هو محمد جمال الدين بن صفدر -وتكتب صفتر- الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، كان فيلسوفًا سياسيًّا، وكاتبًا وخطيبًا وصحفيًّا، ولد في شعبان 1254هـ / أكتوبر 1838م بأسد آباد بالقربِ من همذان من أعمال فارس، وقيل إنه ولد بأسد آباد الأفغانية؛ ولذا اختُلِفَ في أصل نسب أسرتِه، هل هو فارسي إيراني أم أفغاني, وقيل إنه من أسرة أفغانية عريقة ينتهي نسَبُها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه, نشأ الأفغاني في كابول عاصمة الأفغان. وتعلَّم فيها بدايةَ تلقيه العلمَ اللغتينِ العربيةَ والفارسية، ودرَس القرآن وشيئًا من العلومِ الإسلامية، وفي سِنِّ الثامنة لفت أنظارَ من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والِدَه يحفِّزُه إلى التعلم، وفي أوائل سنة 1266هـ / 1849م وقد بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل به والده إلى طهران، وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبَرِ علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه "أقاسيد صادق" فتوجَّه مباشرةً إلى مجلسه، ودار حوارٌ بينهما في مسألةٍ علميةٍ، فأُعجِبَ الشيخ من علمه وجرأتِه مع صِغَرِ سنه، فأقبل عليه وضمَّه إلى صدره وقبَّلَه، ثم أرسَلَ إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتريَ له عباءةً وعمامة، ثم قام الشيخُ بلَفِّ العمامة ووضَعَها بيده فوقَ رأسه تكريمًا له، واعتزازًا بعلمِه. ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والدِه -إلى مركز الشيعية العلمي- في النَّجفِ بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربعَ سنوات درس فيها العلومَ الإسلامية وغيرها؛ فدرس التفسير والحديث، والفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وأصول الفقه، والرياضة، والطب والتشريح، والنجوم. وقرأ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخ والتصوف، والشريعة، وظهر حُبُّه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، أتقن الأفغانيُّ الحديث باللغة العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكَلَّم بالعربية فلغتُه فصحى، وهو واسِعُ الاطِّلاع على العلومِ القديمة والحديثة، كريمُ الأخلاقِ كبيرُ العقل، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتمَّ دراستَه للعلوم، وظلَّ الأفغاني طوال حياته حريصًا على العلمِ والتعلُّم، وبرزت فيه هوايةُ التَّرحالِ والأسفار. فسافر إلى الهندِ لدراسة بعض العلوم العصرية، ثم عاد إلى أفغانستان. كان الأفغانيُّ يُظهِرُ في عمله السياسي مناهَضةَ استبداد الحكَّام ومناوأة الاستعمار عمومًا والإنجليزيِّ خصوصًا في كلِّ مكانٍ ينزِلُ فيه. حينما وقع خلافٌ بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان له بمثابةِ وزيرِ دولة، وحدث صدامٌ بين جمال الدين وبين الإنجليز، فرحل عن أفغانستان أو طرَدَه الإنجليزُ منها سنة 1285ه ـ/ 1868م، ومر بالهندِ في طريقِه فكان الإنجليز يمنعون العُلَماءَ وطلبة العلم الجلوسَ معه، فخرج منها إلى مصر حيث أقام بها مدةً قصيرة تردَّد في أثنائها على الأزهرِ، وكان بيته مزارًا لكثيرٍ مِن الطلاب والدارسين خاصةً السوريين. ثم دعاه السُّلطانُ العثماني عبد العزيز إلى زيارةِ الدولة العثمانية فأجاب الدعوة، وسافر إلى الأستانة في عهدِ الصدر عالي باشا، فعَظُم أمرُه بها، وذاعت شهرتُه وارتفعت منزلته، ثم عُيِّن جمالُ الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارِفِ الأعلى، وهناك لقِيَ معارضة وهجومًا من بعضِ علماء الأستانة وخطباءِ المساجد الذين لم يرُقْهم كثير من آرائِه وأقواله، وخاصة من شيخِ الإسلام حسين فهمي أفندي، فطُلب من الأفغاني أن يرحَلَ، فخرج من الأستانة عائدًا إلى مصر، فأقام فيها بضعَ سنوات خاض فيها غِمارَ السياسة المصرية، ودعا المصريِّين إلى ضرورةِ تنظيم أمورِ الحُكمِ، وتأثَّرَ به في مصر عددٌ من رموز الحركة الأدبيَّةِ والسياسية، منهم: محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وغيرهما، فقد