كانت قُريشٌ تُحذِّر منَ الاستِماعِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قَدِم الطُّفَيلُ بن عمرٍو مكةَ مَشَى إليه رجالٍ من قُرَيشٍ، وكان الطُّفَيلُ رجلًا شَريفًا شاعِرًا لَبيبًا، فقالوا له: "يا طُفَيلُ، إنَّك قَدِمتَ بلادَنا، وهذا الرجلُ الذي بين أظهُرِنا قد أعضَلَ -اشتَدَّ أمرُه- بنا، وقد فرَّق جماعَتَنا، وشتَّت أمْرَنا، وإنَّما قَولُه كالسِّحرِ يُفرِّق بين الرَّجلِ وبين أبيه، وبين الرَّجُلِ وبين أخيه، وبين الرَّجُلِ وبين زَوجَتِه، وإنَّا نَخشَى عليك وعلى قَومِك ما قد دَخلَ علينا، فلا تُكلِّمَنَّه ولا تَسمَعَنَّ منه شيئًا". قال: فَواللهِ ما زالوا بي حتَّى أجمعتُ ألَّا أسمَعَ منه شيئًا ولا أُكلِّمه، حتى حَشَوتُ في أُذُنَيَّ حين غَدَوتُ إلى المسجِدِ كُرسُفًا -قُطنًا- خوفًا مِن أن يَبلُغَني شيءٌ مِن قَولِه، وأنا لا أُريدُ أن أسمَعَه. فغَدَوتُ إلى المسجدِ فإذا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائمٌ يصلِّي عند الكَعبةِ. قال: فقُمتُ منه قريبًا، فأبى الله إلَّا أنْ يُسمِعَني بعضَ قولِه. قال: فسَمِعتُ كَلامًا حَسَنًا. فقُلتُ في نَفسي: وا ثُكْلَ أُمِّي، واللهِ إنِّي لرَجلٌ لَبيبٌ شاعِرٌ ما يَخفَى علَيَّ الحَسنُ من القَبيحِ، فما يَمنَعُني أن أسمَعَ من هذا الرَّجلِ ما يقولُ؟ فإنْ كان الذي يَأتي به حَسنًا قَبِلتُه، وإن كان قَبيحًا تَرَكتُه. فمَكَثتُ حتى انصَرَف رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بيتِه فاتَّبَعتُه، حتى إذا دخل بَيتَه دَخَلتُ عليه، فقلتُ: يا مُحمَّدُ، إنَّ قومَك قد قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا؛ فوالله ما بَرِحوا يُخوِّفونَني أمْرَك حتى سَدَدتُ أُذُنَيَّ بكُرسُفٍ لِئَلَّا أسمَعَ قولَك، ثمَّ أبَى الله إلا أن يُسمِعَني قَولَك، فسَمِعتُه قَولًا حَسَنًا، فاعرِضْ علَيَّ أمْرَك. قال: فعَرَضَ علَيَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإسلامَ، وتلا علَيَّ القُرآنَ، فلا والله ما سَمعتُ قولًا قطُّ أحسنَ منه، ولا أمرًا أعدَلَ منه. فأسلمتُ وشَهِدتُ شهادةَ الحقِّ، وقلتُ: يا نبيَّ الله، إنِّي امرُؤٌ مُطاعٌ في قومي، وأنا راجِعٌ إليهم، وداعيهِم إلى الإسلامِ، فادعُ الله أن يجعلَ لي آيةً تَكون لي عَونًا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللَّهمَّ اجعَل له آيةً".
قال: فخَرَجتُ إلى قومي، حتى إذا كنتُ بثَنيَّةٍ -الفُرجةُ بين الجَبَلَين- تُطلِعُني على الحاضِرِ -أي: القوم النَّازِلين على الماء- وقع نورٌ بين عينَيَّ مِثلُ المِصباحِ، فقُلتُ: اللَّهمَّ في غيرِ وجهي، إنِّي أخشى أن يَظُنُّوا أنَّها مُثلةٌ وَقَعت في وَجهي لفِراقي دينَهم. قال: فتَحَوَّل فوَقَع في رأسِ سوطي. قال: فجَعَل الحاضِرُ يَتراءَون ذلك النُّورَ في سَوطي كالقِنديلِ المُعلَّقِ، وأنا أهبِطُ إليهم من الثَّنيَّةِ، قال: حتى جِئتُهم فأصبَحتُ فيهم. فلمَّا نزلتُ أتاني أبي، وكان شيخًا كبيرًا، قال: فقلتُ: إليك عنِّي يا أبتِ، فلستُ منك ولستَ منِّي. قال: ولِمَ يا بُنَيَّ؟ قال: قلتُ: أسلمتُ وتابَعتُ دينَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: أيْ بنيَّ، فديني دينُك. قال: فقلتُ: فاذهَبْ فاغتَسِلْ وطهِّرْ ثيابَك، ثم تعالَ حتى أُعَلِّمَك ما عَلِمتُ. فذَهَب فاغتَسَلَ، وطهَّرَ ثيابَه، ثم جاء فعَرَضتُ عليه الإسلامَ، فأسلمَ.
ثم أتَتْني صاحِبَتي -زَوجَتي- فقلتُ: إليكِ عنِّي، فلستُ منكِ ولستِ منِّي. قالت: لِمَ؟ بأبي أنت وأمي. قلتُ: قد فرَّق بيني وبينكِ الإسلامُ، وتابَعتُ دينَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قالت: فديني دينُكَ. قلتُ: فاذهَبي فتطهَّري، فذَهَبَت فاغتسَلَت، ثم جاءت فعَرَضتُ عليها الإسلامَ، فأسلَمَت.
ثم دعوتُ دَوسًا إلى الإسلامِ فأبطَؤوا علَيَّ، ثم جئتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمكةَ، فقلتُ له: يا نبيَّ الله، إنَّه قد غَلَبني على دوسٍ الزِّنا -لَهوٌ مع شُغُلِ القَلبِ والبَصرِ-، فادعُ الله عليهم، فقال: "اللَّهمَّ اهدِ دَوسًا، ارجِعْ إلى قومِكَ فادعُهم وارفُقْ بِهِم". قال: فلَم أزَلْ بأرضِ دَوسٍ أدعوهم إلى الإسلامِ، حتى هاجَرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، ومَضَى بدرٌ وأُحُدٌ والخَندَقُ، ثم قَدِمتُ على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِمَن أسلم معي من قومي، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيبَرَ، حتى نزلتُ المدينةَ بسبعين أو ثمانين بَيتًا من دوسٍ، ثم لَحِقْنا برسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيبَرَ، فأسهَمَ لنا مع المسلمين".
ثم لم يَزَل رَضي اللهُ عنه مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى فتح الله عليه مكَّةَ، وكان معه بالمدينةِ حتى قَبَض الله رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا ارتدَّتِ العربُ خرج مع المسلمين، فسار معهم حتى فَرَغوا من طُلَيحةَ، ومن أرضِ نجدٍ كلِّها. ثم سار مع المسلمين إلى اليَمامةِ، واستشهد فيها.
اشتَدَّ القتال بين الفرنج والمسلمين برًّا وبحرًا، وقد اجتمع من الفرنج والمسلمين ما لا يعلم عددهم إلا الله، هذا والرسُل تتردد من عند الفرنج في طلب الصلحِ بشروط: منها أخذ القدس وعسقلان وطبرية، وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاحُ الدين من بلاد الساحل، فأجابهم الملوك إلى ذلك، ما خلا الكرك والشوبك، فأبى الفرنجُ، وقالوا: لا نسَلِّم دمياط حتى تسلِّموا ذلك كله فرضي الكامل، فامتنع الفرنج، وقالوا: لا بد أن تعطونا خمسمائة ألف دينار، لنعمر بها ما خربتم من أسوار القدس، مع أخْذِ ما ذكر من البلاد، وأخذ الكرك والشوبك أيضًا، فاضطر المسلمون إلى قتالهم ومصابرتِهم، وعبَرَ جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها معسكر الفرنج، وفتحوا مكانًا عظيمًا في النيل، وكان وقتَ قوة زيادة النيل، والفرنج لا معرفةَ لهم بحال أرض مصر، ولا بأمر النيل، فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد غرق أكثر الأرض التي هم عليها، وصار حائلًا بينهم وبين دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها، سوى جهةٍ واحدة ضيقة، فأمر السلطانُ في الحال بنصب الجسور وعبَرَت العساكر الإسلامية عليها، وملكت الطريق التي تسلكها الفرنجُ إلى دمياط، فانحصروا من سائر الجهات، وقَدَّر الله سبحانه بوصول فرقةٍ عظيمة في البحر للفرنج، وحولها عدةُ حراقات تحميها، وسائرها مشحونة بالميرة والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه، فأوقع بها شواني الإسلام، وكانت بينهما حربٌ، أنزل الله فيها نصره على المسلمين، فظَفِروا بها وبما معها من الحراقات، ففتَّ ذلك في عضد الفرنج، وألقِيَ في قلوبهم الرعب والذلة، بعدما كانوا في غاية الاستظهار والعنت على المسلمين، وعلموا أنهم مأخوذون لا محالة، فأجمعوا أمرهم على مناهضة المسلمين؛ ظنًّا منهم أنهم يصلون إلى دمياط، فخَرَّبوا خيامهم ومجانيقَهم، وعزموا على أن يحطموا حطمةً واحدة، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلًا، لكثرةِ الوحل والمياه التي قد ركبت الأرضَ مِن حولهم، فعجزوا عن الإقامة لقلَّةِ الأزواد عندهم، ولاذوا إلى طلَبِ الصلحِ، وبعثوا يسألون الملك الكامل وأخويه الأشرف والمعظم الأمانَ لأنفُسِهم، وأنهم يسلِّمونَ دمياط بغير عوض، فاقتضى رأيُ الملك الكامل إجابتهم، هذا وقد ضجرت عساكر المسلمين، وملت من طول الحرب، فإنها مقيمة في محاربة الفرنج ثلاث سنين وأشهرًا، وما زال الكامل قائمًا في تأمين الفرنج إلى أن وافقه بقيَّة الملوك على أن يبعث الفرنجُ برهائن من ملوكِهم لا من أمرائهم إلى أن يسَلِّموا دمياط فطلب الفرنجُ أن يكون ابن الملك الكامل عندهم رهينةً، إلى أن تعود إليهم رهائنُهم، فتقَرَّر الأمر على ذلك، وحلف كل من ملوك المسلمين والفرنج، في سابع شهر رجب، وبعث الفرنج بعشرين ملكًا من ملوكهم رهنًا، منهم يوحنا صاحب عكا، ونائب البابا، وبعث الملك الكامل إليهم بابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وله من العمر يومئذ خمس عشرة سنة، ومعه جماعة من خواصه، وعندما قدم ملوك الفرنج جلس لهم الملك الكامل مجلسًا عظيمًا، ووقف الملوكُ من إخوته وأهل بيته بين يديه، في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فهال الفرنج ما شاهدوا من تلك العظمة وبهاء ذلك الناموس، وقدمت قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، ليسَلِّموها إلى المسلمين، فتسَلَّمها المسلمون في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فلما تسلمها المسلمون قدم في ذلك اليوم من الفرنج نجدة عظيمة، يقال أنها ألف مركب، فعُدَّ تأخُّرُهم إلى ما بعد تسليمِها من الفرنج صنعًا جميلًا من الله سبحانه، وشاهد المسلمون عندما تسلموا دمياط من تحصين الفرنج لها ما لا يمكِن أخذُها بقوة البتة، وبعث السلطان بمن كان عنده في الرهن من الفرنج، وقَدِمَ الملك الصالح ومن كان معه، وتقررت الهدنة بين الفرنج وبين المسلمين مدة ثماني سنين، على أن كلًّا من الفريقين يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته وحلف ملوك الفرنج على ذلك، وتفرَّق من كان قد حضر للقتال، فكانت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر رمضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أُسِرَ من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين.
