في عاشر شهر صفر جمع الأميرُ الكبير ططر عنده بالأشرفية من القلعة قضاةَ القضاة وأمراء الدولة ومباشريها، وكثيرًا من المماليك السلطانية، وأعلَمَهم بأن نواب الشام والأمير ألطنبغا القرمشي ومن معه من الأمراء المجردين لم يرضوا بما عمل بعد موت المؤيد، ولا بد للناس من حاكم يتولى تدبيرَ أمورهم، ولا بد أن يعيِّنوا رجلًا ترضَونه؛ ليقوم بأعباء المملكة ويستبد بالسلطنة، فقال الجميع: قد رضينا بك، وكان الخليفة حاضرًا فيهم، فأشهد عليه أنَّه فوض جميع أمور الرعية إلى الأمير الكبير ططر، وجعل إليه ولاية من يرى ولايته، وعزل من يريد عزله من سائر الناس، وأن يُعطي من شاء ما شاء، ويمنع من يختار من العطاء، ما عدا اللقب السلطاني، والدعاء له على المنابر، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، فإن هذه الثلاثة أشياء باقية على ما هي عليه للملك المظفَّر، وأثبت قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني هذا الإشهاد، وحكم بصحته، ونفذَ حكمه قضاة القضاة الثلاثة، ثم حلف الأمراء للأمير الكبير يمينهم المعهودة.
بعد أن تولى السلطان مراد الثاني سلطنة الدولة العثمانية، طلب منه إمبراطور القسطنطينية إيمانويل أن يتعهد له بعدم محاربته مطلقًا وأن يسلمه اثنين من إخوته تأمينًا على نفاذ هذا التعهد وتهدده بإطلاق سراح عمه مصطفى بن بايزيد ولَمَّا لم يجبه مراد الثاني لطلبه أخرج مصطفى من منفاه وأعطاه عشرة مراكب حربية تحت إمرة دمتريوس لاسكاريس, فحاصر بها مدينة غاليبولي فسُلِّمَت إلا القلعة فتركها مصطفى بعد أن أقام حولها من الجند ما يكفي لمنع وصول المدد إليها وسار ببقية جيشه قاصدًا أدرنه، فخرج الوزير بايزيد باشا لمحاربته فتقدم مصطفى وخطب في العساكر بإطاعته؛ لأنه أحق بالملك من ابن أخيه فأطاعته الجيوش وقتلت بايزيد باشا قائدهم فسار مصطفى بعد ذلك لمقابلة ابن أخيه مراد الثاني الذي كان متحصنًا مع من معه من الجنود خلف نهر صغير، وهناك خان مصطفى بعضُ قواده فتركه أغلبُ جنوده حتى التزم الهروبَ إلى مدينة جاليبولي فسلَّمه بعض أتباعه إلى ابن أخيه مراد الثاني فأمر بشنقِه.
كان أغا محمد خان- أغا أي: مَخْصِي- وهو من قبيلة قاجار المشهورة التي سكنت استراباد شمالي إيران، وهم من الشيعة الاثني عشرية، كان مستشارَ كريم خان الزندي، وقيل: إنه لَمَّا توفي كريم خان فرَّ أغا محمد خان من شيراز إلى طهران، وأعلن استقلالَه، ثم لَمَّا وصل إلى بلاده الأصلية جمع حولَه القاجارية وضمَّ إليه أيضًا بعض القبائل المجاورة وتصالحَ مع الأفشار، فأصبح هو صاحِبَ الأمر والنهي في شماليَّ إيران، وكان منافسُه لطف علي خان صاحبَ إيران الجنوبية وقاعدته شيراز، وحصلت بينهما حروبٌ كثيرة إلى أن قام وزيرُ لطف علي واسمه إبراهيم بتسليمِ مدينة شيراز لأحد قوَّاد أغا محمد عندما غاب لطف علي عنها، ثمَّ ملك أغا محمد كرمان، واستطاع أن يقضيَ على لطف علي، حيث سلَّمه بعضَ القبائل الذين قَبَضوا عليه لأغا محمد، ففقأ عينيه وقتله، فأصبحت إيران كلُّها في قبضته، وانتهت دولة الزنديين، وبدأت دولة القاجاريين على إيران.
بعد أن قامت الثورةُ الفلسطينية الكبرى عام 1936م وعَمَّت كلَّ أرجاء فلسطين وتكَبَّد البريطانيون من ورائِها خسائرَ فادحةً: أرادوا أن يستغلُّوا هذه النقطةَ لصالِحِهم، فقاموا بتشكيلِ لجنةٍ برئاسة بيل، وهي ما تسمى باللجنة الملكية البريطانية؛ لدراسة أسباب الثورة، وكأن أسبابَها غامضةٌ تحتاج إلى دراسة، وكان الغرضُ الرئيس من هذه اللجنة وغيرها من اللجان امتصاصَ الثورة بظهور بريطانيا أمام العالم أنها مهتمَّةٌ بقضايا الشعب الفلسطيني التي هي مُنتدَبةٌ عليه، بالإضافة إلى المكسب الإعلامي، فقامت هذه اللجنةُ في تقريرها المقَدَّم إلى الحكومة البريطانية في السابع من يوليو 1937م بتقسيمِ فلسطين بين العرب وبين اليهود، وتضَمَّن التقريرُ مطالِبَ الشعب الفلسطيني حيالَ نوايا اليهودِ مِن إنشاءِ الوطن القومي اليهودي في فلسطينَ بمساعدةِ الحكومة البريطانية، وأوصت اللجنة أيضًا بضرورة إبدال نظام الانتداب بنظام المعاهداتِ التي اتبعَتْه بريطانيا في العراق، والتي اتَّبَعَتْه فرنسا في سوريا، وأيَّدت الحكومة البريطانية بشدةٍ التوصيةَ التي جاءت بها لجنة بيل حول تقسيم فلسطين، ورأت أنه الحَلُّ الأمثل للقضية الفلسطينية!!
هو المؤرِّخُ اليمنيُّ القاضي إسماعيلُ بن عليٍّ الأكوَعُ، تُوفِّي في مدينةِ صنعاءَ عن (87) عامًا، ودُفن في مقبرة "حدة" وشارك في تشييعِ الجنازة رئيسُ الجمهورية ورئيسُ مجلسِ القضاء الأعلى ورئيسُ مجلسِ الشورى وعددٌ كبيرٌ من العُلَماء والمسؤولين والمثقَّفين. والقاضي إسماعيلُ مؤرِّخٌ ولغويٌّ وفقيهٌ وأديبٌ، كان عضوًا في المَجمَع العلميِّ العراقي، والمَجمعِ العلميِّ الهنديِّ، وعضوًا في المَجمَعِ اللُّغوي الأردنِّي، والمَجمعِ اللُّغوي السوريِّ، وعضوًا في المَجمع الملَكي الأردنِّي لبُحوث الحضارة الإسلامية. وقد أسَّس في اليمن الهيئةَ العامَّةَ للآثار ودُورِ الكتُب، وكان رئيسَها لأكثرَ من عشرين عامًا، كما شَغَل طِيلةَ حياتِه عدةَ مناصِبَ، منها: وزير الإعلامِ، ونائبُ وزيرِ الخارجيةِ، وسفيرُ اليمنِ في موسكو. وللقاضي الأكوع مجموعةٌ كبيرةٌ من الكتبِ والمؤلَّفات والتحقيقات والأبحاثِ العلميَّة، منها: ((هِجَر العلم ومَعاقِله في اليمن))، و((المدارس الإسلامية في اليمن))، و((الدَّولة الرَّسولية في اليمن)) إلى غيرِ ذلك، وقد تُرجِمَ كَثيرٌ من كُتُبِه وأبحاثِه إلى لغاتٍ أجنبيةٍ مختلفةٍ.
