لما دخل الإسبان إلى تونس قاموا بإرجاع أحمد الحفصي، لكنهم اشترطوا عليه مقابِلَ ذلك أن يمنحَهم أراضيَ من تونس، فرفض ذلك فخلعوه وولَّوا أخاه محمدًا مكانه، وكان قد وافق على طلب الإسبان، فلجأ أحمد إلى صقلية ومات في باليرمو، أمَّا أخوه محمد فأدخل الإسبان إلى البلاد فشاركوه السلطةَ وكثُرَ الفساد وهرب أكثرُ الناس إلى الجبال، ولكنْ لم يلبث الأمرُ فيها أكثر من ثمانية أشهر، حتى أبحر الأسطولُ العثماني بقيادة سنان باشا وقلج علي في 23 محرم من هذه السنة, فخرج من المضائقِ ونشر أشرعتهَ في البحر الأبيض، فقاموا بضرب ساحلِ كالابريا، مسينا، واستطاع العثمانيون أن يستولوا على سفينة أوروبية، ومن هناك قطعوا عرض البحر في خمسةِ أيام، في هذا الوقت وصل الحاكمُ العثماني في تونس حيدر باشا، كما وصلت قوةٌ من الجزائريين بقيادة رمضان باشا، وقوةُ طرابلس بقيادة مصطفى باشا، كما وصل ثمةَ متطوعين من مصر، بدأ القتال في ربيع أول من هذه السنة, ونجح العثمانيون في الاستيلاء على حلق الواد، بعد أن حوصِرَ الإسبان حصارًا محكمًا، وقامت قوات أخرى بمحاصرة مدينة تونس، ففَرَّ الإسبان الموجودون فيها ومعهم الملك الحفصي محمد بن الحسن إلى البستيون التي بالغ الإسبان في تحصينها وجعلوه من أمنع الحصون في الشمال الإفريقي، توجه العثمانيون بعد تجمُّع قواتهم إلى حصار البستيون، وضيَّق العثمانيون الخناقَ على أهلها من كل ناحية, فلجأ الحفصيون إلى صقليةَ حيث ظلوا يوالون الدسائسَ والمؤامرات والتضرعات لملوك إسبانيا سعيًا لاسترداد مُلكهم، واتخذهم الإسبان آلاتٍ طيِّعةً تخدمُ بها مآربَهم السياسية حسَبَما تمليه الظروفُ عليهم، وقضى سقوط تونس بيد العثمانيين على الآمال الإسبانية في إفريقيا، وضَعُفت سيطرتها تدريجيًّا حتى اقتصرت على بعض الموانئ، مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير، وتبدد حلمُ الإسبان نحو إقامة دولة إسبانية في شمال إفريقيا وضاع بين الرمال.
كان كركين خان قد تقدم بجيشه إلى أفغانستان وأخضعهم تحت نفوذه، ثم إنَّهم استغاثوا من ظُلمِه بملك الصفويين، ولكن كركين كان قد سبقهم وأعلمه أنهم عبارة عن عصاة، ثم برز أويس الذي كان يحكم قندهار فأرسله كركين إلى الشاه الصفوي على أنه زعيم العصاة، لكنه حظِيَ بالقرب من الشاه وفكَّر في الاستقلال، لكنه رأى أن يتريَّث وخاصة أن الدولة الصفوية أخذت في الهَرَم والضعف، ثم رجع إلى بلاده ليكون رقيبًا على كركين، وأراد كركين أن يذِلَّه بتزوجه من ابنته فدبَّر له مكيدة وقتله، ثم بدأ بقتل الفرس الموجودين في قندهار وانسلخت أفغانستان عن إيران، ثم فكَّروا بضم إيران لهم، وكان قد استصدر فتاوى بحل قتال الشيعة الروافض، ولما رأى الشاه الصفوي أنه لا بدَّ من القتال صدع بالأمر، لكنه لقيَ ما لم يكن في حسابه، فكُسِر في الموقعة التي جرت بينهما، ثم عاود الكَرَّة بجيش بقيادة خسرو خان ابن أخي كركين المقتول، ولكنهم هُزِموا كسَلَفِهم بعد أن استطاعوا الوصولَ إلى قندهار وحصارها، وقتلوا خسرو أيضًا، ثم أرسل الشاه جيشًا ثالثًا فأصيب كما أصيب سابقاه، واستقل الأفغان، ثم تولى محمود ابن أويس بعد موته، فأرسل الشاه جيشًا ليُخضِعَه، لكنه أيضًا هُزم أمام الأفغان، ثم قدم محمود ابن أويس بجيشِه عن طريق الصحراء فوصل إلى كرمان وحاصرها، لكنه اضطر للعودة لمجيء القوات المغيثة، ثم عاد مرة أخرى ووصل الخبر إلى إيران وفزع الناسُ حتى خرج الشاه من المدينة، وقَبْل وصول جيش محمود إلى أصفهان عرض عليه الشاه المصالحة والمال لكنه أبى وحاصر أصفهان، ثم هجمت جيوشُ الشاه عليهم بعد أن انقسموا فرقتين، فاستطاع الأفغان دحْرَ الجيش الأول واستولوا على مَدافِعِه واستعملوها ضد الجيش، ففُتِحت المدينة بعد القتال الشديد، وأصبحت في يد محمود ووقعت العاصمة بيده، واستسلم الشاه واعتلى محمودٌ على عرش إيران، وانتهت دولة الصفويين.
