لَمَّا فَرَغ عبدُ المؤمِنِ مِن فاس، سار إلى مراكشَ، وهي كرسيُّ مَملكةِ المُرابِطينَ، وهي مِن أكبَرِ المُدُنِ وأعظَمِها، وكان صاحِبُها حينئذ إسحاقَ بنَ عليِّ بنِ يوسف بن تاشفين، وهو صَبيٌّ، فنازلها، فضَرَب خيامَه في غَربيِّها على جَبَل صغيرٍ، وبنى عليه مدينةً له ولِعَسكَرِه، وبنى بها جامِعًا وبنى له بناءً عاليًا يُشرِفُ منه على المدينةِ، ويرى أحوالَ أهلِها وأحوالَ المُقاتِلينَ مِن أصحابِه، وقاتَلَها قِتالًا كثيرًا، وأقام عليها أحدَ عَشَرَ شَهرًا، فكان مَن بها من المُرابِطينَ يَخرُجونَ يُقاتِلونَهم بظاهرِ البلد، واشتد الجوعُ على أهلِه، وتعَذَّرَت الأقواتُ عِندَهم. ثمَّ زَحَف إليهم يومًا، وجعل لهم كمينًا، وقال لهم: إذا سَمِعتُم صوتَ الطَّبلِ فاخرُجوا. تقَدَّمَ عَسكَرُه، وقاتلوا، وصَبَروا، ثمَّ انهزموا لأهلِ مراكش لِيَتبَعوهم إلى الكمينِ الذي لهم، فتَبِعَهم المُلَثَّمونَ إلى أن وصلوا إلى مدينةِ عبد المؤمن، فهَدَموا أكثَرَ سُورِها، وصاحت المَصامِدة بعبدِ المؤمِنِ ليأمُرَ بضَربِ الطَّبلِ لِيَخرُجَ الكَمينُ، فقال لهم: اصبِروا حتى يَخرُجَ كُلُّ طامعٍ في البَلَدِ، فلمَّا خرج أكثَرُ أهلِه، أمر بالطَّبلِ فضُرِبَ وخَرَج الكمينُ عليهم، ورجَعَ المصامِدةُ المُنهَزمينَ إلى المُلَثَّمينَ، فقتلوا كيف شاؤوا، وعادت الهزيمةُ على المُلَثَّمين، فمات في زحمةِ الأبوابِ ما لا يُحصيه إلَّا اللهُ سُبحانَه. وكان شيوخُ المُلَثَّمين يُدَبِّرونَ دَولةَ إسحاقَ بنِ علي بن يوسف لصِغَرِ سِنِّه، فاتفق أنَّ إنسانًا مِن جملتهم يقال له عبدُ الله بن أبي بكر خرج إلى عبدِ المؤمِنِ مُستأمِنًا وأطلعه على عَوراتِهم وضَعْفِهم، فقَوِيَ الطمعُ فيهم، واشتَدَّ عليهم البلاءُ، ونُصِبَ عليهم المنجنيقاتُ والأبراجُ، وفَنِيَت أقواتُهم، وأكلوا دوابَّهم، ومات مِن العامَّةِ بالجوعِ ما يزيدُ على مئة ألف إنسان، فأنتن البَلَدُ مِن ريحِ الموتى. وكان بمراكش جيشٌ مِن الفرنج كان المرابِطونَ قد استنجدوا بهم، فجاؤوا إليهم نجدةً، فلمَّا طال عليهم الأمرُ، راسلوا عبد المؤمِنِ يسألونَ الأمانَ فأجابَهم إليه، ففَتَحوا له بابًا من أبواب البلدِ يقال له بابُ أغمات، فدخَلَت عساكِرُه بالسيف، وملكوا المدينةَ عَنوةً، وقَتَلوا مَن وجدوا، ووصلوا إلى دارِ أمير المُسلِمينَ، فأخرجوا الأميرَ إسحاقَ وجميعَ مَن معه من أمراء المرابطين فقُتِلوا، وجَعَل إسحاقُ يرتَعِدُ رَغبةً في البقاء، ويدعو لعبدِ المؤمِنِ ويبكي، فقام إليه سَيرُ بن الحاج، وكان إلى جانِبِه مكتوفًا فبَزَق في وجهِه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟ اصبِرْ صَبْرَ الرجالِ؛ فهذا رجلٌ لا يخافُ اللهَ ولا يَدينُ بدِينٍ. فقام الموحِّدونَ إلى ابنِ الحاجِّ بالخَشَبِ فضَرَبوه حتى قَتَلوه، وكان من الشُّجعانِ المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاقُ على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عُنُقُه سنة 542، وهو آخِرُ ملوكِ المرابطين، وبه انقَرَضَت دولتُهم، وكانت مُدَّةُ ملكِهم سبعين سَنة، ووَلِيَ منهم أربعةٌ: يوسف، وعلي، وتاشفين، وإسحاق. ولَمَّا فتَحَ عبدُ المؤمِنِ مراكش أقام بها، واستوطَنَها واستقَرَّ مُلكُه. قال ابنُ الأثير: "لَمَّا قَتَل عبدُ المؤمن مِن أهلِ مراكش فأكثَرَ فيهم القَتلَ، اختفى مِن أهلِها، فلَمَّا كان بعد سَبعةِ أيَّامٍ أمَرَ فنُودِيَ بأمانِ مَن بَقِيَ مِن أهلِها، فخَرَجوا، فأراد أصحابُه المَصامِدةُ قَتْلَهم، فمَنَعَهم، وقال: هؤلاء صُنَّاعٌ، وأهلُ الأسواقِ مَن ننتَفِعُ به، فتُرِكوا، وأمَرَ بإخراجِ القتلى مِن البَلَد، فأخرَجوهم، وبنى بالقَصرِ جامِعًا كبيرًا، وزخرَفَه فأحسَنَ عَمَلَه، وأمر بهَدمِ الجامع الذي بناه أميرُ المُسلِمينَ يوسُفُ بن تاشفين. ولقد أساء يوسُفُ بن تاشفين في فِعْلِه بالمُعتَمِد بنِ عَبَّاد صاحِبِ إشبيلية، وارتكَبَ بسَجنِه على أسوأِ حالةٍ وأقبَحِ مَركَبٍ، فلا جرَمَ سَلَّطَ الله عليه في عَقِبه مَن أربى في الأخذِ عليه وزاد، فتبارك الحيُّ الدائِمُ الملك، الذي لا يزولُ مُلكُه، وهذه سُنَّةُ الدنيا، فأُفٍّ لها، ثمَّ أُفٍّ، نسألُ اللهَ أن يَختِمَ أعمالَنا بالحُسنى.
كان وصولُ نبأ سقوط مملكةِ بيت المقدس إلى أوروبا كنتيجةٍ لمعركة حطين صاعِقًا لنصارى أوربا. فإنَّ البابا أوربان الثامن ما إن علم بما حدث حتى توفي من وقْعِ الصدمة. ودعا خليفَتَه البابا غريغوريوس الثامن بمنشور باباوي إلى حملةٍ صليبية جديدة، وأمَرَهم بالصيام كلَّ أسبوع في يوم الجمعة على امتدادِ خمس سنوات، كما أمَرَهم بالامتناع كليًّا في هذه الحقبة من الزَّمَنِ عن أكل اللحم مرَّتينِ في الأسبوع، والدعوة إلى المشاركة في حربٍ صليبية لاسترداد بيت المقدس, وقد قام بهذه الدعوة ببالغِ الهِمَّة الكاردينال إنريكو من ألبانو، وبعد شهرين حلَّ البابا كليمنت الثالث مكانَ غريغوريوس، واستكمل المهمَّةَ، وقام الكاردينالات بالتطوافِ مَشيًا على الأقدام في عموم فرنسا وإنجلترا وألمانيا. فجهَّزَ نصارى أوروبا ثلاثَ حملات ألمانية وإنكليزية وفرنسية، كل ذلك لمحاولة استرداد بيت المقدس، وصَلَت الحملتان الإنكليزية والفرنسية بحرًا سنة 586 إلى عكا، وساهمت في الحصار البحري، وكان فيهم ريتشارد المعروف بقلب الأسد، أما الحملة الألمانية فكان مَلِكُهم فريدريك الأول بربروسا، أوَّل من تحرك من ملوك أوربا لنصرة بيت المقدس وجمع عساكِرَه وسار للجهاد بزعمه. تحركت القوات الألمانية قبل غيرِها وهم من أكثر الحَمَلات عددًا، وأشدِّهم بأسًا، فكان طريقُهم على القسطنطينية، فأرسل ملكُ الروم بها إلى صلاح الدين يُعَرِّفُه الخبر ويَعِدُ أنَّه لا يمَكِّنُه من العبور في بلاده، فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينية عجَزَ مَلِكُها عن منعه من العبورِ لكثرة جموعه، لكنَّه منع عنهم الميرة، ولم يمكِّنْ أحدًا من رعيَّتِه من حمل ما يريدونَه إليهم، فضاقت بهم الأزوادُ والأقوات، وساروا حتى عَبَروا خليجَ القسطنطينية، وصاروا على أرضِ بلاد الإسلام، وهي مملكةُ الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمانُ الأوج، فما زالوا يسايرونَهم ويَقتُلونَ مَن انفرد ويَسرِقونَ ما قدروا عليه، وكان الزمانُ شتاء والبرد يكونُ في تلك البلاد شديدًا، والثلجُ متراكمًا، فأهلكهم البردُ والجوع والتُّركمانُ، فقَلَّ عَدَدُهم، فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم المَلِك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنَعَهم، فلم يكُن له بهم قوَّة، فعاد إلى قونية، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثَرِه، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هديةً وقالوا له: ما قصَدْنا بلادَك ولا أردناها، وإنما قصَدْنا بيت المقدس، وطلبوا منه أن يأذن لرعيَّتِه في إخراجِ ما يحتاجون إليه مِن قُوتٍ وغيره، فأذِنَ في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشَبِعوا، وتزوَّدوا، وساروا، وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحِبُها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمَدَّهم بالأقوات والعلوفات، وحَكَّمَهم في بلاده، وأظهر الطاعةَ لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقِهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل مَلِكُهم إليه ليغتسل، فغَرِقَ في مكانٍ منه لا يبلغ الماءُ وسَطَ الرجُل، وكفى اللهُ شَرَّه، وكان معه ولدٌ له، فصار ملكًا بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابُه عليه، فأحب بعضُهم العود إلى بلاده، فتخَلَّفَ عنه، وبعضُهم مال إلى تمليكِ أخٍ له، فعاد أيضًا، وسار فيمن صَحَّت نيتُه له، فعَرَّضَهم، وكانوا نيفًا وأربعين ألفًا، ووقَعَ فيهم الوباءُ والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نُبِشوا من القبورِ، فتبَرَّمَ بهم صاحبُها، وحَسَّنَ لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكَّا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمونَ، وخرج أهلُ حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقًا كثيرًا، ومات أكثَرُ مَن أُخِذَ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أيامًا، فكَثُرَ فيهم الموت، فلم يبقَ منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنجِ الذين على عكا، ولَمَّا وصولوا رأوا ما نالهم في طريقِهم وما هم فيه من الاختلافِ عادوا إلى بلادهم، فغرقت بهم المراكِبُ ولم ينجُ منهم أحدٌ.