كان السلطان الأشرف برسباي قد تجهز للسفر إلى جهة آمد من هذه السنة، وسبب ذلك أن قرا يلك مَلِك آمد أظهر أولًا أنه يريد الطاعة لَمَّا كان ابنه هابيل في قبضة السلطان من أيام تملُّك الرها، ثم لما مات هابيل بالطاعون لم يعُدْ قرا يلك يُلقي بالًا للسلطان، بل عدا على ملطية وغيرها من البلاد، وأحرق وأفسد، وكان السلطان في السنوات الماضية يُشيعُ أنه يريد السفر لقتاله؛ لعل قرا يلك يُرعَب منه فيطلب الصلح، ولكنه لم يفعَلْ، فعزم في هذه السنة على السفر فسافر إلى آمد، ثم وصل كتاب السلطان من الرها، مؤرخًا بالثامن عشر ذي القعدة، يتضمَّنُ أنه رحل عن آمد بعدما أقام على حصارها خمسة وثلاثين يومًا، حتى طلب قرا يلك الصلح، فصُولحَ، ورحل العسكر في الثالث عشر ذي القعدة، وكان من خبرهم أن سار السلطان بعساكره من الرها وعليهم الأسلحة وآلة الحرب، إلى أن نزل إلى آمد في يوم الخميس ثامن شوال، وقبل نزول السلطان عليها صَفَّ عساكره عدة صفوف، ووراءهم الثقل والخدم، حتى ملؤوا الفضاء طولًا وعرضًا، وقد هال أهل آمد ما رأوه من كثرة العساكر وتلك الهيئة المزعجة؛ لكثرة ما اجتمع على السلطان من العساكر المصرية والنواب بالبلاد الشامية وأمراء التركمان والعربان، وكان قرا يلك قبل أن يخرج من مدينة آمد أمر أن يُطلَق الماءُ على أراضي آمد من خارج البلد من دجلة، ففعلوا ذلك فارتطمت خيول كثير من العسكر بالماء والطين، فلم يكترث أحد بذلك، ومشى العسكر صفًّا واحدًا، ولم يكن لآمد قلعة بل سور المدينة لا غير، إلا أنه في غاية الحسن من إحكام بنيانه؛ فلهذا يصعب حصارها ويبعد أخذها عَنوةً، فوقف العسكر حول آمد ساعة، ثم مال السلطان بفرسه إلى جهة بالقرب من مدينة آمد، ونزل به في مخيمه، وأمر الناس بالنزول في منازلهم، وأمرهم بعدم قتال أهل آمد، ونزل الجميعُ بالقرب من آمد، كالحلقة عليها، غير أنهم على بعد منها، بحيث إنه لا يلحقهم الرمي من السور، ونزل السلطان بمخيمه وقد ثبت عنده رحيل قرا يلك من آمد، وأنه ترك أحد أولاده بها، فأقام بمخيَّمه إلى صبيحة يوم السبت عاشر شوال، فركب وزحف بعساكره على مدينة آمد بعد أن كلَّمهم السلطان في تسليمها قبل ذلك، وتردَّدت الرسل بينه وبينهم، فأبى من بها من الإذعان لطاعة السلطان وتسليم المدينة إلا بإذن قرا يلك، ولما زحف السلطان على المدينة اقتحمت عساكر السلطان خندق آمد، وقاتلوا من بها قتالًا شديدًا، حتى أشرف القوم على الظفر وأخْذ المدينة، ورُدِم غالب خندق مدينة آمد بالحجارة والأخشاب، وبينما الناس في أشدِّ ما هم فيه من القتال، أخذ السلطانُ في مقت المماليك وتوبيخهم، وصار كلما جُرِحَ واحد من عساكره وأُتي له به يزدريه ويهزأُ به، وينسب القوم للتراخي في القتال، ثم لبس هو سلاحه بالكامل، وأراد أن يقتحم المدينة بنفسه حتى أعاقه عن ذلك أعيان أمرائه، وهو يتكلم بكلام معناه أن عساكره تتهاون في قتال أهل آمد، فلا زالت الأمراء به، حتى خلع عن رأسه خوذته ولبس تخفيفة على العادة، واستمرَّ القرقل عليه، إلى أن ترضَّاه الأمراء، وخلع قرقله، وسَئِمَت الناس من القتال، هذا مع ما بلغهم من غضب السلطان، بعد أن لم يُبقوا ممكِنًا في القتال، وقد أثخنت جراحات الأمراء والمماليك من عِظَم القتال، كل ذلك والسلطان ساخِطٌ عليهم بغير حق، فعند ذلك فتر عزم القوم عن القتال من يومئذ، ولما انقضى القتال وتوجه كل واحد إلى مخيمه، وهو غير راض في الباطن، وجد أهل آمد راحة كبيرة بعودة القوم عنهم، وأخذوا في تقوية أبراج المدينة وسورها، بعد أن كان أمرهم قد تلاشى؛ مما دهمهم من شدة قتال مَن لا قِبَلَ لهم بقتاله، ونزل السلطان بمخيمه، وندب الأمراء والعساكر للزحف، على هيئة ركوبهم يوم السبت، في يوم الثلاثاء، وهو أيضًا في حال غضبه، وقد اجتهد مماليك السلطان وأمراؤه في القتال، وجُرِح الغالب منهم، فكان آخر كلام السلطان للأمراء: إن العساكر تركب صحبة الأمراء في يوم الثلاثاء، وتزحف على المدينة، ويكون الذي يركب مع الأمراء للزحف المماليك القرانيص، وأنا ومماليكي الأجلاب نكون خلفهم، وقامت قيامةُ القوم، وتنكَّرت القلوب على السلطان في الباطن، وتطاولت أعناقُ أمرائه إلى الوثوب عليه، وبلغ السلطان عن الأمراء والمماليك نوع من الممالأة على الفتك به، فاضطرب أمره وصار يحاور المدينة، وهو في الحقيقة محصور من احتراسه من أمرائه ومماليكه، وأخذ في الندم على سفره، وفتر عزمه عن أخذ المدينة في الباطن، وضَعُف عن تدبير القتال، هذا والقتال مستمر في كل يوم، بل في كل ساعة، بين العسكر السلطاني وبين أهل آمد، وقُتِلَ خلائق من الطائفتين كثيرة، وصار السلطان يضايق أهل آمد بكل ما وصلت قدرتُه إليه، هذا وقد قَوِيَ أمرهم واشتد بأسهم لما بلغهم من اختلاف عساكر السلطان، وبينما السلطان فيما هو فيه قَدِمَ عليه الأمير دولات شاه الكردي صاحب أكل من ديار بكر، فأكرمه السلطان وخلع عليه، ثم لما بلغ الأشرف أحمد ابن الملك العادل سليمان صاحب حصن كيفا قدوم السلطان الملك الأشرف إلى آمد، خرج من الحصن في قليل من عسكره في أوائل ذي القعدة يريد القدوم على