اجتمعت جُيوشُ السلطان الناصر بأرض حلَب نحوًا من عشرين ألفًا، عليهم كلِّهم نائبُ حلب الطنبغا وفيهم نائب طرابلس شهاب الدين قرطبة، فدخلوا بلاد الأرمن من إسكندرونة ففتحوا الثَّغرَ ثمَّ تل حمدان ثم خاضوا نهر جاهان فغَرِقَ منهم جماعة، ثم سلَّم اللهُ من وصلوا إلى سيس فحاصروها وضَيَّقوا على أهلها وأحرَقوا دارَ المَلِك التي في البلد، وقَطَعوا أشجارَ البساتين وساقوا الأبقارَ والجواميسَ والأغنام وكذلك فَعَلوا بطرسوس، وخَرَّبوا الضياعَ والأماكِنَ وأحرقوا الزروعَ ثمَّ رَجَعوا فخاضوا نهر جاهان, فلم يغرق منهم أحد، وأخرجوا بعد رجوعِهم مهنا وأولادَه من بلادهم وساقوا خَلفَه إلى عانة وحديثه، ثم بلغ الجيوشَ موتُ صاحب سيس وقيامُ ولده من بعده، فشَنُّوا الغارات على بلاده وتابعوها وغَنِموا وأسَروا إلَّا في المرة الرابعة فإنه قُتِلَ منهم جماعة.
في أوَّلِ رمضان وصَلَت الأخبار إلى دمشق أنه أُجرِيَت عينُ ماء إلى مكَّةَ شَرَّفَها اللهُ وانتفَعَ الناس بها انتفاعًا عظيما، وهذه العين تُعرِفُ قديمًا بعين باذان، أجراها الأميرُ سيف الدين جوبان المغولي نائب السلطان أبي سعيد بن خربندا مَلِك التتار من بلادٍ بعيدة حتى دخَلَت إلى نفس مكة، ووصلت إلى عند الصَّفا وباب إبراهيم، واستقى الناسُ منها فقيرُهم وغَنِيُّهم وضعيفُهم وشريفُهم، كلُّهم فيها سواء، وارتفق أهلُ مكة بذلك رفقًا كثيرًا،ولله الحمد والمنَّة، وكانوا قد شرعوا في حَفرِها وتجديدها في أوائِلِ هذه السنة إلى العشر الأخير من جمادى الأولى، واتَّفَق أن في هذه السنة كانت الآبارُ التي بمكة قد يَبِسَت وقلَّ ماؤها، وقَلَّ ماء زمزم أيضًا، فلولا أنَّ الله تعالى لطَفَ بالنَّاسِ بإجراء هذه القناة لنزح عن مكَّةَ أهلُها، أو هلَكَ كَثيرٌ مِمَّا يقيمُ بها.
اشتَدَّت الفتنة في بلاد الكرك بين بني نمير وبني ربيعة، فإن المَلِكَ الناصر محمد بن قلاوون كان لَمَّا أعياه أمرُهم وتحصُّنُهم بجبالهم المنيعة، أخذ في الحيلة عليهم، وتقَدَّم إلى شطي أمير بني عقبة، وإلى نائب الشام ونائب غزة ونائب الكرك، بأن يدخُلوا إلى البرية كأنهم يصطادونَ ويوقعونَ بهم، فقبضوا على كثيرٍ منهم، وقَتَلوا في جبالهم خلقا كثيرًا منهم، وحَبَسوا باقيَهم حتى ماتوا، فسَكَن الشرُّ بتلك الجهات إلى أن كانت فتنةُ الناصر أحمد بن محمد بن قلاوون بالكرك سنة 743، عاد بنو نمير وبنو ربيعة إلى ما كانوا عليه من الفسادِ، وقَوِيَ أمرهم، فلما كان هذا العام رَكِبَ إليهم الأمير جركتمر نائب الكرك، وطلع إليهم فقاتلوه، وقتلوا من أصحابِه عشرة، وكسروه أقبحَ كَسرةٍ، فكتب لنائب الشام الأمير أرغون شاه بتجهيز عسكرٍ لقتالِهم.
