بعد أن قضى الانتدابُ البريطاني في شرق الأردن 25 سنة من 1921م مَنَحت بريطانيا شرقَ الأردن حقَّ الاستقلال بموجِبِ صَكِّ الانتداب -الذي يقضي ببقاء شرق الأردن تحت الحكم البريطاني 25 سنة- تمَّ إبرامُ المعاهدة البريطانية الأردنية الثانية في 22 مارس التي تعترف باستقلالِ شرقِ الأردن. وتم إعلانُ استقلال إمارة شرق الأردن، وإعلانُ قيام المملكة الأردنية الهاشمية، ويكون المَلِكُ عبد الله الأول بن الحسين ملكًا عليها يوم 25/5/1946، إلَّا أن الجيش الأردني بقِيَ تحت قيادة الضباط البريطانيين على رأسهم (أبو حنيك) غلوب باشا حتى عام 1957م.
وُلد محمد قطب في (26 إبريل 1919م) في بلدة موشا -من محافظة أسيوط بصعيد مصر- وكان والِدُه قُطب إبراهيم من المُزارِعين في تِلكَ النَّاحيةِ. أمَّا والِدَتُه فاطمة عثمان فقد كانت تَنتمي إلى أُسرةٍ مُحِبَّةٍ للعلم، بدأ دِراسَتَه في القاهرة ثم الْتحَقَ بجامعةِ القاهرة؛ حيث درَس اللُّغةَ الإنجليزية وآدابَها، وكان تخرُّجُه فيها عامَ (1940م)، ومن ثَمَّ تابَعَ في معهدِ التَّربية العالي للمُعلِّمين فحَصَل على دبلومِها في التربيَةِ وعلم النفس. عاش مُدَّةً طويلةً من عمرِه في مكَّة المكرَّمة، وكان أُستاذًا في جامعةِ أمِّ القُرى، وأشرف على العديدِ من الرسائِلِ الجامعيَّةِ فيها.، وله عددٌ من الكتب في الفكر والثقافة الإسلاميَّة.
تُوفِّي -رحمه الله- في مستشفى المركز الطبيِّ الدَّولي في جُدَّةَ.
تَمَّ إطلاقُ عمليَّة عاصفةِ الحَزْم ضدَّ الانقلابيِّين الحوثيِّين في اليمنِ، بقيادةِ المملكةِ العربية السعودية، ومشاركةِ تِسْعِ دُول، أبرزُها: الإماراتُ والكُويت والبحرَين وقطرُ والأردنُّ. وتُعْتبَرُ عاصِفةُ الحزمِ إعلانَ بدايةِ العمليَّاتِ العسكريَّةِ بقيادةِ السُّعودية في اليمن. وقد تَمَّ فيها السَّيطرةُ على أجواءِ اليمنِ وتدميرِ الدِّفاعاتِ الجويَّة ونُظُم الاتِّصالات العسكريَّة للحوثيِّين والرئيسِ المخلوع علي عبد الله صالح. وجاءت العملِيَّاتُ بعد طلبٍ تَقدَّم به الرئيسُ اليمني عبدُ ربِّه منصور هادي لإيقافِ الحوثيِّين، الذين بدؤوا هُجومًا واسعًا على المُحافظاتِ الجنوبيَّة، وأصبحوا على وَشْكِ الاستيلاءِ على مدينة عَدَن، التي انْتَقَلَ إليها الرئيسُ هادي بعد انقلابِ (2014م).