السلطان، فاعترضه في مسيره جماعة من أعوان قرا يلك على حين غفلة، وقاتلوه إلى أن قُتِلَ الملك الأشرف من سهم أصابه، وانهزم بقيةُ من كان معه وانتهبوا، فقدم جماعةٌ منهم على السلطان الأشرف، وعَرَّفوه بقتل الملك الأشرف صاحب الحصن، فعَظُم عليه ذلك إلى الغاية، ومن هذا اليوم أخذ السلطان في أسباب الرحيل عن آمد، غيرَ أنه صار يترقب حركة يرحل بها؛ لتكونَ لرحيله مندوحةٌ، ثم ندب السلطان جماعة كبيرة من التركمان والعربان من عسكره لتتبع قتلة الملك الأشرف صاحب الحصن، ولما ندب السلطان الجماعة المذكورة لتتبُّع قتلة الملك الأشرف وغيره، خرجوا إلى جهة من الجهات فوافوا جماعة كبيرة من أمراء قرا يلك وقاتلوهم حتى هزموهم، وأسَروا منهم جماعة كبيرة من أمراء قرا يلك وفرسانه، وأتوا بهم إلى السلطان، وهم نيِّف على عشرين نفسًا، فأمر السلطان بقيدهم فقُيِّدوا، ثم توجهوا ثانيًا فوافقوا جماعة أخرى فقاتلوهم أيضًا وأسروا منهم نحو الثلاثين، ومن جملتهم قرا محمد أحد أعيان أمراء قرا يلك، فأحضر السلطان قرا محمد وهدده بالتوسيط إن لم يُسَلِّم له آمد، فأخذوا قرا محمد ومرُّوا إلى تحت سور المدينة، فكلَّمهم قرا محمد في تسليم المدينة، فلم يلتفتوا إليه، فأخذوه وعادوا، وأصبح السلطان فوسَطَ منهم تحت سور آمد عشرين رجلًا، من جملتهم قرا محمد، ثم بلغ السلطان أن قرا يلك نزل من قلعة أرقنين بجماعة من عساكره يريد أن يكبس على السلطان في الليل، أو يتوجه بهم إلى حلب، فندب السلطانُ جماعة من الأمراء والمماليك في عمل اليزك بالنوبة، في كل ليلة لحفظ العساكر، ثم رسم السلطان للأمير جارقطلو نائب الشام بالتوجُّه لقرا يلك بقلعة أرقنين، وندب معه جماعة من النواب والأمراء والعساكر المصرية، فخرجوا من الوطاق السلطاني في الليل بجموع كثيرة، وجدُّوا في السير حتى وافوا قرا يلك وهو بمخيمه تحت قلعة أرقنين بين الظهر والعصر، وكان غالب العسكر قد تخلَّف، فتقدم بعض العسكر السلطاني من التركمان والعربان، واقتتلوا مع القرا يلكية قتالًا جيدًا إلى أن كانت الكسرة في العسكر السلطاني، وقُتِل جماعة كثيرة من التركمان والعربان وأمراء دمشق وغيرهم، كل ذلك وسنجق السلطان إلى الآن لم يَصِل، وأما جارقطلو فإنه لما قَوِيَ الحر عليه نزل على نهر بالقرب من أرقنين ليروي خيوله منه، وصار الرائد يرد عليه بأن القوم قد التقوا مع عساكر قرا يلك، وهم في قلة وقد عزموا على القتال، فلم يلتفت إلى ذلك وسار على هيئته، فتركه بعض عساكره وساروا حتى لحقوا بمن تقدَّمهم وقاتلوا القرا يلكية، ثم تراجع القومُ وكرُّوا على القرا يلكية وهزموهم أقبح هزيمة، وتعلَّق قرا يلك بقلعة أرقنين وتحصَّن بها، ونُهِبت عساكره وتمزقوا كل ممزق، هذا والسلطان مجتهد في عماره قلعة من الخشب تجاه أبراج، ومكاحل النفط ترمي في كل يوم بالمدافع، والمجانيق منصوبة يُرمى بها، وأيضًا على الأبراج، وأهل آمد في أسوأ ما يكون من الحال، هذا مع عدم التفات السلطان لحصار آمد الالتفات الكلي؛ لشغل خاطره من جهة اختلاف عساكره، وهو بتلك البلاد بين يدي عدوِّه، وقد تورط في الإقامة على حصار آمد، والشروع ملزم، وطالت إقامته على آمد بعساكره نحو خمسة وثلاثين يومًا، وقد ضاق الحالُ أيضًا على أهل آمد، فعند ذلك ترددت الرسل بين السلطان وبين قرا يلك في الصلح، وكان قرا يلك هو البادئ في ذلك، حتى تم وانتظم الصلح بينهما على أن قرا يلك يُقَبِّل الأرض للسلطان، ويَخطُب باسمه في بلاده ويَضرِبَ السكةَ على الدينار والدرهم باسمه، فأجاب إلى ذلك، فأرسل إليه السلطان القاضيَ شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر، فتوجَّه إليه القاضي شرف الدين بالخِلَع والفرس الذي جهزه السلطان إليه بقُماش ذهب، ونحو ثلاثين قطعة من القماش السكندري، ولما بلغ قرا يلك مجيءُ القاضي شرف الدين نزل من قلعة أرقنين بمخيمه، ولقي القاضي شرف الدين وسَلَّم عليه، ثمَّ قام وقَبَّل الأرض، فألبسه القاضي شرف الدين الخِلعة، ثم قُدِّمَ له الفرس صحبة الأوجاقي، فقام إليه، فأمره القاضي شرف الدين بتقبيل حافرِ الفرس، فامتنع من ذلك قليلًا، ثم أجاب بعد أن قال: واللهِ، إن هذه عادة تعيسة، أو معنى ذلك, ثم أخذ في الكلام مع القاضي شرف الدين، فأخذ القاضي شرف الدين يعظه ويحذره مخالفة السلطان وسوء عاقبة ذلك، وعاد القاضي شرف الدين إلى السلطان، وفي الحال أخَذَ السلطان في أسباب الرحيل، ورحل في ليلة الخميس ثالث عشر ذي القعدة في النصف الثاني من الليل من غير ترتيب ولا تطليب، ولا تعبية، ورحلت العساكر من آمد كالمنهزمين، لا يلوي أحد على أحد، بل صار كل واحد يسير على رأيه، وعند رحيل القوم أطلق الغلمان النيران في الزروع المحصودة برسم عليق خيول الأجناد، فإنه كان كل جندي من الأجناد صار أمام خيمته جرن كبير مما يحصُدُه غلامه، ويأتيه به من زروع آمد، فلما انطلق النار في هذه الأجران، انطبق الوطاق بالدخان إلى الجو، حتى صار الرجل لا ينظر إلى الرجل الذي بجانبه، ورحل الناس على هذه الهيئة مسرعين، مخافة أن يسير السلطان ويتركهم غنيمةً لأهل آمد!