كانت وقعةُ دلقة من غير رضاء أمير العُيينة ابن معمر ولم يشاوَرْ فيها؛ لذلك لم يحضُرْها. يقول ابن غنام: "لما رأى ابنُ معمر عودةَ الجماعة من الحرب خَشِيَ أن ينكشف نفاقُه وأن تظهر خيانته, فأرسل إلى الشيخ وإلى محمد بن سعود يستشفع إليهما, ويطلب منهما الصفحَ عن تخلُّفِه، فقبلا عذره رجاءً منهما ألا يعودَ إلى مكره, ثم قَدِمَ عليهما ومعه وجوهُ أهل حريملاء والعُيينة، وعاهدهما على الجهاد والقيام بنصرة الدين، ولو في أي مكان, فتوهَّما فيه الصدق والوفاء، فرأَّسوه ورفعوه على المسلمين وأمَّروه, وكان من أعظم ما أظهر نفاق عثمان بن معمر أنَّه أرسل إلى إبراهيم بن سليمان أمير ثرمداء وأمَرَه أن يركب إلى دهام بن دواس مع جماعتِه ويزين له الاتِّفاقَ مع عثمان والقدوم عليه إلى العُيينة على أن يُظهِرَ في أحاديثه بمجالِسِه أنه اهتدى وانضم إلى الجماعة, فقدم مع دهام مع إبراهيم بن عثمان، وكان ذلك من غير مشورة الشيخ وابن سعود، فحين رأى أهل العيينة دهامًا وعَلِموا بما حدث شَقَّ عليهم ذلك واجتمعوا جميعًا وساروا إلى عثمان, فلما رأى حالَهم مَوَّه عليهم وقال لهم: ليس لي مرادٌ إلا الإرسال للشيخ ليحضُرَ عقد الصلح ويدخُلَ دهام في دائرة الإسلامِ، فاطمأنت نفوسُ القوم, ثم أرسل إلى الشيخ وألحَّ عليه في القدوم، ولكن الله ألقى في رُوعِ الشيخ ما استبان به خيانةَ عثمان وغدره، فامتنع عن الذهاب فلمَّا رجع الرسول وأخبرهم بذلك عرف أهل البلد مكرَ عثمان، فحصروا ابن دواس في القصرِ وهَمُّوا أن يفتكوا به، لكن دهام هرب منهم تحت جنح الظلام، وعاد إبراهيم بن سليمان إلى ثرمداء وفارق منهج الحق, وكان هذا كلُّه قبل أن يفِدَ عثمان على الشيخ وابن سعود ويأخذ منهما العهد المجدد, ولكنه مع ذلك لم يخلِصِ النية ولم يعقِدْ على الوفاء، وسيتبين غدرُه "
هو فلاح بن مانع بن حثلين العجمي أميرُ قبيلة العجمان، قام في السنة الماضية ومعه بعض العُجمان وعربان من سبيع بالغارة على حاجِّ الأحساء والقطيف والبحرين وسيف البحر، فطلبه الإمام فيصل بن تركي ففَرَّ إلى ديرة بن خالد، فأجلى الإمام فيصل العجمانَ من ديرة بني خالد، ففَرَّ ابن حثلين إلى محمد بن هاد بن قرملة بعد أن انسلخ منه العجمان وتبرؤوا منه، ثم إنَّ فلاح بن حثلين قام يدير الرأيَ في الحيلة للرجوعِ إلى ديرة بني خالد، ووقع في نفسِه أنَّه لا يَقدِرُ على ذلك إلَّا بمصافاة الدويش وأتباعه، فرحل من مكانِه وقصَدَهم في ديرة بني خالد، ومعه قطعةٌ قليلة من العجمان، فنزل على منديل بن غنيمان رئيسِ من الملاعبة من مطير، وطلبه أن يجيره ويجمع بينه وبين الدويش، فأبى ابن غنيمان وقال: لا نقدِرُ على ذلك، ونحن بيدِ الإمام فيصل، ولا يجسرُ يجيرُ عليه أحد، وأرسل منديل إلى الحميدي الدويش وأخبره بالأمر، فركب من ساعته بعَدَدِه وعُدَّتِه وألفى عند ابن غنيمان ورحل معه بابن حثلين ومن تَبِعَه وأدخلهم مع عُربانه، وأرسل إلى فيصل يخبره، وركب وافدًا عليه ومعه رؤساء قومِه فلما دخلوا على الإمام ذكَرَ لهم ما فعل ابن حثلين بالمسلمين، وقال: لا بدَّ من إمساكه وأخْذِه من عندكم وأخذ الثأر منه للمسلمين، وألزمه بذلك فلم يجِدْ بدًّا من طاعته، فأمر الإمامُ على رجال من خدَّامه يركبون معهم ويأخذون ابن حثلين من عند الدويش، وقصدوا به الأحساءَ وأدخلوه قصرَ الكوت عند أحمد السديري، فقطعوا رأسَه، وعندما قُتِلَ فلاح بن حثلين خلفه أخوه العجمان الشيخ حزام بن حثلين عمُّ راكان بن فلاح حوالي خمسة عشرة عامًا في زعامة قبيلة العجمان، ثم تنازل عن زعامته لابن أخيه الشيخ راكان بن فلاح بن حثلين، عام 1276هـ.