لقد كانت عدن محطَّ أنظار كثيرٍ مِن الدول الطامعة في إرساء قواعدَ لها على البحر الأحمر والخليج العربي، ومن ثَمَّ السيطرة على المحيط الهندي، والحصول على السيطرة الاقتصادية والسياسية في تلك المنطقة، فتوالت على عدن الكثيرُ مِن القوات والدول المستعمرة، وكان من أهمِّ تلك الدول بريطانيا؛ حيث قامت ببعض المقَدِّمات لاحتلالِ عدن، فأرسلت في بداية الأمر الكابتن هينز أحدَ ضباط البحرية إلى منطقةِ خليج عدن في عام 1835م؛ وذلك لمعرفة مدى صلاحية المنطقة لتكونَ قاعدةً بحريةً ومستودعًا للسفن البريطانية، وقد أشار هينز في تقريره إلى ضرورة احتلال عدن لأهميَّتِها الاستراتيجية. وكان لا بد للإنجليز من سَبَبٍ يبررون به احتلالهم لعدن، فكان أن وقَعَت حادثة استغلوها استغلالًا كبيرًا؛ ففي عام 1873م جنحت سفينةٌ هندية تسمى: (دريادولت) وكانت ترفَعُ العلم البريطاني بالقُربِ من ساحل عدن، فادعى الإنجليز أنَّ سكَّان عدن هاجموا السفينةَ ونهبوا بعضَ حمولتِها، وأن ابن سلطان لحج وعدن كان من المحَرِّضين على نهب السفينة. ثم لما مضى حوالي شهر من حدوث ذلك وزادت كذلك رغبةُ بريطانيا للسيطرة على البحر الأحمر وجَعْل عدن كمحطةٍ تعمل على تمويل سُفُنِها بالوقودِ، وجعْلها قاعدةً عسكرية تهيمِنُ على المنطقة العربية، قام حينها (كوماندر هينز) قائد السفينة (بالينورس) في البحر الأحمر بكتابةِ تقريرٍ إلى (سيرتشارلز مالكولم) مدير البحرية البريطانية في الهندية في 6 يوليو1837م، قال فيه: "يشَرِّفني أن أعلِمَكم أنه لدى وجودي في عدن خلال شهر إبريل تبيَّنتُ أن البضاعة التي تمت استعادتها من السفينة المحطَّمة (دريادولت) التي تحمل العلم الإنكليزي والعائدة إلى مدراس كانت مطروحةً في السوق بأقَلَّ مِن ثُلُثِ قيمتِها". فأرسلت الحكومةُ البريطانية الكابتن هينز لإجراءِ مفاوضات مع سلطان لحج ولكنها باءت بالفشَلِ بعد محاولة سلطان لحج إعادةَ البضائع المسروقة، ودفع قيمة ما تلف أو بِيعَ منها، إلا أن هينز لم يوافِقْ لأن بريطانيا كانت تريد عدن نفسَها. وفي عام 1839م نفسه أعدَّت حكومة الهند البريطانية عِدَّةَ إجراءات للاستيلاء على عدن، وقامت بعض المناوشات بين العرب في عدن وبعض جنودِ السفن البريطانية المسَلَّحة التي رابطت بالقُربِ مِن ساحل عدن انتظارًا لوصول السفن الباقية، وبعد ثلاثة أيام في 19 يناير 1839م قَصَفَت مدفعية الأسطول البريطاني مدينةَ عدن ولم يستطِعِ الأهالي الصمودَ أمام النيران الكثيفةِ، وسقطت عدن في أيدي الإنجليز بعد معركةٍ غير متكافئة بين أسطولِ وقوَّات الإمبراطورية البريطانية من جانبٍ، وقوات قبيلة العبدلي من جانب آخر. وبدأت متاعِبُ الحكم المصري في اليمن بعد سقوطِ عدن في أيدي البريطانيين؛ فقد بدأ هينز اتصالاته بمشاريعِ المناطق الجنوبية الواقعة تحت نفوذ المصريين، يُغريهم بالهدايا والمرتَّبات ويحثُّهم على التمَرُّد على الجيش المصري، ولكن الأحوال تطورت بسرعةٍ بعد تحالُف الدول الكبرى ضِدَّ محمد علي، وانتهى الأمر بانسحاب القوات المصرية من اليمن في عام 1840م، وانفردت بريطانيا وحدها بمقَدَّرات جنوب اليمن كُلِّه، وبدأت إنجلترا عشيَّةَ احتلالها لعدن في تنفيذ سياسةِ التهدئة في المنطقة حتى تضمَنَ استقرار الأمور في عدن بما يحقِّقُ مصالحها الاستراتيجية والتجارية والبحرية، فعقدت مع سلطان لحج معاهدةً للصداقة ومنحَتْه راتبًا سنويًّا إلا أن هذا لم يُجْدِ نفعًا؛ حيث حاول سلطان لحج استعادة عدن ثلاثَ مرات في عامي1840و1841م لكن تلك المحاولات لم تنجَحْ؛ للفارق الهائل في تسليحِ القوتين. وكان الحاكِمُ البريطاني إذا قامت إحدى القبائِلِ على الإنجليز يثيرُ قبيلةً أخرى عليها. وقد جاء في الكتاب الذي أرسلَتْه شركة الهند الشرقية البريطانية إلى الكابتن هينز المقيم في عدن، جاء فيه ما يلي: (حَرِّضِ القبيلةَ الموالية على القبيلة المعادية، فلا تحتاج إلى قواتٍ بريطانية، وإنه وإن كان هَدْرُ الدماء مما يؤسَفُ له، فمِثلُ هذه السياسة تفيدُ الإنجليز في عدن؛ لأنَّها توسِّعُ الثُّلمةَ بين القبائل) كما استغل الكابتن هينز اليهودَ في المنطقة حتى يكونوا عيونًا له على العرب عِلمًا بأنه كان في عدن ما يقارِبُ من 180 يهوديًّا، ويعترف هينز بأن أحسن من ينقل الأنباءَ إليهم هم اليهود؛ لِما عُرِفَ عنهم، وهو قد وظَّفَهم لحسابه، وهؤلاء اليهود قد وافوا الكابتن هينز بكل صغيرة وكبيرة في اليمن أكمَلَ، ومن ضمنها عدن وقعطبة وتعز ولحج، مقابل مبالغ تافهة. ولم يكن الاستيلاءُ على عدن هو غايةَ ما تبغيه بريطانيا في المنطقة، وإنما كان هذا الاستيلاءُ بمثابة نقطة للتوسُّعِ، وبداية الانطلاقِ لتأكيد النفوذ البريطاني في جنوبِ اليمن والبحر الأحمر وعلى الساحل الشرقي الإفريقي، وكذلك لإبعاد أي ظِلٍّ لِقوًى أخرى.
هو محمد علي جناح أول حكام باكستان المستقِلَّة في 8 ذي القعدة (11 أيلول 1948م)، لقَّبه مواطنوه بلقب "قائد أعظم" وهو مؤسس دولة باكستان. ولد في 27 ديسمبر سنة 1876، وكان أبوه تاجرًا متوسط الثراء، وعضوًا في أسرة من الخوجات تعيش في كراتشي. وتلقى محمد تعليمَه الأول في بومباي، ثم في مدرسة الإسلام السندية، وفي المدرسة العليا لجماعة المبعوثين المبشرين في كراتشي. ولَمَّا حصل على إجازة القبول في الجامعة بُعِث إلى إنجلترا سنة 1892 حيث نال شهادة القانون سنة 1896 من كلية لنكولن. وعاش في لندن في الأيام الأخيرة للأحرارِ على مذهب غلادستون، وأظهر في هذه الأثناء اهتمامًا شديدًا بالحياة العامة، وفي هذه المرحلة أيضًا اتخذ سمة الإنجليز في الظاهر -وقد جرى حتى السنة الأخيرة من حياته على لُبس اللباس الإنجليزي الخالص، وكان يُلقي جميع أحاديثه الهامة بالإنجليزية حتى الكلمة التي ألقاها في الإذاعة بمناسبة قبول خطة التقسيم، ثم ترجمها آخرون إلى الأوردية -حتى أصبح "مستر جناح" الذي عاد إلى الهند سنة 1896م، وبدأ في السنة التالية يمارس مهنة المحاماة في بومباي. ولم يلبث بعد عدة سنوات عجاف أن أصبح من أئمة رجال المحاماة في بومباي. وكانت استجابة الجماهير لجديته واستقامته، وليس لحرارة كلماته. وكانت أوَّلُ مشاركة لجناح في السياسة الهندية هي عضويتَه للمؤتمر الوطني الهندي، وقد حضر دورة انعقاد سنة 1906 بوصفه كاتِبَ سر خاص لنوروجي الذي كان في حينها رئيسًا للمؤتمر الوطني. وبعد ذلك بثلاث سنوات -أي في يناير سنة 1910- اتخذ مقعده عضوًا في أول مجلس تشريعي ليمثِّلَ مُسلِمي بومباي، وكان أول عضو غير رسمي يحقِّقُ سَنَّ قانون تشريعي، وكان في هذه الحالة قانونًا يصَحِّحُ وضع الأوقاف الإسلامية. وفي سنة 1913 انضم جناح إلى الرابطة الإسلامية، وهو باق شخصية مؤثرة في المؤتمر الإسلامي, وفي سنة 1919 استقال من المجلس التشريعي؛ احتجاجًا على توسيع سلطة الشرطة في القمع. وكان جناح قد تزوَّج للمرة الأولى وهو بَعدُ طفل قَبلَ رحيله إلى إنجلترا سنة 1892، ولكن زوجته توفيت وهو في خارج البلاد، وكان زواجُه الثاني من ابنة سَريٍّ من سراة اليارسيين سنة 1918. ولم يكن زواجًا موفَّقًا، فانفصل الطرفان فكانت أخته فاطمة ترعى شؤونه المنزلية معظم حياته. ولعب جناح دورًا في الحياة الهندية العامة ما بين سنتي 1920 و 1931. وقد انتُخِبَ في جمعية مركزية، وكان مندوبًا في المؤتمرين الأولين للمائدة المستديرة (سنة 1930 - 1931). وفي هذه المرحلة بدأ يعمل في المجلس الخاص للمحامين، وأقام دارًا في لندن، وأصبح لا يزور الهندَ إلا زيارات متقطعة. وكانت عودتُه الأخيرة سنة 1935 بعد تنفيذ الأحكام الدستورية الجديدة، وقد نظَّم وقاد حركة باكستان، وأصبح أول حاكم عام للدولة الجديدة. فإن الرابطة في انتخابات سنة 1946 قد كسبت جميع مقاعد المسلمين تقريبًا، ولم يستطع أحد إنكار موقف جناح من حيث هو المتحَدِّث باسم الأغلبية الساحقة. وقد اشترك جناح اشتراكًا فعَّالًا في المفاوضات التي أدت إلى قيام مشروع التقسيم، وكان لا يكُفُّ عن الإلحاح بأن المسلمين يجِبُ أن يُسمَحَ لهم بأن يختاروا لأنفُسِهم دولة مستقلة. وفي يونيه سنة 1947 تحقق غرضه وقامت دولة باكستان في منتصف ليلة 14 - 15 أغسطس سنة 1947. وتولى هو منصِبَ الحاكِم العام لها ورئيس الجمعية التأسيسية. وقد وجه جناح جهوده الأولى نحو إنهاء سَفكِ الدم والحقد الجماعي. وما وافى هذا الوقت حتى كان جناح قد بلغ السبعين من عمره، وكانت صحَّتُه تبدو عليها أمارات الانهيار. ومع ذلك فقد رأسَ إقامة الجهاز الحكومي وكان مسيطرًا سيطرة فعالة على تدبير الأمور. وفي خلال سنة 1948 ازدادت صحتُه وَهْنًا على وَهنٍ، وأدركته المنية في 11 سبتمبر. وكان جناح رجلا غيَّرَ مجرى التاريخ، صحيحٌ أنه كان ثمة شعور قومي إسلامي قبله، لكنه أسبغ عليه الثقة بالنفس، وكان جناح رجلًا نزيهًا لا يحيد، وربما كان من العسير على المرء أن يحِبَّه غيرَ أنه يحمل المرءَ على الإعجاب به. كان وطنيًّا مُسلِمًا، وإن لم يكن في أعماقه رجلَ دين. وعنده أنَّ التراث الإسلامي حضارة وثقافة وكيان قومي. ثم هو قد أسس دولة ثابتة الأركان، قيل إنه كان إسماعيليًّا، وفي قول آخر أنَّه كان شيعيًّا، وبغَضِّ النظر عن انتمائه الطائفي فإنه لم يظهر أي أثر للطائفية في عَمَلِه في باكستان، بل قيل إنه أوصى أحد علماء السنة أن يصلِّيَ عليه بعد موته، وبعد وفاة جناح تم تعيينُ الخواجا نظام الدين الذي كان رئيسًا لحكومة البنغال قبل استقلال باكستان.