لم يكتَفِ بيبرسُ الجاشنكيري بمُلكِ مِصرَ، بل ذهب يطلُبُ مِن الملك الناصِرِ المخلوعِ ما بيَدِه في الكرك، وذلك بتحريضِ وتخويفِ الأمراء له من الناصِرِ، فأصبح يريدُ أن يجرِّدَ النَّاصِرَ مِن كُلِّ شَيءٍ، فكان هذا من أسبابِ عَودةِ النَّاصِرِ لطَلَبِ المُلك، حيث حَبَس الناصِرُ مغلطاي رسولَ المظَفَّر بيبرس الذي جاء لأخذِ باقي أموالِ ومماليك الناصِرِ من الكرك، فخاف المظَفَّر بيبرس من ذلك، واشتهر بالدِّيارِ المِصريَّة حركةُ الملك الناصر محمَّد وخروجه من الكرك، فماجت النَّاسُ، وتحرك الأميرُ نوغاي القبجاقي، وكان شجاعًا مِقدامًا حادَّ المزاجِ قَوِيَّ النفس، وكان من ألزامِ الأمير سلار النائب، وتواعَدَ مع جماعةٍ مِن المماليك السلطانية أن يَهجُمَ بهم على السُّلطانِ الملك المظَفَّر إذا رَكِبَ ويَقتُلَه، فلما ركبَ المظَفَّر ونزل إلى بركةِ الجُبِّ استجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفَتكَ بالمظَفَّر في عودِه من البركة، وتقرب نوغاي من السلطانِ المظَفَّر بيبرس قليلًا قليلًا، وقد تغيَّرَ وجهُه وظهر فيه أماراتُ الشَّرِّ، ففطن به خواصُّ المظفر وتحَلَّقوا حول المظفر، فلم يجِدْ نوغاي سبيلًا إلى ما عزم عليه، وعاد المَلِكُ المظفر إلى القلعة فعَرَّفه ألزامه ما فَهِموه من نوغاي، وحَسَّنوا له القبضَ عليه وتقريرَه على من معه، فاستدعى المَلِكُ المظفَّر الأميرَ سلار وعرَّفه الخبَرَ، وكان نوغاي قد باطَنَ سلار بذلك، فحَذَّر سلار المَلِكَ المظَفَّر وخَوَّفَه عاقبةَ القَبضِ على نوغاي، وأن فيه فسادَ قلوب جميع الأمراء، وليس الرأيُ إلَّا الإغضاء فقط، وقام سلار عنه، فأخذ البرجيَّة بالإغراء بسلار وأنه باطَنَ نوغاي، ومتى لم يقبِضْ عليه فسد الحالُ، وبلغ نوغاي الحديثُ، فواعد أصحابَه على اللَّحاقِ بالملك الناصر، وخرج هو والأميرُ مغلطاي القازاني الساقي ونحو ستين مملوكًا وقت المغرب عند غَلقِ باب القلعة في ليلةِ الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، وقيلَ في أمر نوغاي وهروبِه وجهٌ آخَرُ، ثم أرسل خَلفَهم المَلِكُ المظَفَّر بيبرس مَن يعيدُهم، ولكن لم يَقدِروا عليهم وعادوا إلى مصر، أمَّا هؤلاء لَمَّا وصلوا إلى الناصر محمد وأعلموه بالأمرِ قَوِيَ في نفسه الرجوعُ للمُلكِ، فكاتب النوابَ فأجابوه بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وأخذ المَلِكُ النَّاصِرُ في تدبيرِ أمرِه، وبينما المظَفَّر في ذلك ورد عليه الخبَرُ من الأفرم بخروجِ المَلِك الناصِرِ مِن الكرك، فقَلِقَ المظَفَّر من ذلك وزاد توَهُّمه؛ ونفَرَت قلوبُ جماعةٍ مِن الأمراء والمماليك منه، وخَشُوا على أنفُسِهم، واجتمع كثيرٌ من المنصوريَّة والأشرفيَّة والأويراتية وتواعدوا على الحَربِ، وأمَّا الملك المظَفَّر بيبرس هذا فإنَّه أخذ في تجهيزِ العساكِرِ إلى قتال المَلِك الناصِرِ محمد بن قلاوون حتى تمَّ أمرُهم وخرجوا مِن الدِّيارِ المِصريَّة في يوم السَّبتِ تاسِعَ شهر رجب وعليهم خمسةُ أمراء من مُقَدَّمي الألوفِ، فلم يكُنْ إلَّا أيامٌ وورد الخبر ثانيًا بمسير الملك الناصِرِ محمد من الكرك إلى نحو دمشق، فتجهَّزَت عسكر المظَفَّر بيبرس في أربعة آلاف فارس وخرجوا من القاهرة في العشرين من شعبان إلى العبَّاسة، ثمَّ إنَّ المظَفَّر أخذَ عَهدًا من الخليفة العباسي بمصر أنَّه هو السلطانُ، ولكن قَدِمَ عليه الخبَرُ في خامس عشرين شعبان باستيلاء الملك الناصر على دِمشقَ بغيرِ قِتالٍ، فعَظُمَ ذلك على المَلِك المظفَّر وأظهر الذِّلَّة، وخرجت عساكِرُ مِصرَ شيئًا