نشبت حرب البلقان الثانية، وكان سببها هو رغبة بلغاريا في انتزاع إقليم مقدونيا الشمالية من صربيا، وقد انتهت هذه الحرب بعد 42 يومًا من اشتعالها، بمعاهدة "بوخارست" في أغسطس 1913م.كان الصرب والبلغار يأملون أن تساعدهم روسيا في المستقبل؛ لذلك تنصَّلوا من وعودهم للنمسا في عدم القيام بدعاية للجامعة الصربية والدولة السلافية الكبرى في داخل النمسا والمجر، وانتهى الأمر بتكوين العصبة البلقانية التي تضمُّ بلغاريا واليونان والصرب، وحذَّرت الدول الكبرى هذه العصبةَ مِن أي محاولة لتمزيق ممتلكات الدولة العثمانية في البلقان، غير أن الصربَ أعلنوا الحربَ على العثمانيين في (ذي القعدة 1330هـ/ أكتوبر 1912م) فاشتعلت الحربُ في البلقان، وفي ستة أسابيع انتزعت العصبة البلقانية جميعَ أراضي العثمانيين في أوروبا ما عدا القسطنطينية. وأثارت هذه الانتصارات النمسا التي دعت إلى عقد مؤتمر دولي، وكان أهمُّ غرض للنمسا هو حرمانَ الصرب من منفذٍ بحري مباشر على بحر الأدرياتيك، وأصبحت ألبانيا مركزًا للصراع الدبلوماسي الشديد بين النمسا وروسيا، لكِنَّ المشكلة سُوِّيت بإقامة دولة مستقلة في ألبانيا تحكمُها ألمانيا، ووقّعت معاهدة لندن التي حصرت الأملاك العثمانية في أوروبا في القسطنطينية وشبه جزيرة غاليبولي. ولم يكد مدادُ معاهدة لندن يجِفُّ حتى نشبت الحرب بين دول العصبة البلقانية الثلاث على مغانم الحرب، وتدخَّلت الدولة العثمانية ورومانيا في تلك الحرب، وتدخَّلت الدول الكبرى لتحقيق مصالحها، خاصةً روسيا والنمسا، وانتهت الحرب البلقانية الثانية بهزيمة بلغاريا وضعفها، وتنامي قوة صربيا، وتزعزُع مكانةِ النمسا الدولية؛ لذلك فكَّرت النمسا في سحق صربيا عسكريًّا لتفادي خطر تكوين دولة صربيا الكبرى، وبالتالي تسبَّبت الحروب البلقانية في زيادة التوتر داخل الكتلتين الأوروبيتين المتصارعتين: الحلف الثلاثي، والوفاق الثلاثي، والاستعداد لمواجهة عسكرية كبرى.
بقي الاستعمارُ الفرنسي في الجزائر قائمًا، وأخذ أشكالًا جديدة، فبدأ ينشر الجهلَ، ويحارب اللغة العربية، وينشر الرذيلة والفواحش بين المسلمين، ولكِنْ أبقى الله في الأمة بقيةً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فكان من المصلحين الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كان يُلقي دروسًا في التفسير في مسجد سيدي الأخضر بقسنطينة، والتفَّ حوله الكثير واشتد ساعده، وقام بدعوة العلماء لتوحيد الكلمة، فحضر 190 من علماء الجزائر، واتَّفق الجميع على تأسيس جمعية العلماء المسلمين، وتولى هو رئاسَتَها، وفَتَحت هذه الجمعية المدارسَ للناشئة، وأصدرت جريدة المرصاد، وأخذ الشيخ عبد الحميد الحملَ على الفرنسيين، وبالمقابل جهدت فرنسا للإيقاع بالجمعية؛ حيث كانت تغتالُ سِرًّا بعض العلماء المعارضين لهذه الجمعية، وتتهم بهذا الفعل الجمعية، ثم انشَقَّ عن الجمعية بعضُ الذين استاؤوا من محاضرة الطيب العقبي التي تكَلَّم فيها على أصحاب الطرق، فانشقوا وألَّفوا جمعية علماء أهل السنة وجريدتهم البلاغ الجزائري، وارتفع أمرُ ابن باديس في الجزائر، وقد قام وفدٌ برئاسته بالذَّهاب إلى فرنسا وتقديم مطالب الشعب الجزائري للحكومة الفرنسية، ومنها: إلغاء كافة القوانين والقرارات الاستثنائية بالجزائر، وإلغاء الحكم العامِّ في الجزائر، واشتراك الجزائريين في الهيئة الانتخابية، ويكون لهم نوابٌ في المجلس النيابي الفرنسي، وعدمُ التمييز بين الفرنسيين والجزائريين، مع الاحتفاظ بالهُوية الإسلامية، واستقلال الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية، وجَعْل اللغة العربية لغةَ الدراسة، ورُفِضَت مطالبهم جملة، وزادت فرنسا من توسيعِ الشِّقاق بمساعدة أصحاب الطُّرُق الصوفية، والاغتيالات السرية واتهام جمعية المسلمين بها، كما فعلت بالشيخ عمر بن دالي الذي جعلَتْه إمام الجامع الكبير في قسنطينة ثم طلَبَت منه الهجوم على الوفد الذي سافر لفرنسا، ثم دفعت من قَتَله حيث سَلَّم نفسه بعد فترةٍ واعترف بكُلِّ المخطَّط، ثم لَمَّا توفي ابن باديس 1359هـ تولى محمد بشير الإبراهيمي رئاسةَ الجمعية.