أفرج الأمير شيخ المحمودي نائب الشام عن الأمير سودن تلي الحمدي، والأمير طوخ، والأمير سودن اليوسفي، وهم الذين طلبهم السلطان، فامتنع من إرسالهم إليه حتى غضب، وسار من مصر إلى دمشق ليأخُذَ الأمير شيخ، ثم أظهر شيخ ما في نفسه، وصرح بالخروج عن طاعة السلطان، وأخذ في الاستعداد، وطلب الأمراء الذين أفرج عنهم إليه بالمرج، في ليلة الثامن والعشرين من المحرم واستدعى قضاة دمشق وفقهاءها، وتحدث معهم بحضرة الأمراء بجواز محاربة السلطان، فأفتاه شهاب الدين أحمد بن الحسباني بما وافق غرَضَه، ثم في شهر صفر أوله السبت في ليلة السبت نزل السلطان باللجون، فشاع بين العسكر تنكُّر قلوب المماليك الظاهرية على السلطان، وتحدثوا بإثارة فتنة لتقديمه مماليكه الجلب -هكذا يُعرَفون- عليهم، واختصاصه بهم، وكثرة عطائه لهم، فلما أصبح السلطان رحل ونزل بيسان من آخره، فما هو إلا أن غربت الشمس، واشتد اضطراب الناس، وكثر قلق السلطان وخوفُه طول الليل إلى أن طلع الفجر، فرحل إلى جهة دمشق، وفي ليلة الخميس سادسه نزل السلطان الكسوة، ففر الأمير علان وجماعة من المماليك إلى جهة الأمير شيخ، فركب السلطان بكرة يوم الخميس ودخل دمشق، وفي ثاني ربيع الأول سارت أطلاب السلطان والأمراء من دمشق إلى الكسوة، وتبعهم السلطان بعساكره، وعليهم آلة الحرب، فبات بالكسوة، وأصبح راحلًا إلى جهة الأمير شيخ، وسار بكرة يوم الثلاثاء، فمر بالصنمين، ونزل من آخره برأس الماء على بريد من الصنمين، وبات فقَدِمَ الخبر بالتقاء كشافة السلطان بكشافة الأمير شيخ، وأسْرِهم رجلًا من الشيخية، وسار السلطان بكرةَ يوم الأربعاء إلى قرية الحراك، فنزل نصف النهار ثم رحل رحيلًا مزعجًا، ظنَّ الناس أن العدو قد طرقهم، فجدَّ في مسيره ونزل عند الغروب بكرك البثنية من حوران، وفي يوم الخميس سار السلطان إلى أن نزل ظاهر مدينة بصرى، فتحقق هناك خبر الأمير شيخ، وأنه في عصر يوم الأربعاء الماضي بلغه أن السلطان قد سار في إثره، فرحل فَزِعًا يريد صرخد، فأقام السلطان على بصرى إلى بكرة السبت، وقَدِمَ عليه ببصرى من الشيخية الأمير برسباي والأمير سودن اليوسفي، فكتب بذلك إلى دمشق، ثم سار ونزل بقرية عيون -تجاه صرخد- فكانت حرب بين أصحابه وبين الشيخية، قُتِل فيها فارسان من الشيخية، وجرح من السلطانية جماعة، ففرَّ منهم جماعة إلى الأمير شيخ، فلَحِقوا به، وكثر تخوُّف السلطان من أمرائه ومماليكه، وبلغه أنهم عوَّلوا على أنه إذا وقع مصاف الحرب، تركوه ومضوا إلى الأمير شيخ، فبات ليلته مستعدًّا لأن يُؤخَذ، ودبَّر أمرًا كان فيه نجاتُه، وسار بهم فلم يفجأ القوم إلا وقد طلع عليهم من ثنية هناك، وقد عبأ الأمير شيخ أصحابه، فأوقف المصريين ناحية، وقدم عليهم الأمير تمراز الناصري نائب السلطة، ووقف في ثقاته -وهم نحو الخمسمائة فارس- وحطم عليهم السلطان بنفسه ومن معه، فانهزم تمراز بمن معه من أول وهلة، وثبت الأميرُ شيخ فيمن معه، فكانت بينهم معارك صدرًا من النهار، وأصحاب الأمير شيخ تنسَلُّ منه، وهو يتأخر إلى جهة القلعة، وكانت الحرب بين جدران مدينة صرخد، فولى السلطان وطاق الشيخية، وانتهب أصحابه جميع ما كان فيه من خيل وجِمال، وثياب وأثاث، وخيام وآلات، وغيرها، فحازوا شيئًا كثيرًا، واستولى السلطان على جامع صرخد، وأصعده أصحابَه، فرَمَوا من أعلى المنارة بمكاحل النفط والأسهم الخطالية على الأمير شيخ، وحمل السلطان عليه حملة واحدة منكرة، فانهزم أصحاب شيخ، والتجأ في نحو العشرين إلى قلعة صرخد، وكانت خلف ظهره، وقد أعدها لذلك، فتسارع إليه عدة من أصحابه، وتمزَّق باقيهم، فأحاط السلطان بالمدينة، ونزل على القلعة، فأتاه الأمراء فهَنَّؤوه بالظفر، وامتدت الأيدي إلى صرخد، فما تركوا بها لأهلها جليلًا ولا حقيرًا، حتى أخذوه نهبًا وغصبًا، فامتلأت الأيدي مما لا يدخل تحت حصر، ولم يزل السلطان على قلعة صرخد يرميها بالمدافع والسهام، ويقاتل من بها ثلاثة أيام بلياليها، حتى أحرق جسر القلعة، فامتنع الأمير شيخ ومن معه بداخلها، وركبوا أسوارها، فأنزل السلطان الأمراء حول القلعة، وألزم كل أمير بقتال جهة من جهاتها، واستدعى المدافع ومكاحل النفط من الصبيبة وصفد ودمشق، ونَصَبها حول القلعة، وتمادى الحصر ليلًا ونهارًا، حتى قدم المنجنيق من دمشق على مائتي جمل، فلما تكامل نَصبُه ولم يبقَ إلا أن يرمي بحجره ترامى الأمير شيخ ومن معه من الأمراء على الأمير الكبير تغري بردي الأتابك، وألقوا إليه ورقة في سهم من القلعة، يسألونه فيها الوساطة بينهم وبين السلطان، فما زال حتى بعثه السلطان إليهم، فصعد إلى القلعة ومعه الخليفة وكاتب السر فتح الله، وجماعة من ثقات السلطان، في يوم السبت الثامن والعشرين، فجلسوا على شفير الخندق، وخرج الأمير شيخ، وجلس بداخل باب القلعة، ووقف أصحابه على رأسه، وفوق سور القلعة، وتولى كاتب السر محادثة الأمير شيخ، فطال الخطب بينهما، واتسع مجال الكلام؛ فتارة يعظه، وأخرى يؤنِّبه ويوبِّخُه، وآونة يعدِّدُ بالله على السلطان من جميل الأيادي وعوائد النصر على أعدائه، ويخوِّفه عاقبة البغي، وفي كل ذلك يعتذر الأمير شيخ، ثم انصرفوا على أن الأمير شيخ لا يقابل السلطان أبدًا خوفًا من سوء ما اجترمه، وقبيح ما فعله، فأبى السلطان إلا أن ينزل إليه، وأعاد الأمير تغري بردي وفتح الله فقط، بعدما ألح تغري بردي على السلطان في سؤاله العفو، فأحلف الأمير شيخ، وأخذ منه الأمير كمشبغا الجمالي وأسنبغا، بعدما خلع عليهما، وأدلاهما بحبال من سور القلعة، ثم أرخى أيضًا ابنه ليبعث به إلى السلطان، فصاح الصغير وبكى من شدة خوفِه، فرحمه من حضر، وما زالوا به حتى نشله، وتصايح الفريقان من أعلى القلعة، وفي جميع خيم العسكر، فرحًا وسرورًا بوقوع الصلح، وذلك أن أهل القلعة كانوا قد أشفَوا على الأخذ لقلة زادهم ومائهم، وخوفًا من حجارة المنجنيق، فإنها كانت تدمرهم تدميرًا، لو رمى بها عليهم، وأما العسكر فإنهم كانوا طول إقامتهم يسرحون كل يوم، فينهبون القرى نهبًا قبيحًا، ويأخذون ما يجدونه من الغلال والأغنام وآلات النساء، ويعاقبون من ظفروا به حتى يُطلِعَهم على ما عنده من علف الدواب وغيره، وفيهم من يتعرَّض للحريم فيأتون من القبائح بما يشنع ذكره، وهذا وهم في خصاصة من العيشِ، وقلة من المأكل، وكادت بركة صرخد أن يُنزح ماؤها، ومع ذلك فإن أصحاب السلطان معظمهم غير مناصِح له، لا يريدون أن يظفر بالأمير شيخ خشية أن يتفرغ منه لهم؛ فلهذا حسن موقع الصلح من الطائفتين، وبات العسكر على رحيل، وأصبحوا يوم الأحد، فركب الأمير تغري بردي، وكاتب السر فتح الله، والأمير جمال الدين، ومعظم الأمراء، فصعدوا إلى قلعة صرخد، وجلسوا على شفير خندقها فخرج الأمير شيخ وجلس بداخل باب القلعة، ووقف من معه على رأسه، ومن فوق السور، وأحلف فتح الله من بقي مع الأمير شيخ المحمودي من الأمراء للسلطان، وهم: جانم نائب حماة، وقرقماس ابن أخي دمرداش نائب صفد، وتمراز الأعور، وأفرج الأمير شيخ عن يحيي بن لاقي وتجار دمشق، وغيرهم ممن كان مسجونًا معه، وبعث للسلطان تقدمة فيها عدة مماليك، وتقرر الحال على مسير الأمير شيخ نائبًا بطرابلس، وأن يلبس التشريف السلطاني إذا رحل السلطان، فلما عادوا إلى السلطان رحل من صرخد، وقد رحل أكثر المماليك من الليل، فسار في قليل من ثقاته، وترك عدة من الأمراء على صرخد، وأنفق فيهم خمسة وعشرين ألف دينار وستين ألف درهم فضة، خارجًا عن الغنم والشعير، ونزل زرع فبات بها، ثم في شهر جمادى الأولى في ثالثه: قرئ بدمشق كتاب السلطان بأنه قد ولى الأمير شيخ نيابة طرابلس، فإن قصد دمشق فدافعوه عنها وقاتلوه، وكان الأمير شيخ قد قصد دمشق، وكتب إلى الأمير بكتمر جلق بأنه يريد دخول دمشق، ليقضيَ بها أشغاله ويرحل إلى طرابلس، فكثر تخيُّل السلطان من دخوله إليها، وفي ليلة الجمعة عاشره نزل الأمير شيخ على شقحب، وكان الأمير بكتمر قد خرج إلى لقائه بعسكر دمشق، ونزل قبة يلبغا، ثم ركب ليلًا يريد كبس الأمير شيخ، فلقي كشافته عند خان ابن ذي النون، فواقعه فبلغ ذلك الخبر شيخًا، فركب وأتاه، فلم يثبت بكتمر، وانهزم وأتى الأمير شيخ فنزل بمن معه قبة يلبغا، ودخل بكرة يوم الجمعة إلى دمشق، ونزل بدار السعادة من غير ممانع، ثم تغلب على دمشق بدل نائبها نوروز الحافظي الذي لم يستطع دخول دمشق؛ لمكان شيخ فيها، بل ظل محصورًا في حماة مع نائبها.
