لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين من طبريَّة سار عنها يوم الثلاثاء ووصَلَ إلى عكا يومَ الأربعاء، وقد صَعِدَ أهلُها على سورها يُظهِرونَ الامتناعَ والحِفظَ، وركب يوم الخميس، وقد صَمَّمَ على الزحف إلى البلَدِ وقِتالِه، فبينما هو ينظُرُ مِن أين يزحَفُ ويقاتِلُ إذ خرج كثيرٌ مِن أهلها يَضرَعونَ، ويطلبون الأمانَ، فأجابهم إلى ذلك، وأمَّنَهم على أنفُسِهم وأموالهم، وخيَّرَهم بين الإقامة والظَّعنِ، فاختاروا الرحيلَ؛ خوفًا من المسلمينَ، وساروا عنها متفَرِّقين، وحَمَلوا ما أمكَنَهم حَملُه من أموالهم، وتركوا الباقيَ على حالِه، ودخل المسلمونَ إليها يومَ الجمعة مستهَلَّ جمادى الأولى، وصَلَّوا بها الجمعةَ في جامعٍ كان للمسلمينَ قديمًا، ثمَّ جعله الفرنجُ بِيعةً، ثمَّ جعله صلاحُ الدين جامعًا، وهذه الجمعةُ أوَّلُ جمعة أُقيمَت بالساحل الشامي بعد أن مَلَكه الفرنجُ، وسلم البلد إلى ولده الأفضل، وأقام صلاحُ الدين بعكَّا عدة أيام لإصلاحِ حالِها وتقريرِ قواعِدِها.
كان سَبَبُ عداوة بركة خان وهولاكو أنَّ وقعةً كانت بينهما، قُتِلَ فيها ولد هولاكو وكُسِرَ عَسكَرُه وتمزَّقوا في البلاد، وصار هولاكو إلى قلعةٍ بوسط بحيرة أذربيجان محصورًا بها، وأرسَلَ إليه بركةُ يطلُبُ منه نصيبًا مما فتحه من البلاد وأخَذَه من الأموال والأسرار، على ما جرت به عادةُ ملوكهم، فقتَلَ رُسُلَه فاشتَدَّ غَضَبُ بركة، ومما زاد الخلافَ بينهما هو إسلامُ بركة خان وغَضَبُه على هولاكو مما فَعَله ببغداد وقَتْله للخليفة العباسي المستعصم بالله، وكاتب الظاهِرَ ليتَّفِقا على هولاكو، فلمَّا بلغ ذلك السلطانَ سُرَّ به، وفرح الناسُ باشتغال هولاكو عن قَصدِ بلاد الشام، وكتب السلطانُ إلى النواب بإكرام الوافديَّة من التتار، وكانوا مائتي فارسٍ بأهاليهم، فحَسُنَت حالهم، ودخل في الإسلامِ مَن لم يُسلِمْ مِن قبلُ، وكتب السلطانُ إلى الملك بركة كتابًا، وسيَّرَه مع الفقيه مجد الدين والأمير سيف الدين كسريك.
وقع بديار مصرَ كُلِّها وباءٌ عظيم في القاهرة ومصر، وتزايد حتى كان يموتُ فيهما كل يومٍ ألوف، ويبقي الميِّتُ مطروحًا في الأزقة والشوارع ملقًى في الممرات والقوارع اليوم واليومينِ لا يوجد من يدفِنُه، لاشتغال الأصحَّاء بأمواتِهم، والسُّقَماء بأمراضهم، وقصُرَ مَدُّ النيل فتزايد الغلاءُ واشتَدَّ البلاء، وأجدَبَت بلاد بُرقة أيضًا، وعمَّ الغلاء والقحط ممالِكَ المشرق والمغرب والحجاز، وتزايد موتُ النَّاسِ حتى بلغت عدة من أطلق من الديوان في شهرِ ذي الحجة سبعة عشر ألفًا وخمسمائة، سوى الغُرَباء والفُقَراء وهم أضعاف ذلك، وأكلَ النَّاسُ مِن شدة الجوع جثَثَ الموتى والكلاب والقطاط والحمير، وأكل بعضُهم لحم بعضٍ! وأناف عدَدُ مَن عُرِفَ بموته في كلِّ يوم ألف نفس، سوى من لم يثبُت اسمُه في الديوان، فلما اشتَدَّ الأمرُ فَرَّق السلطانُ الفقراءَ على أربابِ الأموالِ بحَسَبِ حالِهم.