هو الشيخُ العلامة أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، من بني تميم. وُلِدَ في عُنيزة في القصيم في 12 محرم سنة 1307هـ. نشأ الشيخُ يتيمًا؛ فقد توفِّيَت أمُّه وله من العمر أربع سنوات، ثم توفِّيَ والِدُه وهو في السابعة، لكنه نشأ نشأةً صالحة، وقد أثار إعجابَ مَن حوله فاشتهر منذ حداثته بفطنته، وذكائه، ورغبته الشديدةِ في طلب العلم وتحصيله، فحَفِظَ القرآن عن ظهر قلبٍ وعمُرُه أحد عشر عامًا، ثم اشتغل بالعلم على يد علماءِ بلَدِه حتى نال الحظَّ الأوفر من كل فَنٍّ من فنون العلم، ولَمَّا بلغ من العمر ثلاثًا وعشرين سنة جلس للتدريسِ، فكان يَتعلَّمُ ويُعلِّمُ، ، وكان من أحسَنِ الناس تعليمًا وأبلَغِهم تفهيمًا، حصل له من التلاميذ المحصلين عددٌ كثير. كان ذا معرفةٍ فائقة في الفقه وأصوله، وكان أوَّلَ أمره متمسِّكًا بالمذهب الحنبليّ تبعًا لمشايخه، ويحفظ بعضَ متون المذهب. وكان أعظَمُ اشتغاله وانتفاعه بكتُبِ شَيخِ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وحصل له خيرٌ كثير بسببهما في علم الأصول والتوحيد، والتفسير، وغيرها من العلوم النافعة. وبسبب استنارتِه بكُتُبِ الشيخين المذكورين صار لا يتقيَّدُ بالمذهب الحنبلي، بل يرجِّحُ ما تَرَجَّحَ عنده بالدليل الشرعي، أما مُصنَّفاتـه، فكان ذا عنايةٍ بالغة بالتأليف، فشارك في كثير من فنون العلم، فألَّف في التوحيد، والتفسير، والفقه، والحديث، والأصول، والآداب، وغيرها. وأغلَبُ مؤلَّفاته مطبوعة إلا اليسير منها؛ أشهرها: ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان))، طبعت مؤلفاته في مجموع بعنوان ((مجموع مؤلفات الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي)) في 27 مجلدًا.
توفي رحمه الله في عُنَيزة بالقصيم بعد عمر دام تسعًا وستين سنة قضاها في التعلُّم والتعليم والتأليف.
كان مِن آثارِ هِجرتِه صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إلى المدينةِ تلك المُؤاخاةُ التي حَدثت بين المُهاجرين والأنصارِ رضي الله عنهم، حتَّى كان يَرِثُ بعضُهم بعضًا في أوَّلِ الأمرِ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: «وَرَثَةً»: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: " كان المُهاجِرون لمَّا قَدِموا المدينةَ يَرِثُ المُهاجِرُ الأنصاريَّ دون ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأُخُوَّةِ التي آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فلمَّا نزلت: {{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسَختْ". ثمَّ قال: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} «إلَّا النَّصرَ، والرِّفادَةَ، والنَّصيحةَ، وقد ذهب الميراثُ، ويوصي له».
وعن أنسٍ قال: لمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ المُهاجرون فقالوا: يا رسولَ الله، ما رَأينا قومًا أَبْذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزلنا بين أَظهُرهِم، لقد كَفَوْنا المُؤنَةَ وأشرَكونا في المَهْنَإِ حتَّى لقد خُفْنا أن يَذهبوا بالأجرِ كُلِّهِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ما دَعَوتُم الله لهم، وأَثْنَيْتُم عليهِم».
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رضي الله عنه: لمَّا قَدِمْنا المدينةَ آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعدِ بنِ الرَّبيعِ، فقال سعدُ بنُ الرَّبيعِ: إنِّي أَكثرُ الأنصارِ مالًا، فَأَقْسِمُ لك نِصفَ مالي، وانْظُرْ أيَّ زَوجتيَّ هَوِيتَ نَزلتُ لك عنها، فإذا حَلَّتْ تَزوَّجتَها. قال: فقال له عبدُ الرَّحمنِ: لا حاجةَ لي في ذلك، هل مِن سوقٍ فيه تِجارةٌ؟ قال: سوقُ قَيْنُقاعٍ. قال: فغَدا إليه عبدُ الرَّحمنِ، فأتى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قال: ثمَّ تابع الغُدُوَّ، فما لَبِثَ أن جاء عبدُ الرَّحمنِ عليه أثرُ صُفْرَةٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَزوَّجتَ؟». قال: نعم. قال: «ومَن؟»، قال: امرأةً مِنَ الأنصارِ. قال: «كَم سُقْتَ؟»، قال: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهبٍ -أو نَواةً مِن ذَهبٍ- فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ ولو بِشاةٍ».