هو الشاه الصفوي عباس الكبير الأول بن محمد خدابنده بن طهماسب بن إسماعيل الأول. ولد عباس في مدينة حيرات الواقعة في أفغانستان في 27/1/1571م. تولى حكم الدولة الصفوية سنة 996 بعد أن تمرد على والده ثم نحاه عن الحكم؛ لأنه لم يستطع ضبط الاضطرابات التي عمت البلاد بسبب ضعف شخصيته, ويعتبر عباس هو رابع حكام الدولة الصفوية ومن أقوى وأشرس حكامها, وقد أعاد لها قوتها كما كانت عليه في عهد إسماعيل الأول, فتمكن من سحق الأكراد والأوزبكية السنَّة الذين يعتبرهم أعداءً للدولة، كما حقق انتصارات على العثمانيين، ودخل في تحالفات مع الدول الأوربية ضد الدولة العثمانية، واهتم بتنظيم الدولة إداريًّا وحضاريًّا، وقد كان سفاكًا للدماء متناقضًا في شخصيته بين التدين والفجور، والعدل والظلم! توفي بعد أن دام في الملك قرابة إحدى وأربعين سنة، ثم تولى بعده صفي بن صفي ميرزا بن عباس.
هو السلطان محمد الأصغر بن زيدان ابن المنصور أحمد الذهبي ملك السعديين في المغرب الأقصى, ويلقَّب بالشيخ. لما قتل السلطان الوليد سنة 1045 اختلف الناس فيمن يقدمونه للولاية عليهم، ثم أجمع رأيُهم على مبايعة أخيه محمد الشيخ وإلقاء القيادة إليه، فأخرجوه من السجن، وكان أخوه الوليد قد سجنه إذ كان يتخوَّف منه الخروج عليه، فبويع بمراكش يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان سنة 1045 ولما بويع سار في الناس سيرةً حميدة وألان الجانب للكافة، وكان متواضعًا في نفسه صفوحًا عن الهفوات متوقفًا عن سفك الدماء مائلًا إلى الراحة والدَّعَة متظاهرًا بالخير ومحبة الصالحين، إلا أنه كان منكوس الراية مهزوم الجيش؛ وبسبب ذلك لم يصفُ له مما كان بيد أبيه وإخوته إلا مراكش وبعض أعمالها، وبعد وفاته تولى أحمد الثاني بن العباس أبي مروان خلفًا له.
في عهد الملك عبد العزيز وقَّعت الحكومةُ السعودية اتفاقيةً مع شركة سوكال التي عُرِفَت فيما بعد باسم شركة الزيت العربية الأمريكية، أو أرامكو، للتنقيبِ عن الزيتِ، وبدأ البحثُ في إقليم الأحساء في النطاق الممتَدِّ من صحراء الدهناء إلى ساحل الخليج العربي، وظهر أولُ بئر في الدمام عام 1354هـ / 1935م، ولكن كميةَ الإنتاج كانت قليلةً، واستمَرَّ الحفر والتنقيب إلى أن عُثِرَ على آبار أخرى غنية استُخرِجَ منها النفطُ بكميات تجارية كبيرة جدًّا. كما قامت شركات أخرى بالتنقيب عن الزيت في أماكِنَ عدة في شرق البلاد، وأهم حقول النفط التي تم اكتشافها: حقل الدمام: وهو أول حقل اكتُشِف فيه الزيت، وحقل أبو حدرية، وحقل بقيق: يشغل هذا الحقل المركزَ الثاني في الإِنتاج، وحقل القطيف، وحقل الغوار، وحقل السفانية، وغيرها من الحقول في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية.
نتيجةً لاستبداد عبد الكريم قاسم بالسلطة وإقصاء غيرِ الشيوعيين من زملاء الثورة جرت في البلادِ عِدَّةُ محاولات للانقلاب على عبد الكريم قاسم؛ منها محاولة رشيد عالي الكيلاني الذي عاد للبلاد بعد نجاحِ الثورة وإنهاء الحُكم المَلَكي، وأخذ عددٌ من الضباط الناقمين على قاسم بالتردُّد على الكيلاني في بيته، ويتحدثون في السياسة بكل صراحة، فترامى إلى قاسم أنَّ رشيد الكيلاني يُعِدُّ لانقلاب ضده، فدبر عبد الكريم قاسم مكيدةً للكيلاني عن طريق أكبر أعوانه، وهما عبد الرحيم الراوي، ومبدر الكيلاني ابن أخي رشيد، فاتهمهم العسكر أنَّهم قد أسَّسوا جمعيةً سياسية، وأن الكيلاني سيدعمُهم بالسلاح؛ لذلك تم القبضُ على الكيلاني وأعوانه، وحُكِمَ على رشيد الكيلاني بالقتل، لكنه لم ينفَّذ، ولما أُفرِجَ عنه انتقل إلى بيروت، وعاد إلى العراق بعد الانقلاب على قاسم وقتله في رمضان 1382هـ.
