أهلَّت هذه السنة وخليفةُ الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، وليس له من الخلافة إلا مجرد الاسم بلا زيادة. وسلطانُ مصر والشام والحجاز الملِكُ الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير الأتابك قجق، والدوادار الكبير صاحب الأمر والنهي في الدوادارية بل في سائر أمور الدولة, وأمير سلاح أينال النوروزي، وأمير مجلس أينال الجكمي، وأمير أخور جقمق، ورأس نوبة تغري بردي المحمودي، وحاجب الحجاب جرباش قاشق، وأستادار صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، وكاتب السر نجم الدين عمر بن حجي الدمشقي، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل، وليس لأحد في الدولة تصرُّف غير السلطان برسباي والأمير جانبك الدوادار، والقضاة: الشافعي: شمس الدين محمد الهروي. والقاضي الحنفي: زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقاضي القضاة المالكي: شمس الدين محمد البساطي، والقاضي الحنبلي: علاء الدين علي بن مغلي، ونائب الشام سودن بن عبد الرحمن، ونائب حلب شار قطلوا، ونائب حماة جلبان أمير أخور، ونائب طرابلس قصروه، ونائب صفد مقبل الدوادار، ونائب الإسكندرية أقبغا التمرازي، وبمكة الشريف علي بن عنان والأمير قرقماس.
لما دخل السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس سنة 956 وقبض على بني وطاس بها، فرَّ أبو حسون- أخو السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي- إلى ثغر الجزائر حقنًا لدمه ومستعينًا بالعثمانيين على السعدي، وكان العثمانيون قد استولوا على المغرب الأوسط وانتزعوه من يد بني زيان، فلم يزل أبو حسون عندهم يفتلُ لهم في الغارات والسنام ويحسِّنُ لهم بلاد المغرب الأقصى ويعظِّمُها في أعينهم ويقول: "إن المتغلِّبَ عليها قد سلبني ملكي ومُلك آبائي، وغلبني على تراث أجدادي، فلو ذهبتم معي لقتاله لكنَّا نرجو الله تعالى أن يتيحَ لنا النصر عليه ويرزُقَنا الظَّفَر به ولا تعدِمونَ أنتم مع ذلك منفعةً مِن ملء أيديكم غنائِمَ وذخائِرَ". ووعدهم بمال جزيل فأجابوه إلى ما طلب وأقبلوا معه في جيشٍ كثيف تحت راية الباشا صالح التركماني المعروف بصالح رئيس، إلى أن اقتحموا حضرةَ فاس بعد حروب عظيمة ومعاركَ شديدة، وفَرَّ عنها محمد الشيخ السعدي إلى منجاتِه، وكان دخول السلطان أبو حسون إلى فاس ثالثَ صفر من هذه السنة, ولما دخلَها فرح به أهلُها فرحًا شديدًا، وترجل هو عن فرسه وصار يعانقُ الناس؛ كبيرًا وصغيرًا، شريفًا ووضيعًا، ويبكي على ما دهمَه وأهلَ بيته من أمر السعديين، واستبشر الناسُ بمقدَمِه وتيمَّنوا بطلعتِه، وقُبض على كبير فاس يومئذ القائد أبي عبد الله محمد بن راشد الشريف الإدريسي, واطمأنت بالسلطان أبي حسون الدارُ، ثم لم يلبث إلا يسيرًا حتى كثرت شكايةُ الناس إليه بالترك وأنهم مدُّوا أيديَهم إلى الحريم وعاثوا في البلاد، فبادر أبو حسون بدفع ما اتَّفق مع الترك عليه من المال وأخرجَهم عن فاس.
هو شيخ الإسلام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، ولد سنة 909 في محلة أبي الهيتم في إقليم الغربية بمصر، وإليه نسبته, ويقال هي محلة ابن الهيثم بالمثلثة فغيَّرتها العامة، تلقى علومَه بالأزهر فبلغ فيها مرتبة شيخ الإسلام عندهم، كان فقيهًا على الشافعي مذهبًا، الأشعريِّ عقيدةً، والمتصوف مسلكًا, وتعتبر ترجيحاته في المذهب معتبرة، وأقواله في المذهب معتبرة، بل يعتبرونه في مقام النووي في تحرير المذهب، وهو عندهم خاتمة المحرِّرين في المذهب الشافعي، وإليه المنتهى في الترجيح، له مصنفات عديدة، منها: تحفة المحتاج لشرح المنهاج، وهو في الفقه الشافعي، وله شرح على الأربعين النووية، والإعلام بقواطع الإسلام، والزواجر عن اقتراف الكبائر، والصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، والفتاوى الكبرى الفقهية، وغيرها من الكتب، وكان يشنِّع على علماء أهل السنة المخالفين له في آرائه، خصوصًا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم, لا سيما على شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد اعترض عليه في عدد من القضايا المتعلقة بأصول الاعتقاد, فسبَّه سبًّا شديدًا كما في الفتاوى الحديثية" قال الإمام الشوكاني: "انتقل من مصر إلى مكة المشرفة، وسبب انتقاله أنه اختصر الروض للمقري، وشرع في شرحه، فأخذه بعضُ الحساد وفتَّتَه وأعدمه، فعظم عليه الأمر واشتد حزنه، وانتقل إلى مكة وصنف بها الكتب المفيدة، منها: الإمداد وفتح الجواد، شرحان على الإرشاد، الأول بسيط، والثاني مختصر، وتحفة المحتاج شرح المنهاج، والصواعق المحرقة، وشرح الهمزية، وشرح العباب، وكان زاهدًا متقللًا على طريقة السلف، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، واستمر على ذلك حتى مات في مكة" عن 65 عامًا.