هو السلطانُ عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد الثاني، السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية، وآخِرُ من امتلك سلطةً فعليةً منهم. ولد في 16 شعبان 1258هـ الموافق 21 سبتمبر 1842م، وتولَّى الحكم عام 1293هـ 1876م. أبعِدَ عن العرش عام 1327هـ / 1909م بتهمة الرجعية، وأقام تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في 15 جمادى الأولى 1337هـ الموافق 10 فبراير 1918م. تلقى السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد تعليمَه بالقصر السلطاني، وأتقن من اللغات: الفارسية والعربية، وكذلك درس التاريخ والأدب. يعرِّفُه البعض، "باولو خاقان" أي "الملك العظيم" وعُرِفَ في الغرب باسم "السلطان الأحمر"، أو "القاتل الكبير" بسبب مذابح الأرمن المزعوم وقوعُها في فترة تولِّيه منصِبَه. رحَّب جزء من الشعب العثماني بالعودة إلى الحكم الدستوري بعد إبعاد السلطان عبد الحميد عن العرش في أعقاب ثورة الشباب التركي "الاتحاديين". غيرَ أن الكثير من المسلمين ما زالوا يقدِّرون قيمة هذا السلطان الذي خَسِرَ عرشه في سبيل أرض فلسطين التي رفض بيعَها لزعماء الحركة الصهيونية. تولى السلطانُ عبد الحميد الثاني الخلافة في 11 شعبان 1293هـ، الموافق 31 آب (أغسطس) 1876م، وتبوَّأ عرشَ السلطنة يومئذٍ على أسوأ حال؛ حيث كانت الدولة في منتهى السوء والاضطراب، سواء الأوضاع الداخلية أو الخارجية. دبَّرت جمعية "الاتحاد والترقي" عام 1908م انقلابًا على السلطان عبد الحميد تحت شعارات الماسونيةِ "حرية، عدالة، مساواة". كان اليهودُ لَمَّا عُقِدَ مؤتمرُهم الصهيوني الأول في (بازل) بسويسرا عام 1315هـ، 1897م، برئاسة ثيودور هرتزل 1860م-1904م رئيس الجمعية الصهيونية، اتَّفقوا على تأسيس وطنٍ قوميٍّ لهم يكون مقرًّا لأبناء عقيدتهم، وأصَرَّ هرتزل على أن تكون فلسطينُ هي الوطنَ القوميَّ لهم، فنشأت فكرةُ الصهيونية، وقد اتَّصل هرتزل بالسلطان عبد الحميد مرارًا ليسمح لليهودِ بالانتقال إلى فلسطين، ولكِنَّ السلطان كان يرفض، ثم قام هرتزل بتوسيطِ كثير من أصدقائه الأجانب الذين كانت لهم صلةٌ بالسلطان أو ببعض أصحابِ النفوذ في الدولة، كما قام بتوسيطِ بعض الزعماء العثمانيين، لكنه لم يُفلح، وأخيرًا زار السلطانَ عبد الحميد بصحبة الحاخام (موسى ليفي) و(عمانيول قره صو)، رئيس الجالية اليهودية في سلانيك، وبعد مقَدِّمات مُفعَمة بالرياء والخداع، أفصحوا عن مطالبهم، وقدَّموا له الإغراءاتِ المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالًا طائلةً مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالُف سياسي يُوقفون بموجِبِه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضِدَّه في صحف أوروبا وأمريكا. لكِنَّ السلطان رفض بشدةٍ وطردهم من مجلسِه، وقال: " إنكم لو دفعتم ملءَ الدنيا ذهبًا، فلن أقبل؛ إنَّ أرضَ فلسطين ليست ملكي، إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلِمون بدمائهم لا يمكن أن يباعَ، وربما إذا تفَتَّت إمبراطوريتي يومًا يمكِنُكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل"، ثم أصدر أمرًا بمنعِ هجرة اليهود إلى فلسطين. عندئذ أدرك خصومُه الصهاينة أنهم أمام رجلٍ قوي وعنيد، وأنَّه ليس من السهولة بمكانٍ استمالتُه إلى صفِّها، ولا إغراؤه بالمال، وأنه ما دام على عرش الخلافة فإنَّه لا يمكِنُ للصهيونية العالمية أن تحقِّقَ أطماعها في فلسطين، ولن يمكِنَ للدول الأوروبية أن تحقِّقَ أطماعها أيضًا في تقسيمِ الدولة العثمانية والسيطرة على أملاكها، وإقامة دويلات لليهود والأرمن واليونان؛ لذا قرَّروا الإطاحةَ به وإبعاده عن الحكم، فاستعانوا بالقوى المختلفة التي نذرت نفسَها لتمزيق ديار الإسلام؛ أهمها الماسونية، والدونمة، والجمعيات السرية (الاتحاد والترقي)، وحركة القومية العربية، والدعوة للقومية التركية (الطورانية)، ولَعِبَ يهود الدونمة دورًا رئيسًا في إشعال نار الفتن ضد السلطان إلى أن تمَّ عزلُه وخَلعُه من منصبه عام 1909، وتم تنصيب شقيقِه محمد رشاد خلفًا له. وتوفِّيَ السلطان عبد الحميد الثاني في المنفى في 15 جمادى الأولى 1337هـ 10 فبراير 1919م.
خرج الأسوَدُ العَنْسيُّ -واسمُه عَبهلةُ بنُ كَعبِ بنِ غَوثٍ- في آخِرِ حياةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَبْعِمائةِ مقاتلٍ، فكَتَب إلى عمَّالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها المتمَرِّدون علينا، أمسِكوا علينا ما أخَذْتُم مِن أرضِنا، ووفِّروا ما جمعتُم؛ فنحن أَولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثمَّ توجَّه مع مقاتِلِيه إلى نجرانَ فأخَذَها، ثمَّ قَصَد صنعاءَ، فخرج إليه شَهرُ بنُ باذامَ فتقاتلا، فغَلَبه الأسوَدُ وقتَلَه وتزوَّج بامرأةِ شَهرِ بنِ باذامَ، وهي ابنةُ عَمِّ فيروز الدَّيلميِّ، واسمُه آزاذُ، وكانت مؤمنةً باللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن الصَّالحاتِ، واحتَلَّ العَنسيُّ صنعاءَ، فذهب معاذُ بنُ جبَلٍ وأبو موسى الأشعريِّ إلى حَضرَموتَ، وانحاز عُمَّالُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الطَّاهِرِ، ورجَعَ عُمَرُ بنُ حرامٍ وخالِدُ بنُ سعيدِ بنِ العاصِ إلى المدينةِ، واستوثقَت اليمَنُ للأسودِ العَنسيِّ، وجَعَل أمرُه يستطيرُ استطارةَ الشَّرارةِ، واشتَدَّ مُلكُه، واستغلظ أمرُه، وارتَدَّ خَلقٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، وعامَله المسلمون الذين هناك بالتَّقِيَّةِ فبعث رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين بلغَه خَبَرُ الأسودِ العَنسيِّ كِتابَه مع قيسِ بنِ مكشوحٍ يأمرُ فيه المسلمين الذين هناك بمُقاتلةِ العَنْسيِّ ومُصاولتِه، فقام معاذُ بنُ جَبَلٍ بهذا الكتابِ أتمَّ قيامٍ، واتَّفَق معاذُ بنُ جبَلٍ ومَن التَفَّ حولَه مِن أهلِ اليَمَنِ، وقيسُ بنُ عبدِ يغوثَ أميرُ جندِ الأسوَدِ، وفَيروز الدَّيلميُّ؛ على الفتكِ بالأسوَدِ وقَتْلِه، وتعاقدوا عليه، فلمَّا كان الليلُ دَخَلوا عليه البيتَ؛ تقَدَّم إليه فيروز الدَّيلميُّ، وكان الأسوَدُ نائمًا على فراشٍ من حريرٍ، قد غَرِقَ رأسُه في جَسَدِه، وهو سَكْرانُ يَغطُّ، والمرأةُ جالسةٌ عنده، فعاجله وخالَطَه، وهو مِثلُ الجَمَلِ، فأخَذَ رأسَه، فدَقَّ عُنُقَه ووَضَع رُكبتَيه في ظَهْرِه حتى قَتَلَه، وجلس قيسٌ وداذويه وفيروز يأتمرونَ كيف يُعلِمونَ أشياعَهم، فاتَّفَقوا على أنَّه إذا كان الصَّباحُ ينادون بشِعارِهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلمَّا كان الصَّباحُ قام أحَدُهم -وهو قيس- على سُورِ الحِصنِ، فنادى بشِعارِهم، فاجتمع المسلِمون والكافِرون حول الحِصنِ، فنادى قيسٌ: أشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وأنَّ عَبهلةَ كذَّابٌ، وألقى إليهم رأسَه، فانهزم أصحابُه، وتَبِعَهم النَّاسُ يأخُذونهم ويرصُدونهم في كلِّ طريقٍ يأسِرونَهم، وظهر الإسلامُ وأهلُه، وتراجَعَ نوَّابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أعمالِهم، واتَّفَقوا على معاذِ بنِ جَبَلٍ يصلِّي بالنَّاسِ، وكتبوا بالخَبَرِ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ ظهر إلى أن قُتِلَ ثلاثةُ أشهُرٍ أو أربعةُ أشهرٍ.
