويختصُّ به، وكان له حظ من العبادة وله أوراد هائلة، لم يزل غالبَ أوقاته على طهارة كاملة، مستقبِلَ القبلة والمصحفُ بين يديه، وكان مَسيكًا لا يصرف المالَ إلا لحقه.
أبو عبدِ الرحمنِ محمدٌ ناصرُ الدِّينِ بنُ نوح نجاتي بن آدم الألبانيُّ علَّامةُ الشامِ، وُلد عامَ 1332هـ / 1914م في أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاكَ، نشأ في أسرة فقيرة، وكان والده مُتخرِّجًا من المعهد الشرعي في الآستانة، ثم هاجر والدُه مع أسرته إلى دِمَشقَ عندما بدأ الحاكم أحمد زوغو يَزيغُ عن الحق، ويأمُرُ بنزع الحجاب، ويَسيرُ على خُطى الطاغية أتاتورك، فدرس الشيخ محمد ناصر في دِمَشقَ المرحلة الابتدائية، ثم لم يُكمِلْ في المدارس النظامية، بل بدأ بالتعلُّم الديني على المشايخ، فتلقَّى القرآن من والدِه وتعلَّم الصرفَ، واللغةَ، والفقهَ الحنفيَّ، ثم توجَّه لدراسة علم الحديث والتحقيق حتى برَعَ فيه، هذا غير دروسِه التي كان يُلقيها في دِمَشقَ وحلَبَ، وباقي المحافظات السورية قبلَ خروجِه منها، ولمَّا بدأت المشاكل الأمنيَّة في سوريا خرج الشيخُ من سوريا، وكان قد درَّس في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سنةَ 1381هـ، لمدة ثلاث سنوات، أفاد فيها كثيرًا من الطلاب، وقد أثْنى عليه الكثيرُ من العلماء، فقال عنه الشيخُ ابنُ عُثيمين: إنه محدِّثُ العصر، وقد كان يُعَدُّ هو داعيةَ الشام إلى الدعوة الصحيحة، فقد أفاد منه الكثيرُ من الطلاب في دِمَشقَ قبل خروجِه، وفي الأُردُنِّ حيث استقرَّ فيها أخيرًا، وأشرطتُه التي سُجِّلت له تدُلُّ على فضله وعلمه، وأمَّا كتبُه فهي خيرُ شاهدٍ على علمِه، وسَعةِ اطِّلاعه، وعُلوِّ كَعبِه في فن الحديثِ، وعِلمِ الجَرحِ والتعديلِ، والتصحيحِ والتضعيفِ، بل يُعَدُّ هو رائدَ هذا العصر في علم الحديثِ، فمن كُتبه: ((السلسة الصحيحة))، و((السلسلة الضعيفة))، وكتاب ((إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل))، وتحقيقُه لكُتب السُّنَن الأربعة، ولصحيح ابن حِبَّان، وللترغيب والترهيب، ولمشكاة المصابيح، ولصحيح الجامع، وللسُّنة لابن أبي عاصم، وغيرها من التحقيقات، أما مؤلَّفاتُه فمنها كتاب: ((صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كأنَّك تراه))، و((آداب الزفاف))، و((تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد))، و((أحكام الجنائز))، و((حجة النبي صلى الله عليه وسلم))، و((التوسل))، و((حجاب المرأة المسلمة))، و((قيام رمضان))، وقد أثْرَت كُتبه المكتبةَ الإسلامية، وأمَّا وَفاتُه فكانت يومَ السبت في الثاني والعشرين من شهر جُمادى الآخرة سنةَ 1420هـ، عن عمر يُناهزُ الثامنةَ والثمانينَ، وذلك في عمَّانَ عاصمة الأُردُنِّ، وكان قد أوْصى بألَّا يؤخَّر دَفنُه أبدًا، فغُسِّلَ من فَوْره، كما أوْصى ألَّا يُحمَلَ على سيارة، فحُمل على الأكتاف إلى المقبرة، حيث صُلِّيَ عليه بعد صلاة العشاء من نفس اليوم، ودُفِنَ في مقبرة قديمة قُربَ حي هملان في عمَّانَ، رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.