هو السلطان مراد الرابع بن أحمد بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول، هو السلطان العثماني السابع عشر، ولد بإستانبول سنة 1021 جلس للحكم بعد عمه باتفاق من الأركان على عزل عمه مصطفى الأول، يوم الأحد الرابع عشر ذي القعدة سنة 1032 وله من العمر أحد عشر عامًا، فبايعه الأعيان، ثم فرق إنعامات الجلوس عليهم, وقد عمل السلطان مراد على استعادة هيبة الدولة وقوتها، فتولى هو ووزراؤه قيادة الجيوش وحقق عددًا من الانتصارات, وكان السلطان مراد يجيد التحدث باللغة العربية والفارسية فضلًا عن التركية، ويكتب قصائد تحت اسم مرادي. مرض السلطان مراد الرابع بن أحمد الأول سنة 1640م, وكان يُخشى عليه من الموت ولكن شفي, ثم مرض من جديد وتوفي في هذا العام؛ بسبب مرض النقرس بعد أن دام حكمه 16 سنة و11 شهرًا، ولم يكن قد عقب ولدًا ذكرًا، ولم يكن بقي من نسل آل عثمان غير أخيه إبراهيم بن أحمد الأول، فتولى الخلافة بعده، والذي كان مسجونًا مدة سلطنة أخيه، ولما توفي أخوه أسرع كبار المملكة إلى مكان الحبس ليخبروه بذلك، فعندما قدموا عليه ظنَّ أنهم قادمون لقتله، فخاف وذعر ولم يصدِّقْ ما قالوه له؛ ولذلك لم يفتح لهم باب السجن، فكسروه ودخلوا عليه يهنئونه، فظن أنهم يحتالون عليه للاطِّلاع على ضميره، فرفض قبَول الملك بقوله: إنه يفضل الوَحدةَ التي هو بها على مُلك الدنيا، ولَمَّا أن عجزوا عن إقناعه حضرت إليه والدته وأحضرت له جثة أخيه دليلًا على وفاتِه، وحين ذلك جلس على سرير السلطنة، ثم أمر بدفن جثة أخيه باحتفال وافر.
قام أهل بلبيس بالحضور إلى الشيخ وشكَوا إليه محمد بيك الألفي وظُلم أتباعه، فذهب الشيخ الشرقاوي للأزهر وجمع المشايخ وقفَّلوا أبواب الجامع، وذلك بعدما خطب مراد بيك وإبراهيم بيك، وفعلوا مثل ذلك اليوم الثاني، وأمروا الناسَ بغلق الأسواق والحوانيت، ثمَّ ركبوا مع جمعٍ كبير من العامَّةِ إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناسُ فحضر الدفتردار أيوب بيك، فقالوا له إنَّ مرادهم هو رفعُ الظلم والجَور، وتطبيقُ العدل وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوس المبتدعة، فقال: الدفتردار: إن ذلك لا يمكِنُ لأنَّه يضيِّقُ على معيشة المماليك، فقيل له: هذا ليس بعذرٍ عند الله ولا عند الناسِ، ولا داعي للإكثارِ مِن النفقات وشراء المماليك، ثم عاد المشايخ إلى الأزهر ومعهم أهل الأطراف وباتوا في المسجد، وأرسل إبراهيم بيك يشجعهم وأرسل إلى أيوب بيك يخوِّفه عاقبة الأمر، فأجاب إلى جميع ما ذكروه إلَّا شيئين: ديوان بولاق، وطلب المنكسر من الجامكية، وما عدا ذلك من المكوس والحوادث والظلم فيُرفع، ثم اجتمع الأمراءُ وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ الشرقاوي والبكري والنقيب والسادات، ودار الكلام بينهم والتزموا بما شرطه العلماءُ عليهم وانعقد الصلحُ على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسًا موزعة وأن يرسِلوا غلال الحرمين ويَصرِفوا غلالَ الشون وأموال الرزق، ويُبطلوا المظالم المحدَثة والتفاريدَ والمكوس ما عدا بولاق، وأن يكفُّوا أتباعهم عن مدِّ أيديهم إلى أموالِ الناس وأن يسيروا في الناس سيرةً حسنة، وكتب حجَّةً بذلك وفرمن عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بيك وأيوب بيك، وانجَلَت الفتنة، ولكنَّ الحالَ لم يدُمْ أكثر من شهر حتى عاد ما كان على ما كان وزيادة.
حجَّ الإمامُ سعود الحَجَّةَ السابعة واحتفل معه بالحَجِّ جميعُ رعيته من الجبل والجوف إلى الأحساء ووادي الدواسر ونواحيه وعمان وجميع أهل الحجاز وعسير وألمع وجميع طور تهامة ومن يليهم, فدخلوا مكةَ واعتمروا وحجُّوا بأمان عظيم، ونزل سعود القصر الشمالي من البياضية وبذل في مكة من الصدقات والعطاء شيئًا كثيرًا, وخطب سعود يوم عرفة. قال ابن بشر: "حججت تلك السنة وشهِدتُ سعودًا وهو راكب مطيَّتَه مُحرِمًا بالحج ونحن مجتمعون في نمرة لصلاة الظهر، فخطب فوق ظهرها خطبةً بليغة, ووعظ الناسَ فيها وعلَّمهم مناسِكَهم وذكَّرَهم ما أنعم الله عليهم به من الاعتصام بكلمة لا إله إلا الله وما أعطى الله في ضمنها من الاجتماع بعد التفرق وأمان السبل وكثرة الأموال وانقياد عصاة الرجال، وأن أضعف ضعيف يأخذ حقه كاملًا من أكبر كبير من مشايخ البوادي، وأعظم عظيم من رؤساء البلدان، ونادى وهو على ظهرها لا يُحمَل في مكة سلاح ولا تتَبَرَّج امرأة بزينة, وتوعَّد من فعل ذلك من رعيته, ورأيتُ الشريف غالبًا أقبل فوق حصانه ونحن جلوس في الصف وليس معه إلَّا رجل واحد، ونزل سعود من كور مطيته وسلم عليه وتعانقا".
