همَّت الرُّوم بما لم ينالوا من طلَبِ الثغور، فنكَثوا العهدَ، فتجهَّزَ الحكَمُ بن هشامٍ إليهم حتى جاز جبلَ السارة شماليَّ طليطلة، ففرَّت الرومُ أمامه حتى تجمَّعوا بسمورة، فلما التقى الجمعانِ، نزل النصرُ وانهزم الكفرُ، وتحصَّنوا بمدينة سمورة، وهي كبيرة جدًّا، فحصرها المسلمون بالمجانيق، حتى افتَتَحوها عَنوةً، وملكوا أكثَرَ شوارعِها، واشتغل الجندُ بالغنائم، وانضمَّت الرومُ إلى جهة من البلد، وخرجوا على حمية، فقتلوا خلقًا في خروجهم، فكانت غزوةُ الحكَمِ من أعظم المغازي، لولا ما طرأ فيها من تضييعِ الحَزْم، فقد رامت الرومُ السِّلْم، فأبى عليهم الحكَمُ، ثم خرج من بلادهم خوفًا من الثلوجِ، فلمَّا كان العامُ الآتي، استعدَّ أعظَمَ استعداد، وقصَدَ سمورة، فقتل وسَبى كلَّ ما مر به، ثم نازلها شهرينِ، ثم دخلوها بعد جَهدٍ، وبذلوا فيها السَّيفَ إلى المساء، ثم انحاز المسلمونَ، فباتوا على أسوارها، ثم صَبَّحوهم من الغد، لا يُبقُونَ على مُحتَلِمٍ. فقُتِلَ في سمورة ثلاثمائة ألف نفس، فلما بلغ الخبَرُ مَلِك روميَّة، كتبَ إلى الحكَمِ يرغَبُ في الأمان، فوضع الحكَمُ على الرُّوم ما كان جده عبدالرحمن الداخل وضع عليهم، وزاد عليهم أن يجلِبوا من ترابِ مدينةِ روميَّة نفسِها ما يُصنَعُ به أكوامٌ بشرقيَّ قُرطبة؛ صَغارًا لهم، وإعلاءً لِمَنارِ الإسلام.
ثار على شروان شاه ولده فنزع منه الملك، وأخرجه من البلاد، ومَلَك بعده، وسبب ذلك أن شروان شاه كان سيئ السيرة، كثيرَ الفساد والظلم، يتعرض لأموال الرعايا وأملاكهم، وقيل أيضًا: إنه كان يتعرض للنِّساء والولدان، فاشتدت وطأتُه على الناس، فاتفق بعضُ العسكر مع ولده، وأخرجوا أباه من البلاد، وملك الابن وأحسن السيرة، فأحبه العساكر والرعيَّة، وأرسل الولد إلى أبيه يقول له: إني أردتُ أن أتركك في بعض القلاعِ وأجري لك الجرايات الكثيرة، ولكلِّ مَن تحب أن يكون عندك، والذي حملني على ما فعلتُ معك سوءُ سيرتك وظُلمُك لأهل البلاد، وكراهيتُهم لك ولدولتك, فلما رأى الأب ذلك سار إلى الكرج، واستصرخ بهم وقرَّرَ معهم أن يرسلوا معه عسكرًا يعيدونَه إلى ملكه، ويعطيهم نصفَ البلاد، فسيروا معه عسكرًا كثيرًا، فسار حتى قارب مدينة شروان، فجمع ولدُه العسكر، فخرج في عسكره، وهم قليل، نحو ألف فارس، ولقوا الكرجَ وهم في ثلاثة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا، وصبَرَ أهل شروان، فانهزم الكرج، فقُتِلَ كثير منهم، وأُسِرَ كثير، ومن سلم عاد بأسوأ حال، وشروان شاه المخلوع معهم، فتشاءم الكرجُ منه فطردوه عن بلادِهم، واستقَرَّ ابنه في الملك، واغتبط الناسُ بولايته.