جرَّد السلطان قلاوون الأميرَ عِزُّ الدين أيبك الأفرم أمير جاندرا إلى بلاد النوبة، ومعه من الأمراء قبجاق المنصوري وبكتمر الجوكندار، وأيدمر والي قوص، وكثير من الأمراء، وسائرُ أجناد المراكز بالوجه القبلي، ونواب الولاة، ومن عُربان الوجهين القبلي والبحري عدة أربعين ألف راجل، ومعهم متمَلِّك النوبة وجريس، فساروا في ثامن شوال، وصَحِبَتهم خمسمائة مركب ما بين حراريق ومراكب كبار وصغار تحمِلُ الزاد والسلاح والأثقال، فلما وصلوا ثغر أسوان مات متمَلِّك النوبة ونائبه، فدُفِن بأسوان، فطالع الأميرُ عز الدين الأفرم السلطانَ بموته، فجَهَّزَ إليه من أولاد أخت الملك داود رجلًا كان بالقاهرة ليملِّكَه، فأدرك العسكرَ على خيل البريد بأسوان وسار معه، وقد انقسموا نصفين: أحدهما الأميرُ عز الدين الأفرم وقبجاق في نصف العسكرِ مِن الترك والعَرَب في البر الغربي، وسار الأمير أيدمر والي قوص والأمير بكتمر بالبقية على البر الشرقي، وتقَدَّمَهم جريس نائب ملك النوبة ومعه أولاد الكنز؛ ليؤمِّنَ أهل البلاد ويجهِّز الإقامات، فكان العسكرُ إذا قَدِمَ إلى بلد خرج إليه المشايخ والأعيان، وقَبَّلوا الأرض وأخذوا الأمان وعادوا، وذلك من بلد الدو إلى جزائر ميكائيل، وهي ولاية جريس، وأما ما عدا ذلك من البلاد التي لم يكن لجريس عليها ولاية، من جزائر ميكائيل إلى دنقلة، فإنَّ أهلَها جلوا عنها طاعة لمتمَلِّك النوبة، فنهبها العسكرُ وقَتَلوا من وجدوه بها، ورَعَوا الزروع وخرَّبوا السواقي إلى أن وصلوا مدينةَ دنقلة، فوجدوا المَلِكَ قد أخلاها حتى لم يبقى بها سوى شيخ وعجوز، فأخبر أنَّ المَلِكَ نزل بجزيرةٍ في بحر النيلِ بُعدُها عن دنقلة خمسة عشر يومًا، فتتبعه والي قوص، ولم يقدِرْ مركب على سلوك النيل هناك لتوعُّرِ النيل بالأحجارِ. وفي جمادى الأولى من عام 689 هـ وصل أيدمر والي قوص ممَّن معه إلى اتجاه الجزيرة التي بها سمامون ملك النوبة، فرأوا بها عدة من مراكب النوبة، فبعثوا إليه في الدخولِ في الطاعةِ وأمَّنوه فلم يقبَلْ، فأقام العسكرُ تجاهه ثلاثة أيام، فخاف سمامون من مجيءِ الحراريق والمراكبِ إليه، فانهزم إلى جهةِ الأبواب، وهي خارجةٌ عن مملكتِه، ففارقه السواكرة وهم الأمراء وفارقه الأسقُفُ والقُسوس، ومعهم الصليبُ الفِضَّة الذي كان يُحمَلُ على رأسِ الملك، وتاجُ الملك، وسألوا الأمان فأمَّنَهم أيدمر وخلَعَ على أكابِرِهم، وعادوا إلى مدينةِ دنقلة وهم جمعٌ كبير، وعند وصولهم عبر الأمير عزُّ الدين الأفرم وقبجاق إلى البر الشرقي، وأقام العسكرُ مكانه، واجتمع الأمراءُ بدنقلة، ولبس العسكرُ آلةَ الحرب وطلبوا من الجانبينِ، وزُيِّنَت الحراريق في البحر، ولعب الزرَّاقون بالنِّفاط، ومدَّ الأمراء السماط في كنيسةِ أسوس أكبَرِ كنائس دنقلة وأكلوا، ثم ملَّكوا الرجلَ الذي بعثه السلطانُ قلاوون وألبسوه التاجَ، وحلفوا وسائِرَ الأكابرِ، وعينوا طائفةً من العسكر تقيمُ عندهم وعليها بيبرس العزي مملوكُ الأمير عزِّ الدين، وعاد العسكرُ إلى أسوان بعدما غاب عنها ستة أشهر، وساروا إلى القاهرةِ في آخر جمادى الأولى بغنائِمَ كثيرة، وأما سمامون فإنَّه عاد إلى دنقلة مختفيًا، وصار بطريقِ باب كلِّ واحد من السواكرة ويستدعيه، فإذا خرج ورآه قَبَّلَ له الأرضَ وحلف له، فما طلع الفجرُ حتى ركِبَ معه سائرُ عَسكرِه، وزحف سمامون بعسكره على دار الملك، وأخرج بيبرس العزي ومَن معه إلى قوص، وقَبَض على الذي تمَلَّك مَوضِعَه وعرَّاه من ثيابه، وألبسه جلدَ ثورٍ كما ذُبِحَ ولَفَّها عليه، ثمَّ أقامه مع خشبةٍ وتركه حتى مات، وقُتِلَ جريس أيضًا، وكتب سمامون إلى السلطانِ يسأله العفو، وأنَّه يقوم بالمقرَّر وزيادة، وبعث رقيقًا وغيره تقدمةً فقَبِلَ منه، وأقرَّه السلطانُ بعد ذلك بالنوبةِ.
اتَّفَقَت مماليكُ يلبغا الأجلاب يوم الجمعة سادس صفر على الأميرِ أسندَمُر الناصري أمير كبير أتابك العساكر ومدَبِّر المملكة ونائب السلطنة، وركبوا معهم الأمراء وقت صلاة الجمعة، ودخلوا على أسندمر الناصري وسألوه أن يُمسِكَ جماعة من الأمراء، فمَسَك أزدمر العزي أمير سلاح وجركتمر المنجكي أمير مجلس، وبيرم العزي الدوادار الكبير، وبيبغا القوصوني، والأمير آخور كبك الصرغتمشي الجوكندا، واستمَرَّ المماليك لابسين السلاح، وأصبحوا يوم السبت ومَسَكوا خليل بن قوصون ثم أطلقوه، وانكسرت الفتنةُ إلى عشية النهار وهي ليلة الأحد، وقالوا لأسندمر: نريد عَزْلَ الملك الأشرف، وكان أسندمر مقهورًا معهم، وبلغ الخبَرُ المَلِكَ الأشرف، فأرسل في الحال إلى خليل بن قوصون فحضر، ورَكِبَ الملك الأشرف وركب ابن قوصون ومماليك الأشرف الجميعُ مع أستاذهم، وكانوا نحو المائتين لا غير، وكان الذين اجتمعوا من مماليك يلبغا فوق الألف وخمسمائة، وركِبَ مع الملك الأشرف جماعةٌ مِن الأمراء الكبار مثل أسنبغا ابن الأبو بكري وقشتمر المنصوري في آخرين، وضُرِبَت الكوسات، واجتمع على السلطان خلقٌ كثير من العوام، ولَمَّا بلغ أسندمرَ الناصري ركوبُ الملك الأشرف، أخذ جماعةً من مماليك يلبغا، وطلع من خلف القلعةِ كما فعل أولًا في واقعة آقبغا الجلب، وتقَدَّمت مماليك يلبغا وصَدَموا المماليك الأشرفية وتقاتلوا، وبينما هم في ذلك جاء أسندمر بمن معه من تحت الطبلخاناه كما فعل تلك المرَّة، فعلم به الأشرفيَّة والأمراء، فمالوا عليه فكَسَروه أقبحَ كَسرةٍ وقرب أسندمر، ثم أُمسِكَ وتمَزَّقَت المماليك اليلبغاوية، فلما جيءَ للأشرف بأسندمر وحضر بين يديه شفع فيه الأمراءُ الكبار، فأطلقه السلطان ورسم له أن يكون أتابكًا على عادتِه، ورسم له بالنزول إلى بيتِه بالكبش، ورسم للأمير خليل بن قوصون أن يكون شريكَه في الأتابكية، فنزل أسندمر إلى بيتِه ليلة الاثنين، وأرسل السلطانُ معه الأمير خليل بن قوصون صفةَ الترسيم، وهو شريكُه في وظيفة الأتابكية، ليُحضِرَه في بكرة نهار الاثنين، فلما نزلا إلى الكبش، تحالفَا وخامرا ثانيًا على السلطانِ، واجتمع عند أسندمر وخليل بن قوصون في تلك الليلة جماعةٌ كبيرة من مماليك يلبغا، وصاروا مع أسندمر كما كانوا أولًا، وأصبحا يوم الاثنين وركبا إلى سوق الخيل، فركب السلطانُ بمن معه من الأمراء والمماليك الأشرفية وغيرهم، فالتَقَوا معهم وقاتلوهم وكسَروهم، وقتلوا جماعةً كبيرة من مماليك يلبغا، وهرب أسندمر وابن قوصون واشتغل مماليكُ السلطان والعوام بمَسكِ مماليك يلبغا، يمسِكونَهم ويحضرونهم عرايا مُكَشَّفي الرؤوس، وتوجه فِرقة من السلطانية إلى أسندمر وابن قوصون فقَبَضوا عليهما وعلى ألطنبغا اليلبغاوي وجماعة أُخَر من الأمراء اليلبغاوية، فقُيِّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية، ثم جَلَس الملك الأشرف شعبان في الإيوان وبين يديه أكابِرُ الأمراء، ورسم بتسميرِ جماعةٍ مِن مماليك يلبغا نحوَ المائة وتوسيطِهم- أي: قتلهم- ونفى جماعة منهم إلى الشام، وأخذ مال أسندمر وأنفق على مماليكِه لكُلِّ واحد مائة دينار، ولكُلِّ واحد من غير مماليكِه خمسون دينارًا، ورسم للأمير يلبغا المنصوري باستقراره أتابك العساكر هو والأمير ملكتمر الخازندار، وأنعم على كلٍّ منهما بتقدمة ألف، وأنعم على تلكتمر بن بركة بتقدمة ألفٍ عوضًا عن خليل بن قوصون، وكان ذلك في سادس عشر صفر، ثم أصبح السلطانُ من الغد يوم الثلاثاء سابع عشر صفر قبض على يلبغا المنصوري ورفيقه تلكتمر المحمدي؛ لأنَّهما أرادا الإفراج عن مماليك يلبغا العمري، وقَصَد يلبغا المنصوري أن يسكن بالكبش، فمسكهما الملكُ الأشرف وأرسلهما إلى الإسكندرية، ثم أرسل السلطانُ بطلب الأمير منكلي بغا الشمسي نائب حلب إلى الديار المصرية، فحضرها بعد مدَّة وخَلَع عليه السلطانُ خِلعةَ النيابة بديار مصر، فأبى أن يكون نائبًا، فأنعم عليه بتقدمة ألفٍ وجعله أتابك العساكر، وتولى نيابةَ حلب عِوَضَه طيبغا الطويلُ، وكان أخرجه من سِجنِ الإسكندرية قبل ذلك.