عُقِدت هذه القِمة (غير العادية وغير الرَّسمية) في القاهرة على إثرِ الاشتباكاتِ العنيفةِ في الأردنِّ بين الأرُدنيين والفِلَسطينيين، ولم تَعقِدْ هذه القِمةُ جلساتٍ عامةً، وتحوَّلت إلى مُشاوَرات بين رُؤساء الدُّول؛ ولهذا فإنَّ الجامعة العربيَّة لم تُدرِجْها في سِجِلاتها الرسمية للقِمَمِ العربيَّة، وانتهَت هذه القِمة -التي قاطعَتْها كلٌّ من سُوريا والعراقِ، والجزائر والمغربِ- بمُصالحةٍ بين منظَّمة التحرير الفِلَسطينية والأردنِّ، وصَدَر عنها بَيانٌ خِتامي، وأهمُّ قَراراتِه:
1- الإنهاءُ الفَوريُّ لجميع العملياتِ العسكريةِ مِن جانب القوَّات المسلَّحة الأُردنية وقُوات المقاوَمة الفِلَسطينية.
2- السحْبُ السريعُ لِكِلتا القُوَّتين من عَمّان، وإرجاعُها إلى قواعِدِها الطبيعيةِ والمناسبة.
3- إطلاقُ المعتقلينَ مِن كِلا الجانبينِ.
4- تكوينُ لجنة عُلْيا لمتابَعة تَطبيق هذا الاتِّفاق.
وانتهت مُشاورات المؤتمر إلى مُصالحة كلٍّ مِن ياسر عَرفات رئيس منظَّمة التحريرِ الفِلَسطينية والملِكِ حُسَين.
كان محمَّد داود (وهو ابنُ عمِّ الشاه محمَّد ظاهر، وزَوج شقيقتِه) قد أصبَح رئيسًا للوزراءِ في أفغانستانَ، إضافةً إلى احتفاظِه بوزارتيِ الدَّاخلية والدِّفاع، وكان يَمِيل إلى الرُّوس؛ حيث تعامَل معهم وعقَد معهم معاهداتٍ مِن تسليحٍ وغيرِه، ولمَّا عرَف الشاهُ مُيولَه وأطماعَه نحَّاه عن منْصبِه، وهذا ما ولَّد النِّقمةَ عنده، ثم إنَّ الرُّوس وأعوانَهم لمَّا رأَوُا ازديادَ النَّشاط الإسلاميِّ ونُموَّه بشكلٍ ملحوظٍ جدًّا في ظِلِّ الشاه، خافوا ذلك، فأيَّدوا محمَّد داود ووَعَدوه بالنُّصرة، وهو رَبيبُهم والمقرَّبُ لَدَيهم، فقام في صباح الثلاثاء 17 جمادى الآخرة / 17 تموز بانقلابٍ عسكريٍّ ناجحٍ، وإن لقِيَ مُقاومةً عنيفة، وأعلَنَ أنَّ الذي دفَعَه للانقلابِ كثرةُ الفساد في الإدارةِ، وسُوء استخدام السُّلطة، وتفشِّي الرِّشوة، ثم قام بإلغاء النِّظام الملكِي وأعلَن النِّظام الجُمهوري، ونصَّب نفْسَه رئيسًا للجُمهورية الأفغانيةِ.
وفاة وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء السُّعودي الدكتور عبدُ العزيز الخويطر رحمه الله، الذي يُصنَّف من أقدمِ الوُزراء في المملكة. وُلد الخويطر في عُنيزة عامَ (1347هـ) الموافقَ (1925م)، ودرس فيها مرحلتَي الابتدائيَّة والمتوسِّطة، ثم انتقَل إلى المعهدِ العلميِّ السعودي بمكَّة المكرَّمة؛ لإكمال دِراستِه الثانوية، ثم ذهب إلى القاهرة ولندن لمواصلةِ دِراساتِه العليا في التاريخِ والفلسفة. ويُعدُّ الخويطر أوَّلَ سعوديٍّ يحصُل على شهادةِ الدكتوراه من بريطانيا، وكان ذلك عامَ (1960م). ويَعُدُّه البعضُ عميدَ الوُزراء السعوديِّين؛ إذ عاصَرَ خمسةً من الملوك هم: سعودٌ، وفَيصلٌ، وخالدٌ، وفهدٌ، وأخيرًا الملكُ عبد الله رحمهم الله. وقد تقلَّد عددًا من الوِزارات، وهي: وِزارة الشؤون الاجتماعية، وِزارة المالية، وِزارة العمل، وِزارة التَّربية والتعليم، وزارة التَّعليم العالي، وِزارة الصحَّة، وِزارة الزِّراعة، وأخيرًا وِزارة الدَّولة لشؤون مجلسِ الوُزراء حتى وفاتِه.