ودخل سعود مكة وسار في الناس سيرةً حَسنةً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقات والعطاء والرأفة، وجعل في الأسواق رجالًا وقت الصلاة يحضُّونَهم عليها، ولا تجد في الأسواق مِن شُرب التنباك ولا غيره من المحظورات إلا ما لا يرى ظاهرًا، وكسا الكعبةَ المشرفة بالقيلان الفاخر وجعل إيزارها وكسوة الباب من الحرير المنسوج من الذهبِ والفضةِ، وكان أكثر جلوسه في الحرم فوق زمزم مقابِلَ البيت الشريفِ.
هو عبدُ الرحمن بن حسن بن إبراهيم الجبرتي، وُلِدَ في القاهرة عام 1753م والجبرتي نسبةً إلى بلدة جبرت، وهي بلاد زَيلَع في الحبشة، كان والِدُه من كبارِ العُلَماء الفَلَكيين، وحصل على ثروةٍ كبيرةٍ مِن عمله في التجارة، وقد رُزِق بنيِّف وأربعين ولدًا ذكَرًا، فعاش الجبرتي وسطَ أسرة ثرية، وكان تلميذًا لوالِدِه في مختلف المعارفِ، كما درس الجبرتي في الأزهر وبرَعَ في العلومِ العصريَّة وفي التاريخ، عُيِّنَ الجبرتي كاتبًا في الديوان لَمَّا دخل الفرنسيون إلى مصر، وانقطع بعدئذٍ للتأليف، وقد عاصر أحداثًا هامَّةً جدًّا، وكان الجبرتي ممن تأثَّروا بدعوةِ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مصرَ، بل ويُعدُّ من أشَدِّ المتأثِّرين بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان يرى أن الأتراكَ قد ارتكبوا خطأ كبيرًا عندما حاربوا دعوةَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأنصارَها؛ ممَّا دفع محمد علي باشا إلى التضييق عليه، بل والسَّعي للتخلص منه, وقد اشتهر بتاريخِه المعروف باسمِه (تاريخ الجبرتي) الذي عنوانُه: (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) ابتدأه بحوادث سنة 1100هـ وانتهى سنة 1236هـ، وله (مَظهَرُ التقديس بزوال دولة الفرنسيس)، وتوفي في مصر، وقيل: إنه مات متأثرًا بقتل محمد علي باشا لابنِه خليل بسبَبِ موقفه المعارِضِ مِن حكم محمد علي وثورتِه على الدولة العثمانية، وأنَّ محمد علي أمره بكتابة كتابٍ لِمَدحه فرفض الجبرتي فهدَّده فرفض أيضًا؛ مما جعله يقوم بقتلِ ابنه خليل، فظل الجبرتي يبكي ابنَه حتى كفَّ بَصَرُه. ولَزِمَ بيته بعد تلك الفاجعة التي ألَمَّت به، لا يقرأُ ولا يكتُبُ ولا يتابِعُ الأخبارَ، حتى توفِّيَ بعد مقتَلِ ولده بحوالي ثلاث سنوات.
هو الخليفةُ العثماني السلطان محمود خان الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني. تولى السلطنةَ في 20 يوليو 1785م، وكان السلطان الثلاثين للدولة العثمانية، شَهِدَ عَصرُه خطواتِ إصلاحٍ واسِعةً، وقد اتَّسم عهدُه بالتوجه للغرب العلماني، وهو الذي أمَرَ محمد علي باشا مصرَ أن يجهِّزَ الجيوش على الدَّولةِ السعودية الأولى بعد أن ضَمَّت بلاد الحجاز لحُكمِها، فأغار عليها الباشا محمد علي بجيوشِه المتتالية حتى قضى عليها ودمَّر الدرعيَّةَ مَقَرَّ الحكمِ فيها، ولا تزال جيوشُه تتابع على غزو نجد بعد استرجاعِ الإمام تركي بن عبد الله الحُكمَ السعودي في نجد. والسلطانُ محمود هو الذي تخلَّصَ من الانكشارية لَمَّا وقفوا ضِدَّ الإصلاحات والتنظيمات المدنية والعسكرية التي تبنَّاها، فقضى عليهم تمامًا عام 1240هـ، وفي عهده استقَلَّت اليونان عن الدولة العثمانية بدعمٍ وتأييدٍ فرنسي وروسي وبريطاني، كما أنهكت الدولةَ العثمانية كثرةُ الحروبِ مع روسيا، ومحمد علي باشا والي مصر الطَّموح الذي يتطَلَّعُ إلى ضَمِّ بلاد الشام إلى ولايته، ووقعت الجزائِرُ تحت الاحتلال الفرنسي في سنة 1245 هـ 1830م. تعَرَّض السلطان محمود للإصابةِ بعدوى السل، ولَمَّا اشتَدَّ به المرض نُقِلَ إلى إحدى ضواحي استانبول للاستشفاء بهوائها النقي، ثم لم يلبَثْ أن عاجلته المنية، فتوفي في التاسع عشر من ربيع الثاني من هذا العام عن عمر أربع وخمسين سنة، بعد أن دام في الحُكمِ ثلاثًا وعشرين سنة وعدة أشهر، وتولَّى ابنُه عبد المجيد الأول خلَفًا له، وعمرُه دون الثامنة عشرة.