أُعجِبوا بفكره وجرأتِه في مناهضة الاستبداد والاستعمار، ويُذكرُ أن للأفغان دورًا في إعطاء دفعةٍ قويةٍ للنَّهضةِ الأدبيَّةِ الحديثة بمصر، فلمَّا تولى الخديوي توفيق باشا حُكمَ البلاد أمَرَ بإخراجه مِن مِصرَ، فأُخرِجَ بطريقة عنيفةٍ بأمرٍ مِن الخديوي بعد أن أقام في مِصرَ نحوَ ثماني سنوات. انتقل إلى الهند سنة 1296هـ / 1879م، ثمَّ طُرِدَ من الهند بأمرٍ مِن الإنجليز، فاتَّجَه إلى أوروبا واختار أن يبدأ بلندن، ومنها انتَقَل إلى باريس، فشرع في تعلُّم الفرنسية فيها، وبذل كثيرًا من الجُهدِ والتصميمِ حتى خطا خطواتٍ جيدةً في تعلُّمِها، ثم اتصل بتلميذِه الشيخ محمد عبده المنفيِّ حينَها في بيروت، ودعاه إلى الحُضورِ إلى باريس، وأصدرا معًا جريدة "العُروة الوثقى"، ولكِنَّها ما لَبِثَت أن توقَّفَت عن الصدور بعد أن أُوصِدَت أمامَها أبوابُ كُلٍّ مِن مصر والسودان والهند، بأمرٍ مِن الحكومةِ الإنجليزيةِ, ثمَّ دعاه شاه إيران "ناصر الدين" للحُضورِ إلى طهران، واحتفى به وقَرَّبه، وهناك نال الأفغانيُّ تقدير الإيرانيين وحَظِيَ بحُبِّهم، ومالوا إلى تعاليمِه وأفكارِه، ثمَّ ذهب إلى روسيا فأقام فيها ثلاثَ سنواتٍ تنَقَّل بين موسكو وعاصمتِها بطرسبرج آنذاك، وزار كييف، والتقى بقيصرِها ألكسندر الثالث، ثمَّ أمر القيصَرُ بطَردِه من روسيا، فعاد مرةً أخرى لإيران بطلَبٍ من الشاه ناصر الدين، ثم انقَلَب عليه فطَرَده من إيران، فرحل إلى البصرة، ومنها إلى لندن للمرَّة الثانية؛ حيث اتخذ من جريدة "ضياء الخافقين" منبرًا للهُجومِ على الشاه ناصر الدين، وكشف ما آلت إليه أحوالُ إيران في عَهدِه، انتظم جمالُ الدين في سِلكِ الماسونيَّةِ بطَلبٍ منه؛ زعم أنَّ ذلك يُفسِحُ له المجالَ أمامَ أعماله السياسيَّةِ، وقد انتُخِبَ رئيسًا لمحفل "كوكب الشرق" سنة 1295هـ / 1878م، وقيل إنه استقال منه فيما بعدُ. يُعتَبَرُ الأفغانيُّ في نظرِ مُريديه وطنيًّا كبيرًا، بينما يَنظُرُ إليه خصومُه على أنَّه مهَيِّجٌ خطير، فقد كان له أثَرٌ كبير في الحركاتِ الحُرَّة والحركات الدستورية التي قامت في الدُّوَلِ العربية والإسلامية، وكان يَرمي من إثارة الخواطِرِ إلى تحريرِ هذه الدُّوَلِ من النفوذ الأوربي واستغلالِ الأوروبيِّين، ثم بعد ذلك النهوض بها نهوضًا ذاتيًّا من الداخل متوسِّلًا في ذلك بإدخالِ النظُمِ الحُرَّة إليها، كما كان يهدفُ إلى جمع كَلِمةِ الدول الإسلامية بما فيها فارس الشيعيَّة تحت راية خلافةٍ واحدةٍ، وإقامةِ إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ قويةٍ تستطيعُ الوقوفَ في وجهِ التدَخُّلِ الأوربي؛ ولذلك دعاه السلطانُ عبد الحميد الثاني في عهدِه وقَرَّبه إليه وتعاون معه في تسويقِ فكرة الجامعة الإسلامية، ثم انقلب عليه السلطانُ عبد الحميد الثاني لَمَّا شك في علاقتِه بالإنجليز. لم يُكثِرِ الأفغاني من التصنيف اعتمادًا على ما كان يبُثُّه في نفوس العاملين، وانصرافًا إلى الدعوة بالسِّرِّ والعلن. له تاريخ الأفغان، ورسالة الرد على الدهريين، ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده, وجمع محمد باشا المخزومي كثيرًا من آرائه في كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني، ولمحمد سلام مدكور كتاب جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق. توفِّيَ الأفغاني في الأستانة بعد أن أُصيب بمرَضِ السرطان في فَكِّه، عن عمرٍ بلغ نحو ستين عامًا، وقد ثار الجدَلُ حول وفاته، وشكَّك البعضُ في أسبابها، وأشار آخرون إلى أنه اغتيلَ بالسمِّ. وكانت وفاته في 5 من شوال 1314هـ / 10 من مارس 1897م. قال عنه الفيلسوفُ إرنست رينان الذي التقى به وحاوَرَه: "قد خُيِّلَ إليَّ مِن حريَّةِ فِكرِه ونبالةِ شِيَمِه وصراحتِه وأنا أتحدث إليه، أنَّني أرى وجهًا لوجهِ أحدِ مَن عرفتُهم من القُدَماء، وأنني أشهَدُ ابنَ سينا أو ابنَ رشد, أو أحدَ أولئك الملاحدة العِظامِ الذين ظلُّوا خمسة قرون يعملونَ على تحريرِ الإنسانيةِ مِن الإسارِ" وتبقى شخصيةُ الأفغاني يحومُ حولَها كثيرٌ مِن الشُّكوكِ!