على الرغمِ من انتهاء الأزمة بين الملك عبدالعزيز والشريف حسين، وتبادل الطرفين المبعوثين، والتأكيد على إحلال السلامِ بينهما، إلا أن الشريف حسين في هذا العام حدَّد عددَ حُجَّاج نجد، فاعترض الملك عبدالعزيز على هذا التحديدِ، ووجَّه خِطابًا إلى المعتَمد البريطاني في بغداد، فوجَّه الإنجليز خطابًا للشريف للدخولِ مع الملك عبدالعزيز في مباحثاتٍ لحَلِّ هذه المشكلة، فرفض الشريف وكتب للإنجليزِ بعدم استقباله لحجَّاج نجدٍ هذا العام إلَّا إذا تخلى الملك عبدالعزيز عن مناطِقِ الجوف، وبيشة، ورانية، وتربة، وخيبر، والمناطق الأخرى التي احتلَّها في السنوات الأخيرة، وأنَّه سيدخل معه في معاهدةٍ إذا وافق على الانسحابِ مِن هذه المناطق والعودة إلى حدود والِدِه السابقة في إمارة نجد، ورغمَ الضغوطِ البريطانية على الشريف من أجلِ تغيير موقِفِه والسماحِ للحُجَّاج النجديِّين بدخول مكة لأداء مَنسَكِ الحجِّ إلَّا أنه كان مصَمِّمًا على رأيِه، وفشلت بريطانيا في التوفيق بينهما، ولما أدرك ابنُ سعود عدَمَ جدوى الحلول السلمية والدبلوماسية مع الشريف حسين، قرَّر أن يصفي حساباتِه معه في ميادينِ القتالِ، وهذا ما أوضحه في رسالة إلى برسي كوكس المعتمد البريطاني في الخليجِ في نهاية عام 1923م بقوله: "حَقَّ لي فيما أظنُّ أن اتَّبِع السياسة التي أريدُها، وأن أعملَ على تقرير مصيري بالطريقةِ التي أراها، وهذا ما أفعَلُه الآن".
لمَّا رأى المسلمون مُطاوَلةَ الرُّومِ لهم بالشَّام اسْتمَدُّوا أبا بكرٍ، فكتَب إلى خالدِ بن الوَليد يأمُرهُ بالمَسيرِ إليهم وبالحَثِّ، وأن يَأخُذَ نِصفَ النَّاس ويَسْتخلِفَ على النِّصفِ الآخرِ المُثَنَّى بن حارِثةَ الشَّيبانيَّ، ولا يَأْخُذَنَّ مَن فيه نَجْدَةٌ إلَّا وَيَتْرك عند المُثَنَّى مِثْلَهُ، وإذا فتَح الله عليهم رجَع خالدٌ وأصحابُه إلى العِراقِ. اتَّجَه خالدٌ مِن العِراقِ إلى الشَّام وفتَح عددًا مِن المُدُنِ، وصالَح بعضَها، وصل شَرقِيَّ جَبَلِ حَوْرانَ، ثمَّ تَدْمُرَ، ثمَّ القَرْيَتينِ مِن أَعمالِ حِمْصَ، ثمَّ قاتَل غَسَّانَ في مَرْجِ راهِطٍ وانتصر عليهم، ثمَّ سار إلى بُصْرى الشَّامِ وكانت أوَّلَ مدينةٍ افتتَحها مِن بِلادِ الشَّامِ حتَّى بلَغ جموع المسلمين في اليرموك، وكان ممَّا مَرَّ به خالدٌ مع جَيْشِهِ مَفازَة بين قُراقِر وسُوَى لا ماءَ فيها ولا كَلَأ، الدَّاخِلُ فيها مَفقودٌ، والخارِجُ منها مَولودٌ، لكنَّ خالدًا استعان بدَليلٍ يُقال له: رافِعُ بن عُميرَةَ الطَّائيُّ، ساعَدهُ على تَجاوُزِ المَفازةِ بسَلامٍ مع جَيشٍ قِوامُه تِسعةُ آلافِ مُقاتلٍ.