تُوفِّي وزيرُ الخارجيَّة السعوديُّ الأمير سعودٌ الفيصل -رحمه الله- عن عمرٍ نَاهَز الـ 75 عامًا، وذلك بعد 4 عُقُودٍ قضاها على رأسِ الدبلوماسيَّة السعودية؛ إذ شَغَل مَنصِبَ وزيرِ الخارجيةِ في المملكةِ العربية السعودية من 1975م إلى 2015م. وُلِد الأميرُ سعود الفيصل في مدينةِ الطَّائفِ في الثاني من يناير عامَ 1940م، وهو ابنُ المَلِك فيصلِ بنِ عبدِ العزيزِ آل سعود، وحصَلَ على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعةِ "برنستون" في الولاياتِ المتَّحِدةِ عامَ 1964م، وتدرَّج في المناصبِ حتى عُيِّن وكيلًا لوَزارة النِّفْطِ والثروةِ المعدنيَّة في عام 1971م. ثم وزيرًا للخارجيَّة عام 1975م، قضى الفيصلُ 40 عامًا في تمثيلِ المملكةِ العربيَّة السعودية، الأمرُ الذي يجعَلُه أقدمَ وُزراءِ الخارجيةِ في العالَم، وتَعامَل خلال العُقُود الأربعة مع ملفَّاتٍ شتَّى، من بينها: القوميُّ، والإقليميُّ، والدَّوْليُّ.
وُلِد عبدُ اللهِ بنُ إدريسَ عام 1348هـ (1929 - 6 أكتوبر 2021)، في بلدة (حرْمَة) شمالَ مدينةِ الرِّياضِ، وهو أديبٌ وشاعرٌ سعوديٌّ، وكان رئيسًا لنادي الرِّياضِ الأدبيِّ، وعُضوًا في عدَدٍ من المؤسَّساتِ والهيئاتِ الثَّقافيَّةِ؛ كدارةِ المَلِكِ عبدِ العزيزِ،ورابطةِ الأدَبِ الحديثِ في مصرَ، وعُضوَ شَرَفٍ في رابطةِ الأدَبِ الإسلاميِّ العالَميَّةِ، إلى جانِبِ المناصِبِ التي شغلها في جامعةِ الإمامِ محمَّدِ بنِ سُعودٍ الإسلاميَّةِ.
شَغلَ مَنصِبَ الأمينِ العامِّ للمجلِسِ الأعلى لرعايةِ العُلومِ والفنونِ والآدابِ، والأمينِ العامِّ لجامعةِ الإمامِ محمَّدِ بنِ سُعودٍ الإسلاميَّةِ، ومديرًا فيها للثَّقافةِ والنَّشرِ، وعُضوًا لمجلِسِها العلميِّ، وهو أحدُ المُشاركين والمُكرَّمين في مؤتمرِ الأُدَباءِ السُّعوديِّينَ الأوَّلِ، مُنِح وِسامَ الرِّيادةِ والنُّوطَ الذَّهبيَّ عن كتابه (شُعَراء نَجدٍ المعاصِرون).
توفِّي -رحمه اللهُ-في مدينةِ الرِّياضِ عن عُمرٍ ناهز 92 عامًا.