هو العلامةُ المجتهد السيد الحسني صاحب التصانيف: الأمير محمد بن إسماعيل الكحلاني، ثم الصنعاني. ولِدَ ليلة الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة 1099هـ بكحلان ثم انتقل مع أسرته إلى صنعاء سنة 1107هـ وأخذ عن علمائها، ووالده كان من الفضلاء الزاهدين في الدنيا الراغبين في العمل، وله شعر جيد، مات في ثالث شهر ذي الحجة سنة 1142هـ. رحل الصنعاني إلى مكة وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وأظهر الاجتهاد وعَمِل بالأدلة، ونفر عن التقليد وزيَّف ما لا دليلَ عليه من الآراء الفقهية، وجرت له مع أهل عصره خطوبٌ ومِحَنٌ، منها في أيام المتوكل على الله القاسم بن الحسين، ثم في أيام ولده الإمام المنصور بالله الحسين بن القاسم، ثم في أيام ولده الإمام المهدى العباس بن الحسين، وتجمع العوامُّ لقتلِه مرة بعد أخرى، وحفظه الله من كيدهم ومكرهم، وكفاه شرهَّم، وولاه الإمامُ المنصور بالله الخطابةَ بجامع صنعاء، فاستمر كذلك إلى أيام ولده الإمام المهدي، واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرِهم في الخطبة الأخرى، فثار عليه جماعةٌ من آل الإمام الذين لا أنسةَ لهم بالعلم، وعضَّدهم جماعة من العوام وتواعدوا فيما بينهم على قتلِه في المنبر يوم الجمعة المقبلة، ولم يفلحوا، واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا، وما زال في محَنٍ من أهل عصره، ووقعت له فِتَن كبار وقاه الله شَرَّها, وكان الصنعاني قد بدأ بعقد حلقات العلم ولَمَّا يُتِمَّ الرابعة والعشرين من عمره, فقد كان بارعًا في الفقه والأصول، ومؤلفاته تنمُّ عن سعة علمه وجودة ذهنه، واستحضاره للأدلة ومناقشتها، واستخراج الأحكام الفقهية، وكان يدعو إلى تجديد الدين والعودة إلى أصوله وحقيقته كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ ولذلك لَمَّا بلغته دعوةُ الشيخ المجدد أيَّدَها وأرسل للشيخ قصيدةً يثني فيها عليه وعلى دعوته، ومما قاله فيها: سلامي على نجدٍ ومن حلَّ في نجـدِ وإن كان تسليمي على البعدِ لا يُجدي وقد صدرت من سفحِ صنعا سقى الحيا رباهـا وحـياهـا بقهقهة الرعـدِ سرت من أسير ينشد الريح أن سرت ألا يا صبا نجـدٍ متى هِجتَ من نجـدِ قفي واسألي عن عالمٍ حَـَّل سوحها به يهتدي من ضَلَّ عن منهج الرشدِ محمَّـد الهـادي لسنة أحمـد فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرَت كلُّ الطوائف قولَهبلا صدَرٍ في الحقِّ منهم ولا وردِ وللإمام الصنعاني مؤلفات كثيرة، منها: التحبير لإيضاح معاني التيسير، وهو شرح كتاب تيسير الوصول لابن الديبع, والتنوير شرح الجامع الصغير، وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار, وثمرات النظر في علم الأثر, والعدة على شرح العمدة، وهو مليء بالفوائد الفقهية والأصولية، وتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد, وحاشية على البحر الزخار في الفقه الزيدي, وسبل السلام اختصره من البدر التمام للمغربي, ومنحة الغفار جعلها حاشية على ضوء النهار للجلال, وشرح التنقيح في علوم الحديث للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، وسماه التوضيح, ومنظومة الكافل لابن مهران في الأصول وشرحها شرحًا مفيدًا, وله مصنفات غير هذه، وقد أفرد كثيرًا من المسائل بالتصنيف بما يكون جميعه في مجلدات، وله شعر فصيح منسجم، جمعه ولده العلامة عبد الله بن محمد في مجلد، وغالبه في المباحث العلمية والتوجع من أبناء عصره والردود عليهم، وبالجملة فهو من الأئمة المجدِّدين لمعالم الدين. أما وفاته فقد أصيب بالحمى والإسهال الشديد حتى توفي في الثالث من شعبان من هذا العام, وقد بلغ من العمر ثمانين سنة. ونظم بعضُهم تاريخه، ورثاه شعراءُ العصر وتأسَّفوا عليه.
هو أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي، أميرُ الشعراء، ولد بالقاهرة سنة 1285 ونشأ بها، أمَّا أصلُه فأبوه تركي، وأمُّه يونانية. يقول شوقي عن نفسه: إني عربي، تركي، يوناني، جركسي، أصولٌ أربعة في فروع مجتمعة، تكفلها له مصر، وقد سمع أباه يردُّه إلى الأكراد فالعرب، ويقول: إنَّ والده قَدِمَ هذه الديار يافعًا يحمِلُ وصاةً من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد على باشا، فأدخَلَه في معيَّتِه، وظَلَّ يتقَلَّبُ في المناصب السامية حتى أقامه سعيد باشا أمينًا للجمارك المصرية. نشأ أحمد شوقي في بيئة مُترَفة؛ إذ عاش في قصر خديوي مصر؛ حيث كانت جدَّتُه من وصيفات القصر، ودخل كتَّابَ الشيخ صالح بحي السيدة زينب بالقاهرة وهو في الرابعة من عمره، ثم مدرسة المبتديان الابتدائية، ومنها إلى المدرسة التجهيزية، وقد مُنِحَ المجانية نظرًا لتفوُّقِه؛ قال الشعر في الرابعة عشرة من عمره، وأُعجِبَ به أستاذه الشيخ (حسين المرصفي).