هو جمالُ الدين أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ يوسُفَ بنِ أحمد بن هشام الأنصاري الحنبلي النحويُّ. وُلِدَ وتوفِّيَ بمصر, كان بارعًا في عدة علوم، لا سيما العربية؛ فإنه كان فارِسَها ومالِكَ زِمامِها، وعُدَّ مِن كبار أئمَّةِ النحو، وله فيه الأبحاث العجيبة، والنكات الغريبة، والأنظار الدقيقة، حتى قيل عنه: أنحى مِن سيبويه, وهو صاحِبُ الشَّرحِ على ألفية ابن مالك في النحو، المسمى أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، وشرح أيضًا البردة، وشرح بانت سعاد، وكتاب المغني، وله شذور الذهب في معرفة كلام العرب، وله قَطْر الندى وبَلُّ الصَّدى، والإعراب وقواعد الإعراب، وغير ذلك، وكان أولًا حنفيًّا ثم استقَرَّ حنبليًّا وتنَزَّل في دروس الحنابلة. توفِّيَ في ليلة الخامس من ذي القعدة، ومات عن بضعٍ وخمسين سنة، ودفن بعد صلاة الجمعة بمقابر الصوفيَّة خارج باب النصر من القاهرة.
كانت ظروفُ السُّلطاتِ البريطانية في الهند مهيَّأةً أكثَرَ مِن أيِّ وقت سابقٍ للقيام بتدخُّلٍ عسكري واسعِ النطاقِ في الخليج العربيِّ وتأكيد سيطرتِها البحرية المؤدِّيةِ إلى المحيطِ الهنديِّ، وكان إيفان تبيان حاكِمُ بومباي في ذلك الوقتِ مِن أنصار التدخُّلِ العسكريِّ في الخليج العربي، فعُرِضت عليه مشروعات عِدَّة للتدخُّل، فاختار منها المشروعَ الذي يَعرِض إنشاءَ قاعدة بريطانية في رأسِ الخيمة والتدخُّل العسكري السياسي في الخليجِ، ومن ثَمَّ خرجت حملةٌ بحرية كبرى من بومباي في 16 محرم من هذه السنة، تألَّفَت من سِتِّ سُفُنٍ حربيةٍ كبرى بالإضافةِ إلى عدد من السفن الصغيرة، وقد وصَلَت إلى رأسِ الخيمة في 16 صفر من هذه السَّنةِ لإجبار شيوخِ ساحل الخليج (الساحل المهادن) وأمرائِه على الدخولِ في معاهداتِ الصُّلحِ البحريِّ، وكانت النتيجةُ الأساسيةُ التي حصلت من هذه الحملةِ هي دخولَ شيوخ الإمارات العربية الساحلية في معاهداتٍ مختَلِفةٍ جعَلَت لبريطانيا يدًا في شؤون جنوبي شرقي بلاد العرب.
انتهت الدولة السعوديُة الثانية عام 1308هـ واستطاع محمدُ ابنُ رشيد السيطرةَ على كل المناطق التي كانت تحت حُكمِ آل سعود في نجدٍ وما حولها، وبقِيَ الأمرُ على ذلك إلى عام 1319هـ، وكان كُلَّ هذه الفترة عبدُالرحمن بن فيصل مع أسرتِه في الكويت، ثمَّ إن أمير حائل عبد العزيز بن متعب استعَدَّ لقتال الشيخ مبارك أميرِ الكويت، فاقترح عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل على الشيخِ مبارك أن يسيرَ بقوَّةٍ إلى الرياضِ فيأخُذَها من آلِ رشيدٍ، فتَضعُف قوَّتُهم عن محاربةِ الشيخ مبارك، فلاقى ذلك قبولًا عنده، فلمَّا اتجَه الشيخُ مبارك بقواتِه إلى جهة القصيم واشتَبَك مع ابن رشيد في معركةٍ حامية بالقُربِ مِن مكانٍ يُسمَّى بالصريف على مقربةٍ مِن الطرفية في القصيم، كان عبد العزيز قد سار بقوةٍ إلى الرياض ـ وحاصَرَها ولم يستَطِعْ دُخولَها، فاضطر للانسحابِ منها، ثمَّ عاد إلى الكويت بعد أن بلَغَه هزيمة الشيخ مبارك أمامَ ابن رشيد في معركةِ الصريفِ.
