مَرِضَ مُعزُّ الدولة بن بُوَيه بانحصارِ البَولِ، فقَلِقَ من ذلك وجمَعَ بين صاحبه سبكتكين ووزيره الحسَن المهلبي، وأصلح بينهما ووصَّاهما بوَلَدِه بختيار خيرًا، ثم عوفيَ مِن ذلك فعزم على الرَّحيلِ إلى الأهواز لاعتقادِه أنَّ ما أصابه مِن هذه العِلَّة بسبَبِ هواءِ بغداد ومائِها، فأشاروا عليه بالمُقام بها، وأن يبني بها دارًا في أعلاها حيث الهواءُ أرَقُّ والماءُ أصفى، فبَنى له دارًا غرِمَ عليه ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج لذلك أن يصادِرَ بعضَ أصحابِه، ويقال أنفقَ عليها ألفي ألف دينار. قال ابن كثير: " ومات وهو يبني فيها ولم يَسكُنْها، وقد خَرَّبَ أشياءَ كثيرةً مِن معالم الخُلَفاءِ ببغداد في بنائها، وكان ممَّا خَرَّب المعشوق من سُرُّ مَن رأى، وقَلَعَ الأبواب الحديد التي على مدينة المنصورِ والرَّصافة وقصورها، وحَوَّلها إلى داره هذه لا تمَّتْ فَرحتُه بها، فإنَّه كان رافضيًّا خبيثًا "
هو إيلك الخان عليُّ بنُ نصر أحدُ مُلوكِ الكرخانيين _ إيلك الخان: لَقَبُ ملوك الكرخانيِّين التركي- وكان أيلك خان خيِّرًا عادلًا محبًّا للدِّينِ وأهله. دخَلَت قبائِلُ الكرخانيِّينَ في الإسلامِ في نهاية القَرنِ الرَّابعِ، وقد تمكَّنَ إيلك الخان أن يأخُذَ بُخارى وسمرقند من السَّامانيِّين، ثمَّ حاول أن يتوسَّعَ في خُراسان، لكِنَّ السُّلطانَ محمودَ الغزنوي هَزَمَه في أكثَرَ مِن موقعة. توفِّيَ إيلك الخان وهو يتجهَّزُ للعَودِ إلى خراسان، ليأخُذَ بثأره من يمينِ الدَّولة الغزنويِّ، وكاتَبَ قدرخان وأخاه طغان خان ليُساعِداه على ذلك، فلمَّا توفِّيَ وَلِيَ بَعدَه أخوه طغان، فراسَلَ يَمينَ الدَّولة وصالَحَه، وقال له: المَصلحةُ للإسلامِ والمُسلِمينَ أن تشتَغِلَ أنت بغزوِ الهند، وأشتَغِلَ أنا بغزو التُّركِ، وأن يَترُكَ بَعضُنا بعضًا، فوافق ذلك هواه، فأجابه إليه، وزال الخِلافُ، واشتغلا بغَزوِ الكُفَّار.
لمَّا فَرغَ السُّلطانُ طُغرلبك مِن أَمرِ أَخيهِ إبراهيمَ ينال عاد يَطلُب العِراقَ، فأَرسلَ إلى البساسيري وقُريشٍ في إعادةِ الخَليفةِ إلى دارهِ على أن لا يَدخُل طُغرلبك العِراقَ، ويَقنَع بالخُطبةِ والسِّكَّةِ، فلم يُجِب البساسيري إلى ذلك، فرَحلَ طُغرلبك إلى العِراقِ، فانحَدرَ حَرَمُ البساسيري وأَولادُه، ورَحلَ أَهلُ الكَرخِ بنِسائِهم وأَولادِهم في دِجلةَ وعلى الظَّهرِ، وكان دُخولُ البساسيري وأَولادِه بغداد سادِسَ ذي القعدةِ سَنةَ خمسين وأربعمائة، وخَرَجوا منها سادِسَ ذي القعدة سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة، ووَصلَ طُغرلبك إلى بغداد، ثم قام طُغرلبك على إعادةِ الخَليفةِ إلى بغداد، ثم اعتَذرَ من الخَليفةِ على التَّأَخُّرِ وقال: أنا أمضي خَلفَ هذا الكَلبِ -يعني البساسيري- وأَقصُدُ الشَّامَ، وأَفعلُ في حَقِّ صاحبِ مِصر ما أُجازي به فِعلَه. وقَلَّدَهُ الخَليفةُ بِيَدهِ سَيفًا، وعَبَرَ السُّلطانُ إلى مُعسكَرهِ، وكانت السَّنَةُ مُجْدِبَةً، ولم يَرَ النَّاسُ فيها مَطرًا.