وممَّا يدُلُّ على نبوغه الشعري المبكر أنَّ أستاذه في اللغة العربية، وكان شاعرًا فصيحًا بهر بشاعريَّتِه، فكان يجلِسُ منه مجلسَ التلميذ من أستاذه، وكان هذا الشيخُ يَنظِمُ القصائد الطوال في مدح الخديوي توفيق، كلما حلَّ موسم أو جاء عيد، وقبل أن يرسِلَها إلى القصر لكي تُنشَرَ في الصحف يَعرِضُها على شوقي، فيُصلِحُ شوقي فيها، فيمحو هذه الكلمة أو تلك، ويعدل هذا الشطر أو ذاك، أو يُسقِطُ بعض الأبيات، وبعد أن أتمَّ أحمد شوقي تعليمه الثانوي التحق بمدرسة الحقوق لدراسة القانون، وقضى بها سنتين، ثم انضمَّ إلى قسم الترجمة ونال بعد سنتين إجازة للترجمة. وبحُكم تربيته في قصر الخديوي فقد أخذ يُنشِدُ قصائده في مدح الخديوي توفيق، وقد نُشِرَت أولى قصائده في جريدة الوقائع المصرية، ونظرًا لصلة شوقي بالقصر فقد أرسله الخديوي على نفقته في بعثة إلى فرنسا لإتمام دراسته في الحقوق والآداب بجامعة مونبليه بباريس، وعاد شوقي إلى مصر، فعَمِلَ في قسم الترجمة بالقصر، وظلَّ يتدرَّجُ في المناصب حتى أصبح رئيسًا لهذا القسم، وأصبح قريبًا من الخديوي عباس حلمي الذي خلف الخديوي توفيق، وأنيسَ مجلِسِه ورفيق رحلته، وأخذ شوقي يمدحُه بقصائده، حتى سمِّيَ (شاعر الأمير) ولَمَّا شبَّت الحرب العالمية الأولى خلعت إنجلترا بقوةِ الاحتلالِ الخديوي عن عرش مصر، ورأى الإنجليز يومئذ أن يغادر أحمد شوقي البلادَ بسبب شدة ولائه للخديوي، فاختار شوقي برشلونة من أعمال إسبانيا مقرًّا له ولأسرته، ولم يَعُدْ إلى مصر إلا بعد أن عاد السلام إلى العالم، فجُعِلَ من أعضاء مجلس الشيوخ إلى أن توفي. عالج شوقي أكثَرَ فنون الشعر: مديحًا، وغزلًا، ورثاءً، ووصفًا، ثم تناول الأحداثَ السياسية والاجتماعية في مصر والشرق والعالم الإسلامي، فجرى شعرُه على كل لسان. وكانت حياتُه كلها (للشعر) يستوحيه من المشاهدات ومن الحوادث. اتسعت ثروته، وعاش مُترَفًا في نعمة واسعة، ودَعةٍ تتخَلَّلُها ليال (نواسية) وسمَّى منزله (كرمة ابن هاني) وبستانًا له (عشَّ البلبل) وكان يَغشى في أكثر العشيات بالقاهرة مجالِسَ من يأنس بهم من أصدقائه، يلبثُ مع بعضهم ما دامت النكتةُ تسود الحديث، فإذا تحوَّلوا إلى جدل في سياسة أو نقاش في (حزبية) تسلَّل من بينهم، وأَمَّ سواهم. وهو أوَّلُ من جوَّد القَصَص الشعري التمثيلي، بالعربية، وقد حاول قبله أفرادٌ فبَزَّهم وتفَرَّد. وأراد أن يجمَعَ بين عنصرَيِ البيان: الشعر والنثر، فكتب نثرًا مسجوعًا على نمط المقامات، فلم يلقَ نجاحًا، فعاد منصرفًا إلى الشعر، وكان شوقي شاعرًا ذا طبع دقيق، وحِسٍّ صادق، وذوق سليم، وقد عالج شوقي الشعرَ التمثيلي، فنَظَم رواياته المعروفة؛ ومن آثاره: مصرع كليوباترا قصة شعرية، ومجنون ليلى، وقمبيز، وعلي الكبير، والست هدى، وقد جُمِعَ شِعرُه في ديوانه الشوقيات، يقع في أربعة أجزاء. وله في الشعر أيضًا كتاب عظماء الإسلام، ولشوقي نثر مسجوع جمع طائفةً كبيرة منه في كتاب اسمه: أسواق الذهب. توفي في القاهرة.
إنَّ المسجد البابري الواقعَ بمدينة "إيودهيا " في شمال الهندِ، يعودُ تاريخُه إلى القرن السادسَ عَشَرَ الميلاديِّ، عندما بناه "بابرُ" أولُ إمبراطورٍ مغوليٌّ حكَمَ الهندَ، وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين زعَم المتطرِّفون الهندوسُ أنه بُنيَ على أنقاض معبدٍ بمكان مَولِد "راما" الأسطوري المقدَّس لدى الهندوس، ولذا وجب نسفُه، والتخلصُ منه .. وجعلوها قضيةً شَعبيَّةً، وقضيَّةً عامَّةً للهندوس، وبدؤوا ينظُرون إلى هذا المسجدِ كأنَّه علامةً وشعارًا للغزوِ المسلِمِ لهذه البلاد، وكانت أحداثُه بالفعل بدايةَ مرحلة تصاعديَّةٍ جديدةٍ من تطرُّف الهندوس وعدائهم للمسلِمين، وكانت إيذانًا بحملة هندوسيَّةٍ دعائيَّةٍ، زعمَت أنَّ كلَّ مساجد المسلِمين العتيقةِ قد بُنيت على أنقاضِ معابِدِ الهندوس، وهي الحملةُ التي برَّرت هدمَ المسجد البابري في السادس من ديسمبر عام 1992/ 1413هـ، وما أعقبَه من صداماتٍ داميةٍ أوْدَت بحياة ألفَيْ مُسلمٍ، وتعود بدايةُ العُدوان على المسجد البابري إلى ما يَزيدُ عن نصفِ قرنٍ، ففي ليلة 22 ديسمبر 1949 هجمت عصابةٌ مكوَّنة من 50 -60 هندوسيًّا على المسجد البابري، ووضَعوا فيه أصنامًا لذاك الممجَّد لديهم المسمَّى "راما"، وادَّعَوْا أنَّ الأصنام ظهرَت بنفسِها في مكان ولادتِه! وقد سَمَح رئيس وزراء الهند "راجيف غاندي" للهندوس بوضع حَجَر أساس لمعبد هندوسي في ساحة المسجد، وتَبِع هذا حُكمٌ صادرٌ بمحكمة فايزباد بتاريخ 1 فبراير 1986 من طرف القاضي "ر.ك. باندي" -الذي أصبح عضوًا في الحزب الحاكم المسؤول عن هدم مسجد بابري- سمَحَ فيه بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم التعبديَّة فيه، وحذَّر السُّلطات المحليَّة من التدخل في هذا الشَّأنِ، وفي بداية الثمانينيَّات قام الهندوسي المتطرِّف "محنت راغوبير" برفع قضيةٍ أمام المحكمة بشأن كون المسجدِ البابري قد بُنيَ فوقَ معبدِ "راما" الأسطوري، إلَّا أنَّ هذه المزاعمَ تمَّ دَحْضُها بحكم القضاء في إبريل 1985 لفِقْدان أي دليلٍ تاريخيٍّ أو قانونيٍّ، ولكنَّ التَّحرُّكات الصادرة عن الحكومة العِلمانيَّة هناك قد شجَّعت المتطرِّفين الهندوس على ترتيب هدم المسجد بالكامل بتاريخ 6 ديسمبر 1992م، فقد قام عَشَرات الآلاف من الهندوس في مدينة أبوديا بالهند -يوم الأحد الحاديَ عَشَرَ من جمادي الآخرة 1413هـ- 6 ديسمبر 1992م، بتدميرِ مسجد بابري بالمدينة، بل ومَسحِه من الوجود، وهم يُرَدِّدونَ أهازيج الانتصار مُعلِنين العزمَ على البدء في بناء معبدٍ هندوسيٍّ مكانَ المسجدِ الذي يبلُغُ عمرُه ما يُناهزُ الأربعة قرونٍ ونصفَ قرنٍ، مُنادين في الوقت نفسِه بأنه قد آن الأوانُ لخروج المسلِمين من الهندِ.. وفي أعقاب هذه الجريمة النَّكْراء عمَّت حوادث الشغَب أنحاءَ الهند، وقُتِلَ فيها أكثرُ من ثلاثة آلافِ شخصٍ، وبعد وقوع جريمة الهدمِ بدأ الصراعُ على أرض المسجدِ، إلَّا أنَّ ستارًا من الصَّمْت قد أُسدل على هذه المأساة من الجانبَيْنِ معًا، فالجانبُ الهنديُّ يحرِصُ على التزام الصَّمْتِ حولَ قضية اعتداءٍ وحشيٍّ على المسلمين يكشِفُ ضراوةَ التيار الهندوسيِّ الذي نجحَ في الوصول برموزِه وقياداته إلى سُدَّة السلطة الاتِّحادية في نيودلهي، أما الجانب الإسلامي فثمَّةَ فريقٌ فيه يَدْعو إلى ابتلاع المسألة برُمَّتها، والتزام الصمت بشأنها؛ لأنَّ إثارتها لن تؤديَ إلا إلى مزيد من المشكلات للمسلِمين في الهند، ثم أعلنَ المجلس الهندوسيُّ العالميُّ الذي ينتمي إليه حزب رئيس الوزراء الهنديِّ "أتال بيهاري فاجابايي" في 20/5/2001 بأنه سيبدَأ قريبًا في بناء معبدٍ بالقرب من موقع المسجدِ البابري، واعتُبر هذا الإعلانُ بمثابة تَحَدٍّ للحكومة الهندية التي تعارِضُ بناءَ هذا المعبد، حيث صرَّح وزير الداخليَّة "لال كيرشنا أدفاني" بعدها بأنَّه لن يسمَحْ ببناء ذلك المعبد، والمعروف أن الحكوماتِ الهنديَّة المتعاقِبة وعدَت المسلمين بإعادة بناء المسجد المهدَّمِ، إلَّا أنها تقاعَسَت عن تنفيذ وعودها.