بعد أن انصرفَ خالدٌ مِن عَيْنِ التَّمْرِ أقام بدُومَة الجَندلِ فظَنَّ الفُرْسُ أنَّه قد غادَر العِراقَ مُتوجِّهًا إلى الجَزيرةِ العربيَّة مع القسم الأكبر مِن قُوَّاتِه، فأرادوا طَرْد قُوَّاتِه مِن العِراق، واستعادَة الأراضي التي فتَحها المسلمون؛ فطَمِع الأعاجمُ، وكاتَبَهم عربُ الجَزيرةِ غضبًا لِعَقَّةَ، فخرَج زرمهر وروزبه يُريدان الأنبارَ، واتَّعدا حُصيدًا والخَنافِسَ، فسمِع القعقاعُ بن عَمرٍو وهو خَليفةُ خالدٍ على الحِيرَةِ، فأرسل أَعْبَدَ بن فَدَكِيٍّ وأَمَره بالحُصيدِ (وادٍ بين الكوفة والشام)، وأرسَل عُروةَ بن الجَعْدِ البارقيَّ إلى الخَنافِسِ، ورجَع خالدٌ مِن دُومة إلى الحِيرَةِ وهو عازِمٌ على مُصادَمَةِ أهلِ المدائن مَحَلَّةِ كِسرى، لكنَّه كَرِهَ أن يَفعلَ ذلك بغيرِ إذن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وشَغلَه ما قد اجتمع مِن جُيوش الأعاجمِ مع نَصارى الأعرابِ يُريدون حَربَهُ، فبعَث القعقاعَ بن عَمرٍو أميرًا على النَّاس، فالْتَقَوْا بمكانٍ يُقال له: الحُصيد، وعلى العجمِ رجلٌ منهم يُقال له: روزبه، وأَمَدَّهُ أميرٌ آخرٌ يُقال له: زرمهر، فاقتتلوا قِتالًا شديدًا، وهُزِم المشركون وقتَل منهم المسلمون خلقًا كثيرًا، وقَتَل القَعقاعُ بِيَدِهِ زرمهر، وقَتَل رجلٌ يُقال له: عِصْمَةُ بن عبدِ الله الضَّبِّيُّ روزبه. وغَنِمَ المسلمون شيئًا كثيرًا، وهرَب من هرَب مِن العجمِ، فلَجأوا إلى مكان يُقال له: خَنافِس، فسار إليهم أبو ليلى بن فَدَكِيٍّ السَّعديُّ، فلمَّا أحسُّوا بذلك ساروا إلى المُصَيَّخِ، وعندما وصل أبو ليلى إلى الخَنافِس وجدَها خالية مِن الفُرْس، فأقام بها مُدَّةً، ثمَّ أرسل إلى خالدِ بن الوَليد يُنهي إليه أنباءَ استيلائِه على المدينةِ، ويُخبِرهُ بفِرارِ الفُرْس إلى المُصَيَّخ، فلمَّا استقرَّ الفُرْسُ بالمُصَيَّخ بمن معهم مِن الأعاجم والأعارِب قصَدهم خالدُ بن الوَليد بمَن معه مِن الجُنود، وقَسَّم الجيشَ ثلاث فِرَقٍ، وأغار عليهم ليلًا وهُم نائِمون فأَنامَهُم، ولم يُفْلِت منهم إلَّا اليَسيرُ فما شُبِّهُوا إلَّا بِغَنَمٍ مُصَرَّعَةٍ.
ثار أبو عصامٍ ومَن وافقه على إبراهيمَ بن الأغلب، أميرِ إفريقيَّة، فحاربهم إبراهيمُ، فظَفِرَ بهم. واستعمل ابنُ الأغلب ابنَه عبدالله على طرابلس الغرب، فلما قدِمَ إليها ثار عليه الجُندُ، فحصروه في داره، ثم اصطَلَحوا على أن يخرُجَ عنهم، فخرج عنهم، فلم يُبعِد عن البلد حتى اجتمع إليه كثيرٌ من الناس، ووضَعَ العطاء، فأتاه البربرُ من كل ناحية، فاجتمع له عددٌ كثير، فزحف بهم إلى طرابلس، فخرج إليه الجُند، فاقتتلوا فانهزمَ جُند طرابلس، ودخل عبد الله المدينةَ، وأمَّنَ الناسَ وأقام بها؛ ثمَّ عزله أبوه، واستعمل بعده سُفيانَ بن المضاء، فثارت هوارة بطرابلُس، فخرج الجندُ إليهم، والتَقَوا واقتتلوا، فهُزِمَ الجند إلى المدينة، فتَبِعَهم هوارة، فخرج الجندُ هاربين إلى الأميرِ إبراهيم ابن الأغلب، ودخلوا المدينةَ فهَدَموا أسوارها. وبلغ ذلك إبراهيمَ ابن الأغلب، فسيَّرَ إليها ابنَه أبا العباس عبد الله في ثلاثة عشر ألف فارس، فاقتتل هو والبربر، فانهزم البربرُ، وقُتِل كثيرٌ منهم، ودخل طرابلس وبنى سورها. وبلغ خبَرُ هزيمة البربر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، وجمع البربرَ وحَرَّضَهم، وأقبل بهم إلى طرابلس، وهم جمعٌ عظيم، غضبًا للبربر ونصرةً لهم، فنزلوا على طرابلس، وحصروها. فسدَّ أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بابَ زناتة، ولم يزل كذلك إلى أن توفِّي أبوه إبراهيم بن الأغلب، وعَهِدَ بالإمارة لولده عبد الله، فأخذ أخوه زيادةُ الله بن إبراهيم له العهودَ على الجند، وسيَّرَ الكتاب إلى أخيه عبد الله، يخبِرُه بموت أبيه، وبالإمارة له، فأخذ البربرُ الرسولَ والكتابَ، ودفعوه إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، فأمر بأن يناديَ عبد الله بن إبراهيم بموت أبيه، فصالَحَهم على أن يكونَ البلدُ والبحر لعبد الله، وما كان خارجًا عن ذلك يكونُ لعبد الوهاب، وسار عبدُ الله إلى القيروان، فلقيه الناس، وتسلَّمَ الأمرَ، وكانت أيَّامُه أيامَ سُكونٍ ودَعةٍ.