انتقلت قيادةُ الثورة في داغستان ضِدَّ الروس إلى الشيخ الإمام شامل بن دنكاو الداغستاني، وكان قد صَحِبَ منذ صغره الشيخَ المجاهد محمد الكمراوي قائدَ الثورة الأول في رحلته العلمية، وعكف معه على العلم والعبادة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى قامت الثورةُ المباركة وكان الإمامُ شامل الذراعَ الأيمن لمحمد الكمراوي، وقائد جيوشه وشريكه في الأمور حتى ليلة استشهاده، ثم اشترك مع القائد الثاني حمزة بك علي حتى استشهاده أيضًا، فأجمع الناسُ على تولية الشيخ الإمام شامل قيادة الثورة، ومن يومها أصبح اسمُه الإمام شامل. حمل على عاتقِه إحياءَ الدين الإسلامي ونَشْر العلم، وتطبيق الشريعة، وإقامة العدل، وتطهير المجتمع من الآثار المرذولة التي خَلَّفها الاحتلال الروسي للبلاد، وجاءت خطواتُ الإمام شامل لتحقيقِ هذا الهدف بالقضاء على المنافقين؛ حيث قام بتطهير المجتمَعِ الداغستاني من العُملاء والموالين للاحتلال الروسي، ثم ضَمَّ الشيشان مع داغستان؛ حيث لم يكن هدفُ الإمام شامل تحرير داغستان فقط من الاحتلال الروسي، بل كان يهدفُ لتطهير منطقة القوقاز بأسْرِها من الروس، واستعادة الحُكم الإسلامي عليها مرةً أخرى؛ لذلك عَمِلَ الإمامُ شامل على توسيعِ قاعدة الدولة الإسلامية، فانتقل بالثورةِ إلى الشيشان، وصار قوة كبيرة يُخشى بأسُها، وأنزلت هذه القوةُ العديدَ من الهزائمِ المدوِّية على الجيش الروسي، خاصةً في معركة ويدانو سنة 1251هـ التي قُتِل فيها ستة آلاف صليبي روسي، ولقد انضمَّ للإمام شامل مجموعةٌ من العلماء العاملين المجاهدين المخلِصين، كما انضم له الكثيرُ مِن الشيشان، وانضَمَّ له من قبائل الشركس واللاز والأبخاز وغيرهم من أهل منطقة القوقاز، وبَقُوا يقاتِلون معه.
بعد أن احتَلَّت فرنسا الجزائِرَ سنة 1246هـ عَزَمت على احتلالِ تونس وقامت مقابِلَ ذلك بالتنازُلِ لإنكلترا عن مصرَ، فبدأت بالتدخُّل أولًا في أمورِ الدولة بحجَّة الديون، ثمَّ قامت باستغلالِ خلافٍ افتعلَتْه على الحدودِ مع الجزائِرِ، واتَّهَمت تونس بإيواء المجاهدين الجزائريين في أراضيها، وأنَّها لا بدَّ لها من التدخُّل لقمع هؤلاء المجاهدين وجيوبهم، فقامت بحملةٍ عسكرية، ودخلت الأراضيَ التونسية، ثمَّ لم تلبَثْ أن وصَلَت إلى قصرِ باردو الذي كان فيه حاكِمُ تونس الباي محمد الصادق، وفَرَضت عليه معاهدة الحماية، فاجتمع الباي بكبار رجالِ دولته، وعرض عليهم الأمرَ، وكان الحاضِرون يميلون إلى رَفضِ الحماية وإعلان المقاوَمةِ والجهادِ وتعبئة الأمَّة لذلك، لكِنَّ ذلك لم يجِدْ آذانًا مُصغية أمام تهديد الفرنسيين بخلعِ الباي محمد الصادق عن العَرشِ وتنصيب أخيه "الطيب باي" مكانَه إذا رفضَ التوقيعَ على المعاهدة، وكان ممثِّلو الاحتلال الفرنسي ينتَظِرون في غرفةٍ مجاورة للحجرةِ التي اجتمع فيها السلطانُ برجاله، وبعد ساعتين من الاجتماع خرج باي تونس حاملًا نسخَتَي المعاهدة وقد وقَّع عليهما! وبذلك انتهى الاستقلالُ الفعلي لتونس بعد توقيع المعاهدة التي عُرِفَت بمعاهدة "باردو" وتضَمَّنت هذه المعاهدة تقييدَ سلطة الباي، ووضْعَه تحت حماية فرنسا، وسلَبَت تونسَ كُلَّ مقومات الدولة المستقِلَّة. وغدا المقيم العام الفرنسي في تونس الحاكِمَ الحقيقيَّ للبلاد! ثم لم تلبث أن زادت القواتُ الفرنسيَّةُ، وأصبحت تفرِضُ نفسَها كالاحتلالِ العسكريِّ تمامًا، فأصبحت تونس تحت النفوذِ الفرنسي واحتلالِه، ثم بدأت بفَرْنَسةِ تُونسَ، بتنفيذِ عِدَّة إجراءاتٍ ثقافية واقتصادية واجتماعية، ثم عَدَّلت معاهدةَ الحماية السابقة قسرًا سنة 1300هـ فصارت بذلك تونس تحت يد المقيم العام الفرنسي والحماية العسكرية الفرنسية!!
