هو سُلطانُ العالَم عَضُدُ الدَّولةِ أبو شُجاعٍ، المُلَقَّبُ بالعادِل محمد، ألب أرسلان بن جغريبك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق بن سلجوق التُّركيُّ, واسمُه بالعربي محمدُ بنُ داودَ وألب أرسلان اسمٌ تُركيٌّ مَعناهُ شُجاع أَسَد، فألب: شُجاع، وأرسلان: أَسَد. وهو ابنُ أخي السُّلطانِ طغرلبك، أَصلُه من قَريةٍ يُقال لها: النور. وُلِدَ سَنةَ 424هـ, وَجَدُّهُ دقاق، هو أَوَّلُ مَن دَخلَ في الإسلامِ, وألب أرسلان أَوَّلُ مَن ذُكِرَ بالسُّلطانِ على مَنابِرِ بغداد, وكان مَلِكًا عادِلًا، مَهِيبًا، مُطاعًا، مُعَظَّمًا. وَلِيَ السَّلْطَنَةَ بعدَ وَفاةِ عَمِّهِ طغرلبك بن سلجوق في سَنةِ 457هـ. لمَّا ماتَ السُّلطانُ طُغرلبك نَصَّ على تَوْلِيَةِ الأَمرِ لسُليمانَ بنِ داودَ أخي ألب أرسلان، ولم يَنُصَّ على ألب أرسلان؛ لأنَّ أُمَّ سُليمانَ كانت عنده فتَبِعَ هَواها في وَلَدِها، فقام سُليمانُ بالأَمرِ وثارَ عليه أَخوهُ ألب أرسلان، وجَرَت بينهم خُطوبٌ فلم يَتِمَّ لِسُليمانَ الأَمرُ، وكانت النُّصرةُ لألب أرسلان. فاستَولَى على المَمالِكِ، وعَظُمَت مَملكَتُه ورُهِبَت سَطوتُه، وفَتحَ من البِلادِ ما لم يكُن لِعَمِّهِ طُغرلبك مع سِعَةِ مُلْكِ عَمِّهِ، وقَصدَ بِلادَ الشامِ فانتَهَى إلى مَدينةِ حَلَب، وهو أَوَّلُ مَن عَبَرَ الفُراتَ من مُلوكِ التُّركِ. وكاد أن يَتَمَلَّكَ مصر. أَعزَّ الله بهِ الإسلامَ وأَذَلَّ الشِّرْكَ. كان ألب أرسلان مِن أَعدَلِ الناسِ، وأَحسَنِهم سِيرَةً، وأَرغَبِهِم في الجِهادِ وفي نَصرِ الدِّينِ. وعَظُمَ أَمرُ السُّلطانِ ألب آرسلان، وخُطِبَ له على مَنابرِ العِراقِ والعَجَمِ وخُراسان، ودانَت له الأُمَمُ، وأَحَبَّتْهُ الرَّعايا، ولا سيما لمَّا هَزَمَ العَدُوَّ، طاغِيةَ الرُّومِ أرمانوس في مَعركةِ ملازكرد سَنةَ 463هـ, وقَنعَ من الرَّعِيَّةِ بالخَراجِ في قِسطَينِ، رِفْقًا بهم, وكان كَثيرَ الصَّدَقاتِ، يَتَفقَّد الفُقراءَ في كلِّ رَمضانَ بأَربعةِ آلافِ دِينارٍ ببَلخ، ومَرو، وهراة، ونيسابور، ويَتَصدَّق بحَضرَتِه بعشرةِ آلافِ دِينارٍ. كَتبَ إليه بَعضُ السُّعاةِ في نِظامِ المُلْكِ وَزيرِهِ، وذَكَرَ مالَه في مَمالِكِه فاستَدعاهُ فقال له: خُذْ إن كان هذا صَحيحًا فهَذِّبْ أَخلاقَك وأَصلِح أَحوالَك، وإن كَذَبَ فاغْفِر له زَلَّتَهُ. وكان شديدَ الحِرصِ على حِفْظِ مالِ الرَّعايا، بَلَغَهُ أنَّ غُلامًا من غِلمانِه أَخذَ إِزارًا لبَعضِ أَصحابِه فصَلَبَهُ فارتَدعَ سائرُ المَماليكِ به خَوفًا من سَطوتِه. في أَوَّلِ سَنةِ 465هـ قَصدَ السُّلطانُ ألب أرسلان، ما وَراءَ النَّهرِ، وصاحبُه شَمسُ المُلْكِ تكين، فعَقدَ على جيحون جِسْرًا وعَبرَ عليه في نَيِّفٍ وعِشرينَ يومًا، وعَسكرُه يَزيدُ على مائتي ألف فارسٍ، فأَتاهُ أَصحابُه بمُسْتَحْفِظِ قَلعَةٍ يُعرفُ بيُوسُف الخوارزمي، في سادس شهرِ رَبيعٍ الأوَّل، وحُمِلَ إلى قُرْبِ سَريرِه مع غُلامَينِ، فقال له يُوسفُ: يا مُخَنَّث! مِثلي يُقتَل هذه القِتلَة؟ فغَضِبَ السُّلطانُ ألب أرسلان، وأَخذَ القَوْسَ والنِّشابَ، وقال للغُلامَينِ: خَلِّيَاهُ! ورَماهُ بِسَهمٍ فأَخطَأهُ، ولم يكُن يُخطِئ سَهمَه، فوَثبَ يُوسفُ يُريدُه، والسُّلطانُ على سُدَّةٍ، فلمَّا رأى يُوسفَ يَقصِدُه قام عن السُّدَّةِ ونَزلَ عنها، فعَثَرَ، فوَقعَ على وَجهِه، فبَرَكَ عليه يُوسفُ وضَربَهُ بسِكِّينٍ كانت معه في خاصِرَتِه، وكان سعدُ الدَّولةِ واقِفًا، فجَرَحَهُ يُوسفُ أيضًا جِراحاتٍ، ونَهضَ ألب أرسلان فدَخَل إلى خَيمةٍ أُخرَى، وضَرَبَ بَعضُ الفَرَّاشِين يُوسفَ بِمِرْزَبَّةٍ على رَأسِه، فقَتَلَه وقَطَّعَهُ الأتراكُ، ولمَّا جُرِحَ السُّلطانُ قال: ما مِن وَجهٍ قَصدتُه، وعَدُوٍّ أَردتُه، إلَّا استَعنتُ بالله عليه، ولمَّا كان أَمسُ صَعدتُ على تَلٍّ، فارتَجَّت الأرضُ تحتي مِن عِظَمِ الجَيشِ وكَثرَةِ العَسكرِ، فقلتُ في نفسي: أنا أَملِكُ الدُّنيا، وما يَقدِر أَحَدٌ عَلَيَّ، فعَجَّزَني الله تعالى بأَضعفِ خَلْقِه، وأنا أَستَغفِرُ الله تعالى، وأَستَقيلُه من ذلك الخاطرِ. فتُوفِّي عاشرَ رَبيعٍ الأوَّلِ من السَّنَةِ، فحُمِلَ إلى مَرو ودُفِنَ عند أَبيهِ. تُوفِّي عن إحدى وأربعين سَنَةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ خُطِبَ له بالسَّلْطَنَةِ إلى أن قُتِلَ تِسعَ سِنينَ وسِتَّةَ أَشهُر وأيامًا، ولمَّا وَصلَ خَبرُ مَوتِه إلى بغداد جَلسَ الوَزيرُ فَخرُ الدَّولةِ بن جهير للعَزاءِ به في صَحنِ السَّلامِ. تَركَ ألب أرسلان من الأولادِ ملكشاه، وإياز، ونكشر, وبوري برس, وأرسلان، وأرغو، وسارة، وعائشة، وبِنتًا أُخرى, وتَولَّى بعده ابنُه ملكشاه.
هو الإمامُ مفتي الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الإمام البارع أبي القاسم صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي، الشهرزوري، الشافعي. المعروف بابن الصلاح، مفتي الشام ومحدِّثُها، سمع الحديثَ ببلادِ الشَّرقِ وتفَقَّه بالموصِلِ وحلب وغيرها، وُلِدَ سنة 577 بشرخان – وهي قريةٌ من أعمال إربل قريبةٌ مِن شهرزور- تفقَّه على والِدِه صلاح الدين بشهرزور، وكان والدُه شيخَ تلك الناحية، ومدرِّسًا بالأسديَّة التي بحَلَب، وواقفها أسد الدين شيركوه بن شادي. قال ابن خلكان: "كان ابنُ الصَّلاحِ أحدَ فُضَلاء عصرِه في التفسير والحديثِ والفقه وأسماء الرجالِ وما يتعلق بعلم الحديثِ ونَقلِ اللغة، وكانت له مشاركةٌ في فنون عديدةٍ، وكانت فتاويه مسدَّدةً، وهو أحد أشياخي الذين انتفعتُ بهم. قرأ الفقه أولًا على والده الصلاح، وكان من جلَّة مشايخ الأكراد المشارِ إليهم، ثم نقله والدُه إلى الموصل واشتغل بها مدَّة، وبلغني أنه كرر على جميع كتاب " المهذَّب " ولم يطر شاربُه، بالموصل, ثم سافر إلى خراسان فأقام بها زمانًا وحصَّل علمَ الحديث هناك" قدم ابنُ الصلاح الشام وهو في عدادِ الفُضَلاء الكِبار، وأقام بالقُدسِ مُدَّة ودرس بالصلاحيَّة، ثم تحوَّل منه إلى دمشق، ودرس بالرواحيَّة ثم بدار الحديث الأشرفيَّة، وهو أول من وَلِيَها من شيوخ الحديثِ، وهو الذي صنَّف كتاب وقفِها، ثمَّ بالشامية الجوانيَّة، وقد صنف كتبًا كثيرةً مفيدةً في علوم الحديث- أشهرُها معرفةُ أنواع علوم الحديث المعروف بمقدِّمة ابن الصلاح، وله كتاب أدبُ المفتي والمستفتي- وفي الفقهِ، وله تعاليق حسنة على الوسيط وغيره من الفوائد التي يرحل إليها. كان ابن الصلاح إمامًا بارعًا، حجة، متبحرًا في العلوم الدينية، بصيرًا بالمذهب ووجوهه، خبيرًا بأصولِه، عارفًا بالمذاهبِ، جيدَ المادَّة من اللغة والعربية، حافظًا للحديث متفننًا فيه، حَسَن الضبطِ، كبيرَ القَدرِ، وافرَ الحُرمة، فكان عديمَ النظيرِ في زمانِه مع ما هو فيه من الدين والعبادة والنسك والصيانة، والورع والتقوى على طريق السَّلف الصالح، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدِّثين، مع الفضيلة التامَّة في فنون كثيرة. قال ابن الحاجب في معجمه: " ابن الصلاح إمامٌ وَرِع، وافِرُ العقل، حسَنُ السَّمت، متبحِّرٌ في الأصول والفروع، بالغٌ في الطلب حتى صار يُضرَبُ به المثل، وأجهد نفسَه في الطاعة والعبادة. – قلت (الذهبي): وكان حسَنَ الاعتقاد على مذهَبِ السَّلف، يرى الكف عن التأويل، ويؤمِنُ بما جاء عن الله ورسوله على مرادِهما. ولا يخوض ولا يتعمَّق- وفي فتاويه: سئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة؟ فأجاب: الفلسفة أسُّ السَّفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عَمِيَت بصيرته عن محاسِنِ الشريعة المؤيَّدة بالبراهين. ومن تلبَّسَ بها قارنه الخِذلانُ والحِرمانُ، واستحوذ عليه الشَّيطانُ، وأظلم قلبُه عن نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى أن قال(ابن الحاجب): واستعمال الاصطلاحات المنطقيَّة في مباحث الأحكام الشرعيَّة من المُنكَرات المستبشَعة، والرَّقاعات المستحدَثة، وليس بالأحكامِ الشرعيَّة- ولله الحمد- افتقارٌ إلى المنطق أصلًا، وهو قعاقِعُ قد أغنى الله عنها كلَّ صحيح الذهن؛ فالواجِبُ على السلطان أعَزَّه الله أن يدفَعَ عن المسلمينَ شَرَّ هؤلاء المشائيم، ويخرِجَهم من المدارس ويُبعِدَهم, ولابن الصلاح فتاوى مسددة, وكان معظَّمًا في النفوس، حَسَن البِزَّة، كثيرَ الهيبةَ، يتأدَّبُ معه السلطانُ فمَن دونه. تفقَّه عليه خلقٌ كثير، منهم: الإمام شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي، والإمامُ شِهابُ الدين عبدُ الرحمن بن إسماعيل أبو شامة، والإمام كمال الدين سلار، والإمام كمال الدين إسحاق، والإمامُ تقيُّ الدين بن رزين قاضي الديار المصرية، والعلَّامة شمس الدين بن خَلِّكان قاضي الشام وغيرهم "ولم يزل على طريقةٍ جيِّدة حتى كانت وفاتُه بمنزلِه في دار الحديث الأشرفيَّة في سَحَر الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر، وحُمِل على الرؤوس، وازدحم عليه الخلقُ، وكانت على جنازته هيبةٌ وخشوع، فصُلِّيَ عليه بالجامع، وشيعوه إلى عند باب الفرَج، فصُلِّيَ عليه بداخله ثانيًا، ورجع الناس لأجل حصار البلد بالخوارزميَّة، وما صَحِبَه إلى جبانة الصوفية إلا نحوُ العشرة.
سار سِنجر إلى لقاء التُّرك، فعبَرَ إلى ما وراء النَّهرِ، فشكا إليه محمودُ بنُ محمد خان من الأتراك القارغلية، فقَصَدهم سنجر، فالتجؤوا إلى كوخان الصيني ومَن معه من الكُفَّار، وأقام سنجر بسمرقند، فكتب إليه كوخان كتابًا يتضَمَّنُ الشَّفاعةَ في الأتراكِ القارغلية، ويَطلُبُ منه أن يعفوَ عنهم، فلم يُشَفِّعْه فيهم، وكتَبَ إليه يدعوه إلى الإسلامِ ويتهَدَّدُه إن لم يُجِبْ عليه، ويتوعَّدُه بكَثرةِ عساكرِه، ووَصْفِهم، وبالَغَ في قتالِهم بأنواعِ السِّلاحِ، حتى قال: وإنَّهم يَشُقُّونَ الشَّعرَ بسِهامهم، فلم يرْضَ هذا الكتابَ وزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، فلم يُصغِ إليه، وسَيَّرَ الكِتابَ، فلمَّا قُرئَ الكِتابُ على كوخان أمَرَ بنَتفِ لحيةِ الرَّسولِ، وأعطاه إبرةً، وكَلَّفَه شَقَّ شَعرةٍ مِن لحيَتِه فلم يَقدِرْ أن يفعَلَ ذلك، فقال: كيف يَشُقُّ غَيرُك شَعرةً بسَهمٍ وأنت عاجِزٌ عن شَقِّها بإبرةٍ؟ وقيل: سَبَبُ المعركة أنَّ سنجرَ كان قَتَلَ ابنًا لخوارزم شاه أتسز بن محمد، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا، وهم مِن الأتراك المجوس بما وراءَ النهر، وحَثَّهم على قَصدِ مملكةِ السُّلطان سنجر، فساروا في ثلاثمئة ألف فارسٍ بقيادة مَلِكِهم كوخان، وسار إليهم سنجر في عساكِرِه، واستعَدَّ كوخان للحَربِ، وعنده جنودُ الترك والصين والخطا وغيرهم، وقصد السُّلطانُ سنجر، فالتقى العسكرانِ بما وراءَ النَّهرِ بمَوضعٍ يقال له قطوان، وكانا كالبَحرينِ العَظيميَنِ، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى وادٍ يقالُ له درغم، وكان على ميمنةِ سِنجر الأميرُ قماج، وعلى مَيسَرتِه ملك سجستان، والأثقالُ وراءهم، فاقتتلوا خامِسَ صَفَر, وكانت الأتراكُ القارغليَّة الذين هربوا من سنجر مِن أشَدِّ النَّاسِ قِتالًا، ولم يكُنْ ذلك اليومَ مِن عَسكَرِ السُّلطان سنجر أحسَنُ قتالًا من صاحِبِ سجستان، فانجَلَت الحربُ عن هزيمة المسلمين، فقُتِلَ منهم ما لا يُحصى مِن كَثرتِهم، واشتمل وادي درغم على عشرةِ آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السُّلطانُ سنجر مُنهَزِمًا، وأُسِرَ صاحب سجستان والأميرُ قماج وزوجةُ السُّلطان سنجر، وهي ابنةُ أرسلان خان، فأطلَقَهم الكُفَّارُ، ولَمَّا انهزم سنجر قَصَد خوارزم شاه مدينةَ مَروٍ، فدخلها مُراغمةً للسُّلطانِ سنجر، وقَتَل جمعًا مِن أهلها، وقَبَضَ على أبي الفضل الكرماني الفقيهِ الحنفي وعلى جماعةٍ مِن الفقهاء وغيرِهم من أعيانِ البَلَدِ، وممَّن قُتِلَ الحسامُ عُمَرُ بن عبد العزيز بن مازة البُخاري الفقيهُ الحنفي المشهور. ولم يكُنْ في الإسلامِ وَقعةٌ أعظَمُ من هذه ولا أكثَرُ مِمَّن قُتِلَ فيها بخراسان، واستقَرَّت دولة الخطا والترك الكُفَّار بما وراء النهر، وبَقِيَ كوخان إلى رَجَب من سنة 537 فمات فيه.