بعدَ مُرورِ عامينِ أو ثلاثةِ أَعوامٍ مِنَ الحِصارِ الظَّالمِ في شِعْبِ أبي طالبٍ نُقِضتْ الصَّحيفةُ وفُكَّ الحِصارُ؛ وذلك أنَّ قُريشًا كانوا بين راضٍ بهذا الميثاقِ وكارهٍ له، فسعى في نَقْضِ الصَّحيفةِ مَنْ كان كارهًا لها, وكان القائمُ بذلك هشامُ بنُ عَمرٍو مِن بني عامرِ بنِ لُؤَيٍّ, وكان يَصِلُ بني هاشمٍ في الشِّعْبِ مُستَخفِيًا باللَّيلِ بالطَّعامِ, فإنَّه ذهب إلى زُهيرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ المخزوميِّ -وكانت أمُّه عاتِكَةَ بنتَ عبدِ المُطَّلبِ- وقال: يا زُهيرُ، أَرَضيتَ أنْ تَأكُلَ الطَّعامَ، وتَشربَ الشَّرابَ، وأَخوالُكَ بحيث تعلمُ؟ فقال: ويحكَ، فما أصنعُ وأنا رجلٌ واحدٌ؟ أما والله لو كان معي رجلٌ آخرُ لقمتُ في نَقضِها. قال: قد وجدتَ رجلًا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زُهيرٌ: ابْغِنا رجلًا ثالثًا. فذهب إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، فذكَّرهُ أَرحامَ بني هاشمٍ وبني المُطَّلبِ ابنيْ عبدِ مَنافٍ، ولَامَهُ على مُوافقتِهِ لِقُريشٍ على هذا الظُّلمِ، فقال المُطْعِمُ: ويحكَ، ماذا أصنعُ؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ. قال: قد وجدتَ ثانيًا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغِنا ثالثًا. قال: قد فعلتُ. قال: من هو؟ قال: زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ. قال: ابغِنا رابعًا. فذهب إلى أبي البَخْتريِّ بنِ هشامٍ، فقال له نحوًا ممَّا قال للمُطْعِمِ، فقال: وهل مِن أحدٍ يُعينُ على هذا؟ قال: نعم. قال: مَن هو؟ قال زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ، والمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وأنا معك. قال: ابغِنا خامسًا. فذهب إلى زَمعةَ بنِ الأسودِ بنِ المُطَّلبِ بنِ أسدٍ، فكلَّمهُ, وذكر له قرابتَهُم وحقَّهُم، فقال له: وهل على هذا الأمرِ الذي تُدعوني إليه مِن أحدٍ؟ قال: نعم. ثم سَمَّى له القومَ، فاجتمعوا عند الحَجُونِ، وتعاقدوا على القيامِ بنَقضِ الصَّحيفةِ، وقال زُهيرٌ: أنا أَبدأُكم فأكونُ أوَّلَ مَن يتكلَّمُ. فلمَّا أصبحوا غَدَوْا إلى أَنْدِيَتِهِم، وغدا زُهيرٌ عليه حُلَّةٌ، فطاف بالبيتِ سبعًا، ثمَّ أقبل على النَّاسِ، فقال: يا أهلَ مكَّة، أنأكلُ الطَّعامَ, ونَلبَسُ الثِّيابَ, وبنو هاشمٍ هَلْكى، لا يُباع ولا يُبتاعُ منهم؟ والله لا أقعدُ حتَّى تُشَقَّ هذه الصَّحيفةُ القاطعةُ الظَّالمةُ. قال أبو جهلٍ, وكان في ناحيةِ المسجدِ: كذبتَ، والله لا تُشَقُّ. فقال زَمعةُ بنُ الأسودِ: أنت والله أَكْذَبُ، ما رضينا كتابتَها حيث كُتِبتْ. قال أبو البَخْتريِّ: صدق زَمعةُ، لا نرضى ما كُتِبَ فيها، ولا نُقِرُّ به. قال المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ: صدقتُما، وكذب مَن قال غيرَ ذلك، نبرأُ إلى الله منها وممَّا كُتِبَ فيها. وقال هشامُ بنُ عَمرٍو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهلٍ: هذا أمر قُضِيَ بليلٍ، وتُشُووِر فيه بغيرِ هذا المكانِ. وأبو طالبٍ جالسٌ في ناحيةِ المسجدِ، إنمَّا جاءهُم لأنَّ الله كان قد أَطلعَ رسولَه صلى الله عليه وسلم على أمرِ الصَّحيفةِ، وأنَّه أرسلَ عليها الأَرَضَةَ، فأكلتْ جميعَ ما فيها من جَورٍ وقَطيعةٍ وظُلمٍ إلا ذكرَ الله عزَّ وجلَّ، فأَخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قُريشٍ فأخبرهم أنَّ ابنَ أخيهِ قد قال كذا وكذا، فإنْ كان كاذبًا خَلَّيْنا بينكم وبينه، وإنْ كان صادقًا رجعتُم عن قطيعتِنا وظُلمِنا. قالوا: قد أنصفتَ. وبعد أنْ دار الكلامُ بين القومِ وبين أبي جهلٍ، قام المُطعمِ إلى الصَّحيفةِ لِيَشُقَّها، فوجد الأَرَضَةَ قد أكلتْها إلَّا (باسمِك اللَّهمَّ)، وما كان فيها مِن اسمِ الله فإنَّها لم تأكلْهُ. ثم نقضَ الصَّحيفةَ وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مِنَ الشِّعبِ، وقد رأى المشركون آيةً عظيمةً مِن آياتِ نُبوَّتِه، ولكنَّهم كما أخبر الله عنهم: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) أعرضوا عن هذه الآيةِ وازدادوا كُفرًا إلى كُفرهِم.
خرج الإمامُ محمد بن عبد الوهاب من العُيينة بنجدٍ يدعو إلى دينِ الله القويم، وقد كانت منطقةُ نجد في هذه الفترة انتشر فيها الشِّركُ والبِدَع، فلقي الشيخُ صعوبات كثيرة إلى أن يسَّرَ الله له الأميرَ محمد بن سعود أمير الدرعية، فتم بينهما اتفاقٌ تاريخي في هذا العام عُرِف "باتفاق الدرعية" لَمَّا وصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية دخل على شخصٍ مِن خيارها في أعلى البلد يقال له: محمد بن سويلم العريني، فنزل عليه, ويقالُ إنَّ هذا الرجل خاف من نزوله عليه وضاقت به الأرضُ بما رَحُبت، وخاف من أميرِ الدرعية محمد بن سعود، فطمأَنَه الشيخ وقال له: أبشِرْ بخير، وهذا الذي أدعو الناسَ إليه دينُ الله، وسوف يُظهِرُه الله، فبلغ محمَّدَ بن سعود خبرُ الشيخ محمد، ويقال: إن الذي أخبره به زوجتُه، جاء إليها بعضُ الصالحين وقال لها: أخبري زوجَك الأمير محمدًا بهذا الرجل، وشجِّعيه على قَبولِ دعوته، وحَرِّضيه على مؤازرته ومساعدتِه، وكانت امرأةً صالحةً طَيِّبةً، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها قالت له: أبشر بهذه الغنيمة العظيمة! هذه غنيمة ساقها الله إليك، رجلٌ داعية يدعو إلى دينِ الله، ويدعو إلى كتاب الله، يدعو إلى سنَّةِ رَسولِ الله عليه الصلاة والسلام، يا لها من غنيمة! بادِرْ بقَبوله وبادر بنُصرته، ولا تقف في ذلك أبدًا، فقبل الأمير مشورتَها، ثم تردد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشير عليه، ويقال: إن المرأة أيضًا هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين، وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصِدَه في منزله، وأن تقصِدَه أنت وأن تعظِّمَ العلم والداعيَ إلى الخير، فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادةِ والخيرِ- رحمةُ الله عليه، وأكرم الله مثواه- فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم العريني، ورحب به قائلًا: "أبشر ببلاد خيرٍ مِن بلادك، وأبشر بالعِزِّ والمنعة، فقال الشيخ محمد: وأنا أبشِّرُك بالعز والتمكين، وهذه كلمةُ لا إله إلا الله، من تمسَّك بها وعمل بها ونصرها، مَلك بها البلادَ والعباد، وهي كلمةُ التوحيد، وأوَّلُ ما دعت إليه الرسل، من أوَّلهم إلى آخرهم, ثم بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأمير محمد بن سعود حقيقةَ الإسلام والإيمان، وأخبره ببطلان ما عليه أهل نجد من عبادة الأوثان والأصنام والأشجار، فقال الأمير له: يا شيخ، لاشك عندي أنَّ ما دعوتَ إليه أنَّه دين الله الذي أرسل به رسُلَه وأنزل به كتُبَه، وأنَّ ما عليه اليوم أهلُ نجد من هذه العبادات الباطلة هو كما ذكرت نفسُ ما كان عليه المشركون الأولون من الكُفرِ باللهِ والإشراك، فأبشِرْ بنُصرتِك وحمايتك والقيام بدعوتِك، ولكن أريد أن أشتَرِطَ عليك شرطين: نحن إذا قمنا بنصرتك وجاهدنا معك ودان أهلُ نجد بالإسلام وقَبِلوا دعوة التوحيد، أخاف أن ترتحِلَ عنا وتستبدل بنا غيرَنا، والثاني: أن لي على أهل الدرعية قانونًا آخذُه منهم وقت حصاد الثمارِ، وأخاف أن تقول: لا تأخذ منهم شيئًا، فقال الشيخ: أما الشرط الأول فابسُطْ يدك أعاهِدْك: الدَّمُ بالدَّمِ، والهدمُ بالهدم، وأما الثاني فلعل الله أن يفتحَ عليك الفتوحاتِ فيُعَوِّضَك من الغنائِمِ والزكوات ما هو خيرٌ منه. فتمَّ التعاهد والاتفاق بينهما"، فقام الأمير محمد بن سعود بمؤازرة الشيخ ودَعْمِه وحمايته؛ ليقوم بتبليغ الدعوة، فانطلق الشيخ محمد يصحح الأوضاعَ الدينية المتردِّية، فقويت الدرعية سياسيًّا ودينيًّا, ثم انطلقت منها الجيوشُ لتوحيد الأجزاء المتفَرِّقة من نجد وما حولها ونشْرِ الدعوة فيها.