اشتَدَّت الوحشةُ بين مُؤنِسٍ الخادمِ والمُقتَدِر بالله، وتفاقَمَ الحالُ وآل إلى أن اجتَمَعوا على خَلعِ المُقتَدِر وتولية القاهِرِ محمَّد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافةِ وسَلَّموا عليه بها، ولقَّبوه القاهر بالله، وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقَلَّدَ عليَّ بنَ مقلة وزارته، وولى نازوك الحُجُوبة مضافًا إلى ما بيده من الشُّرطة، وألزم المقتَدِر بأن كتب على نفسِه كتابًا بالخَلعِ مِن الخلافة، وأشهد على نفسِه بذلك جماعةً من الأمراء والأعيان، وسلَّم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسُف، فقال لولده الحُسَين احتفظ بهذا الكتابِ، فلا يريَنَّه أحَدٌ مِن خَلقِ الله، ولَمَّا أعيدَ المقتَدِرُ إلى الخلافة بعد يومينِ رَدَّه إليه، فشَكَره على ذلك جدًّا وولَّاه قضاءَ القُضاةِ، فلمَّا كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهِرُ بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزيرُ أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العُمَّال بالآفاق يُخبِرُهم بولاية القاهِرِ بالخلافة عِوضًا عن المقتدر، فلما كان يوم الاثنين جاء الجندُ وطلبوا أرزاقَهم وشَغَّبوا، وبادروا إلى نازوك فقَتَلوه، وكان مخمورًا، ثمَّ صلبوه، وهرب الوزيرُ ابنُ مقلة، وهرب الحُجَّاب ونادوا يا مُقتَدِرْ يا منصور، ولم يكن مؤنسٌ يومئذٍ حاضِرًا، وجاء الجندُ إلى باب مؤنسٍ يُطالِبونَه بالمُقتَدِر، فأغلق بابَه دونهم، فلما رأى مؤنِسٌ أنَّه لا بُدَّ مِن تسليم المقتَدِر إليهم أمَرَه بالخروج، فخاف المقتَدِرُ أن يكون حيلةً عليه، ثم تجاسَرَ فخرج فحَمَلَه الرجالُ على أعناقهم حتى أدخلوه دارَ الخلافة، فسأل عن أخيه القاهرِ وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتُبَ لهما أمانًا، فما كان عن قريبٍ حتى جاءه خادِمٌ ومعه رأسُ أبي الهيجاء قد احتَزَّ رأسَه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلَسَه بين يديه واستدعاه إليه، وقبَّلَ بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنبَ لك، وقد علمتُ أنَّك مُكرَهٌ مقهورٌ، والقاهرُ يقول: اللهَ اللهَ، نفسي يا أمير المؤمنين، فقال: لا جرى عليك مني سوءٌ أبدًا، وعاد ابنُ مقلة فكتب إلى الآفاقِ يُعلِمُهم بعَودِ المقتدر إلى الخلافة، ورجَعَت الأمورُ إلى حالها الأوَّل، وكان ابنُ نفيس من أشَدِّ الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافةِ خرج من بغداد متنكِّرًا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحِقَ بالقسطنطينيَّة، فتنصر بها مع أهلِها، وقرَّرَ أبا علي بن مقلة على الوزارةِ، وولَّى محمد بن يوسف قضاءَ القضاة، وجعل محمَّدًا أخاه - وهو القاهِرُ - عند والدته بصفةِ محبوسٍ عندها، فكانت تحسِنُ إليه غايةَ الإحسان، وتشتري له السراريَّ وتُكرِمُه غايةَ الإكرامِ.
كانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه، فاستخلف عليها إنسانًا يقال له محمد الأصبهاني، وخرج في العام الماضي، فعصى الأصبهاني على قراجه، ثم قُتل محمد الأصبهاني، قتَلَه غلامٌ لقراجه، فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها، فلما سمع مُعين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش ذلك، وكان بينهما حرب، أرسل كلٌّ منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران، ويُعلِمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، وسارا فاجتمعا على الخابور وتحالفا، وسارا إلى لقاء الفرنج، فالتقوا على نهر البليخ، وكان المصاف بينهم هناك فاقتتلوا، فأظهر المسلمون الانهزام، فتبعهم الفرنج نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا، وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة؛ لأن سواد الفرنج كان قريبًا، وكان بيمند صاحبُ أنطاكية، وطنكري صاحِبُ الساحل، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين، وسوادهم منهوبًا، فأقاما إلى الليل وهربا، فتبعهما المسلمون، وقتلوا من أصحابهما كثيرًا، وأسَروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان، وكان القمص كبير القساوسة- بردويل، صاحب الرها، قد انهزم مع جماعةٍ من قمامصتهم، وخاضوا نهر البليخ، فوَجِلت خيولهم، فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه، وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل، فقالوا لجكرمش: أي منزلة تكون لنا عند الناس، وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحَسَّنوا له أخذَ القُمص، فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان، فلما عاد سقمان شقَّ عليه الأمر، وركب أصحابُه للقتال، فردَّهم، وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغَمِّهم باختلافنا، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته، وأخذ سلاح الفرنج، وراياتهم، وألبس أصحابَه لُبسَهم، وأركبهم خيلَهم، وجعل يأتي حصون شيحان، وبها الفرنج، فيَخرُجون ظنًّا منهم أن أصحابهم نُصِروا، فيقتُلهم ويأخذ الحصن منهم، فعل ذلك بعدة حصون. وأما جكرمش فإنه سار إلى حران فتسلمها، واستخلف بها صاحبه. وسار إلى الرها، فحصرها خمسة عشر يومًا، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان، ففاداه بخمسة وثلاثين دينارًا، ومائة وستين أسيرًا من المسلمين، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل!