غَزَا مَسلمةُ بن عبدِ الملك والعَبَّاس بن الوَليد بن عبدِ الملك بِلادَ الرُّومِ، وكان الوَليدُ قد كَتَبَ إلى صاحِب أرمينية يَأمُره أن يَكتُب إلى مَلِك الرُّوم يعرفه أن الخَزَر وغيرهم مِن مُلوك جِبال أرمينية قد اجتمعوا على قَصْدِ بِلادِه، ففَعَل ذلك، وقَطَعَ الوَليدُ البَعْثَ على أهلِ الشَّام إلى أرمينية وأَكْثَرَ وأَعْظَمَ جِهازَهُ، وساروا نحو الجَزيرَة ثمَّ عَطَفوا منها إلى بَلَدِ الرُّوم فاقْتَتَلوا هُم والرُّوم، فانْهَزَم الرُّومُ ثمَّ رَجَعوا فانْهَزَم المسلمون، فبَقِيَ العَبَّاس في نَفَرٍ، منهم ابنُ مُحَيْرِيز الجُمَحِيُّ، فقال العَبَّاسُ: أين أهلُ القُرآن الذين يُريدون الجَنَّة؟ فقال ابنُ مُحَيْرِيز: نَادِهِمْ يَأْتُوك. فنَادَى العَبَّاسُ: يا أهلَ القُرآن! فأَقْبَلوا جَميعًا، فهَزَمَ اللهُ الرُّومَ حتَّى دَخَلوا طُوانَة، وحَصَرَهم المسلمون، وفَتَحوها في جُمادَى الأُولى. كما غَزَا مَسلمةُ بن عبدِ الملك الرُّومَ أيضًا ففَتَحَ ثَلاثَة حُصونٍ: أَحَدها حِصْن قُسْطَنْطِين وغَزَالَة وحِصْن الأَخْرم، وقَتَل مِن المُسْتَعْرِبَة نَحوًا مِن ألف، وأَخَذ الأَموال.
لمَّا وَصَل موسى إلى أفريقيا وبها صالِحٌ الذي اسْتَخْلَفَه حَسَّانُ على أفريقيا، وكان البَرْبَر قد طَمِعوا في البِلاد بعدَ مَسير حَسَّان عنها، فلمَّا وَصَل موسى عَزَل صالِحًا، وبَلَغَه أنَّ بأَطْرافِ البِلادِ قومًا خارجِين عن الطَّاعَة، فوَجَّه إليه ابنَه عبدَ الله فقاتَلَهم فظَفَر بهم، وسَبَى منهم ألفَ رَأسٍ، وسَيَّرَه في البَحرِ إلى جَزيرَة مَيُورْقَة، فنَهَبَها وغَنِمَ منها ما لا يُحْصَى وعاد سالِمًا، فوَجَّه ابنَه هارونَ إلى طائِفَة أُخرى فظَفَر بهم وسَبَى منهم نحوَ ذلك، وتَوَجَّه هو بِنَفسِه إلى طائِفَة أُخرى فغَنِمَ نحوَ ذلك، فبَلَغ الخُمُسُ سِتِّين ألف رَأسٍ مِن السَّبْيِ، ولم يَذكُر أَحَدٌ أنَّه سَمِعَ بِسَبْيٍ أَعظَم مِن هذا. ثمَّ قام موسى بن نُصَير بإخْلاءِ ما تَبَقَّى مِن قَواعِد للبِيزَنطيِّين على شَواطِئ تُونُس كما اسْتَعاد المَناطِق التي كان البَرْبَر قد انْتَزَعوها من المسلمين بعدَ فَتْحِها أوَّلَ مَرَّةَ، واهْتَمَّ موسى بِنَشرِ الإسلام بين البَرْبَر ومُسالَمَتِهم واسْتِمالَة رُؤوسِهم، لِيَضْمَن ألَّا يَنْزَعوا للثَّوْرَةِ مُجدَّدًا، فانْضَمَّ إلى جَيشِه الآلافُ منهم بعدَ إسلامِهِم.
وقعت فتنةٌ ببغداد بين محمَّد بن أوس البلخي ومن تَبِعَه وبين الشاكريَّة والجند وغيرهم من العامَّة والرَّعاع، فوثبت الشاكريَّة ببغداد بمحمد بن أوس، والسببُ في ذلك أنَّ محمَّد بن أوس قَدِمَ بغداد مع سليمانَ بنِ عبد الله بن طاهر، وهو على الجيش القادم من خراسان، ومع سليمان الصعاليكُ الذين تألَّفَهم سليمانُ بالرَّيِّ، ولم تكن أسماؤهم في ديوانِ السُّلطان بالعراق، والجُند والشَّاكرية يصيحون في طلبِ مال البيعة, وكان الحسينُ بن إسماعيل يحرِّضُ العامَّة على محمد بن أوس ومن قدم مع سليمان أنهم يقصِدون أخذَ أموالِهم والفوزَ بها دونهم، حتى امتلأت قلوبُهم غيظًا, فاجتمع من العامَّةِ نحوُ مائة ألف، وكان بين الناس قتالٌ بالنِّبال والرماح والسَّوط، فقُتِلَ خَلقٌ كثير، ثم انهزم محمد بن أوس وأصحابُه، فنَهَبت العامَّةُ ما وجدوا من أموالِه، وهو ما يعادل ألفَي ألف أو نحو ذلك، ثم اتَّفقَ الحالُ على إخراج محمد بن أوس من بغداد إلى أين أراد، فخرجَ منها خائفًا طريدًا؛ وذلك لأنَّه لم يكن عند الناسِ مرضِيَّ السِّيرة.