بعد شيءٍ تريد المَلِكَ الناصِرَ حتى لم يبقَ عنده بالدِّيارِ المصريَّة سوى خواصِّه من الأمراء والأجناد، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان استدعى الملِكُ المظَفَّر الأمراءَ كُلَّهم واستشارهم فيما يفعل، فأشار الأمير بيبرس الدوادار المؤرخ والأمير بهادر آص بنزوله عن المُلكِ والإشهادِ عليه بذلك كما فعله المَلِكُ الناصر، وتسير إلى الملك الناصر بذلك وتَستَعطِفُه، وتخرُجُ إلى إطفيح بمن تثِقُ به، وتقيمُ هناك حتى يَرِدَ جوابُ الملك الناصِرِ عليك فأعجبه ذلك، وقام ليجَهِّزَ أمْرَه، وبعث بالأميرِ بيبرس الدوادار إلى المَلِك الناصر محمد يُعَرِّفه بما وقع، وقيل إنه كتب إلى الملك الناصر يقولُ: " والذي أعَرِّفُك به أني قد رجعت أقلِّدُك بغيك؛ فإن حبستَني عددتُ ذلك خلوةً، وإن نفيتَني عددتُ ذلك سياحةً، وإن قتلتَني كان ذلك لي شهادةً" فلما سمع الملك الناصر ذلك، عَيَّنَ له صهيون ثمَّ اضطربت أحوالُ المظَفَّر بيبرس وتحَيَّرَ، وقام ودخل الخزائِنَ، وأخذ من المال والخيل ما أحَبَّ، وخرج من يومِه مِن باب الإسطبل في مماليكِه وعِدَّتُهم سبعُمائة مملوك، ومعه من الأمراءِ عِدَّةٌ، وعَلِمَت العوام بذلك فأخذوا باللَّحاقِ بهم وضَرْبِهم، وفي يوم الجمعة تاسع عَشَرِه خُطِبَ على منابر القاهرة ومِصرَ باسمِ الملك الناصر، وأُسقِطَ اسمُ الملك المظفر بيبرس هذا وزال مُلكُه، ولما فارق القلعةَ أقام بإطفيح يومين؛ ثم اتَّفَق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح إلى المسير إلى بُرقة، وقيل بل إلى أسوان، ثم أمر الناصِرُ بإحضاره.
هو الحكَمُ بنُ هشامٍ ابنُ الداخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحَكَم الأُموي، المرواني، أبو العاصِ، أميرُ الأندلس، وابنُ أميرِها، وحفيدُ أميرها. ويلقَّب: بالمرتضَى، ويعرف: بالربضي؛ لِما فعلَ بأهلِ الربض. بويعَ بالمُلك عند موت أبيه- في صفر سنة ثمانين ومائة- وكان من جبابرةِ الملوك وفُسَّاقهم ومتَمَرِّديهم، وكان فارسًا شجاعًا فاتِكًا، ذا دهاءٍ وحَزمٍ، وعُتُوٍّ وظُلمٍ، تملَّكَ سبعًا وعشرين سنة. وكان في أوَّلِ أمْرِه على سيرةٍ حميدةٍ، تلا فيها أباه، ثم تغيَّرَ وتجاهر بالمعاصي. كان يأخذُ أولادَ النَّاسِ المِلاح، فيُخصيهم ويُمسِكُهم لنَفسِه. وله شِعرٌ جَيِّد. وكان يقرِّبُ الفُقَهاء وأهلَ العلمِ. وكَثُرت العلماء بالأندلُسِ في دولته، حتى قيل: إنَّه كان بقُرطبة أربعةُ آلاف متقَلِّس- أي: مُتزَيِّينَ بزيِّ العلماء- فلما أراد اللهُ فناءهم، عَزَّ عليهم انتهاكُ الحكَمِ بن هشام للحُرُمات، وأْتَمَروا ليخلَعوه، ثم جيَّشوا لقتاله، وجرت بالأندلسِ فِتنةٌ عظيمةٌ على الإسلام وأهله- فلا قوَّةَ إلا باللهِ- على يدِ الحَكَمِ بن هشام، قُتل فيها عشراتُ الآلافِ مِن العُلَماء والعامَّة خاصةً في وقعة الربض بقُرطبة، ثم توفِّيَ الحَكَمُ بن هشام. وهو أوَّلُ من جَنَّد بالأندلُسِ الأجنادَ المُرتَزِقة، وجمع الأسلحةَ والعُدَد، واستكثَرَ من الحشَمِ والحواشي، وارتبَطَ الخيولَ على بابه، وشابَهَ الجبابرةَ في أحوالِه، واتَّخذ المماليكَ، وجعَلَهم في المرتَزِقة، فبلغت عِدَّتُهم خمسةَ آلاف مملوك، وكانوا يُسَمَّون الخُرسَ؛ لعُجمةِ ألسنتِهم، وكانوا يوميًّا على باب قَصرِه. وكان يطَّلِعُ على الأمور بنفسه، ما قَرُب منها وبَعُد، وكان له نفَرٌ مِن ثقاتِ أصحابِه يُطالِعونَه بأحوالِ النَّاس، فيرُدُّ عنهم المظالِمَ، ويُنصِفُ المظلومَ، وهو الذي وطَّأَ لعَقِبه المُلْكَ بالأندلس، وولِيَ بعده ابنُه عبدالرحمن بن الحكَم.