حصَرَ أتابك زنكي دمشقَ مَرَّتين؛ فأمَّا المرَّة الأولى فإنَّه سار إليها في ربيعٍ الأوَّل مِن بعلبَكَّ بعد الفراغِ مِن أمرِها، وتقريرِ قواعِدِها وإصلاحِ ما تَشَعَّثَ منها، ليَحصُرَها، فنزل في البقاعِ، وأرسل إلى جمالِ الدِّينِ صاحِبِها يبذُلُ له بلدًا يقتَرِحُه ليُسَلِّمَ إليه دمشق، فلم يجِبْه إلى ذلك، فرحل وقصَدَ دمشق، فنزل على داريا ثالثَ عَشَرَ ربيع الأول فالتفَّت الطلائِعُ واقتَتَلوا، وكان الظَّفَرُ لعَسكرِ زنكي، وعاد الدِّمشقيُّونَ مُنهَزمِينَ، فقُتِلَ كثيرٌ منهم، ثم تقَدَّمَ زنكي إلى دمشق، فنزل هناك، ولَقِيَه جمعٌ كثيرٌ مِن جُندِ دِمشقَ وأحداثِها ورجَّالةِ الغوطة، فقاتلوه، فانهزم الدمشقيُّونَ، وأخَذَهم السَّيفُ، فقَتَلَ فيهم وأكثَرَ، وأسَرَ كذلك، ومن سَلِمَ عاد جريحًا. وأشرف البلدُ ذلك اليومَ على أن يُملَكَ، لكِنْ عاد زنكي عن القِتالِ وأمسك عنه عِدَّةَ أيام، وتابع الرُّسُلَ إلى صاحب دمشق، وبذل له بعلبَكَّ وحمص وغيرهما ممَّا يختاره من البلاد، فمال إلى التَّسليم، وامتنع غيرُه من أصحابِه مِن ذلك، وخَوَّفوه عاقِبةَ فِعلِه، وأن يَغدِرَ به كما غدَرَ بأهلِ بعلبك، فلمَّا لم يُسَلِّموا إليه عاود القتالَ والزَّحفَ، ثم إنَّ جمالَ الدين صاحب دمشق مَرِضَ ومات ثامِنَ شعبان، وطَمِعَ زنكي حينئذ في البلدِ، وزحف إليه زحفًا شديدًا؛ ظنًّا منه أنَّه ربَّما يقَعُ بين المُقَدَّمينَ والأمراء خلافٌ فيَبلُغُ غَرَضَه، وكان ما أمَّلَه بعيدًا، فلما مات جمالُ الدين ولي بعده مجيرُ الدين أبق وَلَدُه، وتولى تدبيرَ دَولَتِه مُعينُ الدين أنر فلم يَظهَرْ لِمَوتِ أبيه أثرٌ مع أنَّ عَدُوَّهم على باب المدينة، فلما رأى معين الدين أنَّ زنكي لا يفارِقُهم، ولا يزول عن حَصرِهم، راسَلَ الفِرنجَ، واستدعاهم إلى نُصرتِه، وأنْ يتَّفِقوا على مَنعِ زنكي عن دِمشقَ، وبذل لهم بُذولًا من جُملَتِها أن يَحصُرَ بانياس ويأخُذَها ويُسَلِّمَها إليهم، وخوَّفَهم مِن زنكي إنْ مَلَك دمشق، فعَلِموا صِحَّةَ قَولِه إنَّه إن مَلَكَها لم يَبقَ لهم معه بالشَّامِ مَقامٌ، فاجتَمَعَت الفِرنجُ وعَزَموا على السَّيرِ إلى دمشق ليَجتَمِعوا مع صاحِبِها وعَسكَرِها على قتالِ زنكي، فحين عَلِمَ زنكي بذلك سار إلى حوران خامِسَ رمضان، عازمًا على قتالِ الفِرنجِ قبل أن يجتَمِعوا بالدِّمشقيِّينَ، فلمَّا سَمِعَ الفرنجُ خَبَرَه لم يفارقوا بلادَهم، فلما رآهم كذلك عاد إلى حَصرِ دمشقَ ونزل بعذرا شماليَّها سادس شوال، فأحرَقَ عِدَّةَ قُرًى من المرج والغوطة، ورحل عائدًا إلى بلادِه، ووصل الفِرنجُ إلى دِمشقَ واجتمعوا بصاحِبِها وقد رحل زنكي، فعادوا، فسار مُعين الدين أنر إلى بانياس في عَسكرِ دِمشقَ، وهي في طاعةِ زنكي، لِيَحصُرَها ويُسَلِّمَها إلى الفرنج؛ وكان واليها قد سار قبل ذلك منها في جَمعٍ مِن جَمْعِه إلى مدينة صور للإغارةِ على بلادها، فصادفه صاحِبُ أنطاكيةَ وهو قاصِدٌ إلى دمشق نجدةً لصاحِبِها على زنكي، فاقتتلا، فانهزم المُسلِمونَ وأخَذوا واليَ بانياس فقُتِلَ، ونجا مَن سَلِمَ منهم إلى بانياس، وجمعوا معهم كثيرًا من البِقاعِ وغيرِها، وحَفِظوا القلعة، فنازلها مُعين الدين، فقاتلهم، وضَيَّقَ عليهم، ومعه طائفةٌ مِن الفِرنجِ، فأخذها وسَلَّمَها إلى الفرنج، وأمَّا الحَصرُ الثاني لدمشق، فإنَّ زنكي لَمَّا سَمِعَ الخبَرَ بحِصارِ بانياس عاد إلى بعلبك ليدفَعَ عنها مَن يحصُرُها، فأقام هناك، فلمَّا عاد عسكر دمشق، بعد أن مَلَكوها وسَلَّموها إلى الفرنج، فَرَّق أتابك زنكي عَسكَرَه على الإغارة على حوران وأعمالِ دمشق، وسار هو جريدة مع خواصِّه، فنازل دمشقَ سَحَرًا ولم يعلَمْ به أحَدٌ مِن أهلِها، فلمَّا أصبح النَّاسُ ورأوا عَسكَرَه خافوا، وارتَجَّ البَلَدُ، واجتمع العسكَرُ والعامَّةُ على السورِ وفُتِحَت الأبوابُ وخَرَج الجندُ، والرجَّالة فقاتلوه، فلم يتمَكَّن عسكرُ زنكي من الإقدامِ في القِتالِ؛ لأنَّ عامَّةَ عَسكَرِه تفَرَّقوا في البلاد للنَّهِب والتَّخريب، وإنَّما قصد دمشقَ لِئلَّا يَخرُجَ منها عَسكَرُه إلى عَسكَرِهم وهم متفَرِّقون، فلما اقتتلوا ذلك اليومَ قُتِلَ بينهم جماعةٌ ثم أحجم زنكي عنهم وعاد إلى خيامِه، ورحل إلى مرج راهط، وأقام ينتَظِرُ عودةَ عَسكَرِه، فعادوا إليه وقد ملؤوا أيديَهم من الغنائِم؛ لأنَّهم طرقوا البلادَ وأهلُها غافلونَ، فلَمَّا اجتمعوا عنده رحَلَ بهم عائدًا إلى بلادِهم.
هو الإمامُ العلَّامة البارع الفقيه أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، الجماعيلي، الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، صاحب (المُغني). ولد بجماعيل، من عمل نابلس، في شعبان سنة 541. صاحب كتاب المغني المشهور في المذهب الحنبلي، قدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين، وهو ابن عشر سنوات ومعه ابن خاله الحافظ عبد الغني, وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير، ورحل مرتين إلى العراق إحداهما مع الحافظ عبد الغني، فأدركا نحو أربعين يومًا من جنازة الشيخ عبد القادر، فنزلا عنده بالمدرسة، واشتغلا عليه تلك الأيام، وسمعا منه، تفقه ببغداد على مذهب الإمام أحمد، وبرع وأفتى وناظر وتبحَّر في فنون كثيرة، مع زهد وعبادة، وورع وتواضع وحسن أخلاق، وجودٍ وحياء وحسن سمت وكثرة تلاوة، وصلاة وصيام وقيام، وطريقة حسنة واتباع للسلف الصالح، فكان عالم أهل الشام في زمانه. قال ابن النجار: "كان إمام الحنابلة بجامع دمشق، وكان ثقة حجة، نبيلًا، غزير الفضل، نزهًا، وَرِعًا، عابدًا، على قانون السلف، عليه النور والوقار، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامَه", وقال عمر بن الحاجب: "هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة، خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل، طنَّت بذكره الأمصار، وضَنَّت بمثله الأعصار، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية...، إلى أن قال: وله المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمان يسمح بمثله، متواضع، حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلم ووقار، مجلسه معمور بالفقهاء والمحدثين، وكان كثير العبادة، دائم التهجد، لم نرَ مثله، ولم ير مثل نفسِه". عمل الشيخ الضياء (سيرته) في جزأين، فقال: "كان تام القامة، أبيض، مشرق الوجه، أدعج، كأن النور يخرج من وجهه لحسنه، واسع الجبين، طويل اللحية، قائم الأنف، مقرون الحاجبين، صغير الرأس، لطيف اليدين والقدمين، نحيف الجسم، ممتَّعًا بحواسه". وقال الضياء: "سمعت المفتي أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة يقول: ما أعرف أحدًا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق, وسمعت الحافظ أبا عبد الله اليونيني يقول: أما ما علمته من أحوال شيخنا وسيدنا موفق الدين، فإنني إلى الآن ما أعتقد أن شخصًا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه؛ فإنه كان كاملًا في صورته ومعناه من حيث الحسن، والإحسان، والحلم والسؤدد، والعلوم المختلفة، والأخلاق الجميلة، رأيت منه ما يعجز عنه كبار الأولياء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً أفضل من أن يلهِمَه ذِكْرَه)), فقلت بهذا: إن إلهام الذكر أفضل من الكرامات، وأفضل الذكر ما يتعدى إلى العباد، وهو تعليمُ العلم والسنة، وأعظمُ من ذلك، وأحسن ما كان جبلة وطبعًا، كالحلم، والكرم، والعقل، والحياء، وكان الله قد جبله على خُلق شريف، وأفرغ عليه المكارم إفراغًا، وأسبغ عليه النعم، ولطف به في كل حال. قال الضياء: كان الموفَّق لا يناظر أحدًا إلا وهو يتبسم, وقيل: إن الموفق ناظر ابن فضلان الشافعي الذي كان يُضرَبُ به المثل في المناظرة، فقطَعَه. وبقي الموفق يجلسُ زمانًا بعد الجمعة للمُناظرة، ويجتمع إليه الفقهاء، وكان يشغلُ إلى ارتفاع النهار، ومن بعد الظهر إلى المغرب ولا يضجر، ويسمعونَ عليه، وكان يقرئُ في النحو، وكان لا يكاد يراه أحد إلا أحبَّه, وما علمت أنه أوجع قلبَ طالب، وكانت له جارية تؤذيه بخُلُقِها، فما يقول لها شيئًا، وأولاده يتضاربون وهو لا يتكلم, وسمعت البهاءَ يقول: ما رأيتُ أكثر احتمالًا منه." كان يؤمُّ الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما توفي العماد استقل هو بالوظيفة، وله مصنفات عديدة مشهورة، أشهرها المغني في شرح مختصر الخرقي، والكافي في الفقه الحنبلي، والمقنع للحفظ، والروضة في أصول الفقه، وغير ذلك من التصانيف المفيدة، وكانت وفاته في يوم عيد الفطر، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بتربته المشهورة، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى. كان له أولاد ذكور وإناث، ماتوا في حياته, ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولد له ولدان ثم ماتا وانقطع نسله.