دخل جيش الخبيثِ الزنجيِّ إلى البصرة قهرًا، فقتل من أهلِها خَلقًا، وهرب نائبُها بغراج ومن معه، وأحرَقَت الزنج جامعَ البصرة ودورًا كثيرة، وانتهبوها، ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحدُ أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الأمانَ فلْيَحضُر، فاجتمع عنده خلقٌ كثير من أهل البصرة، فرأى أنه قد أصاب فرصةً، فغدر بهم وأمَرَ بقَتلِهم، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا الشاذ، كانت الزنجُ تحيط بجماعةٍ من أهل البصرة، ثم يقول بعضهم لبعض: كيلوا- وهي الإشارة بينهم إلى القتل- فيَحمِلون عليهم بالسيوفِ، فلا يُسمَعُ إلَّا قَولُ أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، من أولئك المقتولين, وضجيجُهم عند القتل- أي صراخ الزِّنج وضَحِكهم - وهكذا كانوا يفعلونَ في كل محالِّ البصرة في عِدَّة أيام، وهرب الناسُ منهم كلَّ مَهرَبٍ، وحرَقوا الكلأ من الجبَل إلى الجبل، فكانت النارُ تحرِقُ ما وجدت من شيءٍ؛ من إنسانٍ أو بهيمة أو غير ذلك، وأحرقوا المسجِدَ الجامع، وقد قتَل هؤلاء جماعةً كثيرةً من الأعيان والأُدَباء والفُضَلاء والمحَدِّثين والعلماء.
كان إبراهيم بن محمَّد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أبي طالب المعروف "بابن الصوفي العَلَوي" قد ظهر بمصر سنة ست وخمسين، فدعا لنفسه ثم هرب إلى الواحات، ثم عاد هذا العام، فدعا الناسَ إلى نفسه، فتَبِعَه خلق كثير، وسار بهم إلى الأشمونين، فوُجِّه إليه جيش عليهم قائد يعرف بابن أبي الغيث، فوجده قد أصعد إلى لقاء أبي عبد الرحمن العمري، فلما وصل العَلَوي إلى العُمري التقيا، فكان بينهما قتالٌ شديد، أجْلَت الوقعةُ عن انهزام العلوي، فولى منهزمًا إلى أسوان، فعاث فيها وقطع كثيرًا من نَخلِها. فسيَّرَ إليه ابن طولون جيشًا، وأمرهم بطلبه أين كان، فسار الجيش في طلبه، فولى هاربًا إلى عيذاب، وعبَرَ البحر إلى مكَّة، وتفَرَّق أصحابه، فلما وصل إلى مكة بلغ خبَرُه إلى واليها فقبض عليه وحبَسَه، ثم سيَّرَه إلى ابن طولون، فلما وصلَ إلى مصر أمر به فطِيفَ به في البلد، ثم سجَنَه مُدَّة وأطلقه، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات.
أمر الناصِرُ ببناء مدينة الزَّهراء في قرطبة، وكان يصرف فيها من الصَّخرِ المنجور ستةَ آلاف صخرة في اليوم، سوى التَّبليطِ في الأساس وجَلَب إليها الرُّخام من قرطاجَنَّة إفريقية ومن تونس، وكان الأمناء الذين جلبوه عبد الله بن يونس، وحسن القرطبي، وعليُّ بنُ جعفر الإسكندراني، وكان الناصر يَصِلُهم على كلِّ رخامة بثلاثة دنانير، وعلى كلِّ سارية بثمانية دنانير. وكان فيها من السَّواري 4313 سارية، المجلوبة منها من إفريقية 1013 سارية. وأهدى إليه ملِكُ الروم 140سارية، وسائر ذلك من رخام الأندلس. وأما الحوضُ الغريب المنقوش المُذهَّب بالتماثيل، فلا قيمةَ تُقَدَّرُ له، جلَبَه ربيع الأسقف من القسطنطينية مِن مكانٍ إلى مكانٍ حتى وصل في البَحرِ، ووضعه الناصرُ في بيت المنام في المجلِس الشرقي المعروف بالمؤنس، وكان عليه اثنا عشر تمثالًا من الذهب الأحمر مرصَّع بالدرِّ النفيس العالي ممَّا صنعه بدار الصَّنعةِ بقَصرِ قُرطبة. وكان المتولِّي لهذا البنيان المذكور ابنُه الحكم، لم يتَّكِل الناصر فيه على أمينٍ غَيرِه، وكان يُخبَزُ في أيَّامِه كلَّ يومٍ ثمانمائة خبزة.