هو السلطانُ إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وغيرها من بلاد الهند. وكان ملِكًا عادلًا مُنصِفًا منقادًا إلى الخيرِ، كثير الصدقات، كريمًا مجاهدًا، عاقلًا شُجاعًا حازِمًا، حسنَ السيرة، ذا رأيٍ ودهاء متين. كان يقول: "لو كنتُ بعد وفاة جدي محمود لما ضعف مُلكُنا، ولكني الآن عاجِزٌ أن أستردَّ ما أُخِذَ منا من البلاد؛ لكثرة جيوشهم". كان لا يبني لنفسه مكانًا حتى يبنيَ لله مسجدًا أو مدرسة. قال الفقيه أبو الحسن الطبري: "أرسلني إليه بركيارق في رسالة، فرأيتُ في مملكته ما لا يتأتى وصفُه"، وقيل: كان يكتب بخطِّ يده كل سنة مصحفًا يرسِلُه مع الصدقات إلى مكة، ومات وقد جاوز السبعين. وأقام مَلِكًا ثنتين وأربعين سنة، ولما توفي خلفه ابنُه علاء الدولة أبو سعيد مسعود الثالث زوج بنت السلطان ملكشاه.
توفِّيَ الملك رضوان بن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، صاحب حلب، وقام بعده بحلب ابنه ألب أرسلان الأخرس، وعمره ست عشرة سنة، وكان القيِّمُ عليه لؤلؤًا الخادم، وكانت أمور رضوان غير محمودة؛ قَتَل أخويه أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقِلَّة دينه، وكان الباطنية قد كثُروا بحلب في أيامه، حتى خافهم ابن بديع رئيس حلب، وأعيان أهلها، فلما توفي الملك رضوان قال ابن بديع لألب أرسلان بن رضوان في قَتْل الإسماعيلية والإيقاع بهم، فأمره بذلك، فقَبَض على مُقدَّمِهم أبي طاهر الصائغ، وعلى جميع أصحابه، فقتل أبا طاهر وجماعةً من أعيانهم، وأخذ أموال الباقين وأطلقهم؛ فمنهم من قصد الفرنج، وتفرقوا في البلاد، وسار أكثرهم إلى دمشق، وتولى تنظيم أمورهم فيها زعيم له اسمه بهرام.
لما رأى الفرنج الخلافَ الذي في قلعةِ حارم وقَتْل الملك الصالحِ صاحِبَها سعد الدين كمشتكين، ساروا إلى حارم من حماة في جمادى الأولى، ظنًّا منهم أنَّهم لا ناصِرَ لهم، وأنَّ الملك الصالح صبيٌّ قليل العسكر، وصلاحُ الدين بمصر، فاغتنموا هذه الفرصةَ ونازلوها وأطالوا المقامَ عليها مدة أربعة أشهر، ونَصَبوا عليها المجانيقَ والسلالم، فلم يزالوا كذلك إلى أن بذل لهم المَلِكُ الصالح مالًا، وقال لهم: إنَّ صلاح الدين واصِلٌ إلى الشام، وربما أُسَلِّمُ القلعة ومن بها إليه، فأجابوه حينئذٍ إلى الرحيل عنها، فلما رحلوا عنها سيَّرَ إليها الملك الصالح جيشًا فحَصَروها، وقد بلغ الجهدُ منهم بحصارِ الفرنج، وصاروا كأنَّهم طلائع، وكان قد قُتِلَ من أهلها وجُرح الكثير، فسلَّموا القلعةَ إلى الملك الصالح، فاستناب بها مملوكًا كان لأبيه، اسمُه سرخك.