ساءت أحوالُ المحاكم الشرعيةِ في مصر، بعد أن بدأ محمد علي باشا وخلفاؤه في تغييرِ الوضع القضائي المستقِرِّ في البلاد منذ مئات السنين، بإيجاد كيانٍ جديدٍ لا يعتَمِدُ على القضاء الشرعيِّ، بل يتَّجِهُ إلى التَّقنين الأوربيِّ الحديث، وانحصر دورُ المحاكم الشرعية في نظَرِ قضايا الأحوال الشخصيَّة والمواريث والوقفِ، وتسلَّل إليها الفسادُ بعد أن أدارت لها الدولةُ ظَهرَها ولم تقَدِّمْ إليها يدَ العون. وظل الأمرُ على هذا النحو من الإهمال إلى أن قامت نظارةُ الحقانية (العدل) بانتدابِ محمد عبده لتفَقُّد أحوال المحاكِمِ الشرعية، ومعرفة أدوائها، ووضْعِ أفضلَ السبل لعلاجِها. فقدَّم تقريرًا لِما وصلت إليه أحوالُ تلك المحاكِمِ من سوء الحال في الأماكِنِ والمباني والأثاث، وضَعْف في مستوى القُضاة والكَتَبة، وقصورِ المرافعاتِ فيها. وفي الوقتِ نفسِه كشَفَ التقريرُ عن تقصير الحكومةِ تجاه هذه المحاكِمِ، وإهمالها لشأنها حتى وصلت إلى ما هي عليه من ضَعفٍ وفسادٍ. وتضَمَّن التقريرُ وسائل النهوض بتلك المحاكِمِ مِن توسيع اختصاصاتِها، وعدمِ تقييدها في إصدارِ الأحكامِ بالمذهبِ الحنفيِّ، والنهوض بمستوى القُضاة وتحسين مرتَّباتهم، وانتقاء العناصِرِ الجيدة للعمل في هذا الميدان، وتسهيلِ إجراءات التقاضي، وخُتِمَ التقريرُ بطلب إنشاء معهدٍ خاص يُختارُ طَلَبتُه ممن يدرسونَ في الأزهر، ويُعَدَّوُن إعدادا خاصا لتولي منصب القضاء. ثمَّ تشكَّلت لجنةٌ برئاسة ناظر الحقانية (وزير العدل) وعضوية قاضي البلاد، وشيخ الجامع الأزهر، والمفتي، وأحد أعضاء محكمة مصر العليا؛ للنظر في التقرير, فصدر منشورٌ في 16 صفر بإنشاء مدرسةِ القضاء الشرعي، وانقسمت المدرسةُ إلى قسمين: الأول: لتخريج الكَتَبة، والثاني: لتخريجِ القُضاة والمحامين. وظلت المدرسةُ قائِمةً حتى ألغيت في سنة (1347هـ / 1928م) وأُلحِقَت بالجامعة الأزهرية الناشئة.
بعد فوزِ الاتحاديِّين بأغلبيةٍ كبيرةٍ وإعلان الدستور أرادوا أن يُتِمُّوا خطَطَهم الراميةَ إلى خلع الخليفة، فبدؤوا يثيرونَ الفوضى والقلاقِلَ في الدولة بطُرُق غير مباشرة، وادَّعى رجال الاتحاد أنَّ الدستورَ معرَّضٌ للإلغاء والحريةَ مهدَّدةٌ؛ لذا فقد تقَدَّم الجيشُ المرابط في سلانيك بإمرةِ محمود شوكت لحماية الدستورِ والمجلس النيابي، عِلماً أنه كان فيه عناصِرُ أجنبية ترتدي الزيَّ العسكري، ووصل الجيشُ إلى العاصمة، فألقى الحصارَ عليها، ثمَّ سار إلى مقر إسماعيل حقي رئيس الجيش النظامي فقتَلوه ومَن معه، ثم ساروا إلى قصر يلدز مقَرِّ السلطان، فقاموا فيه بمذبحة بلا سببٍ ونهبوا القصرَ، ثم شكَّل المجلِسُ النيابيُّ مجلِسًا أطلقوا عليه اسمَ المجلس الملكي، فاجتمع مع مجلسِ الحركة وقَرَّروا خَلْعَ السلطان عبد الحميد باستصدار فتوى من شيخِ الإسلام، واستدعى المجلِسُ الصدر الأعظم توفيق باشا لتكليفِه بإبلاغ القرار إلى الخليفة فرفَضَ، فكلف المجلسُ وفدًا من الفريق البحري عارف حكمت، وآرام الأرمني، وعمانوئيل قره صو اليهودي، وأسعد طوبطاني، وذهب الوفد إلى الخليفة، وقرأ الفتوى، فتقَبَّل السلطان ذلك مع إنكارِه إحضارَهم عمانوئيل اليهودي معهم، خاصَّةً أن عمانوئيل هذا سبق أن زار السلطانَ مع هرتزل في وفدٍ يهوديٍّ يستأذنونه في الهجرةِ إلى فلسطين، فرفض طلبهم وإغراءَهم له، وأمر بطردِهم، فتوعَّد عمانوئيل السلطانَ بأنَّ هذا الرفض سيكَلِّفُه كثيرًا. نُقِلَ السلطانُ إلى سلانيك مع أسرته ومرافقيه، وبقي تحت حراسةِ الاتحاديين حتى حرب البلقان، ثم نُقِلَ إلى قصر بكلربكي في استانبول، وبقي فيه إلى أن توفي عام 1336هـ وكانت مُدَّةُ خلافته أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، وتسلَّم الحكمَ صوريًّا أخوه محمد رشاد.