كان سبَبُ ذلك أنَّ إبراهيمَ قَبَضَ على عيسى بن محمد بن أبي خالد وحبسَه، وأخذ عِدَّةً من قوَّاده وأهلَه، فحبَسَهم ونجا بعضُهم، وفيمن نجا أخو عيسى العباس بن محمد، ومشى بعضُ أهله إلى بعض، وحرَّضوا الناسَ على إبراهيم، وكان أشَدَّهم العباسُ بن محمد، وكان هو رأسَهم، فاجتمعوا وطردوا عاملَ إبراهيمَ على الجسر، والكرخ وغيره، وظهر الفُسَّاق والشُّطَّار، وكتب العباسُ إلى حميد بن عبد الحميد يسألُه أن يَقدَمَ عليهم حتى يُسَلِّموا إليه بغداد، فقَدِمَ عليهم، وسار حتى أتى نهر صرصر فنزل عنده. وخرج إليه العباسُ وقوَّادُ أهل بغداد، فلَقُوه، ووعدهم أن يصنعَ لهم العطاءَ يوم السبت في الياسرية على أن يدْعوَا للمأمونِ بالخلافة يوم الجمعة، ويخلعوا إبراهيمَ، فأجابوه إلى ذلك. ولَمَّا بلغ إبراهيمَ الخبَرُ أخرج عيسى ومن معه من إخوتِه من الحبسِ، وسأله أن يرجِعَ إلى منزله، ويكفيَه أمرَ هذا الجانب، فأبى عليه. ثم بعد ذلك رضِيَ فخَلَّى سبيله، وأخذ منه كُفَلاء، وكلَّم عيسى الجندَ، ووعدَهم أن يعطيَهم مثلَ ما أعطاهم حميدُ بن عبد الحميد، فأبوا ذلك، وشَتَموه وأصحابه، وقالوا: لا نريدُ إبراهيم، فقاتلهم ساعةً، ثم ألقى نفسَه في وسطهم، حتى أخذوه شِبهَ الأسيرِ، فأخذه بعضُ قُوَّاده، فأتى به منزِلَه، ورجع الباقونَ إلى إبراهيم، فأخبروه الخبَرَ، فاغتمَّ لذلك. ثم اختفى إبراهيمُ بنُ المهدي؛ وكان سببُ ذلك أنَّ أصحابَ إبراهيم وقوَّادَه تسلَّلوا إلى حميد بن عبد الحميد فصار عامَّتُهم عنده، وأخذوا له المدائِنَ. فلما رأى إبراهيمُ فعلهم أخرج جميعَ مَن بقيَ عنده حتى يقاتلوا فالتَقَوا على جسر نهر ديالى، فاقتتلوا فهَزمَهم حميدٌ وتَبِعَهم أصحابه، حتى دخلوا بغداد، وذلك نهايةَ ذي القعدة. فلما كان الأضحى اختفى الفَضلُ بن الربيع، ثم تحوَّلَ إلى حميد بن عبد الحميد، وجعل الهاشميُّون والقوَّاد يأتون حميدًا واحدًا بعد واحدٍ، فلمَّا رأى ذلك إبراهيمُ سُقِطَ في يديه، وشقَّ عليه، اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة. وكانت أيامُ إبراهيم سنة وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا.
هو الموفَّقُ بالله أبو أحمد محمد بن جعفر المتوكِّل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد, وقيل: إن اسمه طلحة، الأميرُ العباسي وقائِدُ جيش الخليفة المعتَمِد على الله. ولِدَ في بغداد عام 227ه من أمِّ ولَدٍ للخليفة المتوكِّل على الله، وتربَّى تربيةً عِلميَّةً، وكان عالِمًا بالأدب والنَّسَب، والفِقه والقضاءِ، غزيرَ العَقلِ، حسَنَ التدبيرِ، كريمًا حازمًا، ذا مَقدِرةٍ في سياسةِ المُلْك، اعتبَرَه البعضُ بأنَّه المنصورُ الثاني. كان الموفَّقُ وليَّ عَهدِ المعتَمِد على الله، إلَّا أنه كان الخليفةَ الفعليَّ. كان الموفَّقُ عادِلًا حسَنَ السِّيرةِ، يَجلِسُ للمظالمِ وعنده القُضاة وغيرُهم، فينتصِفُ النَّاسُ بعضُهم من بعض. كما يعتبَر الموفَّقُ أبا الخلفاء الثاني بعد المنصورِ؛ إذ إنَّ الخلافةَ العباسية استمَرَّت في عَقِبِه حتى سقوطِها على يد هولاكو خان عام 656ه. كما أنَّه بعث الحياةَ في الخلافة العباسية بعد أن أشرَفَت على السقوطِ بسبب حالةِ الفوضى التي سادت على يدِ الأتراك بين عامي 247 - 256 بعد مقتل الخليفةِ المتوكِّل واستبداد الأتراكِ وقادتِهم بالأمرِ وقَتْلِهم للخُلَفاء: المنتصِر، والمُستعين، والمعتَزِّ، والمهتدي، واستقلال أمراء الأطراف بولاياتهم كالصَّفَّاريين في المشرق، والطولونيين في مصر. فقد تحمَّلَ الموفَّقُ بالله أعباءً كبيرةً في سبيل تثبيت الخلافة؛ إذ تمكَّنَ من القضاءِ على ثورةِ الزِّنجِ كما تمكَّنَ من إيقاعِ الهزيمةِ بجُموعِ الصَّفَّاريين وزعيمِهم يعقوبَ بنِ الليث، الذي كان قد اقتَرَب من بغداد في محاولةٍ لإرغام الخليفة على الاعترافِ بسُلطانه على المَشرِق، كما تمكَّنَ أيضًا من الحَدِّ من توسع الطولونيِّين غربًا. أُصيبَ الموفَّقُ بمرض النقرِس في بلاد الجبل، فانصرف وقد اشتَدَّ به وجع النقرس، فلم يقدِرْ على الركوب، فعُمِل له سريرٌ عليه قُبَّة، فكان يقعد عليه، وخادِمٌ له يُبَرِّد رجلَه بالأشياء الباردة، حتى إنَّه يضعُ عليها الثلج، ثم صارت عِلَّة داء الفيل برِجلِه، وهو ورَمٌ عظيمٌ يكون في السَّاق، يسيل منه ماء، ثم بقِيَ في داره مريضًا عِدَّةَ أيام حتى توفي. لَمَّا مات الموفَّقُ اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولايةِ العَهدِ، بعد المفَوِّض بن المعتَمِد، ولُقِّبَ المُعتَضِدَ بالله.