هو الشيخ الإمام الكبير العلَّامة جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الخضيري القاهري الشافعي، صاحب التصانيف والمؤلفات الحافلة الجامعة التي تزيد على خمسمائة مصنف، وقد تداولها الناس واشتهرت, وعم النفعُ بها، وُلد في مستهل رجب سنة 849 في مصر بأسيوط وإليها نسبته، وأمُّه أَمَةٌ تركية، وكان أبوه قاضي أسيوط، ثم نشأ في القاهرة يتيمًا بعد وفاة والده، فاشتغل بالعلم فحفظ القرآن والعمدة والمنهاج الفرعي وبعض الأصلي وألفية النحو, ثم رحل إلى كثير من البلاد، فبرع في عدة فنون وشارك في كل العلوم تقريبًا، فله في كل فن مؤلفات مقبولة قد سارت في الأقطار مسير النهار، حتى اعتبر من أكثر العلماء تأليفًا، وأجاز له أكابر علماء عصره مَن سايَرَ وفاق الأقرانَ واشتهر ذكره وبعُد صيتُه, وقد وقع خلاف بينه وبين معاصره الإمام السخاوي رحمهما الله. قال الإمام الشوكاني عن السيوطي: "لكنه لم يسلَمْ من حاسدٍ لفضله، وجاحد لمناقبِه؛ فإن السخاوي في الضوء اللامع- وهو من أقرانه- ترجم له ترجمة مُظلِمة غالبها ثلبٌ فظيع وسبٌّ شنيع، وانتقاصٌ وغمط لمناقبه تصريحًا وتلويحًا، ولا جرم؛ فذلك دأبه في جميع الفضلاء من أقرانه، وقد تنافس هو وصاحب الترجمة منافسة أوجبت تأليف صاحب الترجمة لرسالة سمَّاها: الكاوي لدماغ السخاوي، فليعرف المطَّلع على ترجمة هذا الفاضل في الضوء اللامع أنها صدرت من خصمٍ له غير مقبول عليه" والحق أن السيوطي صاحب فنون وإمام في كثير منها، وهو أحفظ للمتون من السخاوي وأبصر باستنباط الأحكام الشرعية، وله الباع الطويل في اللغة العربية والتفسير بالمأثور وجمع المتون، والاطلاع على كثير من المؤلفات التي لم يطلع عليها علماء عصره، وقد وقع في بعض مؤلفاته الحديثية بعض التسامح والتناقض, أما السخاوي فهو في علم الحديث وعلوم الإسناد وما يتعلق بالرجال والعلل والتاريخ إمام لا يشاركه فيها أحد, ويعتبر صاحب فن واحد؛ ولذا يرجَّح قولُه في الحديث وعلومه على السيوطي، ومؤلفاته في ذلك مرجع المحققين، وهو وارث شيخه ابن حجر. ومن تصانيف السيوطي: الجامعين في الحديث، والدر المنثور في التفسير بالمأثور، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، وتاريخ الخلفاء، واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، والجامع الصغير وزيادته في الحديث، وأسباب النقول، وشرح على مسلم، وعلى الموطأ، وعلى النسائي، وألفية في المصطلح، وفي اللغة ألفية في النحو، والأشباه والنظائر، وفي علوم القرآن أسباب النزول، والإتقان في علوم القرآن، وغيرها كثير يصعب حصره. توفي السيوطي بعد أذان الفجر يوم الجمعة التاسع عشر جمادى الأولى.