هو الإمامُ العالمُ الفقيه المحَدِّث النحوي الناظِمُ: تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب ابن العلامة الفقيه قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السلمي السبكي الشافعي، قاضي قضاة دمشق بها، ولد بالقاهرة سنة 728. قال الصفدي: "عُنِيَ تاج الدين بالرواية وسمع كثيرًا، وقرأ بنفسه على شيخنا شمس الدين الذهبي كثيرًا من مصنفاته وغيرها، وأفتى ودرَّس، ونظم الشعر وعمل الألغاز، وراسلني وراسلته، وبالجملة فعِلمُه كثيرٌ على سِنِّه" جرت له مِحَنٌ فاتُّهِمَ بالكفر واستحلالِ الخَمرِ؛ قال ابن كثير: " عُقِدَ مجلس بسبب قاضي القضاة تاج الدين السبكي، ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول عُقِدَ مجلس حافل بدار السعادة بسَبَبِ ما رمي به قاضي القضاة تاج الدين الشافعي ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وكنت ممَّن طُلِب إليه، فحضرته فيمن حضر، وقد اجتمَع فيه القضاةُ الثلاثة، وخَلقٌ من المذاهب الأربعة، وآخَرون من غيرهم، بحضرة نائب الشام سيف الدين منكلي بغا، وكان قد كُتِبَ فيه محضران متعاكسانِ أحدهما له والآخر عليه، وفي الذي عليه خَطُّ القاضيين المالكي والحنبلي، وجماعةٍ آخرين، وفيه عظائِمُ وأشياء منكرة جدًّا ينبو السَّمعُ عن استماعه. وفي الآخَرِ خطوطُ جماعات من المذاهب بالثناء عليه، وفيه خَطِّي بأني ما رأيتُ فيه إلا خيًرا, وكثُرَ القول فيه وارتفعت الأصوات وكَثُر الجدال والمقال، وطال المجلِسُ، فأشار نائِبُ السلطنة بالصُّلحِ بينهم وبين قاضي القضاة تاج الدين، فأشار شيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل وأشرت أنا أيضًا بذلك، فقُمْنا والأمر باقٍ على ما تقدم، ثم اجتَمَعْنا يوم الجمعة بعد العصر عند نائب السلطنةِ عن طلبه فتَراضَوا كيف يكونُ جواب الكتابات مع مطالعة نائب السلطنة، ففعل ذلك وسار البريدُ بذلك إلى الديار المصرية، ثم اجتمَعْنا أيضًا يوم الجمعةِ بعد الصلاة التاسِعَ عشر من ربيع الآخر بدار السعادة، وحضر القضاةُ الثلاثة وجماعة آخرون، واجتهد نائبُ السلطنة على الصلح بين القضاة وقاضي الشافعية وهو بمصر، فحصل خلافٌ وكلام طويل، ثم كان الأمرُ أن سكنت أنفُسُ جماعة منهم.". لتاج الدين السبكي تصانيفُ، منها طبقات الشافعية الكبرى، وجمع الجوامع في أصول الفقه، والأشباه والنظائر، وشرح منهاج البيضاوي، وشرح مختصر ابن الحاجب، وكان درس بالعادلية والغزالية والأمينية والناصرية ودار الحديث الأشرفية والشامية البرانية، وباشر قضاءَ دمشقَ أربَعَ مَرَّات، وخطَبَ بالجامِعِ الأموي. توفِّيَ في عصر يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجَّة مُتأثِّرًا بالطاعون، ودفِنَ بسفح قاسيون، عن أربعٍ وأربعين سنة.