قدم سالم بن مبارك ابن الصباح مع قوة صغيرة لنجدة الملك عبدالعزيز بعد هزيمته من العجمان إلا أنه انقلب على الملك عبدالعزيز واتفق مع العجمان وصالحهم وأعلن حمايتهم وهجر حليفه الملك عبدالعزيز، فكتب محمد بن عبدالرحمن إلى أخيه عبدالعزيز يستأذنه في الهجوم على العجمان وابن الصباح فأجابه: " لا تفعل كيف نكون حلفاء أول النهار وأعداء في آخره والناس لا يعرفون حقيقة الحال" ثم كتب إلى مبارك يشكو إليه خيانة ابنه سالم ويقول: " لم أقدم إكراما لك على تأديبه" فكتب له الشيخ يذكره بأنه بينه وبين العجمان صداقة قديمة فغضب الملك عبدالعزيز وزحف مسرعا يريد مهاجمة العجمان وابن الصباح ولكنه حين وصل إلى معسكر أخيه محمد جاءه خبر وفاة الشيخ مبارك فوقف مدهوشا محزونا وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون مات الشيخ مبارك.
أعلن أحمد زكي بدر وزيرُ التربية والتعليم المصري، والدكتور علي جمعة مفتى الجمهورية اتِّفاقَهُما على بدءِ تعديلِ مناهِجِ التربيةِ الدِّينية الإسلاميةِ المقرَّرة على الصفوف من الأوَّلِ الابتدائيِّ وحتى الثالثِ الثانويِّ عَبْرَ لجنةٍ يُشَكِّلُها الطرفانِ تبدَأُ عملَها بناءً على معايِيرَ يَضَعُها المُفتِي. وأوضَحَا أنَّ عمليةَ تغيِيرِ كتبِ الدينِ الإسلاميِّ تستهدِفُ تنقيتَها ممَّا سمَّيَاه الأفكارَ التي يُمكِن فهمُها على مَحمَلِ التحريضِ ضدَّ الآخَرِ والانعزالَ عن المجتمعِ! وقال المفتي علي جمعة: الكتبُ الحاليَّةُ أدَّت الغرضَ منها ونحتاجُ إلى كتبِ دينٍ جديدةٍ تتواصَلُ مع التطوُّرِ الزمنِيِّ وتجعَلُ الطُّلَّابَ أكثرَ تعايُشًا مع المجتمَعِ؛ لكنَّ هذا لا يَعنِي فسادَ الكتبِ السابقةِ. وأضاف أنَّ دارَ الإفتاءِ تملِكُ خُطة عَشرِيَّةً لتعديلِ المناهِجِ الدينيَّةِ خلالَ العِقدِ القادِمِ، على أن يُرَاعى تعديلُها في المستقبَلِ.