جهز الملك العادِلُ بن الملك الكامل جماعة من الأمراء، وعدة من العساكر بديار مصر لتأخذ دمشق، وقدَّم الملك العادل إلى الملك الجواد نائبِه على دمشق رسولًا بكتابٍ فيه أنَّه يعطيه قلعةَ الشوبك وبلادها، وثغرَ الإسكندرية، وأعمال البحيرة وقليوب، وعشر قرى من بلاد الجيزة بديار مصر، لينزِلَ عن نيابة السلطة بدمشق، ويحضُرَ إلى قلعة الجبل، ليعمَلَ برأيه في أمور الدولة، فلما وفى ذلك أوهمه نائبُه عماد الدين قلج من أنه متى دخل مصر قبض عليه الملك العادل، فامتنع من تسليم دمشق، فبَرَز الملك العادل من القاهرة يريد دمشق، آخر ذي الحجة، ونزل بلبيس، فخاف الملك الجواد، وعَلِمَ عَجْزَه عن مقاومة العادل، فبعث إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل صاحب حصن كيفا وديار بكر يطلبُ منه أن يتسَلَّمَ دمشق، ويعوِّضَه عنها سنجار والرقة وعانة، فوقع ذلك من الملك الصالح أحسَنَ مَوقِعٍ، وأجابه إليه، وزاده الجديدة، وحلف له على الوفاء، ورتَّب الملك الصالح ابنَه الملك المعظَّم توران شاه على بلاد الشرق، وألزمه بحصنِ كيفا، وأقام نوابًا بآمد وديار بكر، وسَلَّم حران والرها وجميع البلاد للخوارزمية الذين في خدمته، وطلب نجدةً من الأمير بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان قد صالحه فبعث إليه بدر الدين نجدةً، وسار الملك الصالح من الشرق يريد دمشقَ، فقطع الملك الجواد اسم الملك العادل من الخطبة، وخطب للملك الصالحِ نجم الدين أيوب، وضرب السكَّةَ باسمه، ودخل الصالحُ إلى دمشق في مستهَلِّ جمادى الأولى، ومعه الجواد بين يديه بالناشية، وقد نَدِمَ الجواد على ما كان منه، وأراد أن يستدرِكَ الفائت فلم يقدِرْ، وبعث الصالح إليه بردِّ أموال الناس إليهم، فأبى وسار، وكان قد وصل مع الصالح أيضًا الملك المظفَّر صاحب حماة، وقد تلقَّاه الجواد، فكان دخوله يومًا مشهودًا، فاستقَرَّ في قلعة دمشق، وخرج الجوادُ إلى بلاده، فكانت مدةُ نيابته دمشق عشرة أشهر وستة عشر يومًا، فلما استقَرَّ الملك الصالح بدمشق سار المظفر إلى حماة، وقدمت الخوارزمية، فنازلوا مدينةَ حمص وهو معهم مدةً ثَّم فارقوها بغير طائلٍ، وعادوا إلى بلادهم بالشَّرقِ، وفي أثناء ذلك تواترت رسلُ المظفَّر صاحب حماة إلى الملك الصالحِ يستحِثُّه على قصد حمص، وكتب الأمر من مصر يستدعيه إلى القاهرة، وتعِدُه بالقيام بتصَرُّفه، فبرز الملك الصالح من دمشق إلى البثنية، وكانت الخوارزميَّة، وصاحب حماة، على حصار حمص، فأرسل المجاهدُ أسد الدين شيركوه مالًا كثيرًا فرَّقه في الخوارزمية، فرحلوا عنه إلى الشرق، ورحل صاحِبُ حماة إلى حماة، وعاد الملك الصالحُ إلى دمشق طالبًا مصر، وخرج منها إلى الخربة وعيَّدَ بها عيدَ الفطر، وعسكَرَ تحت ثنية العقاب، وقد تحيَّرَ فلا يدري أيذهب إلى حمص أم إلى مصر، وما زال بمعسكره إلى أول شهر رمضان، فعاد إلى دمشق وتقَدَّمَ إلى الأمير حسام الدين أبي علي بن محمد بن أبي علي الهذباني، أن يرحَلَ بطائفة من العسكر إلى جينين، فرحل، ولم يزل هو تحت عقبة الكرسي، على بحيرة طبرية، إلى آخرِ رمضان، فلما وردت الأخبارُ بحركة الملك الصالح إلى القاهرة، خرج من أمراء مصرَ سبعة عشر أميرًا في عِدَّة كبيرة من أتباعهم وأجنادهم، وخلقٌ مِن مُقَدَّمي الحلقة والمماليك السلطانية، وساروا يريدون الملك الصالح بدمشق، واضطربت مصر اضطرابًا زائدًا، وخرج فخر القضاة بن بصاقة في الرِّسالة إلى الملك الصالح من الكرك عن الناصر داود بأنَّه في نصرة الملك الصالح ومعاونته، ويسألُه دمشق وجميعَ ما كان لأبيه، فلم تقَعْ موافقة على ذلك، فسار الناصر إلى الملك العادل، ونزل بدار الوزارة من القاهرة، ليعينَه على محاربة أخيه الملك الصالح، فقَدِمَ في ذي الحجة الصاحبُ محيي الدين بن الجوزي برسالة الخليفةِ إلى الملك الصالح، ليصالِح أخاه الملك العادل فأجلَّ الملك الصالح قدومه إجلالًا كثيرًا، ومع ذلك فإنَّ كُتُب الأمراء وغيرهم تَرِدُ في كل قليل على الملك الصالح من مصر، تعِدُه بالقيام معه، وأنَّ البلاد في يده، لاتفاق الكلمةِ على سلطنتِه.
كان لسقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين سنة642 هـ (1244م) صدى كبير في أوروبا فأخذت أوروبا تجَهِّزُ لحملة صليبيةٍ جديدةٍ كبيرةٍ هي الحملةُ الصليبية السابعة للاستيلاءِ على مصر, حيثُ إنهم أدركوا بعد هزيمةِ حَملتِهم الصليبية الخامسةِ على مصر، ثم هزيمتهم في معركة الحربيَّة عند غزة، وضياع بيت المقدس منهم، أنَّ مِصرَ هي التي تمثل مركزَ قُوَّة المسلمين وقلعة التصدِّي لطموحاتِهم في الاستيلاءِ على بيتِ المقدسِ والشَّرق, وكان لويس التاسع ملك فرنسا الذي عُرِفَ لاحقًا بالقديس لويس، من أشد المتحمِّسين لقيام تلك الحملة، فراح يروِّجُ لها في أنحاء أوروبا. خرج لويس التاسع قاصدًا الديار المصرية في جموعٍ عظيمة فسار عن بلاده بأموالٍ جزيلة وأُهبة عظيمة، وأرسى بعكَّا وانبثَّ أصحابُه في جميع بلاد الساحل. فلمَّا استراحوا جاؤوه حاشدينَ حافلين وساروا في البحرِ إلى دمياط ومَلَكوها بغيرِ تَعَب ولا قتالٍ؛ لأنَّ أهلَها لَمَّا بلَغَهم ما الفرنجُ عليه من القوة والكثرة والعُدَّة الكاملة هالهم أمرُهم فرحلوا عنها مخفِّين. فوصل إليها الفرنجُ ولَقُوها خالية عن المقاتلين مليئةً بالأرزاق والسِّلاح، فدخلوها وغَنِموا ما فيها من الأموال. وكان الملكُ الصالح أيوب بن الملك الكامل صاحبُ مصر يومئذ بالشَّامِ يحاصر مدينة حمص. فلمَّا سَمِعَ بمقدم الفرنج رحل عن حمصَ وسار مسرعًا إلى الديار المصرية ومرض في الطريقِ وعند وصوله إلى المنصورة وافاه مقدَّمو دمياط الذين أخلوها منهزمين، فلما قيل له ما صنعوا لأنَّهم فرُّوا عنها من غير أن يباشروا حربًا وقتالًا، عظم ذلك عليه فأمر بصَلبِهم وكانوا أربعة وخمسين أميرًا فصُلِبوا كما هم بثيابِهم ومناطِقِهم وخفافِهم. ثم مات من الغدِ في الخامس عشر من شعبان. وتولَّى تدبير المملكة الأمير عزُّ الدين المعروف بالتركمانيِّ، وهو أكبر المماليك الترك. وكان مرجعه في جميع ذلك ممَّا يعتمده من الأمور إلى حظيَّة الملك الصالح أيوب المسمَّاة شجرة الدرِ،ّ وكانت تركية داهيةَ الدَّهرِ لا نظير لها في النساءِ حُسنًا، وفي الرجال حزمًا. فاتفقا على تمليك الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح. وكان يومئذٍ بحِصن كيفا من ديارِ بكر, فسار إلى الدِّيار المصريَّة وبايعوه وحَلَفوا له وسَلَّموا إليه مُلكَ أبيه. وفي مطلع سنة 648 سيَّرَ لويس التاسع ألفي فارس نحو المنصورة ليجسَّ بهم ما عليه المصريون من القوَّة. فلَقِيَهم طرفٌ مِن عسكر المسلمينَ فاقتتلوا قتالًا ضعيفًا فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنجُ المنصورةَ ولم ينالوا منها نيلًا طائلًا؛ لأنهم حَصلوا في مضايق أزقَّتِها وكان العامَّةُ يقاتلونهم بالحِجارة والآجُرِّ والتراب وخيولهم الضَّخمة لم تتمكَّن من الجولان بين الدُّروبِ، وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن شيخ الشيوخ أحد الأمراء المصريين شيخًا كبيرًا، أحاط به الفرنجُ وهو في الحمام يصبغُ لحيَتَه فقتلوه هناك. وعادوا إلى لويس التاسع وأعلموه بما تمَّ لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمَعُ من معه من البطارقة ظانِّينَ أنه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة. فعبَّى جيوشه وسار بهم طالبًا احتلال أرض مصر. فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليجَ مِن النيل المسمى أشموم طناح وهو بين البرَّين: برِّ دمياط وبرِّ المنصورة. في ليلة الأربعاء الثالث من محرم رحل الفرنج بأسرِهم من منزلتهم وانحدرت مراكِبُهم في البحر قبالةَ المسلمين، فركب المسلمونَ أقفيَتَهم، بعد أن عَدَّوا برَّهم واتبعوهم، فطلع صباحُ نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون، وبَلَوا فيهم سيوفَهم، واستولوا عليهم قتلًا وأسرًا، وكان معظمُ الحرب في فارسكور، فبلغت عدة القتلى عشرةَ آلاف في قَولِ المقِلِّ، وثلاثين ألفًا في قولِ المكثر، وأُسِرَ من خيَّالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسُوقتِهم، ما يناهِزُ مائة ألف إنسان، وغَنِمَ المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرةً، واستُشهِدَ من المسلمين نحو مائة رجل، وأبلت الطائفةُ البحرية لاسيما بيبرس البندقداري في هذه النوبة بلاءً حسنًا، وبان لهم أثرٌ جميل، والتجأ الملك الفرنسيُّ وعِدَّة من أكابر قومه إلى تل المنية، وطلبوا الأمانَ فأمَّنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزَلوا على أمانه، وأُخِذوا إلى المنصورة، فقُيِّد الملك الفرنسي بقيدٍ مِن حديدٍ واعتُقِلَ في دار القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتبِ الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورةِ ووكَلَ بحفظه الطواشي صبيح المعظمي، واعتُقِلَ معه أخوه، وأجرى عليه راتبًا في كل يوم، وتقَدَّم أمر الملك المعظم توران شاه لسيف الدين يوسف بن الطودي أحد من وصل معه من بلاد الشرق بقَتلِ الأسرى من الفرنج، وكان سيفُ الدين يُخرِجُ كُلَّ ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويَضرِبُ أعناقَهم ويرميهم في البحر، حتى فَنُوا بأجمعهم، ورحل السلطانُ من المنصورة، ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليزَ السلطاني، وعَمِلَ فيه برجًا من خَشَبٍ.