هو الشيخُ أبو محمد عثمان بن محمد الملقب بـ (فودي) بن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد أحدُ علماء نيجيريا، كان مالكيَّ المذهب. ولِدَ في قرية طقِل في شمال نيجيريا، سنة 1169هـ يعتبرُ عثمان دان فوديو مؤسِّسَ دولة تكرور في سوكوتو في غربِ أفريقيا قريبًا من نهر الكونغو، وكان قد عاد من الحجِّ وهو ممتلئٌ حماسةً للإصلاح الديني، فكَثُر أتباعُه والمتحمِّسون لأفكارِه، فلما زاد عددُ أتباعه ومريديه، وفكَّرَ في الاتصال بأحدِ الملوك ليشُدَّ مِن أزره، فلجأ إلى أقوى ملوكِ الهوسة- وهو وقتذاك- الملِكُ نافتا (ملك غوبر)، وشرح له الإسلامَ الصحيح وطلبَ إليه إحياءَ معالم الدين، وإقامةَ العدل بين الناس. فاستجاب له أوَّلَ الأمر وأسند إليه الفتوى والإرشادَ بمجلِسِه وديوانه، غيرَ أنَّ بعض مدَّعي العلمِ الحاقدين قاموا يعَيِّرونه لاتصاله بالمَلِك ويتَّهمونه بالرياء والسعي إلى الجاه والسلطان، ووشَوا به عنده، ومنهم من أنكر عليه بعضَ أقواله وأفعاله، فوقعت بينه وبين المَلِك جفوة سافر بسَبَبِها الشيخ إلى بلاد زمفرة وكبي. يقول الإمام محمد بللو ابن الشيخ عثمان بن فودي عن معاناة والده: "ثم إنَّه لما برز هكذا، وكثُرَ أتباعه من العلماء والعوام، وتراسل الخلقُ إلى الاقتداء به، وكفاه اللهُ من ناوأه من علماءِ وَقتِه، حتى نشر أعلامَ الدين، وأحيا السنة الغرَّاء، فتمكَّنت في البلد أيَّ تمكين- نصَبَ أهل الدنيا له العداوةَ مِن أمراء هذه البلاد،..... وإنما غاظهم ما يرون من ظهورِ الدين وقيام ما درس مِن معالم اليقين، وذَهاب بقاءِ ما هم فيه من الضَّلالِ والباطِلِ والتخمين، مع أنَّ سَلطنتَهم.. مؤسَّسة على قواعِدَ مخُالِفة للشريعة.... فلمَّا أوضح الشيخُ الطريق، واهتدى إليه أهلُ التوفيق... وبقِيَ أهل الدنيا من علماءِ السوء والملوك في طغيانِهم يعمهون،... فجعل أولئك الملوك والعلماء يؤذون الجماعةَ (أتباعه)، ويعترضون كلَّ من ينتسب إلى الشيخ،... ولم يزَلْ كُلُّ من تولى من ملوكِ بلادنا مجتَهِدًا في إطفاءِ ذلك النور، ويكيد بالشيخِ وبجماعته، ويمكُرُ بهم ويحتال في استئصالهم" استطاع الشيخ عثمان بالدعوة أن يوحِّدَ تلك الجماعات المتناثرة في شتى أقاليم الحوصة ويجعل منها جماعةً واحدةً مُتماسِكةً، فأصبح له جَيشٌ قوي، ثم تعرض لولايات الحوصة الإسلامية، فسقطت واحدة تلوَ الأخرى في يدِه، وكان قد قسَّم مملكتَه على ولديه، ومات في هذه السنة بعد أن أسَّس مملكةً كبيرة سُرعان ما هبَّ الإنجليز للتدخل فيها, ولفودي مؤلَّفات كثيرة تجاوزت 150 كتابًا. توفِّي في ولاية سقطو (سوكوتو) بنيجيريا.
هو الأميرُ محمدُ ابنُ المَلِكِ فَيصلِ ابنِ الملِكِ عبدِ العزيزِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ فَيصَلٍ آل سعودٍ، ولِدَ عامَ 1356هـ في مدينةِ الطائفِ، وهو الابنُ الثاني بعدَ الأميرِ الشاعرِ عَبد اللهِ الفَيصَلِ لنائبِ المَلِكِ على الحجازِ، الأميرِ فَيصَلِ بنِ عبدِ العزيزِ -آنَذاكَ-، والابنُ البِكرُ للأميرةِ عِفَّت الثَّنيان آل سعودٍ، التي قادت مشروعَ تعليمِ الفتاةِ السُّعوديةِ، وأنشأَتْ أولَ مَدارسَ للبناتِ، دار الحَنانِ، في الخمسينيَّاتِ الميلاديةِ، ثم حَرَصَتْ أنْ تَختِمَ حَياتَها بأوَّلِ جامِعةٍ أهليَّةٍ للبناتِ (جامِعةِ عفت). فقَدَ الأميرُ محمدٌ ذاكِرتَه قبلَ العاشرةِ من عُمرِه نتيجةً لإصابتِه بمَرضِ التيفوئيد، وكان شفاؤه منه أُعجوبةً لضَعفِ الإمكانيَّاتِ الطِّبيَّةِ في ذلك الحينِ، ثم استعادَ قُدرتَهُ على الكَلامِ والمَشيِ، وعاد إلى مدرسةِ الطائفِ النموذجيَّةِ التي أنشأتها والدتُه، وانتقَلَ بعدَها ليواصِلَ دراستَه الثانويَّةَ والجامعيَّةَ في الولاياتِ المُتَّحدةِ، ويتخرَّجَ في كليَّةِ مانيلو، سان فرانسيسكو، بشهادةِ بكالوريوس في الاقتصادِ والإدارةِ عامَ 1963. ثم التحَقَ بالبَعثةِ الدبلوماسيةِ السعوديةِ في الأمَمِ المتَّحدةِ، إضافةً إلى دَورِه في التواصُل مع إدارةِ الرئيسِ جون كنيدي. ثم عاد إلى المَملكةِ فعَمِلَ في مؤسسةِ النقدِ، ثم انتقلَ للعَمَلِ مع وزارةِ الزراعةِ؛ لتنفيذِ مَشروعِه الرائدِ "تَحليةِ مِياهِ البَحرِ"، بدَأَ بأوَّلِ مَحطَّةٍ في جُدَّةَ، في أوائلِ السَّبعينيَّاتِ، ثم بشبَكةِ مَحطَّاتٍ على شواطئِ البحرِ الأحمرِ والخَليجِ العربيِّ. ولكنَّه لم يَنجَحْ في تَمريرِ مَشروعِه الرائدِ لتوفيرِ المياهِ والكَهرباءِ وتَحسينِ البيئةِ عن طريقِ نَقلِ قِطَعٍ من جبالِ الجَليدِ من القطبِ الجنوبيِّ إلى شواطئِ البحرِ الأحمرِ، برَغمِ دراساتِ الجَدوى التي شاركَ فيها عُلَماءُ مشاهيرُ في التخصُّصاتِ كافَّةً ذاتِ الصِّلةِ، وتوصِياتِ مُؤتمَراتٍ دَوليَّةٍ مُتعدِّدةٍ، تَكفَّلَ وَحدَه بنَفَقاتِها. استقالَ الأميرُ في نِهايةِ السَّبعينيَّاتِ من وظيفتِه كأوَّل محافظٍ للمؤسَّسةِ العامَّةِ لتَحلِيةِ مِياهِ البَحرِ؛ ليَعملَ على تحقيقِ حُلْمٍ آخرَ هو البنوكُ الإسلاميةُ التِّجاريَّةُ، بعد مُشاركتِه في إنشاءِ البنكِ الإسلاميِّ للتنميةِ. واستطاعَ أنْ يُنشِئَ شَبَكةَ فُروعِ "بَنكِ فَيصَلٍ الإسلاميِّ" في مِصرَ والسودان والإماراتِ والبحرينِ وجنيف وباكستانَ وتركيا. وأسَّسَ وقادَ أوَّلَ اتِّحادٍ للبنوكِ الإسلاميةِ. ثم أنشَأَ "جائزةَ محمدٍ الفَيصَلِ لدراساتِ الاقتصادِ الإسلاميِّ"، وخُصِّصَت الجائزةُ للطلَّابِ في مراحلِ ما قبلَ الدكتوراه. وبعد وفاةِ والدِه الملكِ فَيصلِ بنِ عَبدِ العزيزِ شاركَ الأميرُ محمدٌ مع إخوانِه في تكريمِ والدِهم بإقامةِ مؤسَّسةِ الملكِ فَيصَلٍ الخَيريَّةِ، التي يَتبَعُها مركزُ الملكِ فيصلٍ للبُحوثِ والدراساتِ الإسلاميةِ، وجامعةُ الفيصَلِ، وجامعةُ عفت، وجائزةُ الملكِ فَيصلٍ. وكانت وفاتُه -رحِمَه الله- عن عمرٍ يُناهِزُ 80 عامًا، وصُلِّيَ عليه بعد صلاةِ العَصرِ في المسجِدِ الحرامِ بمكَّةَ.
كَتَبَ الوَليدُ إلى عُمَرَ بن عبدِ العزيز في رَبيعٍ الأوَّل يَأمُره بِإدْخال حُجَرِ أَزواجِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مَسجِد رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأن يَشتَرِي ما في نَواحِيه حتَّى يكون مِائَتَي ذِراع في مِائَتَي ذِراع، ويَقول له: قَدِّم القِبْلَةَ إن قَدَرْتَ، وأنت تَقْدِر لِمَكان أَخوالِك، وإنَّهم لا يُخالِفُونك، فمَن أَبَى منهم فقَوِّمُوا مُلْكَهُ قِيمَةَ عَدْلٍ واهْدِم عليهم وادْفَع الأثمانَ إليهم، فإنَّ لك في عُمَرَ وعُثمان أُسْوَةً. فأَحْضَرَهُم عُمَرُ وأَقْرَأَهم الكِتابَ، فأجابوه إلى الثَّمَنِ، فأَعطاهُم إِيَّاهُ، وأَخَذوا في هَدْمِ بُيوتِ أَزْواجِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وبَنَى المَسْجِدَ، وقَدِمَ عليهم الفَعَلَةُ مِن الشَّام، أَرْسَلَهم الوَليدُ، وبَعَثَ الوَليدُ إلى مَلِك الرُّوم يُعْلِمُه أنَّه قد هَدَمَ مَسجِدَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِيُعَمِّرَهُ، فبَعَث إليه مَلِكُ الرُّومِ مِائَة ألف مِثْقال ذَهَب، ومِائَة عامِل، وبَعَثَ إليه مِن الفُسَيْفِسَاء بِأَربعين جَمَلًا، فبَعَثَ الوَليدُ بذلك إلى عُمَرَ بن عبدِ العزيز، وحَضَر عُمَرُ ومعه النَّاسُ فوَضَعوا أَساسَه وابْتَدَأوا بِعِمارَتِه.
لَمَّا فرغ محمَّدُ بن حميد الطوسي مِن أمْرِ المتغَلِّبينَ على طريقِه إلى بابك الخُرمي سار نحوه وقد جمع العساكر، والآلاتِ والميرة، فاجتمع معه عالمٌ كثير من المتطوِّعةِ مِن سائر الأمصار، فسلك المضايقَ إلى بابك، وكان كلَّما جاوز مضيقًا أو عقبةً ترك عليه من يحفَظُه من أصحابِه إلى أن نزل بهشتادسر (جبل في إيران)، وحفَر خندقًا وشاور في دخولِ بلد بابك، فأشاروا عليه بدخولِه مِن وجهٍ ذكروه له، فقَبِلَ رأيهم، وعبَّأ أصحابه، فكان بابك يُشرِفُ عليهم من الجبل، وقد كمَنَ لهم الرجالُ تحت كلِّ صخرةٍ، فلما تقدَّمَ أصحابُ محمد، وصَعِدوا في الجبل خرج عليهم الكُمَناء وانحدر بابك إليهم فيمن معه، وانهزم الناسُ، وصبَرَ محمَّد بن حميد مكانَه، وفرَّ من كان معه غيرَ رجلٍ واحد، وسارا يطلبانِ الخلاص، فرأى جماعةً وقِتالًا فقَصَدهم، فرأى الخرميَّة يقاتلونَ طائفةً مِن أصحابه، فحين رآه الخرميَّة قصدوه؛ لِما رأَوا من حسن هيئتِه، فقاتَلَهم، وقاتلوه، وضربوا فَرَسه بزراق، فسقط إلى الأرضِ، وأكبُّوا على محمد بن حميد فقتلوه.