سببُ ذلك أنَّ محمَد بن هُرمُز، المعروفُ بالمولى الصندليِّ، كان خارجيَّ المذهب، وكان قد أقام ببُخارى وهو من أهلِ سِجِستان جنوب غرب أفغانستان، وكان شيخًا كبيرًا، فجاء يومًا إلى الحُسين بن عليِّ بنِ محمَّد العارض يَطلُبُ رِزقَه، فقال له: إنَّ الأصلحَ لِمِثلِك من الشيوخِ أن يلزمَ رباطًا يَعبُدُ الله فيه، حتّى يوافيَه أجلُه، فغاظه ذلك، فانصرف إلى سِجِستان والوالي عليها منصورُ بنُ إسحاق، فاستمال جماعةً من الخوارج، ودعا إلى الصَّفَّار، وبايع في السرِّ لِعَمرو بن يعقوب بن محمَّد بن عمرو بن الليث، وكان رئيسُهم محمَّد بن العبّاس، المعروف بابن الحَفَّار، وكان شديدَ القوَّة، فخرجوا، وقبضوا على منصورِ بن إسحاقَ أميرِهم وحبَسَوه في سجن أرك، وخطبوا لعمرو بن يعقوب، وسلَّموا إليه سجستان، فلمَّا بلغ الخبر إلى الأمير أحمد بن إسماعيل سيَّرَ الجيوشَ مع الحسين بن عليٍّ، مرّةً ثانية إلى زرنج، فحصرها تسعةَ أشهر، فصعد يومًا محمَّدُ بن هُرمُز الصندليُّ إلى السور، وقال: ما حاجتُكم إلى أذى شيخٍ لا يصلُحُ إلَّا لِلُزومِ رِباطٍ؟ يُذَكِّرُهم بما قاله العارضُ ببخارى؛ واتَّفق أنَّ الصندليَّ مات، فاستأمن عمرُو بن يعقوب الصَّفَّار وابن الحفَّار إلى الحسين بن عليٍّ، وأطلقوا منصور بن إسحاق، وكان الحسينُ بن عليٍّ يُكرِمُ ابن الحفَّار ويقرِّبُه، فواطأ ابن الحفَّار جماعة على الفتك بالحسين، فعَلِمَ الحسين بذلك، وكان ابنُ الحفَّارِ يدخُلُ على الحسين، لا يُحجَبُ عنه، فدخل إليه يومًا وهو مُشتَمِلٌ على سيف، فأمر الحُسَينُ بالقبض عليه، وأخذه معه إلى بُخارى، ولَمَّا انتهى خبر فتح سِجِستان إلى الأمير أحمد استعمل عليها سيمجورَ الدواتيَّ، وأمر الحسينَ بالرجوعِ إليها فرجع ومعه عمرُو بن يعقوب وابن الحفّار وغيرهما، وكان عَودُه في ذي الحجَّة سنة ثلاثمائة، واستعمل الأمير أحمدُ منصورًا ابنَ عمِّه إسحاق على نَيسابور وأنفَذَه إليها، وتوفِّي ابنُ الحفّار.