غَضِبَ المتوكِّلُ على ابنِ أبي دؤاد القاضي المعتزليِّ، وكان على المظالمِ، فعَزَله عنها واستدعى يحيى بنَ أكثَمَ، فولاه قضاءَ القُضاةِ والمظالمِ أيضًا. وفي ربيع الأوَّل أمر الخليفةُ بالاحتياطِ على ضِياعِ ابنِ أبي دؤاد، وأخَذَ ابنَه أبا الوليد محمَّدًا فحَبَسه في يوم السبتِ لثلاثٍ خَلَونَ من ربيع الآخر، وأمَرَ بمصادرتِه، فحَمَل مائةَ ألفِ وعشرين ألف دينار، ومن الجواهِرِ. كان ابنُ أبي دؤاد قد أصابه الفالجُ (الشلل النصفي) بعد أن دعا على نفسِه إن لم يكُن الواثِقُ قد قتَلَ أحمدَ بنَ نصرٍ كافرًا, ثم نفى المتوكِّلُ أهلَ ابن أبي دؤاد من سامِرَّا إلى بغداد مُهانين، وفي عيدِ الفطر من هذا العام أمَرَ المتوكِّل بإنزالِ جُثَّة أحمدَ بنِ نصرٍ الخُزاعي والجَمعِ بين رأسِه وجَسَدِه وأن يُسَلَّم إلى أوليائِه، ففَرِحَ النَّاسُ بذلك فرحًا شديدًا، واجتمع في جنازتِه خَلقٌ كثيرٌ جِدًّا، وكان يومًا مَشهودًا, ثمَّ كتب المتوكِّلُ إلى الآفاقِ بالمَنعِ مِن الكلامِ في مسألةِ الكلامِ، والكَفِّ عن القولِ بخَلقِ القرآن، وأنَّ من تعلَّمَ عِلمَ الكلامِ لو تكلَّمَ فيه فالمطبق (سجن من سجون بغداد) مأواه إلى أن يموتَ. وأمر الناسَ ألَّا يشتغِلَ أحدٌ إلَّا بالكتابِ والسنَّةِ لا غيرُ، ثمَّ أظهر إكرامَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل واستدعاه من بغدادَ إليه، فاجتمع به فأكرمَه وأمَرَ له بجائزةٍ سَنِيَّةٍ فلم يقبَلْها، وخلع عليه خِلعةً سَنيَّةً مِن ملابسِه فاستحيا منه أحمدُ كثيرًا، فلبسها إلى الموضِعِ الذي كان نازلًا فيه، ثمَّ نزعها نزعًا عنيفًا وهو يبكي- رحمه الله تعالى- وارتفَعَت السُّنَّة جِدًّا في أيام المتوكِّل- عفا الله عنه- وكان لا يولِّي أحدًا إلا بعد مشورةِ الإمام أحمد، وكانت ولايةُ يحيى بن أكثم قضاءَ القضاةِ مَوضِعَ ابنِ أبي دؤاد عن مشورتِه، وقد كان يحيى بن أكثَم هذا من أئمَّة السنة، وعُلماء الناس، ومن المعظِّمين للفقه والحديث واتِّباع الأثَر.