مؤسِّسُ الدَّولةِ المرداسيَّة في حلَبٍ هو صالِحُ بنُ مرداس الذي لُقِّبَ أسدَ الدَّولة. وهو من بني كلابٍ، القبيلةِ العربيَّةِ التي كانت تَنزِلُ ضِفافَ الفُراتِ والجزيرة, وكان بالرَّحبةِ رَجلٌ مِن أهلها يُعرَفُ بابنِ محكان، فمَلَك البلدَ، واحتاجَ إلى من يجعَلُه ظَهرَه، ويستعينُ به على مَن يَطمَعُ فيه، فكاتَبَ صالِحَ بنَ مِرداس الكلابيَّ، فقَدِمَ عليه وأقام عنده مُدَّةً، ثمَّ إنَّ صالحًا عدا على ابنِ محكان فقتَلَه ومَلَك الرَّحبة, وفي سنة 399 كانت وقعةٌ بين أبي نصرِ بنِ لؤلؤٍ صاحِبِ حَلَب، وصالحِ بنِ مرِداس، وكان ابنُ لؤلؤ من موالي بنِي حمدان، فقَوِيَ على ولَدِ سَعدِ الدَّولة يخطُبُ للحاكِمِ صاحِبِ مِصرَ، ثمَّ فسد ما بينه وبين الحاكِمِ، فطَمِعَ فيه ابنُ مرداس، وبنو كلاب، وكانوا يطالِبونَه بالصِّلاتِ والخِلَع، ثمَّ إنهم اجتَمَعوا في خمسمِئَة فارس، ودخلوا مدينةَ حَلَب، فأمر ابنُ لؤلؤ بإغلاقِ الأبوابِ والقَبضِ عليهم، فقُبِضَ على مِئَة وعشرينَ رَجُلًا، منهم صالحُ بنُ مرداس، وحَبَسهم، وقتَلَ مِئَتين, وبَقِيَ صالِحُ بنُ مِرداسَ في الحَبسِ، حتى صَعِدَ مِن السور وألقى نفسَه مِن أعلى القلعةِ إلى تَلِّها, وسار بقَيدِه ولبنةِ حديدٍ في رِجلَيه، حتى وصل قريةً تُعرَفُ بالياسريَّة، فرأى ناسًا من العربِ فعَرَفوه وحَمَلوه إلى أهلِه بمرج دابق، فجمَعَ ألفَي فارسٍ وقصَدَ حَلَب وحاصَرَها اثنين وثلاثين يومًا، فخرجَ إليه ابنُ لؤلؤ، فقاتَلَه، فهَزَمَهم صالحٌ وأسَرَ ابنَ لؤلؤ، وقيَّدَه بقَيدِه الذي كان في رِجلِه ولَبِنَتِه. ثمَّ إنَّ ابنَ لؤلؤٍ بذَلَ لابنِ مرداسٍ مالًا على أن يُطلِقَه، فلمَّا استقَرَّ الحالُ بينهما أخذ رهائِنَه وأطلقَه، فلمَّا قُتِلَ الحاكِمُ العُبَيديُّ صاحِبُ مِصرَ، اجتمع حَسَّان أميرُ بني طي، وصالحُ بنُ مرداس أميرُ بني كلاب، وسِنانُ بنُ عليان، وتحالفوا، واتَّفَقوا على أن يكونَ مِن حَلَب إلى عانة لصالحٍ، ومِنَ الرَّملةِ إلى مصرَ لحَسَّان، ودمشقُ لسنان، فسار حسَّان إلى الرملةِ وأخَذَها من أنوشتكين نائِبِ الحاكِمِ، وقصَدَ صالِحٌ حَلَب، وبها إنسانٌ يُعرَفُ بابن ثعبان يتولَّى أمْرَها للمِصريِّينَ، وبالقلعةِ خادِمٌ يُعرَفُ بمَوصوفٍ، فأمَّا أهلُ البلدِ فسَلَّموه إلى صالحٍ؛ لإحسانِه إليهم، ولِسُوءِ سِيرةِ المِصريِّينَ معهم، وصَعِدَ ابنُ ثعبان إلى القلعةِ، فحَصَره صالحٌ بالقلعةِ، فغار الماءُ الذي بها، فلم يبقَ لهم ما يَشرَبونَ، فسَلَّمَ الجُندُ القلعةَ إليه، وذلك سنة 414، ومَلَك مِن بَعْلَبَكَّ إلى عانة، وأقام بحَلَب سِتَّ سنين إلى أن قُتِلَ على يدِ المِصريِّينَ سنة 420.