تولى خير الدين التونسي منصِبَ رئاسة الوزراء في الدولةِ العثمانيةِ. ولد خير الدين في القفقاس لعائلةِ تليش الأباظية الشركسية، حوالي عام 1820م. تعهَّده والي تونس الداي أحمد، وهيأ له فُرَصَ الاستزادة من العلوم، فأكَبَّ على دراسة الفنون العسكرية والسياسية، والتاريخ والعلوم الشرعية، وأتقن اللغاتِ العربيةَ والتركية والفرنسية. أصبح رئيسًا لمكتب العلوم الحربية بباردو عام 1840م، ثم أصبح رئيسًا لفرقة الفرسان في الجيش التونسي. وعيِّن مديرًا لِمَصرف الدراهم التونسي. وفي عام 1849م رقِّيَ إلى رتبة ومنصب أمير لواء الخيالة في تونس، وفي عام 1855م أنعَمَ عليه الباي المشير محمد باشا برتبة الفريق؛ لإنقاذه تونس من قرضٍ مالي ثقيل كاد الباي السابق أن يندفِعَ إليه. ثم عيَّنه وزيرًا للبحرية عام 1857م حيث أجرى عدَّةَ إصلاحات إدارية. وساهم في صياغةِ وإصدار قانون (عهد الأمان) التونسي عام 1857م. وشارك في وضع الدستور التونسي عام 1860م. وعند إنشاءِ مجلس الشورى التونسي المنتَخَب كان خير الدين باشا الرئيس الفعليَّ للمجلس من عام 1861م. اصطدم مع سياسة الباي الجديد محمد الصادق فقَدَّم استقالتَه من الوزارة ومِن رئاسة مجلس الشورى عام 1862م وفَرَض على نفسه العزلةَ السياسية لمدة تسع سنوات بين عامي 1862م و1869م. وكان من نتائج عزلته تلك تأليفُه الكتاب الشهير الذي أسماه ((أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)) والذي تمَّ طبعُه في تونس عام 1867 م. بعد ذلك شارك مندوبًا عن تونس في اللجنة المالية المختلطة المشكَّلة لتحصيل ديون الدُّول الأوروبية من تونس، فاستطاع الحدَّ من نفوذ اللجنة وتدخُّلِها في شؤون الدولة. وفي أكتوبر 1873م عيِّنَ وزيرًا أكبر لتونس (أي رئيسًا للوزراء) فسَنَحَت له فرصةُ تحقيق برامجه الإصلاحية التي طرحَها في كتابه (أقوم المسالك) واستطاع نقل تونس من حالة الكرب والضيق والفوضى إلى حالةٍ مِن الأمنِ والرخاء والنظام. وتصدى بحزمٍ للمطامع الأجنبية في بلادِه، وخاصة المطامح الفرنسية والإيطالية المتنافسة. ولكِنَّه فوجئ بمعاتبة الباي له وغضبه من سياسته في التحمُّسِ لإعانة الدولة العثمانية في حَربِها ضِدَّ روسيا، فقَدَّم استقالته من رئاسة الوزارة في يوليو1877م. وبعد استقالته ضَيَّق عليه الباي الخناقَ ومنعه من الاتصال بالناس، فكان معتقلًا في منزله. وقد سافر للعلاجِ ثم عاد إلى تونس وظَلَّ شِبهَ مُعتَقَل حتى استدعاه السلطانُ العثماني عبد الحميد الثاني فسافر إلى الأستانة في رمضان 1877م حيث استقبله السلطانُ وعَيَّنه وزير دولة بعد رفضِه منصب وزير العدل. ولكِنَّه فوجئ في صباح يوم 4 ديسمبر 1878م بتعيينه رئيسًا لوزراء الدولة العثمانية. وكانت الدولةُ العثمانية وقتَها في ضيقٍ وحَرَجٍ كبير؛ فالجيش الروسي يقِفُ على عتبات العاصمة استانبول، والأسطول البريطاني في مضيق البوسفور، والاقتصادُ متدهور، وهناك المشكلةُ الأرمينية، ومشاكِلُ في قبرص والبوسنة! فسارع خير الدين باشا إلى عقد اتِّفاقٍ مع الروسِ يضمَنُ مصالح المسلمين في بلغاريا وروملي الشرقية،كما انسحب الأسطولُ البريطاني مِن مَضيقِ البوسفور، وسَوَّى الخلافات مع النمسا، وحُلَّت مشكلة الأرمن، واستبدل بالخديويِّ إسماعيل ابنَه توفيقًا في مصر. وقد اختلف كثيرًا مع السلطان عبد الحميد الثاني ورجالِ حاشيته إبَّانَ توليه رئاسة الوزراء، فكان أن عُزِلَ مِن منصبه في شعبان 1296 هـ ( 1879 م) وعاش بعدها بعيدًا عن السياسة حتى توفِّي بعد عشر سنوات في الأستانة عام 1889م ودفِنَ في جامع أيوب، إلا أن الحكومة التونسية بادرت في عام 1968م إلى نقل رُفاته ودفنه في تونس تقديرًا لخِدماتِه، وقد أطلق عليه الشَّعبُ التونسي لقب ((أبو النهضة التونسية)).
هو الدُّكتور طه بن حسين بنِ عليِّ بن سلامةَ. وُلِد سنةَ 1889م في قرية (الكيلو) بمَغاغةَ مِن مُحافَظة المِنْيا (بالصعيد المصْري)، وأُصِيب بالجُدريِّ في الثالثة مِن عُمرِه، فكُفَّ بصَرُه. وكان السابعَ من إخوته وأخواتِه الذين بلَغَ عَددُهم (13)، وكان والدُه ذا مركزٍ مَرموقٍ في الضاحيةِ، حرَصَ على تَعليمِ أولادِه؛ وحرَص أنْ يُعلِّم ابنَه طه، فأدْخَله الكُتَّاب، وحفِظ فيه القرآنَ الكريمَ، وحفِظَ الكثير مما كان يَسمَع مِن أدعيةٍ وأشعارٍ وقصصٍ، وحفِظَ قواعدَ التَّجْويد، وحين تَرعرعَ راح أخوه الأزهريُّ يُحفِّظه الألفيَّةَ؛ لِيَعُدَّه للحياة الجديدةِ في الأزهر. دخَل الأزهرَ عام 1902، وتفتَّح ذِهْنُه، واتَّسعَت آفاقُ تَفكيرِه حين بَدأ يَحضُر دُروس الأدبِ على يَدِ سيد علي المَرْصفيِّ، والأستاذُ ينْحو في دُروسِه مَنْحى اللُّغويين والنُّقاد، مع مَيلٍ لِلتَّفقُّهِ والتحليلِ، ويُعنى بمُفردات اللُّغة، وإظهارِ ما في الشِّعرٍ من بَيانٍ وبديعٍ ومَعانٍ. وظهَرَت لَدَيه مَلَكة النَّقْد، وكان عامُ 1908 عامًا فاصلًا بينه وبين حياةِ الأزهرِ وشُيوخ الأزهرِ؛ ففي هذا العامِ فُتِحَت الجامعةُ المصريَّةُ الأهلية، فانْتَمى إليها وقَضى فيها سنواتٍ ثلاثًا يَختلِفُ إليها وإلى الأزهرِ. وقد وجَدَ في دُروس الجامعةِ اختلافًا كثيرًا ووجَدَ حُرِّيةَ البحثِ، فشُغِف بهذه الدُّروسِ حُبًّا، وتفتَّحَت لها نفْسُه، وكان أثَرُ ذلك عميقًا فيها، ووجَدَ في الجامعةِ مُبتغاهُ، وفي ظِلِّ البحثِ التَّحليليِّ أخْرَج رِسالتَه عن أبي العَلاءِ المَعرِّي ((ذِكرى أبي العَلاء)) التي نال بها دَرجةَ الدُّكتوراه، وهو أوَّلُ مَن نال شَهادةَ الدُّكتوراه من الجامعةِ المصرية عام 1914م، فلما وُزِّعت مَطبوعةً ثارت حَولها ضجَّةٌ، ورُمِيَ بالإلحاد، وقَدَّمَ أحدُ النُّواب إلى الجمعية العامَّةِ استجوابًا أثار به مَوضوعَ رِسالة طه حُسين، وطالَب بفَصْلِه ونزْعِ الشَّهادة عنه، ولولا تَداركُه مِن رئيس المجلِسِ (سعد زغلول) لَتغيَّر مجْرى حَياتِه. وفي 5 مارس 1914 سافَر على نَفقةِ الجامعةِ إلى فرنسا لِيُكمِل دِراستَه، فكان ذلك حَدَثًا لم يَتيسَّر لغَيرِه من أمثالِه. وفي جامعةِ مونبيليه التي يُدرَّس فيها الأدبُ الفرنسيُّ واللُّغةُ اللاتينيةُ، تعرَّف على سُوزان التي كانت زَميلتَه في الجامعة أثناءَ بَعثتِه إلى فرنسا، وقد كانت سُوزان تَقرأُ عليه كُتبًا من عُيون الأدبِ الفرنسيِّ والتاريخِ الرُّوماني واليونانيِّ. واقترَنَ بها يومَ 19 أغسطس 1919 م، فكان لِسُوزانَ الأثرُ الأكبر في توجُّهاته القادمةِ. تزوَّج بها طه وهو يَستعِدُّ للدُّكتوراه برسالةٍ عن "ابن خَلْدون" وفَلسفتِه الاجتماعيةِ، وفي السَّنة التي تزوَّج فيها بسُوزانَ عاد إلى مصرَ، وتمَّ تعيينُه أستاذًا للتاريخ القديمِ. وفي عام 1925 أُلحِقَت الجامعةُ بالحكومةِ، فتمَّ تَعيينُه أستاذًا دائمًا للأدبِ العربيِّ بكُلِّية الآدابِ، ثم عَميدًا لهذه الكُلِّية، فوَزيرًا للمعارِفِ، وفي هذه المدَّةِ تمكَّن طه مِن جعْلِ التعليمِ الثانوي والفنِّي مجانًا، وعيَّنته جامعةُ الدُّول العربيَّةِ رئيسًا لِلَجْنتِها الثقافية فأدارها مدَّةً. كان طه حُسين خلالَ هذه الفترة جمَّ النَّشاطِ؛ يَكتُب ويُحاضِر، ويَنشُر ويُؤلِّف حتى ذاع صِيتُه. وأخرَجَ مُحاضراته (في الظَّاهرة الدِّينية عند اليونان) في كِتابٍ عام 1919 يَحمِل اسمَ "آلهة اليونانِ". وفي 1926 نُشِر كِتابُه "الشِّعر الجاهِلي"، فأثار ظُهورُه ثورةً عاصفةً كادت تَعصِفُ بطه حُسين وكُرسِيِّه وأدَبِه، وانبَرَت أقلامُ الأدباء والمؤرِّخين وعُلماء المسلمين يَرُدُّون عليه، وأُحِيل طه حُسين سنةَ 1926 إلى النِّيابة وحَقَّقت معه، وانتهَت مِن قَرارِها سنة 1927. وكان قرارُها بتَفْنيدِ انحرافاتِ طه حُسين الفِكْرية في كِتابِه، وتَفنيدِ ما أخَذَه من المستَشْرقينَ أمْثال رِينان، ومَرْغليوث، وغَيرِهما، وصُودِرَ كتابُه وجُمِع من الأسواقِ. وقد حصَل على الدُّكتوراه الفَخْرية من جامعةِ مَدريد وجامعة كمَبِردج، ونال وِسامَ الباشويةِ ووِسامَ الليجيون دونير مو طَبقة كراند أوفيسيه، ونال الدُّكتوراه الفَخْريةَ من جامعاتِ ليون، ومونبيليه، ومَدْريد، وأكْسُفورد، وانتُخِبَ رئيسًا للمَجْمَع اللُّغوي بعدَ وَفاةِ أحمد لُطفي السَّيِّد سنة 1963. وكان مُشتغِلًا بالترجمةِ كثيرًا. أنْجَبَت سُوزانُ لِطه: أمينةَ، ومُؤنس الذي اعتنَقَ النَّصرانيةَ وأعْلَنها في إحدى الكنائسِ بفرنسا! وتُوفِّي طه حُسين عام 1973م.