تقع جزرُ القمر (القمر الكبرى وأنجوان وموحلي ومايوت) في المحيط الهنديِّ على مقرُبةٍ من الساحلِ الشرقيِّ لإفريقيا، وأقربُ الدول إليها موزمبيق وتنزانيا ومدغشْقَر وسيشل. أصبحتْ جزرُ القمرِ تحت الحماية الفرنسيةِ بسبب استعانةِ بعض السلاطينِ على بعضِهم بالفرنسيِّين، فأصبحوا يتعاهدون مع الفرنسيِّين ضدَّ بعضهم، واستطاعت فرنسا أن تجعلَ الجزر تحت حمايتِها، ثم ألحقَت جزر القمر بجزيرة مدغشقر المحتلَّة من قِبَل فرنسا أيضًا وبقِيَت عامينِ على هذا، ثم رجعت مستعمَرة فرنسيةً لا ترتبط بغيرها، واستمرَّ الوضعُ على ذلك حتى الحرب العالميَّة الثانية، ثم فرضت إنجلترا سيطرتَها على الجزُرِ في أثناءِ الحرب بعدَ هزيمة فرنسا أمام الألمانِ، وبعدَ الحرب عادت لفرنسا، ثم أيَّدت الجزر دستورَ ديغول الخاصِّ بالدول المستعمرةِ الفرنسية، وبالتالي مُنحت الجزر الحكم الذاتيَّ مع بقاء المطالبةِ بالاستقلال التامِّ عن فرنسا. في عام 1392هـ / 1972م قرَّر المجلس النيابي إصدار بيان يطالبُ فيه بالاستقلالِ التامِّ والانفصال عن فرنسا التي أجرت استفتاءً في ذي الحجة من عام 1394هـ / ديسمبر 1974م؛ حيثُ أيَّد الغالبيةُ العظمى الاستقلالَ التامَّ والانفصال عن فرنسا، ثم أُعلن الاستقلال في 27 جمادى الآخرة 1395هـ / 6 تموز، وأُعلن عن اختيارِ أحمد عبد الله رئيسًا للدولة الجديدةِ، ووافقت فرنسا على استقلالِ الجزرِ عدا جزيرة مايوت؛ فقد كان معظمُ سكَّانها ضد الاستقلال التامِّ أيامَ الاستفتاءِ، ووعدتها فرنسا أنها ستبقى ضمنَ إطار المجموعة الفرنسيةِ، ثم طُولب بوحدةِ جزر القمر كلِّها، ولم تعترف فرنسا باستقلال جزيرة مايوت، ثم تمَّ قبول دولة جزر القمر بالأممِ المتَّحدةِ في عام 1396هـ / 1976م ورضخت فرنسا للأمر الواقع، واعترفت باستقلال الجزرِ جميعها.
كان الأميرُ الناصر غزا إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش، والحشودُ والعساكر تتلاحَقُ به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها، ونزل على مدينةِ طُلَيطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحِبُها، مبادرًا إليه، وغازيًا معه، وكان يظهر طاعةً تحتها معصيةٌ، حتى نزل بمدينة الفرج، فنظر لأهلها، وخرج للجهاد أكثَرُهم، حتى احتَلَّ بثغر مدينة سالم، وأظهَرَ التوجه إلى الثغر الأقصى. وقَدِمَت المُقَدِّمة نحوه. ثم عرجَ بالجيوش إلى طريقِ آلية والقلاع، وطوى من نهارِه ثلاث مراحل، حتى احتَلَّ بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباحَ تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغذَّ السيرَ حتى قَرُب من الحصن، وسرَّحَ الخيل المُغيرة يَمنة ويَسرة، والمشركون في سكونٍ وغفلة؛ إذ كان العِلجُ الذي يلي أمورَهم قد كاتبَ النَّاصِرَ مكايدًا له في إزاحته عن بلدِه بمواعيدَ وعدها من نفسه، فأظهر الناصر قَبولَ ذلك منهم، وأضمَرَ الكيد بهم، فغشيتهم الخيلُ المُغيرةُ على حينِ غَفلةٍ، وأصابوا نَعَمهم وسوامَهم ودوابَّهم مُسرحةً مُهملةً؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكرِ سالمين غانمين. فلما كان في صباحِ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيلُ إلى حصن وخشمة، ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة –المواضعُ التي يكثُرُ فيه الشجرُ ويلتفُّ-، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحِصنَ، وغنموا جميعَ ما فيه وأضرموه نارًا. ثم رحل عنها في اليومِ الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة وقاعدتُهم، فخرجوا هاربين عنه، فدخله المسلمون وغنموا جميعَ ما فيه، وخَرَّبوا حِصنَ القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء اللهِ في تلك الجهة نعمةً يأوونَ إليها، واضطرب العسكرُ بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمونَ ليلة الأحد بأسرِّ ليلة كانوا بها، والحمدُ لله. ثم انتقل الناصر في صبيحة اليوم الثاني من مكانِ المُضطَّرَب شرقيَّ الحصن إلى غربيِّه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدرُ ميل، فكسر العسكرُ في ذلك المكانِ يوم الأحد متقصيًا لآثار الكفرة، ومستبيحًا لنَعَمِهم. ثم ارتحل إلى مدينةٍ لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهَّات مُدُنِهم، فلم تمرَّ الجيوش إليها إلَّا على قرًى منتظمة وعمارة بسيطة، فغَنِمَت جميع ما كان بها، وقتلت من أدرَكَت فيها، حتى أوفت العساكِر على المدينة، فأُلقِيَت خالية، قد شُرِّدَ عنها أهلُها إلى الجبالِ المجاورة لهم، فغنم المسلمون جميعَ ما أصابوا فيها، وعَمِلَت الأيدي في تخريبِ ديارِها وكنائسها، وكسر الناصر عليها ثلاثةَ أيَّام، مطاولًا لنكايةِ المُشرِكين، وانتساف