هو السُّلطانُ الأَميرُ شَرفِ الدَّولةِ أبو المَكارِمِ مُسلِمُ بن مَلِكِ العَربِ أبي المعالي قُريشِ بن بدران بن مُقَلَّدٍ حُسام الدَّولةِ أبي حَسَّان بن المُسَيِّب بنِ رافعٍ العقيليُّ, كان يَتَرَفَّض كأَبيهِ, ونَهَبَ أَبوهُ دارَ الخِلافَةِ في فِتنَةِ البساسيري، وأَجارَ القائمَ بالله, وماتَ سَنةَ 453هـ كَهْلًا، فقامَ شَرفُ الدولةِ بعدَه، واستَولَى على دِيارِ رَبيعةَ، ومُضَر، وتَمَلَّكَ حَلَب، وأَخذَ الحملَ والإتاوةَ من بلادِ الرُّومِ في أنطاكية، ونَحوِها. وسار إلى دِمشقَ فحاصَرَها. وكان قد تَهَيَّأَ له أَخذُها، فبَلغَه أنَّ حران قد عَصَى عليه أَهلُها، فسار إليهم، فحارَبَهم وحارَبوهُ، فافتَتَحها وبَذلَ السَّيْفَ، وقَتَلَ بها خِلْقًا من أَهلِ السُّنَّةِ. قال الذهبيُّ: "كان رافِضِيًّا خَبِيثًا، أَظهرَ ببِلادِه سَبَّ السَّلَفِ، واتَّسَعَت مَملكتُه، وأَطاعَتهُ العَربُ، واستَفحلَ أَمرُه حتى طَمِعَ في الاستِيلاءِ على بغداد بعدَ وَفاةِ طُغرلبك. وكان فيه أَدَبٌ، وله شِعرٌ جَيِّدٌ. وكان له في كلِّ قَريةٍ قاضٍ، وعاملٌ، وصاحِبُ خَبَرٍ. وكان أَحْوَلَ، له سِياسَةٌ تامَّةٌ. وكان لِهَيْبَتِه الأَمنُ وبعضُ العَدلِ في أيامِه مَوجودًا. وكان يَصرِف الجِزيةَ في بِلادِه إلى العَلَوِيِّين". وهو الذي عَمَّرَ سُورَ المَوصِل وشَيَّدَها في سِتَّةِ أَشهُر من سَنةِ 474هـ. ثم إنه جَرَى بينه وبين السُّلطانِ سُليمان بن قتلمش السلجوقي مصاف على بابِ أنطاكية، كان سُليمانُ بن قتلمش قد مَلَكَ مَدينةَ أنطاكية، فلمَّا أَرسلَ إليه شَرفُ الدولةِ مُسلمَ بن قريش يَطلُب منه ما كان يَحمِلُه إليه الفردوس من المالِ، أَجابهُ بأن المالَ الذي كان يَحمِلُه صاحِبُ أنطاكية فإنَّما هو لِكَونِه كافرًا، وكان يَحمِل جِزيةَ رَأسِه وأَصحابِه، وهو بِحَمدِ الله مُؤمنٌ، فنَهَبَ شَرفُ الدولةِ بَلدَ أنطاكية، فنَهبَ سُليمانُ أيضًا بَلدَ حَلَب، فلَقِيَهُ أَهلُ السَّوادِ يَشكُون إليه نَهْبَ عَسكرِه، فقال:أنا كنتُ أَشَدَّ كَراهِيةً لما يَجرِي، ولكنَّ صاحِبَكم أَحوَجَني إلى ما فَعلتُ، ولم تَجرِ عادَتي بنَهبِ مالِ مُسلمٍ، ولا أَخْذِ ما حَرَّمَتهُ الشَّريعةُ. وأَمَرَ أَصحابَه بإعادَةِ ما أَخذوهُ منهم، فأَعادَهُ، ثم إن شَرفَ الدولةِ جَمعَ الجُموعَ من العَربِ والتُّركمانِ، وسار إلى أنطاكية لِيَحصرَها، فلمَّا سَمِعَ سُليمانُ الخَبرَ جَمعَ عَساكِرَه وسار إليه، فالتَقَيا في طَرفٍ من أَعمالِ أنطاكية، واقتَتَلوا، فانهَزمَت العَربُ، فتَبِعَهم شَرفُ الدولةِ مُنهَزِمًا، ثم قُتِلَ، وله بِضعٌ وأَربعون سَنَةً. ولما قُتِلَ قَصدَ بَنُو عُقيلٍ أَخاهُ إبراهيمَ بنَ قُريشٍ، وهو مَحبوسٌ، فأَخرَجوهُ ومَلَّكوهُ أَمرَهُم، وكان قد مَكثَ في الحَبسِ سِنينَ كَثيرةً بحيث إنَّه لم يُمكِنهُ المَشيُ والحَركةُ لمَّا أُخرِجَ، ثم سار سُليمانُ بن قتلمش إلى حَلَب فحَصرَها مُستَهلَّ رَبيعٍ الأوَّلِ، فأَقامَ عليها إلى خامسِ رَبيعٍ الآخرَ، فلم يَبلُغ منها غَرَضًا، فرَحلَ عنها.
هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الجَبَّارِ بنِ أَحمدَ بنِ محمدٍ، السَّمعانيُّ، التَّميميُّ المَروَزِيُّ، الفَقِيهُ الحَنفيُّ ثم الشافعيُّ. الحافِظُ، مِن أَهلِ مَرْو، وُلِدَ في ذي الحجَّةِ 426هـ, وتَفَقَّهَ أَوَّلًا على أَبيهِ في مَذهَبِ أبي حَنيفَةَ، حتى بَرَعَ فيه وبَرَزَ على أَقرانِه, ثم انتَقَل إلى مَذهَبِ الشافعيِّ فأَخَذَ عن أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ وابنِ الصَّبَّاغِ. ذَكرَهُ أبو الحَسنِ عبدُ الغافِر فقال: "هو وَحيدُ عَصرِه في وَقتِه فَضلًا، وطَريقَةً، وزُهْدًا، ووَرَعًا، من بَيتِ العِلمِ والزُّهدِ. تَفَقَّه بأَبيهِ، وصار من فُحولِ أَهلِ النَّظَرِ، وأَخَذَ يُطالِع كُتُبَ الحَديثِ، وحَجَّ، فلمَّا رَجَعَ إلى وَطَنِه تَرَكَ طَريقَتَهُ التي ناظَرَ عليها أَكثرَ من ثلاثين سَنةً، وتَحَوَّلَ شافِعِيًّا. أَظهَرَ ذلك في سَنةِ ثَمانٍ وسِتِّين وأربعمائة. واضطَرَبَ أَهلُ مَرو لذلك، وتَشَوَّشَ العَوامُّ، إلى أن وَرَدَت الكُتُبُ مِن جِهَةِ بلكابك من بَلخ في شَأنِه والتَّشديدِ عليه، فخَرجَ مِن مَرو، ورافَقَهُ ذو المَجدَينِ أبو القاسمِ الموسويُّ، وطائِفةٌ من الأَصحابِ، وخَرجَ في خِدمَتِه جَماعةٌ من الفُقهاءِ وصار إلى طُوس، وقَصَدَ نيسابور، فاستَقبَلَهُ الأَصحابُ استِقبالًا عَظيمًا, وكان في نَوبَةِ نِظامِ المُلْكِ وعَميدِ الحَضرَةِ أبي سعدٍ محمدِ بنِ مَنصورٍ، فأَكرَموا مَورِدَه، وأَنزَلوه في عِزٍّ وحِشمَةٍ، وعُقِدَ له مَجلِسُ التَّذكيرِ في مَدرسةِ الشافعيَّةِ", وكان بَحرًا في الوَعظِ، حافِظًا لكَثيرٍ من الرِّواياتِ والحِكاياتِ والنُّكَتِ والأَشعارِ، فظَهرَ له القَبولُ عند الخاصِّ والعامِّ. واستَحكَمَ أَمرُه في مَذهبِ الشافعيِّ. ثم عاد إلى مَرو، ودَرَّسَ بها في مَدرسةِ أَصحابِ الشافعيِّ، وقَدَّمَهُ نِظامُ المُلْكِ على أَقرانِه، وعَلَا أَمرُه، وظَهرَ له الأَصحابُ. وخَرجَ إلى أصبهان، ورَجعَ إلى مَرو. وكان قَبولُه كلَّ يَومٍ في عُلُوٍّ, وتَعَصَّبَ للسُّنَّةِ والجَماعَةِ وأَهلِ الحَديثِ. وكان شَوْكًا في أَعيُنِ المُخالِفين، وحُجَّةً لأَهلِ السُّنَّةِ. قال أبو المعالي الجُويني: "لو كان مِن الفِقْهِ ثَوْبًا طاوِيًا لكان أبو المُظَفَّر بن السمعاني طَرَّازَهُ".قال الإمامُ أبو عليِّ بن أبي القاسمِ الصَّفَّارِ: "إذا ناظَرتَ أبا المُظَفَّر السمعانيَّ، فكأنِّي أُناظِرُ رَجُلًا من أئِمَّةِ التَّابِعين، ممَّا أَرَى عليه من آثارِ الصَّالِحين سَمْتًا، وحُسْنًا، ودِينًا".كانت له يَدٌ طُولَى في فُنونٍ كَثيرةٍ، وصَنَّفَ التَّفسيرَ وكِتابَ ((الانتصار)) في الحَديثِ، و((البرهان)) و((القواطع)) في أصول الفقه، و((الاصطلام)) وغيرَ ذلك، ووَعَظَ في مَدينةِ نيسابور. كان يقول: "ما حَفِظتُ شَيئًا فنَسيتُه، وسُئِلَ عن أَخبارِ الصِّفاتِ فقال: عليكم بِدِينِ العَجائِزِ وصِبيانِ الكَتاتيبِ. وسُئِلَ عن الاستِواءِ فأَنشدَ قائِلًا:
جِئتُماني لِتَعلَما سِرَّ سُعْدَى
تَجِداني بِسِرِّ سُعْدَى شَحيحا
إن سُعْدَى لَمُنْيَةُ المُتَمَنِّي
جَمَعَت عِفَّةً ووَجْهًا صَبيحا"
دُفِنَ في مَقبَرةِ مَرو.