كانت الرَّها بيدِ نَصرِ الدَّولة بن مروان، فلمَّا قُتِلَ عَطير الذي كان صاحِبَها، شَفَعَ صالحُ بنُ مرداس، صاحِبُ حَلَب، إلى نَصرِ الدَّولة ليُعيدَ الرَّها إلى ابنِ عطير، وإلى ابنِ شبلٍ، بينهما نِصفَينِ، فقَبِلَ شَفاعَتَه، وسَلَّمَها إليهما، وكان في الرَّها برجانِ حَصينانِ أحَدُهما أكبَرُ من الآخر، فتَسَلَّمَ ابنُ عطير الكبير، وابنُ شبل الصَّغيرَ، وبَقِيَت المدينةُ معهما إلى هذه السَّنة، فراسل ابنُ عطير أرمانوس مَلِكَ الروم، وباعَه حِصَّتَه من الرَّها بعشرينَ ألف دينار، وعِدَّة قُرًى من جملتِها قريةٌ تُعرَفُ إلى الآن بسن ابن عطير، وتسَلَّموا البرُجَ الذي له، ودخلوا البلَدَ فمَلَكوه، وهرب أصحابُ ابنِ شبل من البُرجِ الآخَر، وقَتَل الرُّومُ المُسلِمين، وخَرَّبوا المساجِدَ، وسَمِعَ نَصرُ الدَّولة الخبَرَ، فسَيَّرَ جيشًا إلى الرها، فحصَروها وفتَحوها عَنوةً، واعتصم مَن بها مِن الرُّومِ بالبُرجَينِ، واحتمى النَّصارى بالبيعةِ التي لهم، وهي من أكبَرِ البِيَعِ وأحسَنِها عِمارةً، فحَصَرهم المسلمونَ بها، وأخرَجوهم، وقَتَلوا أكثَرَهم، ونَهَبوا البلدَ، وبَقِيَ الرومُ في البرجين، وسَيَّرَ إليهم عسكرًا نحو عشرةِ آلاف مقاتل، فانهزم أصحابُ ابنِ مَروانَ مِن بينِ أيديهم، ودخَلوا البلدَ وما جاوَرَهم من بلادِ المُسلِمينَ، وصالحهم ابنُ وَثَّاب النميري على حَرَّان وسروج وحمَلَ إليهم خراجًا.
مَلَكَ شَرفُ الدولةِ مُسلمُ بن قُريشٍ العقيليُّ، صاحبُ المَوصِل، مَدينةَ حَلَب؛ وسَببُ ذلك أنَّ تاجَ الدولةِ تتش بن ألب أرسلان حَصرَها مَرَّةً بعدَ أُخرى، فاشتَدَّ الحِصارُ بأَهلِها، وكان شَرفُ الدولةِ يُواصِلُهم بالغَلَّاتِ وغَيرِها. ثم إنَّ تتش حَصرَها هذه السَّنَةَ، وأَقامَ عليها أيامًا ورَحلَ عنها ومَلَكَ بزاعة والبيرة، وأَحرقَ ربض عزاز، وعادَ إلى دِمشقَ. فلمَّا رَحلَ عنها تاجُ الدولةِ استَدعَى أَهلُها شَرفَ الدولة لِيُسلِّموها إليه، فلمَّا قارَبَها امتَنَعوا من ذلك، وكان مُقدِّمُهم يُعرفُ بابنِ الحتيتي العباسيِّ، فاتَّفقَ أنَّ وَلَدَهُ خَرجَ يَتصيَّد بِضَيْعَةٍ له، فأَسَرَهُ أَحدُ التُّركمان، وهو صاحبُ حِصنٍ بنواحي حَلَب، وأَرسلَه إلى شَرفِ الدولةِ، فقَرَّرَ معه أن يُسلِّم البلدَ إليه إذا أَطلقَه، فأَجابَ إلى ذلك، فأَطلَقَه، فعادَ إلى حَلَب، واجتَمعَ بأَبيهِ، وعَرَّفَه ما أَقَرَّ به لشَرفِ الدولةِ، فأَذعَن إلى تَسليمِ البلدِ، ونادَى بشِعارِ شَرفِ الدولةِ، وسَلَّمَ البلدَ إليه، فدَخلَه سَنةَ 473هـ، وحَصرَ القَلعةَ، واستَنزلَ منها سابقًا ووَثَّابًا ابني محمودِ بن مرداس، فلمَّا مَلَكَ البلدَ أَرسلَ وَلدَه -وهو ابنُ عَمَّةِ السُّلطانِ- إلى السُّلطانِ يُخبِرُه بمُلْكِ البلدِ، وأَنفذَ معه شَهادةً فيها خُطوطُ المعدلين بحَلَب بضَمانِها، وسألَ أن يُقرِّر عليه الضَّمانَ، فأَجابهُ السُّلطانُ إلى ما طَلَبَ، وأَقطعَ ابنَ عَمَّتِه مَدينةَ بالس.
سارَ السُّلطانُ ملكشاه في إثْرِ يعقوبَ لِقَتلِه مُقدِّمَ الجَكليَّة, والذي دَخلَ إلى أَخيهِ بكاشغر مُستجِيرًا به، فسَمِعَ السُّلطانُ بذلك، فأَرسلَ إلى مَلِكِ كاشغر يَتوعَّدُه، إن لم يُرسِلهُ إليه، أن يَقصِد بِلادَه، ويَصيرُ هو العَدُوَّ، فخافَ أن يَمنَع السُّلطانَ، فأَدَّاهُ اجتِهادُه إلى أن قَبَضَ على أَخيهِ يعقوبَ، وأَظهرَ أنه كان في طَلَبِه، فظَفَرَ به، وسَيَّرَهُ مع وَلَدِه، وجَماعةٍ من أَصحابِه، وكَّلَهم بيعقوب، وأَرسلَ معهم هَدايا كَثيرةً للسُّلطانِ، وأَمَرَ وَلدَه أنه إذا وَصلَ إلى قَلعةٍ بقُربِ السُّلطانِ أن يَسْمُلَ يعقوبَ ويَتركهُ، فإن رَضِيَ السُّلطانُ بذلك، وإلَّا سَلَّمَه إليه، فحَدثَ أن طغرل بن ينال استَولى على كاشغر وأَخَذَ صاحبَها أخا يعقوب, فأَطلَقوا يعقوبَ، فلمَّا رأى السُّلطانُ ذلك ورأى طَمَعَ طغرل بن ينال، ومَسيرَه إلى كاشغر، وقَبْضَ صاحِبِها، ومِلْكِه لها مع قُرْبِه منه، خاف أن يَنحَلَّ بَعضُ أَمرِه وتَزولَ هَيبتُه، وعَلِمَ أنه متى قَصدَ طغرل سار من بين يَديهِ، فإن عادَ عنه رَجعَ إلى بِلادِه، وكذلك يعقوب أخو صاحِبِ كاشغر، وأنه لا يُمكِنُه المَقامُ لِسِعَةِ البِلادِ وراءَهُ وخَوْفِ الموتِ بها، فوَضعَ تاجَ المُلْكِ على أن يَسعَى في إصلاحِ أَمرِ يعقوب معه، ففَعلَ ما أَمرَهُ به السُّلطانُ، فاتَّفَقَ هو ويعقوبُ، وعاد إلى خراسان، وجَعلَ يعقوبَ مُقابِلَ طغرل يَمنعُه من القُوَّةِ، ومِلْكِ البلادِ، وكلٌّ منهما يقوم في وَجهِ الآخرِ.
أَسرَّ السلطانُ والأمراء مدَبِّرو الدولة إلى أمير الحاجِّ ومَن بصحبته من الأمراء أن يقبضوا على الشَّريفِ ثُقبة، ويقَرِّروا الشريفَ عَجلان بمُفردِه على إمارة مكَّة، فلمَّا قَدِمَ الحاج بطن مر، ومضى عجلانُ إلى لقائهم، شكا إلى الأمراءِ من أخيه ثقبة، وذكر ما فعلَه معه، وبكى، فطَمَّنوا قَلْبَه، وساروا به معهم حتى لَقِيَهم ثقبة في قوَّاده وعبيده، فألبسوه خِلعةً على العادة، ومَضَوا حافِّينَ به نحو مكَّةَ، وهم يحادثونَه في الصلح مع أخيه عجلان، ويحَسِّنونَ له ذلك، وهو يأبى موافقَتَهم حتى أيِسُوا منه، فمَدَّ الأمير كشلى يده إلى سَيفِه فقَبَض عليه، وأشار إلى من معه فألقَوه عن فرَسِه، وأخذوه ومعه ابنٌ لعُطَيفة، وآخَرُ من بني حسن، وكبَّلوهم بالحديد، ففَرَّ القوَّادُ والعبيد، وأُحضِرَ عَجلانُ، وأُلبِسَ التشريف، وعبروا به إلى مكة، فلم يختلف عليهم اثنانِ، وسُلِّمَ ثُقبةُ للأمير أحمد بن آل ملك، فسُرَّ الناس بذلك، وكَثُرَ جَلبُ الغلال وغيرها، فانحَلَّ السِّعرُ وقُبِضَ على إمام الزيدية أبي القاسم محمد بن أحمد اليمني، وكان يصَلِّي في الحرم بطائفَتِه ويتجاهَرُ، ونَصَب له منبرًا في الحَرَمِ يخطُبُ عليه يوم العيد وغيره، بمَذهبِه، فضُرِبَ بالمقارع ضربًا مبَرِّحًا ليرجِعَ عن مذهبه، فلم يرجِعْ وسُجِنَ، ففَرَّ إلى وادي نخلة، فلما انقضى موسِمُ الحاجِّ حُمِل الشريف ثقبة مُقَيَّدًا إلى مصرَ.
ما إن علم الوالي جان بردي الغزالي والي الشام للعثمانيين بموت الخليفة سليم الأول أعلن عصيانه وتمرده، واتصل بخيري بك والي مصر ليكون نصيره، فراوغه خيري ووعده، وفي الوقت نفسه أطلع الخليفة سليمان القانوني على هذه المراسلات، وأعلن جان بردي نفسه سلطانًا على الشام وأمر بالدعاء له في خطب الجمعة، ونقش اسمه على النقود وتلقب بالملك الأشرف، وقضى على حامية دمشق العثمانية، وطرد العثمانيين من بيروت وطرابلس وحماة وغيرها من المدن، ثم سار جان بردي ليأخذ حلب أيضًا وخاصة أنها لم تعترف بسلطانه وألقى الحصار عليها، ثم وهو في حصاره وصلت إليه الجيوش العثمانية فترك الحصار، وأسرع إلى دمشق ونشبت بينه وبين القوات العثمانية حرب في برزة من أعمال دمشق في السابع عشر من شهر صفر من عام 927 انهزم فيها جان بردي وهرب ليتحصن بقلعة دمشق، فلحقته الجيوش العثمانية وحاصرته بها وفر متنكرًا ولكن أخذه بعض أعوانه وسلَّمه إلى فرحات باشا قائد الجيوش العثمانية فقتله وأرسل رأسه إلى الخليفة سليمان، وقد حاول جان بردي بهذه الحركة إحياء الدولة المملوكية مرة أخرى في بلاد الشام بعد قضاء العثمانيين عليها. وبعد قمع حركة جان بردي الغزالي قُسمت الشام إلى ثلاث ولايات وهي حلب ودمشق وطرابلس.