نَعَمِهم. ثم ارتحل من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقينَ من صفر إلى ثغر تطيلة، لغِياثِ صريخِ المسلمين به، إذ كان العِلجُ شانجه قد ضايقهم، وتردَّد بكَفَرته عليهم، ثم احتَلَّ الناصر حوز تطيلة ثم قدَّم الخيل مع محمَّد بن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتَّخذه شانجه على أهلها. فلما قصَدَته الخيلُ أخلاه مَن كان فيه، وضَبَطه المسلمون. ثم نهض الناصر إلى حِصن قلهرة. وكان شانجة قد اتخذه معقِلًا، وتبوَّأه مسكنًا. فلما فجَأته العساكِرُ أخلاه العِلجُ، وزال عنه؛ فغَنِمَه المسلمون بأسرِه، ثم رحل بالجيوشِ يوم الأحد لأربعٍ خَلَون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره، فخرج شائجة من حصن أرنيط في جموعه وكفَرَته، متعرضًا لمن كان في مُقدِّمة العسكر، فتبادر إليه شُجعان الرِّجال، تبادر رشق النبال، فانهزم الكفرة، وركِبَتْهم الخيلُ، تقتل وتجرَحُ، حتى توارَوا في الجبال، ولاذُوا بالشعاب وأيقنوا بالدمارِ والهلاك. وحِيزَ كثيرٌ من رؤوسِ المشركين؛ فتلقوا بها الناصر، ولا علم عنده بالمعركةِ التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكرُ بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرينَ على عَدُوِّهم، ومنبسطين في قُراهم ومزارعهم، وورد الخبرُ على الناصر باجتماع العِلجَينِ أرذون وشانجة، واستمداد بعضِهما ببعض، طامعينِ في اعتراضِ المقَدِّمة، أو انتهاز فرصة في السَّاقة. فأمر الناصرُ بتعبئة العساكر، وضبْطِ أطرافِها، ثم نهض بها موغِلًا في بلاد الكَفَرة، فتطلَّلوا على كُدًى مشرفةٍ وجبالٍ منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطرافِ الجيش، وجعلوا يتصايحون، ويولوِلون لِيُضعِفوا من قلوب المسلمين، فعهد الناصر بالنزولِ والاضطراب وإقامةِ الأبنية. ثم تبادر الناسُ إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الجبالِ، فواضعوهم القتالَ، واقتحم عليهم حتى انهزم المشركونَ، والمسلمون على آثارِهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظَّلامُ بينهم، ولجأ عند الهزيمةِ ما يزيد على ألفٍ مِن العلوج إلى حصن مويش، ورجوا التمنُّع فيه. فأمر الناصرُ بتقديم المظل وأبنية العسكرِ إلى الحصن، فأحيط به من جميعِ جِهاتِه، وحُوربوا داخِلَه حتى تغلَّب عليه، واستخرج جميعَ العُلوج منه، وقُدِّموا إلى الناصر، فضُرِبَت رقابُ جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصنِ والمحلة التي كانت للكَفَرة بقربه من الأمتعةِ والأبنية والحِليةِ المُتقَنة والآنية ما لا يحصى كثرةً، وأصيب لهم نحوُ ألف وثلاثمائة فرس، ثم انتقل الناصرُ يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصنٍ كان اتَّخذه شانجة على أهل بقيرة فألقاه خاليًا، قد فرَّ عنه أهلُه، فعَهِدَ بهَدمِه، ولم يبرح الناصرُ مِن محلَّتِه هذه حتى نُقِلَ إلى حصنِ بقيرة من أطعمة الكَفَرة ألفُ مُدٍّ تقويةً لأهله. ثم انتقل إلى حصونِ المُسلمين يسكِّنُها وينظر في مصالحِ أهلها، فكلما ألفى بقربها مَعقلًا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطَه، حتى اتصل الحريقُ في بلاد المشركين عشرةَ أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمةِ والخيرات ما عجزوا عن حَملِه، ولم يجدوا لها ثمنًا تباع به، وقفل الناصر يوم الثلاثاء. لثلاثٍ بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ وبعث إلى قرطبةَ مِن رؤوس الكَفَرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادًا عظيمة، حتى لقد عجَزَت الدواب عن استيفاءِ حَملِها. ودخل الناصرُ القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاتِه هذه تسعين يومًا.
أخذ السلطان في تجهيز الغزاة وعيَّن جماعة كبيرة من المماليك السلطانية والأمراء، وقام السلطان في الجهاد أتمَّ قيام، ثم في العشرين من هذا الشهر سارت خيول الأمراء والأعيان من المجاهدين في البر إلى طرابلس، وعِدَّتُها نحو ثلاثمائة فرس؛ لتحمل من طرابلس صحبة غزاتها في البحر، ثم في يوم الخميس تاسع شوال ورد الخبر من طرابلس بنصرة المسلمين على الفرنج، وبينما الناس مستبشرون في غاية ما يكون من السرور والفرح بنصر الله قَدِمَ الخبر في يوم الاثنين الثالث عشر شوال بوصول الغُزاة المذكورين إلى الطينة من مصر، وكان من خبرهم أنهم لما توجهوا من ساحل بولاق إلى دمياط ساروا منه في البحر المالح إلى مدينة طرابلس فطلعوا إليها، فانضم عليهم بها خلائق من المماليك والعساكر الشامية وجماعة كبيرة من المطوعة إلى أن رحلوا عن طرابلس في بضعة وأربعين مركبًا، وفي يوم الجمعة ثاني رجب سار أربعة أمراء إلى الجهاد، وهم تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وقد