بَدأَت الدَّولةُ الفاطِمِيَّةُ بمصر يُصيبُها الضَّعفُ بسَببِ عِدَّةِ أُمورٍ كان مِن أَهمِّها حُصولُ الشِّقاقِ بين التُّركِ والعَبيدِ، وحُصولُ الاقتِتالِ بينهم، وفي هذه السَّنَةِ خَرجَ ناصرُ الدولةِ بن حمدان من عند الوزيرِ أبي عبدِ الله الماشلي وَزيرِ المُستَنصِر بمصر فوَثبَ عليه رَجلٌ صَيْرَفِيٌّ وضَربَه بسِكِّينٍ؛ فأُمسِكَ الصَّيرفيُّ وشُنِقَ في الحالِ، وحُمِلَ ناصرُ الدولةِ بن حمدان إلى دارِه جَريحًا، فعُولِجَ فبَرِئَ بعدَ مُدَّةٍ. فقِيلَ: إن المُستَنصِر ووالدَتَهُ كانا دَسَّا الصَّيرفِيَّ عليه، وفي هذه الأيامِ اضمَحلَّ أَمرُ المُستَنصِر بالدِّيارِ المِصريَّة لِتَشاغُلِه باللَّهوِ والشُّربِ والطَّرَبِ. فلمَّا عُوفِيَ ابنُ حمدان اتَّفقَ مع مُقدَّمِي المَشارِقَة، مثل سنان الدولةِ وسُلطانِ الجُيوشِ وغَيرِهما، فرَكِبوا وحَصَروا القاهرةَ، فاستَنجدَ المُستَنصِر وأُمُّهُ بأَهلِ مصر، وذَكَّرَهم بحُقوقِه عليهم، ووَعدَهم بالإحسانِ؛ فقاموا معه ونَهَبوا دُورَ أَصحابِ ابن حمدان وقاتَلوهُم. فخاف ابنُ حمدان وأَصحابُه، ودَخَلوا تحتَ طاعةِ المُستَنصِر، بعدَ أُمورٍ كَثيرةٍ صَدرَت بين الفَريقَينِ.
مَلَكَ عَسكرُ المُستَنصِر بالله العُبيديِّ، صاحِبِ مصر، مَدينةَ صور، وسَببُ ذلك ما كان سَنةَ 482هـ أن أَميرَ الجُيوشِ بَدرًا، وَزيرَ المُستَنصِر، سَيَّرَ العَساكِرَ إلى مَدينةِ صور، وغَيرِها، من ساحِلِ الشامِ، وكان مَن بها قد امتَنعَ مِن طاعَتِهم، فمَلَكَها، وقَرَّرَ أُمورَها، وجَعَلَ فيها الأُمراءَ، وكان قد وَلَّى مَدينةَ صور الأَميرَ الذي يُعرَف بمُنيرِ الدولةِ الجُيوشيِّ، فعَصَى على المُستَنصِر وأَميرِ الجُيوشِ، وامتَنعَ بصور، فسُيِّرَت العِساكرُ من مصر إليه، وكان أَهلُ صور قد أَنكَروا على مُنيرِ الدولةِ عِصيانَه على سُلطانِه، فلمَّا وَصلَ العَسكرُ المصريُّ إلى صور وحَصَروها وقاتَلوها ثارَ أَهلُها، ونادوا بشِعارِ المُستَنصِر وأَميرِ الجُيوشِ، وسَلَّموا البلدَ، وهَجمَ العَسكرُ المصريُّ بغَيرِ مانعٍ ولا مُدافِعٍ، ونَهَبَ من البلدِ شَيئًا كَثيرًا، وأُسِرَ مُنيرُ الدولةِ ومَن معه مِن أَصحابِه، وحُمِلُوا إلى مصر، وقُطِعَ على أَهلِ البلدِ سِتُّون ألف دِينارٍ، فأَجحَفَت بهم، ولمَّا وَصلَ مُنيرُ الدولةِ إلى مصر ومعه الأَسرَى قُتِلُوا جَميعُهم ولم يَعفُ عن واحدٍ منهم.