كان سببُه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر إلى بلاد الفرنج غازيًا، ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيَّقَ على مَن به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمانَ واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك، فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصدًا بلاد الفرنج؛ ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونور الدين من جانب، مَلَكَها، ومتى زال الفرنجُ عن الطريق وأخذ مُلكَهم لم يبقَ بديار مصر مقامٌ مع نور الدين، وإن جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماعِ به، وحينئذ يكون هو المتحَكِّم فيك بما شاء، إن شاء تركك وإن شاء عزلك، فقد لا تقدِرُ على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر، فرحل عن الشوبك عائدًا إلى مصر، ولم يأخُذْه من الفرنج، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العَلَويين، وأنهم عازمون على الوثوبِ بها، وأطال الاعتذار، فلم يقبلها نور الدين منه، وتغيَّرَ عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها، وظهر ذلك فسَمِعَ صلاح الدين الخبر، فجمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه، واستشارهم فلم يجِبْه أحد بكلمة واحدة، فقام تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين، فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتَمَ تقيَّ الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك، وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثَرُ محبة لك من جميع ما ترى، وواللهِ لو رأيت أنا وخالك هذا نورَ الدين، لم يمكِنَّا إلا أن نقَبِّلَ الأرض بين يديه، ولو أمَرَنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعَلْنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنُّك بغيرنا؟ وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحْدَه لم يتجاسَروا على الثبات على سروجِهم، وهذه البلاد له، ونحنُ مماليكه ونوَّابُه بها، فإن أراد عزلَك سَمِعْنا وأطعنا؛ والرأيُ أن تكتب كتابًا تقول فيه: بلغني بأنك تريد الحركةَ لأجل البلاد، فأيُّ حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي مِنديلًا ويأخُذُني إليك، وما هاهنا من يمنَعُ عليك! وأقام الأمراء وغيرهم وتفَرَّقوا على هذا، ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قَصْدَه واشتغل بغيره، فكان الأمرُ كما ظنه أيوب، فتوفِّيَ نور الدين ولم يقصدْه، وملك صلاح الدين البلاد، وكان هذا من أحسَنِ الآراء وأجوَدِها.
لَمَّا خرج العادِلُ من مصر، وفتح مجدليابة، سار إلى مدينة يافا، وهي على الساحِلِ، فحصَرَها وملَكَها عَنوةً، ونَهَبها، وأسرَ الرِّجالَ، وسبى الحريمَ، وجرى على أهلها ما لم يجرِ على أحدٍ مِن أهل تلك البلاد، فأما تبنين، فقد قام صلاح الدين بإنفاذ تقي الدين ابن أخيه إلى تبنين، فلمَّا وصلها نازلها، وأقام عليها، فرأى حَصْرَها لا يتِمُّ إلا بوصول عَمِّه صلاح الدين إليه، فأرسل إليه يُعلِمُه الحالَ ويَحُثُّه على الوصولِ إليه، فرحل ثامِنَ جمادى الأولى، ونزل عليه في الحادي عشر منه، فحصرها، وضايقَها، وقاتَلَها بالزحف، وهي من القلاعِ المنيعة على جَبَلٍ، فلما ضاق عليهم الأمرُ واشتَدَّ الحَصرُ، أطلقوا مَن عندهم من أسرى المسلمين، وهم يزيدونَ على مائة رجل، فلما دخلوا العسكَرَ أحضَرَهم صلاح الدين وكساهم، وأعطاهم نَفقةً، وسَيَّرَهم إلى أهليهم، وبَقيَ الفرنج كذلك خمسة أيام ثم أرسلوا يطلُبونَ الأمان، فأمَّنَهم على أنفسهم فسَلَّموها إليه، ووفى لهم وسَيَّرَهم إلى مأمنهم، وأمَّا صيدا فإنَّ صلاح الدين لَمَّا فرغ من تبنين رحل عنها إلى صيدا، فاجتاز في طريقِه بصرفند فأخذها صفوًا عَفوًا بغيرِ قتالٍ، وسار عنها إلى صيدا، وهي من مدن الساحلِ المعروفة، فلما سمع صاحِبُها بمَسيره نحوه سار عنها وترَكَها فارغةً من مانعٍ ومدافع. فلما وصَلَها صلاحُ الدين تسَلَّمَها ساعةَ وُصولِه وكان مِلكُها حادي عشر جمادى الأولى. وأمَّا بيروت فهي من أحصن مدن الساحل وأنزَهِها وأطيبها. فلما فتح صلاحُ الدين صيدا سار عنها من يومِه نحو بيروت ووصل إليها من الغدِ، فرأى أهلها قد صعدوا على سورها وأظهروا القُوَّةَ والجَلَدَ والعُدَّةَ، وقاتلوا على سورها عدَّةَ أيام قتالًا شديدًا واغتَرُّوا بحصانة البلد، وظنُّوا أنهم قادرون على حفظه، وزحف المسلمونَ إليهم مرَّةً بعد مرة، فبينما الفرنج على السور يقاتلون إذ سمعوا من البلد جلبةً عظيمةً وغَلبةً زائدةً، فأتاهم مَن أخبَرَهم أنَّ البلد قد دخله المُسلِمونَ مِن الناحية الأخرى قَهرًا وغَلبةً، فأرسلوا ينظُرونَ ما الخبَرُ، وإذا ليس له صِحَّةٌ، فأرادوا تسكينَ مَن به فلم يُمكِنْهم ذلك لكثرةِ ما اجتمعَ فيه من السَّوادِ، فلما خافوا على أنفُسِهم من الاختلافِ الواقِعِ، أرسلوا يطلُبونَ الأمان، فأمَّنَهم على أنفُسِهم وأموالهم وتسَلَّمَها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى، فكان مدة حصرها ثمانية أيام، وأمَّا جبيل فإن صاحِبَها كان من جملة الأسرى الذين سُيِّروا إلى دمشق مع مَلِكِهم، فتحَدَّثَ مع نائب صلاح الدين بدمشق في تسليمِ جبيل على شَرطِ إطلاقِه، فعرف صلاح الدينِ بذلك، فأحضره مُقَيَّدًا عنده تحت الاستِظهارِ والاحتياط، وكان العسكَرُ حينئذ على بيروت، فسَلَّمَ حِصنَه وأطلَقَ أسرى المسلمين الذين به، وأطلقه صلاحُ الدين كما شرَطَ له.