غزا الناصِرُ مدينة طُلَيطلة غَزاتَه الثانيةَ التي فُتِحَ فيها عليه، وكان أهل طليطلة لَمَّا أخذهم الحصار، واشتَدَّ عليهم التَّضييق، ولازمهم القُوَّادُ، استنجدوا بالمشركين، ورَجَوا نصرهم لهم، فلم يغنوا عنهم فتيلًا، ولا كشَفوا عنهم عذابًا، ولا جَلَبوا إليهم إلَّا خِزيًا وهوانا. وخرج القُوَّادُ المُحاصِرون لهم إلى الكَفَرة، فهزموهم وفَرَّقوا جموعهم، وانصرفوا مُوَلِّينَ على أعقابهم، خاذلينَ لِمن انتصر بهم، ورجا الغِياثَ مِن قِبَلِهم، فلما يئس أهلُ طُلَيطِلة أن ينصُرَهم أحدٌ مِن بأس الله الذي عاجَلَهم، وانتقامِه الذي طاوَلَهم، عاذوا بصَفحِ أمير المؤمنين، وسألوه تأمينَهم، وضَرَعوا إليه في اغتفارِ ذنوبهم، فخرج لاستنزالِ أهل طليطلة، وتوطيدِ طاعتِه فيها، وإحكامِ نَظَرِه بها، ثم أمَّنَ أهلَ طُلَيطِلة، وخرجوا إلى العسكَرِ، ونالوا المرافِقَ فيه، وابتاعوا المعايشَ التي طال ما أجهَدَهم عدَمُها، ومنَعَهم الحصارُ منها؛ فعَرَفوا غِبطةَ ما صاروا إليه من الأمنِ بعد الخوفِ، والسَّعةِ إثرَ الضِّيقِ، والانبساطِ بعد طول الانقباضِ، ثم ركب الناصرُ إلى طليطلة في اليومِ الثاني مِن نُزولِه بمَحَلَّتِه عليها، ودخَلها وجال في أقطارها, فرأى مِن حصانتِها، وشَرَفِ قاعدتِها، وانتظامِ الجبال داخِلَ مدينتها، وامتناعِها من كل الجهاتِ بواديها ووَعْرِها، وطِيبِ هوائها وجَوهرِها، وكثرة البشَرِ بها، ما أكثَرَ له من شكْرِ الله عزَّ وجَلَّ على ما منَحَه فيها، وسهَّلَ له منها، وعلم أنَّه لولا ما أخذ به مِن الجِدِّ والعزمِ في أمرها، لَمَا مُلِكَت مع حصانتِها ومَنعتِها, ولِما اعتاده أهلُها من مداخلة المشركينَ ومُوالاتهم، والاستمداد على الخُلَفاء بهم، فكم أعيَتْ طُلَيطِلة الملوكَ، وامتنعت من العساكِرِ، ثم بنى فيها بناءً مُحكَمًا مُتقَنًا؛ ليكونَ مُستقَرًّا للقُوَّادِ الملازمينَ فيها، وملأها رجالًا وعُدَّةً وسِلاحًا. وركب إليها النَّاصِرُ، وأمر بهَدمِ ما وجب هدمُه في المدينة، وترَدَّد عليها ثمانيةَ أيَّامٍ حتى أكمَلَ فيها ما دَبَّرَه، واطمأنت بأهلِ المدينة الدار، ثم قفل الناصِرُ من طليطلة إلى قرطبة، ودخلها لعشرٍ بقين من شعبان، وقد استتَمَّ في غزاته ستة وثلاثين يومًا.
هو أبو منصورٍ محمَّدُ بنُ المعتضد بن طلحة بن المتوكل. أمُّه أمُّ ولدٍ اسمُها فتنة، لَمَّا قُتِلَ المقتَدِرُ أُحضِرَ هو ومحمَّد بن المكتفي، فسألوا ابنَ المكتفي أن يتولَّى، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وعمِّي هذا أحَقُّ به، فكلم القاهِر فأجاب، فبويعَ ولُقِّبَ القاهِرَ بالله، فأوَّلُ ما فعَلَ أنْ صادَرَ آلَ المُقتَدِر وعَذَّبهم، وضربَ أمَّ المُقتَدِر حتى ماتت في العذابِ، على الرغمِ أنَّها كانت تُحسِنُ إليه عندما حُبِسَ في بيتها بعد فشَلِ محاولةِ عَزلِ المُقتَدِر عام 317 وتعيينِه خليفةً بدلًا منه. وفي سنة إحدى وعشرين شغَّبَ عليه الجُندُ، واتَّفَقَ مُؤنِسٌ وابن مقلة وآخرون على خَلعِه بابن المكتفي، فتحيَّلَ القاهِرُ عليهم إلى أن أمسَكَهم وذبَحَهم وطيَّنَ على ابنِ المُكتفي بين حائِطَينِ، وأما ابنُ مُقلةَ فاختفى، فأُحرِقَت دارُه، ونُهِبت دورُ المُخالِفينَ، ثم أطلَقَ أرزاقَ الجُندِ فسَكَنوا، واستقام الأمرُ للقاهر، وعَظُم في القلوب، أمَرَ بتحريم القيان والخَمر، وقبَضَ على المغنِّين، ونفى المخانيثَ، وكسَرَ آلات اللهو، وأمر ببيعِ المُغَنِّيات من الجواري على أنَّهن سواذج، وكان مع ذلك هو لا يصحو مِن السُّكرِ، ولا يَفتُرُ عن سَماع الغناء, أهوجَ، سفَّاكًا للدِّماء، قبيحَ السِّيرةِ، كثيرَ التلَوُّنِ والاستحالة، مُدمِنًا للخمر، وفي عام 322 قَتَل القاهِرُ إسحاقَ بنَ إسماعيل النوبختي الذي كان قد أشار بخلافةِ القاهر، ألقاه على رأسِه في بئرٍ وطُمَّت، قيل: إنَّ ذَنبَه أنَّه زايدَ القاهِرَ قبل الخلافةِ في جاريةٍ، واشتراها فحَقَدَ عليه. تحَرَّك الجند عليه؛ لأنَّ أمير الأمراء ابنَ مُقلةٍ كان يوحشُ الجندَ مِن القاهر، ويقول لهم: إنَّه بنى لكم المطاميرَ ليَحبِسَكم، فأجمعوا على الفَتكِ به، فدخلوا عليه بالسُّيوفِ، فهرب، فأدركوه وقَبَضوا عليه وبايعوا أبا العبَّاس محمد بن المُقتَدِر ولقَّبوه: الراضي بالله، كان سببُ خلعِ القاهر سوءَ سيرته، وسَفكَه الدماءَ، فامتنع من الخَلعِ، فسَمَلوا عينيه حتى سالَتا على خَدَّيه، وتعَرَّض لصُنوفٍ من العذاب حتى مات في هذه السَّنةِ.
خرج مَلِكُ الرُّومِ مِن القُسطنطينيَّةِ في ثلاثمِئَة ألفِ مقاتلٍ إلى الشام، فلم يَزَلْ بعساكِرِه حتى بلغوا قريبَ حَلَب، وصاحِبُها شبل الدَّولةِ نَصرُ بنُ صالحِ بنِ مرداس، فنزلوا على يومٍ منها، فلَحِقَهم عطَشٌ شَديدٌ، وكان الزَّمانُ صَيفًا، وكان أصحابُه مختَلِفينَ عليه، فمِنهم من يحسُدُه، ومنهم من يَكرَهُه، وممَّن كان معه ابنُ الدوقس، ومِن أكابِرِهم، وكان يريدُ هلاكَ المَلِك لِيَملِكَ بعده، فقال المَلِكُ: الرأيُ أن نقيمَ حتى تجيءَ الأمطارُ وتَكثُرَ المياه. فقَبَّحَ ابنُ الدوقس هذا الرأيَ، وأشار بالإسراعِ قَصدًا لشَرٍّ يتطَرَّقُ إليه، ولتدبيرٍ كان قد دبَّرَه عليه. فسار، ففارَقَه ابنُ الدوقس وابنُ لؤلؤٍ في عشرة آلافِ فارسٍ، وسلكوا طريقًا آخَرَ، فخَلا بالمَلِك بعضُ أصحابِه وأعلَمَه أنَّ ابنَ الدَّوقس وابنَ لؤلؤ قد حالفا أربعينَ رَجُلًا، هو أحدُهم، على الفَتكِ به، واستشعَرَ مِن ذلك وخاف، ورحَلَ مِن يومِه راجعًا، ولَحِقَه ابنُ الدوقس، وسأله عن السَّبَبِ الذي أوجَبَ عَودَه، فقال له: قد اجتمَعَت علينا العَرَبُ وقَرُبوا منا، وقَبَضَ في الحالِ على ابنِ الدَّوقسِ وابنِ لؤلؤ وجماعةٍ معهما، فاضطرب النَّاسُ واختلفوا، ورحَلَ المَلِكُ، وتَبِعَهم العَرَبُ وأهلُ السوادِ حتى الأرمن يقتُلونَ ويَنهَبونَ، وأخذوا من المَلِكِ أربعَمِئَة بغلٍ مُحَمَّلة مالًا وثيابًا، وهَلَك كثيرٌ مِن الرومِ عَطَشًا، ونجا المَلِكُ وحده، ولم يَسلَمْ معه من أموالِه وخزائِنِه شيءٌ البتَّةَ، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}، وقيلَ في عودِه غيرُ ذلك، وهو أنَّ جَمعًا من العَرَبِ ليس بالكثيرِ عَبَرَ على عَسكَرِه، وظَنَّ الرُّومُ أنَّها كبسةٌ، فلم يَدرُوا ما يفعلونَ، حتى إنَّ مَلِكَهم لَبِسَ خُفًّا أسودَ، وعادةُ مُلوكِهم لُبسُ الخُفِّ الأحمَرِ، فتَرَكه ولَبِسَ الأسودَ لِيُعَمِّيَ خَبَرَه على مَن يريدُه، وانهزموا، وغَنِمَ المسلمونَ جميعَ ما كان معهم.