سار بلك بن بهرام، ولد أخي إيلغازي، إلى مدينة الرها، فحصرها وبها الفرنج، وبقي على حصرها مدة، فلم يظفر بها، فرحل عنها، فجاءه إنسان تركماني وأعلمه أن جوسلين، صاحب الرها وسروج، قد جمع مَن عنده من الفرنج، وهو عازم على كبسه، وكان قد تفرَّق عن بلك أصحابه، وبقي في أربعمائة فارس، فوقف مستعدًّا لقتالهم، وأقبل الفرنج، فمِن لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج وصلوا إلى أرض قد نضب عنها الماء، فصارت وحلًا غاصت خيولُهم فيه فلم تتمكَّن مع ثقل السلاح والفرسان من الإسراع والجري، فرماهم أصحاب بلك بالنشاب، فلم يُفلِت منهم أحد، وأُسِرَ جوسلين وجُعِل في جلد جمل، وخيط عليه، وطلب منه أن يسلِّمَ الرها، فلم يفعَلْ، وبذل في فداء نفسِه أموالًا جزيلة، وأسرى كثيرة، فلم يُجِبْه إلى ذلك، وحمله إلى قلعة خرتبرت فسجنه بها، وأسر معه ابن خالته، واسمه كليام، وكان من شياطين الكفَّار، وأسر أيضًا جماعة من فرسانه المشهورين، فسجنهم معه.
كان المسترشد بالله خرج من بغداد لنصرة السلطان مسعود في قتاله مع عمه سنجر, فلما بلغه أن عماد الدين ودبيس بن صدقة يسيران إلى بغداد، وبلغه انهزام السلطان مسعود، عزم على العود إلى بغداد، فأتاه الخبر بوصول عماد الدين زنكي إلى بغداد، ومعه دبيس بن صدقة، وكان السلطان سنجر قد كاتبهما وأمرهما بقصد العراق، والاستيلاء عليه، فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود إليها، وعبر إلى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية، ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل، والتقيا بحصن البرامكة في السابع والعشرين من رجب، فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة، وبها جمال الدولة إقبال، فانهزموا منه، وحمل نصر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس، وحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال، فانهزم دبيس، وأراد عماد الدين الصبر، فرأى الناس قد تفرقوا عنه، فانهزم أيضًا، وقُتِل من العسكر جماعة، وأسر جماعة، وبات الخليفة هناك ليلته، وعاد من الغد إلى بغداد.
قَصَد السلطانُ محمود بن محمد الخان، وهو ابن أخت السلطان سنجر، مَلِك خراسان بعده. سار محمود لحصار المؤيَّد أي أبه صاحب نيسابور بشاذياخ، وكان الغز الأتراك (التركمان) مع السلطان محمود، فدامت الحربُ إلى سنة 556, ثم إن محمودًا أظهر أنَّه يريدُ دُخولَ الحمَّام، فدخل إلى شهرستان، آخر شعبان، كالهارب من الغز، وأقاموا على نيسابورَ إلى آخرِ شوال، ثم عادوا راجعين، فعاثُوا في القرى ونَهَبوها، ونهبوا طوس نهبًا فاحشًا، فلما دخل السلطانُ محمود إلى نيسابور أمهلَه المؤيدُ إلى أن دخل رمضانُ من سنة 557 فأخذه وكحَّله وأعماه، وأخذ ما كان معه من الأموالِ والجواهرِ والأعلاقِ النفيسة، وكان يُخفيها خوفًا عليها من الغز لَمَّا كان معهم، وقطَعَ المؤيدُ خطبته من نيسابور وغيرِها ممَّا هو في تصَرُّفِه، وخطَب لنفسِه بعد الخليفة المستنجد بالله، وأخذ ابنَه جلالَ الدين محمدًا الذي كان قد ملَّكه الغز أمْرَهم قبل أبيه، وسجنهما، ومعهما جواريهما وحشمهما، وبقيا فيها فلم تطُل أيامهما، ومات السلطان محمود، ثم مات ابنُه بعده من شدة وجْدِه لموت أبيه.