في يومِ الجُمُعة سابِعَ عشر جمادى الآخرة، استولى الفرنجُ على مدينة عكا، وكان أوَّل وَهَن دخل على مَن بالبلد أنَّ الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب، كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثَلَهم وأكبَرَهم، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليمَ البلدِ بما فيه على أن يُطلِقَ المسلمين الذين فيه، ويُمَكِّنَهم من اللَّحاق بسلطانهم، فلم يجِبْه إلى ذلك، فعاد عليُّ بن أحمد إلى البلد، فوَهَن من فيه، وضَعُفَت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمَّتْهم أنفُسُهم، ثمَّ إن أميرين ممن كانا بعكَّا، لَمَّا رأيا ما فعلوا بالمشطوب، وأن الفرنجَ لم يجيبوا إلى الأمان، اتخذوا الليلَ جَمَلًا، وركبوا في شيني صغيرٍ، وخرجوا سرًّا من أصحابهم، ولَحِقوا بعسكر المسلمين، وهم عزُّ الدين أرسلان الأسدي، وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناسُ ورأوا ذلك ازدادوا وهنًا إلى وهنِهم، وضعفًا إلى ضَعفِهم، وأيقنوا بالعطب، ثم إنَّ الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليمِ البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشَّرطُ بينهم أن يُطلِقَ مِن أسراهم بعَدَدِ مَن في البلد ليُطلِقوا هم مَن بعكا، وأن يسَلِّمَ إليهم صليبَ الصلبوت، فلم يَقنَعوا بما بذل، فأرسل إلى مَن بعكا من المسلمين يأمُرُهم أن يَخرُجوا مِن عكا يدًا واحدةً ويسيروا مع البحرِ ويَحمِلوا على العدوِّ حملةً واحدة، ويتركوا البلدَ بما فيه، ووعَدَهم أنه يتقَدَّمَ إلى تلك الجهة التي يخرجونَ منها بعساكره، يقاتِلُ الفرنج فيها ليلحقوا به، فلم يدركوا ذلك، وحملوا على الفرنجِ مِن جميع جهاتهم ظنًّا منهم أن الفرنجَ يَشتَغِلونَ عن الذين بعكا، وصلاح الدين يُحَرِّضُهم، وهو في أوَّلِهم، وكان الفرنجُ قد زحفوا من خنادِقِهم ومالوا إلى جهة البلد، فقَرُبَ المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويَضَعونَ السيف فيهم، فوقع الصوتُ فعاد الفرنجُ ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتِلُهم، فاتفقوا على تسليمِ البلد، فلما ملكه الفرنج غَدَروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحَبَسوهم، وأظهروا أنَّهم يفعلون ذلك ليَصِلَ إليهم ما بُذِلَ لهم بالتسليم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يُطلِقوا من عندهم، فعَلِمَ النَّاسُ غَدْرَهم، وإنما يُطلِقونَ غِلمانَ العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبَهُ له، ويمسكون عندهم الأمراءَ وأرباب الأموال، يَطلُبونَ منهم الفداءَ، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب، ركب الفرنج، وخرجوا إلى ظاهِرِ البلد بالفارس والراجل، وركب المسلمون إليهم وقَصَدوهم، وحملوا عليهم، فانكشَفوا عن موقِفِهم، وإذا أكثَرُ من كان عندهم من المسلمينَ قتلى قد وَضَعوا فيهم السيفَ وقتلوهم واستبقَوا الأمراءَ والمُقَدَّمين ومن كان له مال، وقَتَلوا مَن سواهم من سوادِهم وأصحابِهم ومن لا مال له، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصَرَّفَ في المال الذي كان جَمَعَه، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق.
هو أبو المعالي محمَّدُ بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم، الزملكاني الأنصاري السماكي الدمشقي الشافعي قاضي قضاة دمشق، انتهت إليه رياسةُ المذهب تدريسًا وإفتاء ومناظرة، ويقالُ في نسبه السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خَرشة، وُلِدَ ليلة الاثنين ثامن شوال 666، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وفي الأصولِ على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وفي النحوِ على بدر الدين بن ملك وغيرهم، وكان من خصومِ شَيخِ الإسلام ابن تيمية؛ قال ابن كثير: "برع وحَصَّل وساد أقرانَه من أهل مذهبه، وحاز قَصَب السَّبقِ عليهم بذِهنِه الوقَّاد, وعبارتِه التي هي أشهى من كلِّ شيء مُعتاد، وخَطِّه الذي هو أنضَرُ مِن أزاهير الوِهاد، وقد درَّسَ بعِدَّة مدارس بدمشق، وباشر عِدَّةَ جِهات كبار، كنظر الخزانة، ونظر المارستان النوري، وديوان الملك السعيد بن الظاهر بيبرس، ووكالة بيت المال، له تعاليقُ على قطعة كبيرة من شرح المنهاج للنووي، ومجلَّد في الرد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة الطلاق، ومسألة زيارة القبور، وغير ذلك، وأما دروسُه في المحافل فلم أسمع أحدًا من الناس درَّس أحسن منه ولا أحلى من عبارته، وحُسن تقريره، وجودةِ احترازاته، وصِحَّة ذهنه وقوَّة قريحتِه وحُسن نَظْمه، وقد درَّسَ بالشاميَّة البرَّانية والعذراوية الجوَّانية والرواحية والمسرورية، فكان يعطي كلَّ واحدة منهن حقها بحيث كان يكاد ينسَخُ بكل واحد من تلك الدروس ما قبله مِن حُسنِه وفصاحته، ولا يهيلُه تَعدادُ الدروس وكثرة الفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمعُ أكثَرَ والفضلاءُ أكبَرَ، كان الدرس أنضرَ وأبهر وأحلى وأنصح وأفصَحَ, ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملةً مثلها، وأوسع بالفضيلةِ جميعَ أهلها، وسَمِعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم, ثم طُلب إلى الديار المصرية ليولَّى الشامية دار السنة النبويَّة فعاجلته المنيَّةُ قبل وصوله إليها، فمَرِضَ وهو سائر على البريد تسعةَ أيام، ثم عقب المرض بحراق الحِمامِ فقَبَضه هادمُ اللذات، وحال بينه وبين سائر الشَّهوات والإرادات، والأعمالُ بالنيَّات, وكان من نيَّتِه الخبيثة إذا رجع إلى الشَّامِ متَوَلِّيًا أن يؤذِيَ شيخَ الإسلام ابن تيمية فدعا عليه، فلم يبلغ أمَلَه ومُرادَه، فتوفِّيَ في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس، وحُمِلَ إلى القاهرة ودُفِنَ بالقرافة ليلة الخميس جوار قبة الشافعي تغَمَّده الله برحمتِه"