هو سلطان المغرب أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقنت الصنهاجي اللمتوني المغربي البربري، الملقَّب بأمير المسلمين، وبأمير المرابطين، وبأمير الملثمين. ولد سنة 430. كان أحدَ من ملك البلاد ودانت بطاعته العباد، واتسعت ممالكه، وطال عمره. وقلَّ أن عُمِّرَ أحد من ملوك الإسلام ما عمر. تولى إمارة البربر واستولى على المغرب ثم الأندلس والسودان، وكان يخطب لبني العباس، وهو أول من تسمى بأمير المسلمين من المرابطين، ولم يزل على حاله وعِزِّه وسلطانه إلى أن توفي سنة 500. قال ابن خلدون: "تسمَّى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين، وخاطَبَ الخليفة لعهده ببغداد، وهو أبو العباس أحمد المستظهر بالله العباسي، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر بن العربي الإمام المشهور، فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد لأمير المسلمين بالمغرب والأندلس؛ فعَقَدَ له وتضمن ذلك مكتوبًا من الخليفة منقولًا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم، وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير". وإنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة المستظهر بالله مع أنه كان بعيدًا عنه وأقوى شوكةً منه؛ لتكون ولايته مستندة إلى الشرع، وهذا من ورعه، وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدبًا مع الخليفة حتى لا يشارِكَه في لقبه؛ لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة, وكان أمير المسلمين حين ورد عليه التقليد من الخليفة ضرب السكةَّ باسمه ونقش على الدينار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين, وكتب على الصفحة الأخرى عبد الله أحمد أمير المؤمنين العباسي, وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغة من قاصية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس، وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يومًا طولًا، وفي العرض ما يقرب من ذلك، وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان, ولم يُرَ في بلد من بلاده ولا عَمَلٍ من أعماله على طول أيامه رسمُ مَكسٍ ولا خَراجٌ، لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به، وأوجب حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم, وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يَجْبِه أحد قبله. يقال: إنه وُجِد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الوَرِق، وخمسة آلاف وأربعون ربعًا من مطبوع الذهب, وكان زاهدًا في زينة الدنيا وزهرتها، وَرِعًا متقشِّفًا، لباسه الصوف لم يَلبَس قطُّ غيره، ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرًا على ذلك، لم يُنقَل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوَّله من نعمة الدنيا، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة، وكان محبًّا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرمًا لهم صادرًا عن رأيهم، يُجري عليهم أرزاقهم من بيت المال، وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعًا كثير الحياء جامعًا لخصال الخير. هو الذي بنى مدينة مراكش في سنة خمس وستين وأربعمائة، اشتراها يوسف بماله الذي خرج به من الصحراء. وكان في موضعها غابة من الشجر وقرية فيها جماعة من البربر، فاختطها وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة, وهو الذي أخذ الأندلس من ملوك الطوائف وأسر المعتمد بن عباد في أغمات.. توفي في قصره بمراكش يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم, وعاش سبعين سنة مَلَكَ منها مدة خمسين سنة, وكان قد عهد بالإمرة من بعده لولده علي الذي بويع له ولُقِب بأمير المسلمين كذلك.
هو الأميرُ الكبيرُ المَهيبُ سَيفُ الدين أبو سعيد تنكز نائِبُ السلطنة بالشام، جُلِبَ إلى مصر وهو حَدَثٌ، فنشأ بها، وكان أبيض يميل إلى السمرة، رشيق القَدِّ، مليح الشَّعر، خفيف اللحية قليل الشَّيب، حَسَن الشَّكلِ، جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، فاشتراه الأمير حسام الدين لاجين، فلما قُتِلَ لاجين في سلطنته صار من خاصكية السلطان الناصر، وشهد معه وقعة وادي الخزندار ثم وقعة شقحب، سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم. تولى نيابةَ السلطان بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة 712 وتمكَّن في النيابة, وسار بالعساكِرِ إلى ملطية فافتتحها وعظُمَ شأنُه وهابه الأمراءُ بدمشق ونوَّاب الشام، وأمِنَ الرعايا به ولم يكُنْ أحدٌ من الأمراء ولا من أربابِ الجاه يَقدِرُ يظلِمُ أحدًا ذِمِّيًّا أو غيره خوفًا منه؛ لبطشه وشِدَّة إيقاعه, ثمَّ تغير السلطان الناصر على تنكز, وكان سَبَبُ تغير الحال بينهما- مع أن السلطان متزوج من بنته وأراد كذلك تزويجَ ولديه من بناته- لَمَّا قَتَل تنكز جماعةً من النصارى بسَبَبِ افتعالهم الحريقَ بدمشق، عَنَّف عليه السلطان، وأن في ذلك سببًا لقتل المسلمين في القُسطنطينية، وزاد الأمرَ أنَّه أمَرَه بإحضار الأموال المتحَصَّلة من جرَّاء هذه الحادثة وأن يجهِّزَ بناتِه، فاعتذر تنكز بانشغالِه بعمارةِ ما أكَلَه الحريقُ وأنَّه أنفق تلك الأموالَ في ذلك، وزاد الأمرَ كذلك سعايةُ بعض الحاسدين عليه لدى السلطانِ حتى أمر السلطان بإحضارِه إلى مصر، فخرج جيشٌ من مصر لإحضاره من دمشقَ، وكان تنكز قد عرف بالأمرِ، فخرج وأخرج أموالَه وأهله، فوصلَ إليه الأمراء من القاهرةِ وعَرَّفوه مرسومَ السلطان وأخَذوه وأركبوه إكديشًا- حصانًا غير أصيل يُستخدَم في حمل الآلات والعدَّة- وساروا به إلى نائب صفد، وأمر طشتمر بتنكز فأُنزِلَ عن فرسه على ثوب سرج، وقيده قرمجي مملوكُه، وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجَّه به إلى الكسوة، فحدث له إسهالٌ ورِعدةٌ خيفَ عليه منه الموتُ، وأقام بها يومًا وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة, وفي يومِ الثلاثاء سابِعَ المحرم وصل الأمير سيف الدين تنكز نائِبُ الشام وهو متضَعِّفٌ، بصحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأُنزِلَ من القلعة بمكانٍ ضَيقٍ حَرَجٍ، وقَصَد السلطان ضَرْبَه بالمقارعِ، فقام الأميرُ قوصون في الشفاعة له حتى أجيبَ إلى ذلك، وبعث إليه السلطان يُهَدِّدُه حتى يعترف بما له من المالِ، ويَذكُر من كان موافِقًا على العصيان من الأمراء، فأجاب تنكز بأنَّه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعةً عنده لأيتامِ بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرجَ عن الطاعة، فأمر السلطانُ في الليلِ فأُخرِجَ مع ابن صابر المقَدَّم وأمير جندار، وحُمِلَ في حراقة –سفينة- بالنيل إلى الإسكندرية، فقَتَلَه بها إبراهيم بن صابر المقَدَّم في يوم الثلاثاء خامس عشر ودفنوه بالإسكندرية، وقد جاوز الستينَ، ثم نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعةِ ابنتِه زوجة السُّلطانِ الناصر، فأَذِنَ في ذلك وأرادوا أن يُدفَنَ بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يُمكِنْ، فجيء به إلى تربته بدمشق وقيل: كانت وفاتُه بقلعة إسكندرية مسمومًا، وتأسَّفَ الناسُ عليه كثيرًا، وطال حُزنُهم عليه، وفي كل وقتٍ يتذكَّرون ما كان منه من الهَيبةِ والصيانةِ والغَيرةِ على حريمِ المسلمينَ ومحارم الإسلام، ومن إقامتِه على ذَوي الحاجاتِ وغَيرِهم؛ يشتَدُّ تأسفهم عليه. ويُذكَرُ أنَّ لتنكز هذا أوقافًا كثيرة، من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار الحديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الأقصى، وتُتبِّعَت أموال تنكز، فوجِدَ له ما يجِلُّ وَصفُه واشتملت جملةُ ما بيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملةُ العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار، ومع ذلك كان له أعمالٌ جدية في دمشق فأزال المظالمَ، وأقام منارَ الشَّرعِ، وأمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحِشِ والخانات والخَمَّارات، وبالغ في العقوبةِ على ذلك حتى قَتَل فيه، وغيرها من عمارة المدارس والأوقاف والمساجد.