انطَلَقت الثورةُ اللِّيبيةُ بعد اعتقالِ محامي ضحايا سجن بوسليم "فتحي تربل" في مدينة بنغازي؛ فخَرَج أهالي الضَّحايا ومُناصِروهم لتَخليصِه؛ وتَلَتْها مُظاهَراتٌ للمُطالبةِ بإسقاطِ النِّظام بمدينةِ البيضاء، فأطلَق رجالُ الأمنِ الرَّصاصَ، وقَتَلوا بعضَ المتظاهِرين، كما خرَجَت مدينةُ الزنتان والرجبان في اليوم نفسِه، وقام المُتظاهِرون في الزنتان بحرقِ مقرِّ اللِّجان الثَّورِيَّة، ومركز الشُّرطة المحليِّ، ومبنَى المَصرِف العقاريِّ بالمدينة، وجاء يومُ الخميسِ (17 فبراير) من هذا العامِ على شكلِ انتفاضةٍ شَعبيَّةٍ شَمِلت بعضَ المدن الليبيَّةِ في المِنطَقة الشرقيةِ، فكَبُرت الاحتجاجاتُ بعد سُقوطِ أكثر من (400) ما بين قتيلٍ وجريحٍ برَصاصِ قوَّات الأمن. كانت الثورةُ في البِدايةِ عبارةً عن مُظاهَراتٍ واحتِجاجاتٍ سلميةٍ، لكن مع تطوُّر الأحداثِ وقيام الكتائِبِ التابِعة لمُعَمَّر القذافي باستخدامِ الأسلحةِ النارية الثقيلةِ والقصفِ الجويِّ لقَمعِ المُتظاهِرين العُزَّل، تحوَّلَت إلى ثورةٍ مُسلَّحةٍ تسعى للإطاحةِ بمُعَمَّرٍ القذافي الذي قرَّر القتالَ حتى اللحظةِ الأخيرةِ. وبعد أن أتمَّ المُعارِضون سيطرَتَهم على الشرقِ الليبيِّ أعلنوا فيه قيامَ الجمهوريةِ اللِّيبية بقيادةِ المجلسِ الوطنيِّ الانتقاليِّ، وفي يومَي (21 و22 أغسطس) دَخَل الثُّوار إلى العاصِمَةَ طرابُلْس وسيطروا عليها، كما تمَكَّنوا من السَّيطرةِ على آخِرِ معاقِلِ القذافيِّ؛ حيث قُتل أخيرًا في مدينة سرت في يوم (20) أكتوبر، بعد حُكمٍ دام أكثرَ من أربعين عامًا.
هو الفيلسوفُ المُنَجِّم مُحمَّد بنُ أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي مُؤرخٌ مُحَقِّقٌ وجغرافيٌّ مُدقِّق، وفلَكيٌّ نابِهٌ، ورياضيٌّ أصيلٌ، وفيزيائيٌّ راسخٌ، ومترجِمٌ متمَكِّنٌ، مِن بلادِ السندِ، ومن أعيان الفلاسفة. عاصر الرَّئيسَ ابن سينا وجَرَت بينهما حوارات وأسئلةٌ وجوابات، وكان عالِمًا في الهيئة والنجوم، خبيرًا بالطبِّ. وُلد في بيرون إحدى ضواحي خوارزم، وهو مجهولُ النَسَب؛ فقد قال عن نفسِه في شعر: إذ لستُ أعرِفُ جَدِّي حقَّ مَعرفةٍ
وكيف أعرِفُ جدي إذ جَهِلتُ أبي
أبي أبو لهبٍ شَيخٌ بلا أدَبِ
نَعَم ووالدتي حمَّالةُ الحَطَب
يقول ياقوت الحموي" "بيرون بالفارسية معناه برّا، وسألتُ بعض الفضلاءِ عن ذلك فزعَم أنَّ مقام البيروني بخوارزم كان قليلًا، وأهلُ خوارزم يسمُّونَ الغريبَ بهذا الاسم، كأنَّه لَمَّا طالت غربتُه عنهم صار غريبًا، وما أظنُّه يُرادُ به إلَّا أنَّه من أهل الرستاق، يعني أنَّه من برّا البلد". كتب في كلِّ ما كان معروفًا مِن علومِ عَصرِه، وهو بذلك يُعدُّ أحدَ الموسوعيِّينَ. قال ياقوت الحموي: " وأما