قَدِمَ دمرداش بن جوبان بن تلك بن تداون المغولي مصرَ في سابع ربيع الأول، وسَبَبُ ذلك أن القان أبا سعيد بن خربندا المغولي لَمَّا مَلَك أقبلَ على اللهو، فتحَكَّم الأميرُ جوبان بن تلك على الأردو، وقام بأمر المملكة، واستناب ولدَه خواجا رمشتق بالأردو، وبعث ابنَه دمرداش إلى مملكة الروم، فانحصر أبو سعيد بن خربندا إلى أن تحَرَّك بعض أولاد كبك بجهة خراسان، وخرج عن الطاعةِ، فسار جوبان لحَربِه في عسكرٍ كبير، فما هو إلَّا أن بَعُد عن الأردو قليلًا حتى رجع العدوُّ عن خراسان، وقصد جوبان العودَ، وكان قد قبض أبو سعيدٍ على خواجا رمشتق، وقتَلَه بظاهر مدينة السلطانيَّة في شوال من السنة الماضية، وأتبَعَ به إخوتَه ونَهَب أتباعهم، وسَفَك أكثَرَ دمائهم، وكتب إلى من خرج من العسكَرِ مع جوبان بما وقع، وأمَرَهم بقبضه، وكتب إلى دمرداش أن يحضُرَ إلى الأردو، وعَرَّفه شَوقَه إليه، ودَسَّ مع الرسول إليه عِدَّة ملطفات إلى أمراء الروم بالقَبضِ عليه أو قَتْلِه، وعَرَّفَهم ما وقع، وكان دمرداش قد مَلَك بلاد الروم جميعَها وجبالَ ابن قرمان، وأقام على كلِّ دربند جماعةً تحفَظُه، فلا يمُرُّ أحد إلا ويعلم به خوفًا على نفسِه من السلطان الملك الناصر أن يبعَثَ إليه فداويًّا لقتلِه، بسبب ما حصل بينهما من المواحَشةِ التي اقتضت انحصارَ السلطان منه، وأنَّه منع التجارَ وغَيرَهم مِن حَملِ المماليكِ إلى مصر، وإذا سمِعَ بأحد من جهة صاحِبِ مصر أخرق به، فشَرَعَ السلطان يخادِعُه على عادته، ويهاديه ويتَرَضَّاه، وهو لا يلتَفِتُ إليه، فكتب إلى أبيه جوبان في أمْرِه حتى بعث ينكِرُ عليه، فأمسك عمَّا كان فيه قليلًا، ولَبِسَ تشريف السلطان، وقَبِلَ هَدِيَّته وبعث عِوَضَها، وهو مع هذا شديدُ التحَرُّز، فلما قَدِمَت رسل أبي سعيد بطَلَبِه فتَّشَهم الموكَّلون بالدربندات، فوجدوا الملطفات، فحملوهم وما معهم إلى دمرداش، فلما وقف دمرداش عليهما لم يزَلْ يعاقِبُ الرسُلَ إلى أن اعترفوا بأنَّ أبا سعيد قَتَل خواجا رمشتق وإخواته ومن يلوذُ بهم، ونهب أموالَهم، وبعث بقتل جوبان، فقَتَل دمرداش الرسُلَ، وبعث إلى الأمراء أصحابِ الملطفات فقَتَلَهم أيضًا، وكتب إلى السلطانِ الملك الناصر يَرغَبُ في طاعته، ويستأذِنُه في القدوم عليه بعساكر الروم، ليكون نائبًا عنه بها، فسُرَّ السلطان بذلك، وكان قد ورد على السلطانِ كتابُ المجد السلامي من الشرق بقَتلِ خواجا رمشتق وإخوته، وكتاب أبي سعيد بقَتلِ جوبان، وطلب ابنه دمرداش، وأنه ما عاق أبا سعيد عن الحركة إلا كثرةُ الثلج وقُوَّة الشتاء، فكتب السلطانُ الناصر جواب دمرداش يَعِدُه بمواعيد كثيرة، ويُرَغِّبُه في الحضور، فتحَيَّرَ دمرداش بين أن يقيم فيأتيه أبو سعيد، أو يتوجَّه إلى مصر فلا يدري ما يتَّفِقُ له، ثم قَوِيَ عنده المسير إلى مصر، وأعلَمَ أمراءَه أنَّ عسكَرَ مِصرَ سار ليأخُذَ بلاد الروم، وأنه قد كتب إليه المَلِكُ الناصر يأمره أن يكون نائِبَه، فمشى عليهم ذلك وسَرَّهم، فلمَّا قدم دمرداش إلى القاهرة في سابع ربيع الأول أتاه الأميرُ طايربغا وأحضره إلى السلطانِ بالجيزة، فقَبَّل الأرض ثلاثَ مرات، فترحَّبَ السلطان به وأجلَسَه بالقرب منه، وأكرمه وبالغ في ذلك واجتَمَعَ دمرداش بالسلطانِ وفاوضه في أمرِ بلاد الروم، وأن يجهِّزَ إليها عسكرًا، فأشار السلطانُ بالمهلة حتى يَرِدَ البريد بخبر أبيه جوبان مع أبي سعيد، فاستأذن دمرداش في عَودِ مَن قَدِمَ معه إلى بلادِهم، فأذِنَ له في ذلك، فسار كثيرٌ منهم، ثم جاء كتابٌ فيه بيان أحوال دمرداش هذا وأنَّه سفك دماءً كثيرة، وقَتَل من المسلمين عالَمًا عظيمًا، وأنَّه جَسورٌ وما قصد بدخولِه مِصرَ إلا طمعًا في مُلكِها، وبعث ابن قرمان الكتابَ صحبة نجم الدين إسحاق الرومي صاحب أنطالية، وهي القلعة التي أخذها منه دمرداش وقَتَل والِدَه، وأنَّه قَدِمَ ليطالِبَه بدَمِ أبيه، فلما وقف السلطانُ على الكتاب تغيَّرَ، وطلب دمرداش وأعلَمَه بما فيه، وجمع السلطانُ بينه وبين إسحاق، فتحاقَقا بحضرة الأمراء، فظهر أنَّ كُلًّا منهما قتَلَ لصاحِبِه قتيلًا، فكتب جواب ابن قرمان معه وأُعيد، وقد تبَيَّن للسلطان خُبثُ نية دمرداش، فقبضه ومن معه واعتقل دمرداش ببرج السباعِ مِن القلعة، وفَرَّق البقية في الأبراج، وفُرِّقَت مماليكُه على الأمراء، ورُتِّبَ له ما يكفيه، وكان للقبضِ على دمرداش أسباب: منها أنه كان قد أخذ يوقِعُ في الأمراء والخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان كذا، وهذا ألماس الحاجب كان حمَّالًا، فما حمل السلطان هذا منه، فلما كان في ليلة الخميس رابع شوال من هذه السنة أُخرِجَ دمرداش من مُعتَقَلِه بالبرج، وفُتِحَ باب السِّرِّ من جهة القرافة وأُخرِجَ منه وهو مُقَيَّدٌ مَغلول، وشاهَدَه رسُلُ الملك أبي سعيد وهو على هذه الحالِ، ثم خُنِقَ دمرداش، وشاهده الرسُلُ بعد موته، وقُطِعَ رأسُه وسُلِخَ وصُبِرَ وحُشِيَ، وأرسل السلطانُ الرأسَ إلى أبي سعيد، ودُفِنَ الجسَدُ بمكانِ قَتْلِه.
بعد ما فعل المغول في سمرقند ما فعلوه أخذ جنكيزخان يرسِلُ السَّرايا إلى البلدانِ فأرسل سريةً إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنَعِ القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلَّا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسَرِ مُدَّة ونهبوا ما فيها وقتَلوا أهاليها كلَّهم وسَبَوا وأحرقوا، ثمَّ ترحلوا عنها نحو الريِّ فدخلوها على حينِ غفلةٍ مِن أهلها فقَتَلوهم وسَبَوا وأسروا، ثم ساروا إلى همذان فمَلَكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا، ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقَتَلوا من أهلها نحوًا مِن أربعين ألفًا، ثم تيمَّموا بلاد أذربيجان فصالحَهم مَلِكُها أزبك بن البهلوان على مالٍ حَمَله إليهم لشُغلِه بما هو فيه من السُّكرِ وارتكابِ السيئات والانهماك على الشَّهواتِ، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل، فلم يقفوا بين أيديهم طرفةَ عين حتى انهزمت الكرج, ثم أقبَلوا إليهم مرَّةً أخرى بحدِّهم وحديدِهم، فكسرَتْهم التتار في وقعة ثانية أقبَحَ هزيمة وأشنَعَها، وانقضت هذه السنةُ وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعةً ومقاتلة يطول عليهم بها المقام عَدَلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحَهم أهلها بمال، ثم ساروا إلى مراغة فحَصَروها ونصبوا عليها المجانيقَ وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأةٌ ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقًا لا يعلم عدتَهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئًا كثيرًا، وسَبَوا وأسروا على عادتهم, ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعًا، وقال أهل تلك النواحي هذا أمر عصيب، وكتب الخليفةُ إلى أهل الموصل والمَلِك الأشرف صاحب الجزيرة يقول: إني قد جهَّزتُ عسكرًا فكونوا معه لقتالِ هؤلاء التتار، فأرسل الأشرفُ يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجِّه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخْذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم له على أخذ الديار المصرية قاطبة، فكتب الخليفة إلى مظفَّر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي عشرة آلاف مقاتل، فلم يَقدَم عليه منهم ثمانمائة فارس ثم تفَرَّقوا قبل أن يجتمعوا، ولكنَّ الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحَهم أهلُها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتلِ شحنتِهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرًا وقتلوا أهلَها عن آخرهم، ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرا، وحرقوها وكانوا يفجُرون بالنساء ثم يقتلونهنَّ ويشقون بطونهنَّ عن الأجنَّة ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضًا كسرة فظيعة، ثم فتحوا بلدانًا كثيرة يقتلون أهلها ويسبون نساءها ويأسرون من الرجالِ ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونَهم بين أيديهم ترسًا يتقون بهم الرميَ وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالًا عظيمًا فكسروهم وقصدوا أكبَرَ مدائن القبجاق وهي مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر شيءٌ كثير جدًّا، ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتَقَوا معهم فكسرتهم التتار كسرةً فظيعةً جدًّا، ثم ساروا نحو بلقار في حدود سنة620, ففرغوا من ذلك كلِّه ورجعوا نحو مَلِكهم جنكيزخان، هذا ما فعلته هذه السرية المغربة، وكان جنكيزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشًا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلُها، وكذلك صالحوا مدنًا كثيرة أخرى، حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها وكانت حصينةً فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكيزخان فقَدِمَ بنَفسِه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرًا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصةً وعامة، ثم قصدوا مدينةَ مرو مع جنكيزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم فاقتتلوا معه قتالًا عظيمًا حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعةً ثم غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغَنِموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو، ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهدَ علي بن موسى الرضا، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابًا، ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسَرَهم ثم عادوا إلى ملكهم جنكيزخان، وأرسل جنكيزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحوا البلد قهرًا فقتلوا من فيها قتلًا ذريعًا، ونهبوها وسبوا أهلها وكسروا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها ثم عادوا إلى جنكيزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقًا من أسارى المسلمين، ثم كتب إلى جنكيزخان يطلب منه أن يبرز بنفسِه لقتاله، فقصده جنكيزخان فتواجَها وقد تفَرَّق على جلال الدين بعضُ جيشه ولم يبق بدٌّ من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يُعهَد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضَعُف أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة.