تعرَّض وفدٌ من آل خليفة (عتوب الزبارة) في البحرين إلى اعتداءٍ أدى إلى وقوعِ قتال بين أتباعِ آل خليفة والبحارنة, فقُتِل أحد أتباع الخليفة، فغَضِب أهلُ الزبارة نتيجةً لذلك فأرسلوا سفينةً صغيرة للبحرين؛ للأخذ بثأر القتيل، فتمكنوا من قتلِ غريمِهم وقتلوا معه خمسةَ أشخاص, فجهَّز ناصِرُ آل مذكور- التابع لحكم الزنديين في بوشهر- سفُنًا حربية تحتوي على خمسة آلاف مقاتلٍ، وتولى ابنُ أخيه محمد بن سعدون آل مذكور القيادةَ، فحاصروا الزبارةَ لمدة شهر، انتهت بمعركةٍ حاميةِ الوطيسِ، فانهزمت قواتُ الشيخ ناصر، واضطروا إلى الانسحابِ، وقُتل في تلك الوقعةِ الشيخُ محمد آل مذكور قائد الحملة، وكان ذلك في 18 جمادى الآخرة 1197هـ ما إن انهزمت قوات آل مذكور عن الزبارة حتى انضمَّت قبائل قطر إلى العتوب، وهي الجلاهمة، وآل مسلم، وآل بنعلي، وآل سودان، وآل مرة، وآل بوعينين، والقبيسات، وآل سليط، والمنانعة، والسادة؛ حيث شرع أحمد آل خليفة بتنظيمِ صفوف قواتِه لاحتلال البحرين وأخذِها من آل مذكور. ثم بادر عتوب الكويت بالتوجُّه إلى البحرين في قوةٍ مكونة من ستة جلابيت وعددٍ من القوارب المسلحة أرسلها الشيخ عبد الله الصباح لدَعمِ أقاربه العتوب, تدفَّقت تلك الجموع إلى البحرين وأجبروا حاميَتَها على الاستسلام يوم 28 شعبان 1197 هـ/ 28 يوليو 1783م. حاول الشيخ ناصر آل مذكور استرجاع جزيرة البحرين بعد استيلاء العتوب على جزيرة البحرين بدعمٍ مِن العثمانيين، حاول إقناع الحكومة الفارسية في بوشهر أهمية استرجاع جزيرة البحرين من يدِ العتوب التابعين لحاكم الكويت الشيخ عبد الله بن صباح بن جابر آل صباح، ولكِنَّ انشغال الحكومة الفارسية بالحروبِ والفِتَن التي أعقبت مقتل كريم خان زند حالت دون ذلك.
خرج في الأندلس الحُباب بن رواحة بن عبد الله الزهري ودعا إلى نفسِه، واجتمع إليه جمعٌ من اليمانية، فسار إلى الصميل، وهو أمير قرطبة، فحصره بها وضيَّق عليه، فاستمد الصميلُ يوسفَ الفهريَّ أمير الأندلس، فلم يفعَلْ لتوالي الغلاءِ والجوع على الأندلس، ولأنَّ يوسُفَ قد كره الصميل واختار هلاكَه ليستريحَ منه. وثار بها أيضًا عامر العبدري وجمع جمعًا واجتمعَ مع الحباب على الصميل، وقاما بدعوة بني العباس. فلما اشتدَّ الحصارُ على الصميل كتب إلى قومه يستمِدُّهم، فسارعوا إلى نُصرتِه واجتمعوا وساروا إليه، فلما سمِعَ الحباب بقُربهم سار الصميل عن سرقسطة وفارقها، فعاد الحُباب إليها ومَلَكها، واستعمل يوسُفُ الفهري الصميل على طليطلة
بُويعَ أحمد بن محمد بن المعتَصِم بالخلافة؛ وكان سببَ ذلك أنَّ المنتصِرَ لَمَّا توفِّي اجتمع الموالي على الهارونيَّة من الغد، وفيها بغا الكبيرُ، وبغا الصغير، وأتامش، وغيرهم، فاستحلفوا قوَّاد الأتراك، والمغاربة، والشروسنية على أنْ يرضَوا بمن رضِيَ به بغا الكبير، وبغا الصغير، وأتامش، وذلك بتدبيرِ أحمد بن الخصيب، فحَلَفوا وتشاوروا وكَرِهوا أن يتولَّى الخلافةَ أحد من ولد المتوكِّل؛ لئلَّا يغتالَهم، واجتمعوا على أحمدَ بن محمد بن المعتصم، وقالوا: لا تَخرجُ الخلافةُ مِن ولد مولانا المعتَصِم، فبايعوه وهو ابنُ ثمانٍ وعشرين سنة، ولقَّبوه بالمستعين بالله، وتكنى بأبي العباس، فاستكتب أحمدَ بن الخصيب، واستوزر أتامش.