في موسِمِ حَجِّ تلك السَّنةِ، في اليومِ الأوَّلِ مِن عيدِ الأضحى،رأى الإخوان (إخوان من أطاع الله) المحمَلَ القادِمَ مع الحجِّ المصري على جملٍ يتهادى بين الجموع، تحيطُ به موسيقاه وعساكِرُه، فقاموا يرشقونَه بالحجارة وهم بملابسِ الإحرام، ولم يكنْ مِن أمير الحج المصريِّ إلَّا أنْ أمَرَ بنَصبِ المدافع والرشَّاشات وإطلاق نيرانها على جموعِ الإخوانِ (إخوان من أطاع الله)، فقتل منهم خمسةً، وجرح آخَرون، ولَمَّا علم عبد العزيز بالخبر نهض من سرادِقِه، وأسرع يعدو إلى أن توسَّطَ بين الإخوان ونار الجند، وبَسَط ذراعيه يصيح: أنا عبد العزيز، أنا عبد العزيز، فهدأ إطلاقُ النار، وتدخَّل الجندُ السعودي، وانكَفَّ النَّاسُ، وأمَرَ بحجزِ المحمَلِ عن الأنظار، وترتَّبَ على هذا الحَدَث قَطعُ العلاقةِ مع مصرَ، وغضب الإخوان لأنَّه لم يقدِّمْ أميرَ الحجِّ المصري للشَّرعِ لِيُحاكمَ على قتله خمسةِ رجالٍ منهم وجَرْح آخرين.
هو المحامي أحمدُ أسعد الشقيريُّ، وهو كاتبٌ ومُحامٍ، وسياسيٌّ ودُبلوماسي، وأوَّلُ رئيسٍ لمنظَّمة التحرير الفلسطينيةِ. وُلِدَ في قَلعةِ تبنين جنوبَ لُبنان عام 1908م، وانتقَلَ إلى عكَّا لِيَعيش في كَنَفِ والدِه بعد وفاةِ والدتِه. أسَّسَ مع رِفاقه «جمعية الوَحدةِ العربية»، وطُرِد مِن بيروتَ، فانتقَلَ إلى القُدس، ودخَل معهد الحُقوق الفِلَسطيني هناك، ثم دخَلَ سِلكَ المحاماةِ، وكتَب في الصُّحف الفلسطينية عن الوَحدة العربيةِ، والخطرِ الصُّهيوني، والاستعمارِ الإنجليزيِّ الذي يُهَيْمِنُ على فِلَسطين، وكانت نتيجةُ ذلك أنْ نَفَتْه السُّلطة المحتلَّة إلى قَرية الزيت الفلسطينيةِ في إقامة جَبْرية. وانتقَلَ بعد نَكبة 1948م للعمل العربيِّ، فاختِيرَ مساعدًا لعبد الرحمن عَزام الأمينِ العام للجامعةِ العربية، وكان مِن دُعاة الوَحدة العربية الأوائلِ. وعندما تأسَّست منظَّمة التحريرِ الفلسطينية سَنة 1964م كان أولَ رئيسٍ لها. وأنشَأَ جَيش التحريرِ الفلسطينيَّ، ثم أنشَأَ قوَّةً فِدائية باسمِ (قوات التحريرِ الشَّعبية) قامت بعمليَّاتٍ في كلِّ الأراضي الفِلَسطينية المحتلَّةِ.
أصدرت الملكة إيزابيلا مرسومًا يقضي بتخيير المسلمين في الأندلس بين أن يتنصَّروا أو يرحلوا عن الأندلس، فرحل ما يقارب الثلاثمائة ألف مسلم من الأندلس من غرناطة إلى المغرب العربي، ومنها انتشروا في أفريقيا وبعضهم إلى الشام، بعد أن أمرت الملكة إيزابيلا بتحويل مساجدهم إلى كنائس.