كان قد حدث من الملك السعيد أشياء أوغرت صدورَ الأمراء عليه، وأصبَحَ خاصية الملك يحظَونَ بما يريدون ويُبعِدونَ من أرادوا حتى كان في السنة الماضيةِ أن أرسل بعض الأمراء إلى سيس للقتال فخرجوا وهم مكرهون، فأما الأمراء فإنهم غَزَوا سيس وقتلوا وسَبَوا، ثم عادوا إلى دمشق ونزلوا بالمرجِ، فخرج الأميرُ كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم مما وقع من الخاصكية في حَقِّهم وحَقِّه من تخوُّفِ الملك منهم، فحَرَّك قَولُه ما عندهم من كوامِنِ الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطانِ يُعلِمونَه أنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكى إليهم من لاجين الزيني وهو من أقرَبِ مقربي الملك السعيد شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشفِ عنها، وسألوا السلطانَ أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامَه وكلام كوندك، فلما بلغ السلطانَ ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراءِ الظاهريَّة يأمُرُهم بمفارقة الصالحيَّة ودخول دمشق، فرحلوا مِن فَورِهم ونزلوا على الجورةِ مِن جهة داريا، وأظهروا الخلافَ، ورموا الملكَ السعيد بأنه قد أسرف وأفرطَ في سوء الرأي وأفسد التدبير، فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأميرَ سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار- المشرف على شؤون بيوت السلطان- ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارِهم، فلم يوافقوا على ذلك، وعادا إلى السلطان فزاد قلقُه، وتردَّدَت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعادَ الخاصكية، فلم يوافق، فرحل الأمراءُ بمن معهم من العساكِرِ إلى مصر وتَبِعَهم الملك السعيد ليلحَقَهم ويتلافى أمرَهم فلم يُدرِكْهم فعاد إلى دمشق وبات بها، ثم سار من دمشق بالعساكر يريد مصرَ فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأميرُ قلاوون بمن معه إلى القاهرة، ونزلوا تحت الجبل الأحمر، فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل، وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي، والأمير بلبان الزربقي، فامتنعوا بها وحَصَّنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسَدَّ أبوابها فراسَلَهم قلاوون والأمراء في فتحِ أبواب القاهرة ليدخُلَ العسكر إلى بيوتهم ويُبصِروا أولادَهم؛ فإن عهدهم بَعُدَ بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقَبَضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففُتِحَت أبوابها ودخل كلُّ أحد إلى داره وسُجِنَ الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعةِ وحاصروها وأمَّا السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبَرُ الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكَرِ الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام، فصاروا إليه ولم يبقَ مع السلطان إلا مماليكُه ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأميرُ سنقر الأشقر فقط، فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه، وبلغ الأمراءَ أن السلطان جاء من خَلفِ الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرًا فنجا منهم واستتر عن رؤيتِهم وطلع إلى المقَدِّمة، فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطانَ بالقلعة فعادوا إلى حصارِها وصار السلطان يُشرِفُ من برج الرفرف المطلِّ على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراءُ، أرجِعُ إلى رأيكم ولا أعمَلُ إلا ما تقولونَه، فلم يجبه أحدٌ منهم وأظهروا كتبًا عنه يطلب فيها جماعةً من الفداوية لقَتلِهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأميرُ سنجر الحلبي معتَقلًا بالقلعة، فأخرجه السلطانُ وصار معه، فاستمر الحصارُ مدة أسبوع، وكان الذي قام في خلع السلطان جماعةٌ كثيرة من الأمراء وأعيان المفاردة والبحرية، ولما طال الحصار بعث الخليفةُ العباسي الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراءُ، أيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع المَلِكُ السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيدُ لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفةُ والقضاة والأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنَّه لا يَصلُحُ للمُلك، وخلعَ السعيدُ نفسَه، وحلف أنه لا يتطَرَّقُ إلى غير الكرك، ولا يكاتِبُ أحدًا من النواب، ولا يستميلُ أحد من الجند، وسافر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، فوصل إلى الكرك وتسَلَّمَها في الخامس عشر من جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئًا كثيرًا، ولما تم خلعُ الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراءُ السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع، وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعًا في السلطنة، والأولى ألا يخرجَ الأمر عن ذرية الملك الظاهر، فاستُحسِنَ ذلك منه؛ لأن الفتنة سكنت فإنَّ الظاهرية كانوا معظم العسكرِ، وكانت القلاعُ بيَدِ نواب الملك السعيد، وقصَدَ قلاوون بهذا القَولِ أن يتحَكَّم حتى يغَيِّرَ النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميعُ إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش بن السلطان الظاهر، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابِكَه، وأن يكون إليه أمرُ العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكرُ جميعه على إقامته سلطانًا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقَّبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقَرَّ الأمرُ على ذلك، وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة.
أول من بدأ بالعصيان على السلطان هو تغري برمش الذي استطاع أن يستحوذ على حلب وأعلن عصيانه، فقام السلطان بإنابة غيره على حلب، وبعث بعض الأمراء لتولية الأمراء النواب الجدد، وكانت الأخبار تَرِدُ أن نائب دمشق الأمير إينال الجكمي أيضًا يريد الخروج عن الطاعة، لكن أمره لم يتحقق إلى أن كان يوم الاثنين تاسع رمضان، كان جميع أمراء دمشق وسائر المباشرين بين يدي الأمير إينال، وقد اطمأنَّ كل أحد بأن ملك الأمراء مستمِرٌّ على الطاعة، فما هو إلا أن استقر في مجلسه أشار بالقبض على أعيان أمراء دمشق، فأغلق الباب وقبض على جميع الأمراء والمباشرين، فلما سمع السلطان هذا الخبر اضطرب وتشوش غاية التشويش، وجمع الأمراء واستشارهم في أمر إينال وتغري برمش، فأشار الجميع بسفره، وانفضَّ الموكبُ على أن السلطان يسافر لقتالهما، ثم في يوم الأربعاء ورد الخبر على السلطان أن الأمير قطج أتابك حلب وصل أيضًا إلى حماة، وأن تغري برمش أخذ مدينة عينتاب وقلعتها، وأن عدة من قَبَض عليه الأمير إينال الجكمي من أمراء دمشق تسعة عشر أميرًا، ثم ورد على السلطان كتابُ الأمير فارس نائب قلعة دمشق بأن الأمير إينال الجكمي أمر فنُوديَ بدمشق بالأمان والاطمئنان والدعاء للسلطان الملك العزيز يوسف، ثم في يوم الأربعاء الخامس والعشرين عيَّن السلطان للسفر من أمراء الألوف اثنين، ومن أمراء العشرات عشرة، ثم ورد الخبر على السلطان من الأمير طوغان العثماني نائب القدس بأن إينال الجكمي أطلق الأمراء الذين قبض عليهم قبل تاريخه، وحَلَّفهم للملك العزيز يوسف، ولكن نفرت القلوب بذلك عن إينال الجكمي، وأول من نفر عنه تغري برمش نائب حلب، وقال في نفسه عن إينال: هذا في الحقيقة ليس بخارج عن الطاعة، وإنما قصد بالإشاعة عنه أنه عاصٍ حتى أقدم عليه ويقبض عليَّ تقربًا لخاطر السلطان جقمق، ومن يومئذ أخذ أمر إينال الجكمي في الاضمحلال قليلًا، واستخَفَّ كُلُّ أحد عَقْلَه وتعجَّب من سوء تدبيره، وكاد أخوه سودون العجمي أن يموت قهرًا لَمَّا بلغه عن أخيه إينال ذلك، وهو يوم ذاك من جملة أمراء العشرات بالديار المصرية، ثم ورد الخبر بانكسار تغري برمش وهروبه من حلب إلى الرملة، ثم ورد الخبر على السلطان بأن إينال الجكمي برز بمخيَّمِه من مدينة دمشق إلى ظاهرها، فلما كان يوم الخميس ثالث شوال، عزم هو على الخروج من المدينة بنفسه إلى مخيمه؛ ليسير بمن معه إلى نحو الديار المصرية، فبينما هو في ذلك ركب عليه الأمير قاني باي الأبوبكري الناصري البهلوان أتابك دمشق، وكان ممن وافق الجكمي على العصيان وحسَّن له ذلك ثم تركه ومال إلى جهة السلطان، وركب معه الأمير برسباي الناصري حاجب الحجاب بدمشق، وجميع أمراء دمشق وعساكرها، ولم يبقَ مع إينال من أعيان أمراء دمشق إلا جماعة يسيرة، فلما بلغ إينال الجكمي ركوب هؤلاء عليه، مال عليهم وقاتلهم، فلم يثبتوا له وانهزموا أقبح هزيمة، ثم تراجعوا فحمل عليهم فانكسروا وتمزقوا شذر مذر، ثم إن العسكر المصري وصل إلى الشام وتصادم مع العسكر الشامي بقيادة إينال، وحصلت بينهم وقائع كانت بدايتها بانهزام العسكر المصري ثم تخلى عن إينال أصحابه ومدوا أيديهم إلى النهب في أطلاب النواب لما انهزموا أمام العسكر الشامي، وبقي إينال في أناس قليلة، فحطَّ بهم على العسكر المصري، فثبتوا له وقاتلوه ساعة، وقد تفرقت عنه أصحابه بسبب النهب، فلم يجد مساعدًا، فانهزم بعد أن قتِل من الفريقين جماعة كبيرة جدًّا، فلما أصبح العسكر يوم الخميس ثاني ذي القعدة ورد الخبر عليهم من دمشق بالقبض على إينال الجكمي من قرية حرستا من عمل دمشق ثم في يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة كُتِبَ بقتل إينال الجكمي بسَجنِه بقلعة دمشق، بعد تقريره على أمواله وذخائره، وبقتل جماعة من أصحابه ممن قُبِضَ عليه في الوقعة، وكان قتله بقلعة دمشق في ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة، ثم قَدِمَ الخبر على السلطان بأن العساكر توجهت من دمشق في الحادي عشر ذي القعدة إلى حلب؛ لقتال تغري برمش، هذا وأهل حلب يد واحدة على قتاله، ثم إن العسكر المصري بمن معه من العسكر الشامي لما ساروا من دمشق إلى جهة حلب وافاهم الأمير قاني باي محمزاوي وغيره وصاروا جمعًا واحدًا، فلقيهم تغري برمش بجموعه التي كانت معه قريبًا من حماة، في يوم الجمعة السابع عشر ذي القعدة، وقد صفَّ عساكره من التركمان وغيرهم، حتى ملؤوا الفضاء، فلما وقع بصر عسكره على العساكر السلطانية أخذوا في الانهزام من غير مصافَّة، بل حدث بعض التناوش من صغار الطائفتين، فولوا الأدبارَ ومدت العساكر السلطانية أيديها إلى عساكر تغري برمش، فغنموا منهم غنائم لا تُحصى كثرة، ونُهِبَ جميع وطاق تغري برمش وماله، وانهزم هو في جماعة يسيرة من خواصه إلى جهة التركمان الصوجية، ثم قبضوا عليه بعد ذلك، وكُتِبَ بقتل تغري برمش بعد عقوبته ليقِرَّ على أمواله، فعوقِبَ، فأقر على شيء من ماله، نحو الخمسين ألف دينار؛ ثم أُنزِلَ ونودي عليه تحت قلعة حلب، ثم ضُرِبَت عنُقُه.