ظهر بمصر رجلٌ يُعرَفُ بالخلنجي، من القادةِ, وهو أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بن علي الخلنجي المصري الطولوني، كان قد تخلَّفَ عن محمد بن سليمان، فاستمال جماعةً، وخالف على السُّلطانِ، فتمَلَّك الديارَ المصريَّةَ بالسَّيفِ، واستولى عليها عَنوةً مِن عيسى بن محمد النوشري. فلما مَلَك الخلنجي الديارَ المصرية ومَهَّدَ البلادَ ووطَّنَ الناسَ ووضعَ العطاءَ وفَرَض الفروضَ. كتب النوشري إلى المُكتفي بالخبر، فجَهَّز الخليفةُ جيشًا لقتاله وعليهم أبو الأغر، وفي الجيش الأميرُ أحمد بن كيغلغ وغيرُه، فخرج إليهم الخلنجي وقاتَلَهم فهزمهم أقبحَ هزيمةٍ وأسَرَ مِن جماعةِ أبي الأغر خلقًا كثيرًا، وعاد أبو الأغَرِّ حتى وصل إلى العراقِ.
هو أبو إبراهيمَ إسماعيلُ بنُ أحمدَ الساماني أميرُ خراسان وما وراء النَّهرِ، شَهِدَ عَهدُه ظهورَ السَّامانيين كقوَّةٍ في المنطقة. وهو ابنُ أحمدَ بنِ أسد، ويرجع نسَبُه إلى سامان خدا الذي أسَّس سلالةَ السَّامانيين والذي ترك المجوسيَّة واعتنقَ الإسلامَ، ويُعتبَرُ إسماعيل أبًا روحيًّا للقوميَّة الطاجيكية، كان عاقلًا عادلًا، حسَنَ السِّيرةِ في رعيَّتِه، حليمًا كريمًا، يلقب بعد موته بالماضي، وهو الذي كان يُحسِنُ إلى إمامِ أهلِ الحديث في عصرِه محمَّد بن نصر المروزي ويعَظِّمُه ويُكرِمُه ويَحتَرِمُه ويقوم له في مجلسِ مُلكِه، فلما مات تولَّى بعده ولدُه أحمدُ بنُ إسماعيل بن أحمد الساماني, وأرسلَ إليه المكتفي باللهِ عهْدَه بالولاية وعقَدَ لواءَه بيَدِه.
في هذه السَّنةِ عاشِرَ المحَرَّم أمرَ مُعِزُّ الدولة الناسَ أن يُغلِقوا دكاكينَهم، ويُبطِلوا الأسواقَ والبيعَ والشِّراءَ، وأن يُظهِروا النياحةَ، ويلبسوا قبابًا عَمِلوها بالمُسوح، وأن يَخرُجَ النساء مُنشِراتٍ الشُّعورَ، مُسَوِّداتٍ الوُجوهَ، قد شَقَقنَ ثيابَهنَّ، يَدُرنَ في البلد بالنوائحِ، ويَلطمْنَ وجوهَهنَّ على الحسين بن عليِّ، رضي الله عنهما، ففعل النَّاسُ ذلك، ولم يكن للسُّنَّة قُدرةٌ على المنع منه لكثرةِ الشِّيعةِ، ولأنَّ السلطانَ معهم, وفي ثامن عشر ذي الحجة، كان معز الدولة قد أمر بإظهارِ الزِّينةِ في البلد، وأُشعِلَت النيران بمجلِسِ الشرطة، وأُظهِرَ الفرح، وفُتِحَت الأسواق بالليل، كما يُفعَل ليالي الأعياد، فعَلَ ذلك فرحًا بعيدِ الغدير، يعني غديرَ خُمٍّ، وضُرِبَت الدبادب والبوقات.