بعث المهتدي بكتابٍ إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر نائبِ الخليفة في بغداد يأمُرُه بأخذ البيعة له، وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد، وكان المعتزُّ قد سَيَّرَه إليها، فأرسل سليمانَ إليه، فأخذه إلى داره، فاجتمع العامَّةُ إلى باب دار سليمان، فقاتَلَهم أصحابه، وقيل لهم: ما يَرِدُ علينا من سامرَّاء خبر، فانصَرَفوا ورَجَعوا الغدَ، وهو يوم الجمعة على ذلك، وخطب للمعتز ببغداد، فانصرفوا وبكَّروا يوم السبت، فهجموا على دار سليمان، ونادَوا باسم أبي أحمد، ودَعَوا إلى بيعته، وسألوا سليمانَ أن يُريَهم أبا أحمد، فأظهَرَه لهم، ووعَدَهم أن يصيرَ إلى محبَّتِهم إن تأخَّرَ عنهم ما يحبُّون، فانصرفوا بعد أن أكَّدوا عليه في حفظ أبي أحمد، وذلك قبل أن يعلم أهلُ بغداد بما وقع بسامرَّا من بيعة المهتدي، فقُتِلَ من أهل بغداد وغَرِق منهم خلق كثيرٌ، ثمَّ لَمَّا بلغهم بيعةُ المهتدي سكَنوا, ثم أُرسِل إليهم من سامراء مالٌ ففُرِّق فيهم، فَرَضُوا وبايعوا للمهتدي لسبعٍ خَلَونَ من شعبان، وسكنت الفتنة، فاستقرت الأمور واستقر المهتدي في الخلافةِ.
أقام أحمد بن طولون مسجدًا ضخمًا أنفق في بنائه 120 ألف دينار، وقد اهتمَّ بالأمور الهندسية في بنائه، ويُعَدُّ مسجد ابن طولون المسجِدَ الوحيدَ بمصرَ الذي غلَبَ عليه طرازُ سامِرَّاء؛ حيث المئذنةُ الملوية المُدرَّجة. وقام السلطان لاجين بإدخالِ بعض الإصلاحات فيه، وعيَّنَ لذلك مجموعةً من الصناع، كما أمر بصناعةِ ساعة فيه، فجُعِلَت قبةً فيها طيقانٌ صغيرة على عددِ ساعاتِ الليل والنهار وفتحة، فإذا مَرَّت ساعة انغلقت الطاقةُ التي هي لتلك الساعة وهكذا، ثم تعود كلَّ مرة ثانية. وفي عهد الأيوبيين أصبح جامع ابن طولون جامعةً تُدَرَّسُ فيه المذاهِبُ الفقهيَّة الأربعة، وكذلك الحديثُ والطِّبُّ، إلى جانب تعليم الأيتام, وكان أحمد بن طولون قد بنى قصره عند سَفحِ المقَطَّم، وأنشأ الميدانَ أمامه، وبعد أن انتهى من تأسيس مدينة القطائع، شَيَّد جامِعَه على جبل يشكر, وتمَّ بناؤه سنة 265ه، وهذا التاريخُ مُدَوَّن على لوحٍ رُخاميٍّ مُثبت على أحدِ أكتاف رُواق القبلة, والجامِعُ وإن كان ثالِثَ الجوامِعِ التي أُنشِئَت بمصر، يعَدُّ أقدَمَ جامِعٍ احتفظَ بتخطيطِه وكثيرٍ مِن تفاصيلِه المعماريَّة الأصليَّة.
لَمَّا رأى الخليفةُ المعتَمِد أن أخاه أبا أحمد قد استحوذ على أمورِ الخلافة، وصار هو الحاكِمَ الآمِرَ الناهي، وإليه تُجلَبُ التقادم وتُحمَل الأموال والخَراج، وهو الذي يُوَلِّي ويعزل، كتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه ذلك، فكتب إليه ابن طولون أن يتحَوَّل إليه في مصرَ، ووعده النصرَ والقيامَ معه، فاستغلَّ غَيبةَ أخيه الموفَّق، وركب في جمادى الأولى ومعه جماعةٌ من القواد، وقد أرصد له ابن طولون جيشًا بالرقة يتلقَّونه، فلما اجتاز الخليفةُ بإسحاق بن كنداج نائب الموصل وعامة الجزيرة، اعتقله عنده عن المسيرِ إلى ابن طولون، وفنَّدَ أعيانَ الأمراء الذين معه، وعاتب الخليفةَ ولامَه على هذا الصنع أشَدَّ اللوم، ثم ألزمه العودَ إلى سامرَّا ومن معه من الأمراء، فرجعوا إليها في غاية الذلِّ والإهانة، ولَمَّا بلغ الموفَّقَ ذلك شكَرَ سعيَ إسحاق وولَّاه جميع أعمال أحمد بن طولون إلى أقصى بلاد إفريقيَّة، وكتب إلى أخيه أن يأمنَ ابن طولون في دار العامة، فلم يمكِنْ المعتَمِد إلَّا إجابتُه إلى ذلك، وهو كارِهٌ، وكان ابن طولون قد قطع ذِكرَ الموفَّق في الخُطَب وأسقط اسمَه عن الطرازات.