في يوم الخميس ثالث صفر ثارت المماليك الأجلاب على السلطان، وأفحشوا في أمرِه إلى الغاية، فبينما هو جالسٌ بقاعة قلعة الدهيشة، وكانت الخدمةُ بطالةً في هذا اليوم، وذلك قبل أن يصلِّيَ السلطان الصبح، وإذا بصياح المماليك، فأرسل السلطانُ يسأل عن الخبر، فقيل له إن المماليك أمسكوا نوكار الزردكاش وهددوه بالضرب، وطلبوا منه القرقلات-جمع قرقل وهو ثوب بغير كمين- التي وعدهم السلطان بها من الزردخاناه السلطانية، فحلف لهم أنه يدفع لهم ذلك في أول الشهر، فتركوه ومضَوا، فلقوا الشيخ عليًّا الخراساني الطويل محتسب القاهرة، وهو داخل إلى السلطان، فاستقبلوه بالضرب المبَرِّح المتلِف، وأخذوا عمامتَه من على رأسه، فرمى بنفسه إلى باب الحريم السلطاني حتى نجا، ثم إنَّ الصياح قوي ثانيًا فعُلم أن ذلك صياح الأجلاب، فأرسل إليهم الأميرُ يونس الدوادار، فسألهم يونس عن سبب هذه الحركة، فقالوا: نريد نقبض جوامكنا- المخصصات- كل واحد سبعة أشرفية ذهبًا في كل شهر، وكانت جامكية الواحد منهم ألفين قبل تاريخه يأخذها ذهبًا وفضة، بسعر الذهب تلك الأيام، فلما غلا سعر الذهب تحيَّلوا على زيادة جوامكهم بهذه المندوحة، ثم قالوا: ونريد أن تكون تفرقة الجامكية في ثلاثة أيام، أي على ثلاث نفقات كما كانت قديمًا، ونريد أيضًا أن يكون عليقنا السلطاني الذي نأخذه من الشونة مُغَرْبلًا، ويكون مرتبنا من اللحم سمينًا, فعاد الأمير يونس إلى السلطان بهذا الجواب، ولم يتفوَّه به إلى السلطان، وتربص عن ردِّ الجواب على السلطان حتى يفرغَ السلطان من أكل السماط، فأبطأ الخبر لذلك عن الأجلاب، فندبوا مرجانًا مقدَّم المماليك للدخول بتلك المقالة إلى السلطان، فدخل مرجان أيضًا ولم يخبِر السلطان بشيء حتى فرغ من أكل السماطِ، فعند ذلك عرفه الأمير يونس بما طلبوه، فقال السلطان: لا سبيل إلى ذلك، وأرسل إليهم مرجانًا المقدَّم يعرفهم مقالة السلطان، فعاد مرجان ثانيًا إلى السلطان بالكلام الأول، وصار يتردُّد مرجان بين السلطان والمماليك الأجلاب نحو سبعة مرار، وهم مصمِّمون على مقالتهم، والسلطان ممتنع من ذلك، وامتنع الناس من الدخول والخروج إلى السلطان خوفًا من المماليك؛ لما فعلوه مع العجمي المحتسِب، فلما طال الأمر على السلطان خرج هو إليهم بنفسه، ومعه جماعةٌ من الأمراء والمباشرين، فلما علموا بمجيء السلطان أخذوا في الرجم، فلما رأى شدةَ الرجم، قصد العودَ إلى الدهيشة، ورسم لمن معه من الأمراء أن ينزلوا إلى دورهم، فامتنعوا إلَّا أن يوصلوه إلى باب الحريم، فعاد عليهم الأمر فنزلوا من وقتهم، وبقي السلطان في خواصِّه وجماعة المباشرين وولده الكبير المقام الشهابي أحمد، فلما سار السلطان إلى نحو باب الستارة، ووصل إلى باب الجامع أخذه الرجمُ المفرط من كل جهة، فأسرع في مشيته والرجم يأتيه من كل جانب، وسقط الخاصكي الذي كان حامِلَ ترس السلطان من الرجم، فأخذ الترسَ خاصكيٌّ آخر فضُرِبَ الآخر فوقع وقام، وشج دوادار ابن السلطان في وجهه وجماعة كثيرة، وسقطت فردةُ نعل السلطان من رجله فلم يلتفت إليها لأنَّه محمول من تحت إبطيه مع سرعة مشيهم إلى أن وصل إلى باب الستارة، وجلس على الباب قليلًا، فقصدوه أيضًا بالرجم، فقام ودخل من باب الحريم وتوجه إلى الدهيشة، واستمر وقوف المماليك على ما هم عليه إلى أذان المغرب، وبات القوم وهم على وجل، والمماليك يكثرون من الوعيد في يوم السبت؛ فإنهم زعموا أن لا يتحركوا بحركةٍ في يوم الجمعة مراعاةً لصلاة الجمعة، وأصبح السلطان وصلَّى الجمعة مع الأمراء على العادة، فتكلم بعض الأمراء مع السلطان في أمرهم بما معناه أنه لا بد لهم من شيء يطيب خواطرهم به، ووقع الاتفاق بينهم وبين السلطان على زيادة كسوتهم التي يأخذونها في السنة مرة واحدة، وكانت قبل ذلك ألفين، فجعلوها يوم ذاك ثلاثة آلاف درهم، وزادوهم أيضًا في الأضحية، فجعلوا لكل واحد ثلاثة من الغنم الضأن، فزيدوا رأسًا واحدًا على ما كانوا يأخذونه قبل ذلك، ثم رُسِمَ لهم أن تكون تفرقة الجامكية على ثلاث نفقات في ثلاثة أيام من أيام المواكب، فرَضُوا بذلك وخَمَدت الفتنة.
هو الشيخُ الإمام العلامة الحافظُ الحجَّة الرُّحَلة الفقيه المقرئ المسنِد المؤرخ الخطيبُ: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن الزين أحمد بن الجمال محمد بن الصفي محمد بن المجد حسين بن التاج علي القسطلاني الأصل، القتيبي المصري الشافعي، ويعرف بالقسطلاني علَّامة الحديث, وأمُّه حليمة ابنة الشيخ أبي بكر بن أحمد بن حميدة النحاس. ولِدَ في الثاني والعشري ذي القعدة سنة 851 بمصر ونشأ بها فحفظ القرآن والشاطبيتين, والقراءات السبع ثم العشر، وكذا أخذ القراءات عن الشمس بن الحمصاني إمام جامع ابن طولون, وقرأ صحيحَ البخاري بتمامه في خمسة مجالسَ على الشاوي، وكذا قرأ عليه ثُلاثيات مسند أحمد، وحجَّ غير مرة وجاور سنة أربع وثمانين ثم سنة أربع وتسعين وسنتين قبلها على التوالي. وجلس للوعظ بالجامع العمري سنة ثلاث وسبعين وكذا بالشريفية بالصبانيين، بل وبمكة, ولم يكن له نظيرٌ في الوعظ، وكان يجتمع عنده الجمُّ الغفير مع عدم ميلِه في ذلك، وولي مشيخة مقام أحمد بن أبي العباس الحرَّاز بالقرافة الصغرى، وأقرأ الطلبة وجلس بمصر شاهدًا رفيقًا لبعض الفضلاء, وبعده اعتزل وتفرَّغ للكتابة, فكتب بخطِّه لنفسه ولغيره أشياء، بل جمع في القراءات العقود السنية في شرح المقدمة الجزرية في التجويد، ومن مؤلفاته: إرشاد الساري على صحيح البخاري، انتهى منه سنة 916, وتحفة السامع والقاري بختم صحيح البخاري, ونفائس الأنفاس في الصحبة واللباس, والروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر, وعمل تأليفًا في مناقبه سماه: نزهة الأبرار في مناقب الشيخ أبي العباس الحرَّار, وتحفة السامع والقارئ بختم صحيح البخاري. وهو كثير الأسقام قانعٌ متعفِّف جيد القراءة للقرآن والحديث والخطابة، شجيُّ الصوت بها، مشارك في الفضائل، متواضع متودِّد لطيف العشرة سريعُ الحركة. قال محي الدين عبد القادر العَيدَروس: "وارتفع شأنُه بعد ذلك فأُعطيَ السعدَ في قَلَمِه وكَلِمِه، وصنَّف التصانيف المقبولة التي سارت بها الركبانُ في حياته، ومن أجَلِّها شرحُه على صحيح البخاري مزجًا في عشرة أسفار كبار، لعله أحسَنُ شروحِه وأجمعُها وألخصُها، ومنها المواهب اللدُنِّية بالمنح المحمدية، وهو كتاب جليل المقدار عظيم الوقع كثير النفع، ليس له نظير في بابه، ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغُضُّ منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمدُّ منها ولا ينسبُ النقل إليها، وأنَّه ادَّعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا فألزمه ببيان مدَّعاه، فعدد عليه مواضِعَ قال إنه نقَلَ فيها عن البيهقي، وقال إن للبيهقي عدةَ مؤلفات فليذكرْ لنا ما ذكر في أي مؤلفَّاته ليُعلَمَ أنَه نقل عن البيهقي، ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقلَ عن البيهقي فنقله برُمَّته، وكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عن البيهقي، وحكى الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله: أنَّ الشيخ رحمه الله تعالى قصد إزالةَ ما في خاطر الجلال السيوطي فمشى من القاهرة إلى الروضة، وكان السيوطي معتزلًا عن الناس بالروضة فوصل القسطلاني إلى باب السيوطي ودق الباب فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني جئتُ إليك حافيًا مكشوف الرأس ليطيبَ خاطرُك عليَّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب ولم يقابله! وبالجملة فإنه كان إمامًا حافظًا متقنًا جليل القدر حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة، حسن الجمع والتأليف، لطيف الترتيب والتصنيف، كان زينة أهل عصره، ونقاوة ذوي دهره، ولا يقدح فيه تحامُلُ معاصريه عليه، فلا زالت الأكابر على هذا في كل عصرٍ- رحمهم الله" أصيب القسطلاني بالفالج، ثم توفي ليلة الجمعة السابع محرم بالقاهرة ودفن بالمدرسة العينية جوار منزله، ووافق يومُ دفنه الثامن محرم دخولَ السلطان سليم الأول العثماني عَنْوةً إلى مصر وتملُّكه بها.