هو قانونٌ أصدرَتْه وزارة رياض باشا، في عهدِ الخديوي توفيق، ونصَّ على تخصيص أكثَرَ مِن نصف إيرادات مصر السنوية لتسديدِ الديون لصالح الدائنين الأجانب. وكانت نتائجُ قانون التصفية: (أ) زيادةُ التدخُّل الأجنبي (ب) سوءُ الأحوال الاقتصاديةِ في البلاد.
هو المَلِكُ العادِلُ، ناصِر أمير المؤمنين، تقيُّ الملوك، ليثُ الإسلام، أبو القاسِم نور الدين محمود بن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد زنكي بن الأمير الكبير آقسنقر التركي، السلطاني، الملكشاهي. ولِيَ جدُّه آقسنقر نيابةَ حَلَب للسلطان ملكشاه بن ألب آرسلان السلجوقي. وُلِدَ نور الدين يوم الأحد سابع عشر شوال سنة 511؛ وكان أسمَرَ اللَّونِ طويلَ القامةِ حَسَنَ الصورة، ليس بوجهِه شَعرٌ سوى ذقنه. كان ملكًا عادلًا، زاهدًا عابدًا وَرِعًا، متمسكًا بالشريعةِ، مائلًا إلى أهل الخير، مجاهدًا في سبيل الله. لما حاصر أبوه قلعةَ جعبر كان نور الدين في خدمته، فلما قُتِلَ أبوه سار نور الدين بعساكرِ الشام إلى مدينة حلب فمَلَكَها. وملك أخوه سيفُ الدين غازي مدينةَ الموصل. قال الذهبي فيه: " كان نور الدين حامِلَ رايتي العدل والجهاد، قلَّ أن ترى العيونُ مِثلَه، حاصر دمشق، ثمَّ تمَلَّكَها، وبَقِيَ بها عشرين سنة. افتتح أولًا حُصونًا كثيرة، منها فامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحِبَ أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلافٍ من الفرنج، وأظهر السُّنَّةَ بحلب، وقمع الرافِضةَ. وبنى المدارسَ بحلب وحمص ودمشق وبعلبك، والجوامع والمساجد، وسُلِّمَت إليه دمشق للغلاء والخوف، فحَصَّنها، ووسَّعَ أسواقها، وأنشأ المارستان ودارَ الحديث، والمدارس، ومساجد عدة، وأبطل المكوسَ مِن دار بطيخ، وسوق الغنم، والكيالة، وضمان النهر والخمر، ثم أخذ من العدوِّ بانياس والمنيطرة، وكسر الفرنجَ مَرَّات، ودَوَّخهم وأذَلَّهم. وكان بطلًا شجاعًا وافِرَ الهيبة، حسَنَ الرَّمي، مليح الشكل، ذا تعبُّد وخوف ووَرَع، وكان يتعرَّضُ للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشُره من بطون السباع وحواصل الطير. وبنى دار العدل، وأنصف الرعيَّةَ، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميلِ سور المدينة النبويَّة، واستخراج العين بأُحُدٍ دفَنَها السَّيلُ، وفتح درب الحجاز، وعَمَرَ الخوانق والربُطَ والجسور والخانات بدمشق وغيرها، وكذا فعَلَ إذ ملك حران وسنجار والرَّها والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد وبعلبك وتدمر, ووقف كتبًا كثيرة, وكسر الفرنجَ والأرمن على حارم وكانوا ثلاثين ألفًا، فقل من نجا، وعلى بانياس." جهَّز نور الدين جيشًا لجبا مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهَرَ دولتها الرافضيَّة، وهربت منه الفرنجُ، وقتل شاورَ الذي غدر به وبشيركوه، وصَفَت الديار المصرية لشيركوه نائبِ نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأباد العُبَيديين، واستأصلهم، وأقام الدَّعوة العباسية. وكان نور الدين مليحَ الخط، كثيرَ المطالعة، يصلي في جماعةٍ، ويصوم ويتلو ويُسَبِّح، ويتحَرَّى في القوت، ويتجنب الكِبرَ، ويتشبَّه بالعلماء والأخيار. قال أبو الفرج بن الجوزي: "وليَ نور الدين الشامَ سنين، وجاهد الثغور وانتزع من أيدي الكفار نيفًا وخمسين مدينةً وحِصنًا، منها: الرها، وبنى مارستان في الشام أنفق عليه مالًا، وبنى بالموصل جامعًا غرم عليه ستين ألف دينار، وكانت سيرته أصلح من كثير من الولاة، والطرق