جُعِل مقدَّمَ عسكر البر، والأمير أينال الجكمي أمير مجلس، وجُعِل مقدَّمَ عسكر البحر، والأمير تغري برمش، والأمير مراد خجا، وتبعهم المجاهدون، وتوجهوا في النيل أرسالًا حتى كان آخرهم سفرًا في يوم السبت الحادي عشر، ثم في شهر شعبان في خامسه قدم الخبر بأن طائفة من الغزاة لما ساروا من رشيد إلى الإسكندرية وجدوا في البحر أربع قطع بها الفرنج، وهي قاصدة نحو الثغر، فكتبوا لمن في رشيد من بقيتهم بسرعة لحاقهم، وتراموا هم والفرنج يومهم، وباتوا يتحارسون، واقتتلوا من الغد، فما هو إلا أن قَدِمَت بقية الغزاة من رشيد، فولى الفرنج الأدبار بعدما استُشهد من المسلمين عشرة. وصلت في رجب عساكر المسلمين الماغوصة لغزو قبرص، فنزلوا عليها بأجمعهم، وخيَّموا في برها الغربي، وقد أظهر متملك الماغوصة طاعة السلطان الأشرف برسباي وعرَّفهم تهيؤَ صاحب قبرص واستعداده لقتالهم وحربهم، فاستعدوا وأخذوا حِذْرَهم وباتوا بمخيمهم على الماغوصة، وهي ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، ولما أصبحوا يوم الاثنين شنُّوا الغارات على ما بغربيِّ قبرص من الضِّياع، ونهبوا وأسروا وقتلوا وأحرقوا وعادوا بغنائم كثيرة، ثم ساروا ليلة الأربعاء يريدون الملاحة، وتركوا في البر أربعمائة من الرجَّالة يسيرون بالقرب منهم إلى أن وصلوا إليها ونهبوها وأسَروا وأحرقوا أيضًا، ثم ركبوا البحر جميعًا وأصبحوا باكر النهار فوافاهم الفرنج في عشرة أغربة -نوع من المراكب- وقرقورة كبيرة، فلم يثبتوا للمسلمين وانهزموا من غير حرب، واستمر المسلمون بساحل الملاحة وقد أرست مراكبهم عليها، وبينما هم فيما هم فيه كرَّت أغربة الفرنج راجعة إليهم، وكان قصد الفرنج بعودهم أن يخرج المسلمون إليهم فيقاتلوهم في وسط البحر، فلما أرست المسلمون على ساحل الملاحة كرَّت الفرنج عليهم، فبرز إليهم المسلمون وقاتلوهم قتالًا شديدًا إلى أن هزمهم الله تعالى، وعادوا بالخِزي، وبات المسلمون ليلة الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فلما كان بُكرة نهار الجمعة أقبل عسكر قبرص وعليهم أخو الملك، ومشى على المسلمين، فقاتله مقدار نصف عسكر المسلمين أشد قتال حتى كسروهم، وانجَلَت المعركة عن وقوع جينوس بن جاك متمَلِّك قبرص في الأسر بأمر من عند الله يُتعَجَّبُ منه؛ لكثرة مَن معه وقوتهم، وقلَّة من لَقِيَه، ووقع في الأسر عدة من فرسانه، فأكثر المسلمون من القتل والأسر، وانهزم بقية الفرنج، ووُجد معهم طائفة من التركمان قد أمدهم بهم علي بك بن قرمان، فقُتِل كثير منهم، واجتمع عساكر البر والبحر من المسلمين في الملاحة في يوم الاثنين ثانيه، وقد تسلم ملك قبرص الأمير تغري بردي المحمودي، وكثرت الغنائم بأيدي الغُزاة، ثم ساروا من الملاحة يوم الخميس خامسه يريدون الأفقسية، مدينة الجزيرة، ودار مملكتها، فأتاهم الخبر في مسيرهم أن أربعة عشر مركبًا للفرنج قد أتت لقتالهم، منها سبعة أغربة -نوع من المراكب- وسبعة مربعة القلاع، فأقبلوا نحوها وغنموا منها مركبًا مربعًا، وقتلوا عدة كثيرة من الفرنج، وتوجه الغزاة إلى الأفقسية وهم يقتلون ويأسِرون ويغنمون، حتى دخلوها، فأخذوا قصر الملك، ونهبوا جانبًا من المدينة، وعادوا إلى الملاحة بعد إقامتهم بالأفقسية يومين وليلة، فأراحوا بالملاحة سبعة أيام، وهم يقيمون شعائر الإسلام, وكان من خبر ذلك أن الغُزاة نازلوا قلعة اللمسون حتى أخذوها عَنوةً في يوم الأربعاء السابع والعشرين شعبان، وهدموها وقتلوا كثيرًا من الفرنج وغنموا، ثم ساروا بعد إقامتهم عليها ستة أيام، في يوم الأحد أول شهر رمضان وقد صاروا فرقتين؛ فرقة في البر، وفرقة في البحر، حتى كانوا فيما بين اللمسون والملاحة، إذا هم بجينوس بن جاك متملك قبرص قد أقبل في جموعِه، فكانت بينه وبين المسلمين حرب شديدة، ثم ركبوا البحر عائدين بالأسرى والغنيمة في يوم الخميس الثاني عشر، وقد بعث أهل الماغوصة يطلبون الأمان، ثم في يوم الاثنين الثالث والعشرين رمضان قدم الخبر في النيل بأخذ جزيرة قبرص وأسْر ملكها، وفي يوم الأحد سابع شهر شوال قَدِمَ الأمير تغري بردي المحمودي والأمير أينال الجكمي -مُقَدَّمَا الغُزاة المجاهدين- بمن معهما من العسكر، وصُحبتهم جينوس بن جاك متملك قبرص، وعاد ومن أسروه وسَبَوه من الفرنج، وما غنموه، وجميعهم في مراكبهم التي غزوا قبرص فيها، فمروا على ساحل بولاق حتى نزلوا بالميدان الكبير، فكان يومًا مشهودًا، ثم طال الكلام فيما يَفدي به نفسه، وطُلِبَ منه خمسمائة ألف دينار، فتقرر الصلح على مائتي ألف دينار، يقوم منها مائة ألف دينار، فإذا عاد إلى مُلكِه بعث بمائة ألف دينار، ويقوم في كل سنة بعشرين ألف دينار، واشترط على السلطان أن يكُفَّ عنه الطائفة البندقية وطائفة الكيتلان.