عبد السلام مُحمَّد هارون بن عبد الرزاق، وُلِد في مدينة الإسكندرية في 25 من ذي الحجَّة 1326هـ ونشأ في بيتٍ كريمٍ من بُيوت العِلم، فجدُّه عضوُ جماعة كبار العُلَماء، وأبوه كان يتولَّى عند وفاته مَنصِب رئيس التفتيش الشَّرعي في وزارة الحقَّانيَّة (العدل)، أما جدُّه لأُمِّهِ فهو الشيخ محمود بن رضوان الجزيري عضوُ المحكمة العُليا. حَفِظ عبد السلام القُرآنَ الكريمَ، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، والتحق بالأزهر سنة 1340هـ حيث درَسَ العُلوم الدينيَّة والعربيَّة، ثم التحق بتجهيزية دار العلوم بعد اجتيازه مُسابقةً للالتحاقِ بها، وكانت هذه التجهيزيَّة تُعِدُّ الطلبة للالتحاق بمدرسة دار العلوم، وحصل منها على شهادة البكالوريا سنة 1347هـ ثم أتمَّ دراسته بدار العلوم العليا، وتخرَّج فيها سنة 1351هـ، وبعد تخرُّجه عمل مدرسًا بالتعليم الابتدائي، ثم عُيِّن في سنة 1365هـ مُدرسًا بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وهذه هي المرَّة الوحيدة في تاريخ الجامعات التي ينتقلُ فيها مُدرِّس من التعليم الابتدائي إلى السلك الجامعي، بعد أن ذاعت شُهرته في تحقيق التُّراث، ثم عُيِّن في سنة 1370هـ أستاذًا مُساعدًا بكلية دار العلوم، ثم أصبح أُستاذًا ورئيسًا لقسم النحو بها سنة 1379هـ ثم دُعي مع نُخبة من الأساتذة المصريين في سنة 1386هـ لإنشاء جامعة الكُويت، وتولَّى هو رئاسة قِسم اللغة العربية، وقِسم الدراسات العُليا حتى سنة 1394هـ، وفي أثناء ذلك اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1389هـ. وبدأ عبد السلام هارون نشاطه العِلميَّ منذ وقتٍ مُبكِّر، فحقَّقَ وهو في السادسةَ عشرةَ من عُمره كتابَ "مَتْن أبي شُجاع" بضبطه وتصحيحه ومراجعته في سنة 1344هـ، ثم حقَّقَ الجزء الأول من كتاب "خِزانة الأدب" للبغدادي سنة 1346هـ، ثم أكمل أربعةَ أجزاءٍ من الخزانة، وهو طالبٌ بدار العلوم. ولنُبوغه في هذا الفَنِّ اختاره الدكتور طه حُسَين 1363هـ ليكون عضوًا بلجنةِ إحياء تُراث أبي العلاء المعري، وتدور آثاره العلمية في التحقيق حول العِناية بنشر كُتُب الجاحظ، وإخراج المعاجم اللُّغوية، والكُتُب النَّحْوية، وكُتُب الأدب، والمُختارات الشِّعرية. فأخرج كتاب الحيوان في ثماني مُجلَّدات، وكتاب البيان والتبيين في أربعة أجزاءٍ، وكتاب البُرصان والعُرجان والعُميان والحولان، ورسائل الجاحظ في أربعة أجزاء، وكتاب العُثمانية، وأخرج من المعاجم اللُّغوية: مُعجم مقاييس اللغة لابن فارس في ستة أجزاء، واشترك مع أحمد عبد الغفور العطَّار في تحقيق "صحاح العربية" للجوهري في ستة مُجلَّدات، و"تهذيب الصحاح" للزنجاني في ثلاثة مُجلَّدات، وحقَّقَ جزأين من مُعجَم "تهذيب اللغة" للأزهري، وأسند إليه مجمعُ اللغة العربية الإشرافَ على طبع "المعجم الوسيط"، وحقَّقَ من كُتُب النحو واللغة كتاب سيبويه في خمسة أجزاء، وخزانة الأدب للبغدادي في ثلاثة عشر مجلدًا، ومجالس ثعلب في جزأين، وأمالي الزَّجَّاجي، ومجالس العلماء للزَّجَّاجي أيضًا، والاشتقاق لابن دريد. وحقَّقَ من كتب الأدب والمُختارات الشِّعرية: الأجمعيات، والمُفضليَّات بالاشتراك مع العلَّامة أحمد شاكر، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي مع الأستاذ أحمد أمين، وشرح القصائد السَّبْع الطوال لابن الأنباري، والمجلد الخامس عشر من كتاب الأغاني لأبي الفَرَج الأصبهاني. وحقَّقَ من كُتُب التاريخ: جمهرة أنساب العرب لابن حزم، ووقعة صِفين لنصر بن مُزاحم، وكان من نتيجة مُعاناته وتجاربه في التعامُل مع النُّصوص المخطوطة ونشرِها، أن نشر كتابًا في فنِّ التحقيق بعُنوان: "تحقيقُ النصوص ونشرها" سنة 1374هـ، فكان أوَّلَ كتابٍ عربيٍّ في هذا الفنِّ، يُوضِّح مناهجه ويُعالج مشكلاته، أما عن مُؤلَّفاته فله: الأساليبُ الإنشائيَّةُ في النحو العربي، والميسِرُ والأزلام، والتراث العربي، وحول ديوان البحتري، وتحقيقاتٌ وتنبيهاتٌ في معجم لسان العرب، وقواعدُ الإملاء، وكنَّاشة النوادر، ومُعجَم شواهد العربية، ومُعجَم مقيدات ابن خلكان. وعمد إلى بعض الكُتُب الأصول فهذَّبها ويسَّرها، من ذلك: تهذيبُ سيرة ابن هشام، وتهذيبُ إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، والألْفُ المُختارة من صحيح البخاري، كما صنع فهارسَ لمُعجَم تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري في مُجلَّد ضخمٍ. وخُلاصة القول: إن ما أخرجه للناس من آثارٍ سواءٌ أكانت من تحقيقه، أو من تأليفه تجاوزت 115 كتابًا، وقد حصل عبد السلام هارون على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة 1402هـ، وانتخبه مجلس مجمع اللغة العربية أمينًا عامًّا له في 3 من ربيع الآخر 1404هـ، واختاره مجمع اللغة العربية الأردنيُّ عضوَ شرفٍ به. وإلى جانب نشاطه في عالم التحقيق كان الأستاذ عبد السلام هارون أستاذًا جامعيًّا مُتمكنًا، تعرفه الجامعات العربية أستاذًا مُحاضرًا ومُشرفًا ومناقشًا لكثير من الرسائل العلمية التي تزيد عن 80 رسالة للماجستير والدُّكتوراه. تُوُفِّيَ عبد السلام هارون في 28 من شعبان 1408هـ وبعد وفاته أصدرت جامعة الكويت كتابًا عنه بعُنوان: الأستاذ عبد السلام هارون مُعلمًا ومُؤلفًا ومُحققًا.
أخذ السلطان في تجهيز الغزاة وعيَّن جماعة كبيرة من المماليك السلطانية والأمراء، وقام السلطان في الجهاد أتمَّ قيام، ثم في العشرين من هذا الشهر سارت خيول الأمراء والأعيان من المجاهدين في البر إلى طرابلس، وعِدَّتُها نحو ثلاثمائة فرس؛ لتحمل من طرابلس صحبة غزاتها في البحر، ثم في يوم الخميس تاسع شوال ورد الخبر من طرابلس بنصرة المسلمين على الفرنج، وبينما الناس مستبشرون في غاية ما يكون من السرور والفرح بنصر الله قَدِمَ الخبر في يوم الاثنين الثالث عشر شوال بوصول الغُزاة المذكورين إلى الطينة من مصر، وكان من خبرهم أنهم لما توجهوا من ساحل بولاق إلى دمياط ساروا منه في البحر المالح إلى مدينة طرابلس فطلعوا إليها، فانضم عليهم بها خلائق من المماليك والعساكر الشامية وجماعة كبيرة من المطوعة إلى أن رحلوا عن طرابلس في بضعة وأربعين مركبًا، وفي يوم الجمعة ثاني رجب سار أربعة أمراء إلى الجهاد، وهم تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وقد جُعِل مقدَّمَ عسكر البر، والأمير أينال الجكمي أمير مجلس، وجُعِل مقدَّمَ عسكر البحر، والأمير تغري برمش، والأمير مراد خجا، وتبعهم المجاهدون، وتوجهوا في النيل أرسالًا حتى كان آخرهم سفرًا في يوم السبت الحادي عشر، ثم في شهر شعبان في خامسه قدم الخبر بأن طائفة من الغزاة لما ساروا من رشيد إلى الإسكندرية وجدوا في البحر أربع قطع بها الفرنج، وهي قاصدة نحو الثغر، فكتبوا لمن في رشيد من بقيتهم بسرعة لحاقهم، وتراموا هم والفرنج يومهم، وباتوا يتحارسون، واقتتلوا من الغد، فما هو إلا أن قَدِمَت بقية الغزاة من رشيد، فولى الفرنج الأدبار بعدما استُشهد من المسلمين عشرة. وصلت في رجب عساكر المسلمين الماغوصة لغزو قبرص، فنزلوا عليها بأجمعهم، وخيَّموا في برها الغربي، وقد أظهر متملك الماغوصة طاعة السلطان الأشرف برسباي وعرَّفهم تهيؤَ صاحب قبرص واستعداده لقتالهم وحربهم، فاستعدوا وأخذوا حِذْرَهم وباتوا بمخيمهم على الماغوصة، وهي ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، ولما أصبحوا يوم الاثنين شنُّوا الغارات على ما بغربيِّ قبرص من الضِّياع، ونهبوا وأسروا وقتلوا وأحرقوا وعادوا بغنائم كثيرة، ثم ساروا ليلة الأربعاء يريدون الملاحة، وتركوا في البر أربعمائة من الرجَّالة يسيرون بالقرب منهم إلى أن وصلوا إليها ونهبوها وأسَروا وأحرقوا أيضًا، ثم ركبوا البحر جميعًا وأصبحوا باكر النهار فوافاهم الفرنج في عشرة أغربة -نوع من المراكب- وقرقورة كبيرة، فلم يثبتوا للمسلمين وانهزموا من غير حرب، واستمر المسلمون بساحل الملاحة وقد أرست مراكبهم عليها، وبينما هم فيما هم فيه كرَّت أغربة الفرنج راجعة إليهم، وكان قصد الفرنج بعودهم أن يخرج المسلمون إليهم فيقاتلوهم في وسط البحر، فلما أرست المسلمون على ساحل الملاحة كرَّت الفرنج عليهم، فبرز إليهم المسلمون وقاتلوهم قتالًا شديدًا إلى أن هزمهم الله تعالى، وعادوا بالخِزي، وبات المسلمون ليلة الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فلما كان بُكرة نهار الجمعة أقبل عسكر قبرص وعليهم أخو الملك، ومشى على المسلمين، فقاتله مقدار نصف عسكر المسلمين أشد قتال حتى كسروهم، وانجَلَت المعركة عن وقوع جينوس بن جاك متمَلِّك قبرص في الأسر بأمر من عند الله يُتعَجَّبُ منه؛ لكثرة مَن معه وقوتهم، وقلَّة من لَقِيَه، ووقع في الأسر عدة من فرسانه، فأكثر المسلمون من القتل والأسر، وانهزم بقية الفرنج، ووُجد معهم طائفة من التركمان قد أمدهم بهم علي بك بن قرمان، فقُتِل كثير منهم، واجتمع عساكر البر والبحر من المسلمين في الملاحة في يوم الاثنين ثانيه، وقد تسلم ملك قبرص الأمير تغري بردي المحمودي، وكثرت الغنائم بأيدي الغُزاة، ثم ساروا من الملاحة يوم الخميس خامسه يريدون الأفقسية، مدينة الجزيرة، ودار مملكتها، فأتاهم الخبر في مسيرهم أن أربعة عشر مركبًا للفرنج قد أتت لقتالهم، منها سبعة أغربة -نوع من المراكب- وسبعة مربعة القلاع، فأقبلوا نحوها وغنموا منها مركبًا مربعًا، وقتلوا عدة كثيرة من الفرنج، وتوجه الغزاة إلى الأفقسية وهم يقتلون ويأسِرون ويغنمون، حتى دخلوها، فأخذوا قصر الملك، ونهبوا جانبًا من المدينة، وعادوا إلى الملاحة بعد إقامتهم بالأفقسية يومين وليلة، فأراحوا بالملاحة سبعة أيام، وهم يقيمون شعائر الإسلام, وكان من خبر ذلك أن الغُزاة نازلوا قلعة اللمسون حتى أخذوها عَنوةً في يوم الأربعاء السابع والعشرين شعبان، وهدموها وقتلوا كثيرًا من الفرنج وغنموا، ثم ساروا بعد إقامتهم عليها ستة أيام، في يوم الأحد أول شهر رمضان وقد صاروا فرقتين؛ فرقة في البر، وفرقة في البحر، حتى كانوا فيما بين اللمسون والملاحة، إذا هم بجينوس بن جاك متملك قبرص قد أقبل في جموعِه، فكانت بينه وبين المسلمين حرب شديدة، ثم ركبوا البحر عائدين بالأسرى والغنيمة في يوم الخميس الثاني عشر، وقد بعث أهل الماغوصة يطلبون الأمان، ثم في يوم الاثنين الثالث والعشرين رمضان قدم الخبر في النيل بأخذ جزيرة قبرص وأسْر ملكها، وفي يوم الأحد سابع شهر شوال قَدِمَ الأمير تغري بردي المحمودي والأمير أينال الجكمي -مُقَدَّمَا الغُزاة المجاهدين- بمن معهما من العسكر، وصُحبتهم جينوس بن جاك متملك قبرص، وعاد ومن أسروه وسَبَوه من الفرنج، وما غنموه، وجميعهم في مراكبهم التي غزوا قبرص فيها، فمروا على ساحل بولاق حتى نزلوا بالميدان الكبير، فكان يومًا مشهودًا، ثم طال الكلام فيما يَفدي به نفسه، وطُلِبَ منه خمسمائة ألف دينار، فتقرر الصلح على مائتي ألف دينار، يقوم منها مائة ألف دينار، فإذا عاد إلى مُلكِه بعث بمائة ألف دينار، ويقوم في كل سنة بعشرين ألف دينار، واشترط على السلطان أن يكُفَّ عنه الطائفة البندقية وطائفة الكيتلان.