في أيامه آمنة، والمحامد له كثيرة، وكان يتديَّنُ بطاعة الخلافة، وتَرَك المكوسَ قبل موته، وبعث جنودًا افتتحوا مصر، وكان يميل إلى التواضع ومحبة العلماء وأهل الدين, وأحلفَ الأمراء على طاعة ولده الصالح إسماعيل بعده, وعاهَدَ ملك الإفرنج صاحِبَ طرابلس وقد كان في قبضته أسيرًا على أن يطلقه بثلاثمائة ألف دينار وخمسين ومائة حصان وخمسمائة زردية، ومثلها تراس إفرنجية ومثلها قنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وأنه لا يعبر على بلاد الإسلام سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه في قبضته على الوفاء بذلك مائةً من أولاد كبراء الإفرنج وبطارقتهم, فإن نكث أراقَ دماءَهم، وعزم على فتح بيت المقدس، فوافته المنية في شوال هذه السنة" وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبدٌ من الجهاد، وكان يأكلُ مِن عَمَل يده، ينسخ تارةً، ويعمَلُ أغلافًا تارة، ويلبَسُ الصوف، ويلازم السجادة والمصحَف، وكان حنفيًّا، يراعي مذهبَ الشافعي ومالك, وكان ابنُه الصالح إسماعيل أحسَنَ أهل زمانه." قال ابنُ خَلِّكان: "افتتح من بلاد الفرنجة عدَّة حصون، منها مرعش وبهسنا، وحارم، وأعزاز وبانياس وغير ذلك ما تزيد عدتُه على خمسين حصنًا. ثم سيَّرَ الأمير أسد الدين شيركوه إلى مصر ثلاث دفعات، وملكها السلطان صلاح الدين في الدفعة الثالثة نيابة عنه، وضرب باسمِه السكَّة والخطبة بمصر، وكان زاهدًا عابدًا متمسِّكًا بالشرع، مجاهِدًا كثير البر والأوقاف، له من المناقب ما يستغرق الوصفَ". توفي يوم الأربعاء حادي عشر من شوال، بعِلَّة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبًا فما رُوجِعَ, ودُفِنَ بقلعة دمشق, فقد كان يلازم الجلوسَ والمبيت فيها، ثم نُقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق، عند سوق الخواصين، وكانت ولايته ثمانية وعشرين سنة وأشهرًا, وكان لموته وقعٌ عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه؛ لأنه كان محسنًا محمود السيرة، ولَمَّا توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالمُلك بعده، وكان عمرُه إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقَدَّمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس بالشام وصلاحُ الدين بمصر، وخُطِبَ له بها، وضرب السكة باسمه، وتولى تربيتَه الأميرُ شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وصار مدبِّرَ دولته؛ فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولِمَن معه من الأمراء: "قد علمتُم أن صلاح الدين صاحِبَ مصر هو من مماليك نورِ الدين ونوَّابه أصحاب نور الدين، والمصلحة أن نشاورَه في الذي نفعله، ولا نُخرِجُه من بيننا فيَخرُج عن طاعتنا، ويجعل ذلك حُجَّة علينا، وهو أقوى منا؛ لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر، فلم يوافِقْ هذا القولَ أغراضَهم، وخافوا أن يدخُلَ صلاح الدين ويُخرِجَهم، فلم يمضِ غيرُ قليل حتى وردت كتُبُ صلاح الدين إلى المَلِك الصالح يُعَزِّيه ويهنئه بالمُلك، وأرسل دنانيرَ مِصريَّةً عليها اسمه ويُعَرِّفُه أنَّ الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه".
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سُلَيْمٍ سَرِيَّةِ ابنِ أبي العَوجاءِ، في خمسين رجلاً، وذلك لِيَدعُوَهُم إلى الإسلامِ؛ فقالوا: لا حاجةَ لنا إلى ما دَعوتَنا، ثمَّ قاتَلوا قِتالًا شَديدًا. جُرِحَ فيه أبو العَوجاءِ، وأُسِرَ رَجُلان مِنَ العَدُوِّ.