سائِرُ كُتُبِه في علومِ النُّجومِ والهيئةِ والمَنطِقِ والحكمةِ؛ فإنَّها تفوق الحَصرَ، رأيتُ فَهرسَتَها في وقْفِ الجامع بمرو في نحوِ الستين ورقةً بخط مكتنز". لَمَّا صَنَّف القانونَ المسعودي أجازه السلطانُ مسعود بن محمود الغزنوي بحَملِ فيلٍ مِن نقدِه الفِضِّي إليه، فردَّه إلى الخزانةِ بعُذرِ الاستغناء عنه، وكان مُكِبًّا على تحصيلِ العلوم مُنصَبًّا إلى تصنيف الكتُبِ، يفتَحُ أبوابها، ويُحيطُ شواكِلَها وأقرابَها، ولا يكاد يفارِقُ يدَه القلمُ وعَينَه النَّظرُ وقَلْبَه الفِكَرُ إلَّا في يومَيِ النيروز والمهرجان من السَّنة، ثمَّ هِجِّيراه في سائر الأيَّام من السَّنَةِ عِلمٌ يُسفِرُ عن وجهه قِناعَ الأشكال ويحسِرُ عن ذراعيه كمامَ الأغلاق. وأمَّا نباهةُ قَدرِه ومكانته عند الملوك فقد بلغ من حظوتِه لديهم أنَّ شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلِصَه لصُحبتِه ويرتبِطَه في دارِه على أن تكونَ له الإمرةُ المطاعةُ في جميع ما يحويه مُلكُه، فأبى عليه ولم يطاوِعْه، ولَمَّا أسمَحَت نفسُه بمثل ذلك لخوارزم شاه آواه في داره وأنزله معه في قَصرِه، لَمَّا استولى السُّلطانُ محمود على خوارزم قَبَضَ على البيروني وعلى أستاذِه عبد الصمد أول بن عبد الصمد الحكيم واتَّهَمه بالقَرمطةِ والكُفرِ، فأذاقه الحِمامَ، وهمَّ أن يُلحِقَ به أبا الرَّيحان البيروني، فقيل له إنَّه إمامُ وَقتِه في علمِ النُّجومِ، وإنَّ الملوكَ لا يَستَغنونَ عن مِثلِه، فأخَذَه معه، ودخل إلى بلادِ الهندِ وأقام بينهم وتعلَّم لُغتَهم واقتبس علومَهم، ثمَّ أقام بغُزنة حتى مات بها, وعلى الرغمِ مِن أنَّ البيروني لم يكن عربيًّا إلَّا أنَّه كان مُقتَنِعًا بأنَّ اللغةَ العربيَّةَ هي اللُّغةُ الوحيدةُ الجديرةُ بأن تكونَ لغةَ العِلمِ، وقد نُسِبَ إليه أنَّه قال: الهجوُ بالعربيَّةِ أحَبُّ إليَّ من المدحِ بالفارسيَّة. ومن أشهر كتب البيروني: الآثارُ الباقية عن القرون الخالية، وهو من أبرَزِ كُتُبِ التقاويم، القانونُ المسعودي في علمِ الفلك والجغرافيا والهندسة، الاستيعابُ في صنعة الأسطرلاب، الصَّيدنَة في الطب, تحديدُ نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، تحقيقُ ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة، التفهيمُ لصناعة التنجيم. وغيرها كثير، وللبَيروني لَمَحاتٌ علميَّةٌ سبق بها عصرَه، منها قولُه بأن واديَ السِّندِ كان يومًا قاعَ بحرٍ ثم غطَّتْه الرواسِبُ الفَيضيَّة بالتدريج، والقولُ بدوران الأرضِ حول محْورِها، والقول بجاذبيَّة الأرض, وله في الرياضيَّات السبقُ الذي لم يشقَّ المُحضرون غبارَه، ولم يلحق المُضمِّرون المُجيدون مِضمارَه. توفي في غزنة (كابول الآن).