هو عليُّ بنُ إسماعيلَ بنِ إسحاق بنِ سالم بن إسماعيلَ بنِ عبد الله بن موسى ابنِ أمير البصرةِ بلال بن أبي بُردة ابن صاحبِ رَسولِ اللهِ- صلَّى الله عليه وسلَّم- أبي موسى عبد الله بن قيس بن حضار الأشعري، اليماني، البصري. أبو الحسَن الأشعريُّ المتكلِّم المشهور، وُلِدَ بالبصرة سنة 260، وقيل: ولد سنة سبعين. كان عجبًا في الذَّكاء وقُوَّةِ الفَهمِ. يقولُ الذهبي: "لأبي الحسن ذكاءٌ مُفرِطٌ، وتبحُّرٌ في العِلمِ، وله أشياءُ حَسَنةٌ، وتصانيفُ جمَّة تقضي له بسَعةِ العلم" كان أوَّلَ أمرِه مع المعتزلةِ وتعَلَّم معهم، وعنهم أخذ حتى برع وصار إمامًا فيهم، حتى كان يتولَّى الجدلَ عن شيخِه الجُبَّائي، ولَمَّا برع في معرفةِ الاعتزال، كَرِه الجبَّائي وتبرَّأ منه، فأعلن رجوعَه عن الاعتزالِ وعمَّا كان يعتَقِدُه من معتقداتِهم، فمال إلى الفُقَهاءِ والمُحَدِّثين ثم أخذ يرُدُّ على المعتزلة، ويهتك عَوارَهم. قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: "كانت المعتزلةُ قد رفعوا رؤوسَهم، حتى نشأ الأشعريُّ فحَجَرَهم في أقماعِ السِّمسِم" ولكنَّه لم يكُنْ كذلك على مِثلِ ما كان عليه المحَدِّثون من الاعتقادِ، فأصبح يشكِّلُ لنَفسِه مذهبًا مستقلًّا عُرِفَ إلى اليوم بالأشعريَّة، ثم بعد أن ظَلَّ فترةً على هذا المنوال مال بالكليَّة إلى مذهب المحَدِّثين كالإمام أحمد، والبربهاري، وغيرهم في الاعتقاد، ورجع عمَّا كان عليه, وألَّفَ لذلك كتابه الشهيرَ ((الإبانة عن أصول الدِّيانة))، فكانت مراحِلُه ثلاثة: الاعتزالُ، ثم الأشعريَّة، ثم رجع إلى أهل الحديثِ والأثَرِ، ومن مؤلَّفاتِه أيضًا: مقالات الإسلاميين، والرد على المجسمة وغيرها. قال زاهر بن أحمد السرخسي: "لَمَّا قَرُبَ حضورُ أجَلِ أبي الحسن الأشعري في دارِي ببغداد، دعاني فأتيتُه، فقال: اشهَدْ عليَّ أنِّي لا أكَفِّرُ أحدًا من أهل القِبلةِ؛ لأنَّ الكُلَّ يشيرونَ إلى معبودٍ واحدٍ، وإنَّما هذا كُلُّه اختلافُ العبارات" قلت- والكلام للذهبي-: "وبنحو هذا أدينُ، وكذا كان شيخُنا ابنُ تيميَّةَ في أواخِرِ أيَّامِه يقول: أنا لا أكَفِّرُ أحدًا مِن الأمَّةِ"
كان دخولُ الرُّومِ إلى حَلَب بصحبة الدُّمُسْتُق مَلِك الروم، في مائتي ألفِ مقاتل، وكان سببُ ذلك أنَّه ورَدَ إليها بغتةً فنهَضَ إليه سيفُ الدولة بن حمدان بمن حضَرَ عنده من المقاتِلة، ولم يتمَكَّنوا من مقاوَمتِه لكثرةِ جُنودِه، وقَتَلَ مِن أصحاب سيف الدولة خلقًا كثيرًا، وكان سيفُ الدولة قليلَ الصبرِ ففَرَّ منهزمًا في نفرٍ يسيرٍ مِن أصحابه، فأوَّل ما استفتح به الدُّمُسْتُق- قبَّحه الله- أن استحوذ على دار سيفِ الدولة، وأخذ ما فيها من النِّساءِ والولدان وغيرِهم، ثمَّ حاصَرَ سُورَ حَلَب فقاتل أهلُ البلد دونه قتالًا عظيمًا، وقَتَلوا خلقًا كثيرًا من الروم، وثَلَمت الرومُ بسور حلب ثُلمةً عظيمة، فوقف فيها الرومُ فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلمَّا جَنَّ الليلُ جَدَّ المسلمون في إعادتِها، فما أصبح الصباحُ إلا وهي كما كانت، وحَفِظوا السورَ حِفظًا عظيما، ثم بلغ المسلمونَ أنَّ الشُّرَط والبلاحية قد عاثُوا في داخل البلد ينهَبونَ البُيوتَ، فرجع الناسُ إلى منازلهم يمنعونها منهم قبَّحهم الله؛ فإنَّهم أهلُ شَرٍّ وفساد، فلما فعلوا ذلك غَلَبت الرومُ على السور فعَلَوه ودخلوا البلد يقتلونَ مَن لَقُوه، فقتلوا من المسلمينَ خلقًا كثيرًا وانتهبوا الأموالَ وأخذوا الأولاد والنساء، وخَلَّصوا من كان بأيدي المُسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفًا وأربعمائة، فأخذ الأُسارى السيوفَ وقاتَلوا المسلمين، وكانوا أضَرَّ على المسلمينَ مِن قَومِهم، وخَرَّبوا المساجِدَ وأحرقوها، وكلُّ شيءٍ لا يَقدِرونَ على حَملِه أحرقوه، وأسَرُوا نحوًا مِن بضعة عشر ألفًا ما بين صبيٍّ وصبيَّةٍ، ومن النساء شيئًا كثيرا، ومن الرجال الشَّباب ألفينِ، وأقاموا في البلد تسعةَ أيام يفعلون فيها الأفاعيلَ الفاسدةَ العظيمة، كلُّ ذلك بسببِ فِعلِ البلاحية والشُّرطِ في البلد- قاتَلَهم الله. ثم عزم الدُّمُسْتُق على الرحيلِ عنهم؛ خوفًا من سيف الدولة، ثمَّ إن الدُّمُسْتُق أمر بإحضارِ مَن في يديه من أُسارى المسلمين الرِّجال، وكانوا قريبًا من ألفينِ فضُرِبَت أعناقُهم بين يديه- لعنه الله- ثم كَرَّ راجِعًا.