هو الأمير المجاهد شرف الدولة مودود بن التونتكين بن الأتابك زنكي -أتابك يعني الأمير الوالد- بن قسيم الدولة آقسنقر التركماني، صاحب الموصل، أمير من أمراء السلاجقة العظام، كان رجلًا فاضلًا عالمًا مجاهدًا, خيِّرا عادلًا كثير الخير, وهو والد عماد الدين زنكي "أبو الفتح"، وهو من جملة الأمراء والنواب الذين قدموا لقتال الفرنج بالشام، ولما دخلوا دمشق دخل الأمير مودود يوم الجمعة إلى جامعها ليصلِّيَ فيه، فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئًا فأعطاه، فلما اقترب منه ضربه في فؤاده، فمات من يومه -رحمه الله، وقيل: بل كان قتله عام 505هـ. وقيل: كان قتله بتحريض من طغتكين التركي. وقيل: إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وكان يومها صائمًا. ودفن مودود بدمشق في تربة دقماق صاحبها، وحمل بعد ذلك إلى بغداد، فدُفِنَ في جوار أبي حنيفة، ثم حُمِل إلى أصبهان، وقال ابن الأثير: "إن بغدوين ملك بيت القدس الصليبي كتب كتابًا فيه: إنَّ أمةً تقتُل عميدَها يوم عيدِها في بيت معبودِها لحقيقٌ على الله أن يُبيدَها!".
هو المَلِكُ شِهابُ الدِّينِ، أبو القاسِمِ محمودُ بنُ تاج الملوك بوري بن الأتابك طغتكين صاحِب دمشقَ. تمَلَّك بعد مَقتَلِ أخيه شمسِ الملوك، بإعانةِ أمِّه زمرد، وكان مُقَدَّمَ عَسكَرِه مُعينُ الدين أنر. قال ابنُ عساكر: "كانت الأمورُ تجري في أيَّامه على استقامةٍ، إلى أن وثَبَ عليه جماعةٌ مِن خَدَمِه، فقتلوه في شوَّال، هذه السنة"، قُتِلَ على فِراشِه غِيلةً، قتله ثلاثةٌ مِن غِلمانِه هم خواصُّه وأقربُ النَّاسِ منه في خَلوتِه، وكانوا ينامونَ عنده ليلًا، فقَتَلوه وخرجوا من القلعة وهربوا، فنجا أحدُهم، وأُخِذَ الآخَرانِ فصُلِبا، وكَتَب مَن بدمشقَ إلى أخيه جمالِ الدينِ مُحمَّدِ بنِ بوري صاحب بعلبك، بصورة الحالِ واستدعَوه ليملِكَ بدَلَ أخيه، فحضر في أسرَعِ وَقتٍ، فلمَّا دخل البلد جلسَ للعزاء بأخيه، وحلَفَ له الجندُ وأعيانُ الرعيَّة، وسكن النَّاسُ، وفَوَّضَ أمرَ دَولتِه إلى مُعين الدين أنر، مملوكِ جَدِّه، وزاد في علوِّ مَرتبةِ مُعين الدين، وصار الجُملة والتفصيل، وقد كان خَيِّرًا عاقِلًا حَسَن السِّيرةِ، فجَرَت الأمورُ عنده على أحسَنِ نِظامٍ.
سارت مراكِبُ الفِرنجِ مِن صقليَّةَ إلى طرابلس الغَربِ فحَصَروها، وسبَبُ ذلك أنَّ أهلَها في أيَّامِ الأمير الحَسَن صاحِبِ إفريقيَّة، لم يَدخُلوا في طاعته، ولم يَزالُوا مخالِفينَ مُشاقِّينَ له، فقَدَّموا عليهم من بني مطروح مشايخَ يُدَبِّرونَ أمْرَهم، فلمَّا رآهم مَلِكُ صَقليَّةَ كذلك جهَّزَ إليهم جيشًا في البحر، فوصلوا إليهم تاسِعَ ذي الحجة، فنازلوا البلدَ وقاتلوه، وعَلَّقوا الكلاليبَ في سُورِه ونَقَبوه، فلمَّا كان الغدُ وصل جماعةٌ مِن العَرَبِ نجدةً لأهلِ البلد، فقَوِيَ أهلُ طرابلس فيهم، فخرجوا إلى الأسطوليَّة، فحَمَلوا على الإفرنجِ حَملةً مُنكَرةً، فانهزم الإفرنجُ هزيمةً فاحِشةً، وقُتِلَ منهم خلقٌ كَثيرٌ، ولحِقَ الباقون بالأسطولِ، وتَرَكوا الأسلحةَ والأثقالَ والدوابَّ، فنَهَبَها العَرَبُ وأهل البلد. ورجَعَ الفرنجُ إلى صَقليَّةَ، فجَدَّدوا أسلحَتَهم وعادوا إلى المَغربِ، فوصلوا إلى جيجل، فلمَّا رآهم أهلُ البلد هَرَبوا إلى البراري والجبال، فدخلها الفرنجُ وسَبَوا مَن أدركوا فيها وهَدَموها، وأحرَقوا القَصرَ الذي بناه يحيى بنُ عبد العزيز بن حماد للنُّزهة ثمَّ عادوا.