								 
                 كان سببُ ذلك أنَّ بني سُليم كانت تُفسِدُ حولَ المدينة بالشَّرِّ، ويأخذون ما أرادوا من الأسواقِ بالحجازِ بأيِّ سِعرٍ أرادوا، وزاد الأمرُ بهم إلى أن وقَعُوا بناسٍ مِن بني كِنانة وباهلة، فأصابُوهم، وقتلوا بعضَهم، فوَجَّهَ محمَّدُ بن صالح- عامِلُ المدينةِ- إليهم حمَّادَ بنَ جريرٍ الطبري، وكان مَسلَحةً لأهل المدينة، في مائتي فارسٍ، وأضاف إليهم جندًا غيرَهم، وتَبِعَهم متطوِّعة، فسار إليهم حمَّاد، فلَقِيَهم بالرويثة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزمت سودانُ المدينةِ بالنَّاسِ، وثَبَت حمَّادٌ وأصحابُه، وقُرَيشٌ والأنصارُ، وقاتلوا قتالًا عظيمًا، فقُتِل حمَّادٌ وعامةُ أصحابِه وعَدَدٌ صالحٌ مِن قريشٍ والأنصار، وأخذ بنو سُلَيم الكُراعَ والسِّلاحَ، والثياب، فطَمِعوا ونهبوا القُرى والمناهِلَ ما بين مكَّة والمدينة، وانقطع الطريقُ. فوَجَّه إليهم الواثِقُ بغا الكبيرَ أبا موسى في جمعٍ من الجند، فقَدِمَ المدينةَ في شعبان، فلَقِيَهم ببعض مياه الحرَّة من رواء السورقية قريتِهم التي يأوُون إليها وبها حُصون، فقتل بغا منهم نحوًا من خمسين رجلًا وأسر مِثلَهم، وانهزم الباقون، وأقام بغا بالسَّورقية، ودعاهم إلى الأمانِ على حُكم الواثق، فأتوه متفَرِّقين فجَمَعَهم، وترك من يُعرَفُ بالفسادِ، وهم زُهاءَ ألفِ رجل، وخلَّى سبيل الباقين، وعاد بالأَسْرى إلى المدينة، فحبَسَهم ثم سار إلى مكَّة. فلما قضى حَجَّه سار إلى ذاتِ عِرقٍ بعد انقضاء الموسِمِ، وعرض على بني هلالٍ مِثلَ الذي عرضَ على بني سُليم، فأقبلوا وأخذ من المفسدينَ نحوًا من ثلاثمائةِ رَجُلٍ، وأطلق الباقين، ورجع إلى المدينةِ فحَبَسَهم.              			
كانت بين يوسُفَ بنِ أبي الساج وبين أبي طاهرٍ القرمطيِّ عند الكوفة موقعةٌ، فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها، فكتب إليه يوسُفُ بنُ أبي الساج: اسمَعْ وأطِعْ، وإلا فاستعِدَّ للقتالِ يوم السبت تاسِعَ شوال منها، فكتب: هلُمَّ، فسار إليه، فلما تراءى الجمعانِ استقَلَّ يوسف جيشَ القرمطي، وكان مع يوسُفَ بن أبي الساج عشرونَ ألفًا، ومع القرمطي ألفُ فارس وخمسمائة رجل. فقال يوسف: وما قيمةُ هؤلاء الكلابِ؟ وأمر الكاتِبَ أن يكتب بالفتحِ إلى الخليفة قبل اللِّقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتًا عظيمًا، ونزل القرمطي فحَرَّض أصحابَه وحمل بهم حملةً صادقة، فهزموا جندَ الخليفة، وأسروا يوسُفَ بن أبي الساج أميرَ الجيش، وقتلوا خلقًا كثيرًا من جند الخليفة، واستحوذوا على الكوفةِ، وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد، وشاع بين الناسِ أنَّ القرامطة يريدون أخذَ بغداد، فانزعج النَّاسُ لذلك وظَنُّوا صِدقَه، فاجتمع الوزيرُ بالخليفة فجهَّزَ جيشًا أربعين ألف مقاتِلٍ مع أمير يقال له بليق، فسار نحوهم، فلما سَمِعوا به أخذوا عليه الطُّرُقات، فأراد دخول بغداد فلم يُمكِنْه، ثم التقَوا معه فلم يلبَثْ بليق وجيشه أن انهزم، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون. وكان يوسُفُ بنُ أبي الساج معهم مقيَّدًا في خيمةٍ، فجعل ينظر إلى محلِّ الوقعة، فلما رجع القرمطي قال: أردتَ أن تهربَ؟ فأمر به فضُرِبَت عنقه. ورجع القرمطي من ناحيةِ بغداد إلى الأنبار، ثم انصرف إلى هيتَ.
هو أبو الحسَنِ عليُّ بنُ بُوَيه، وهو أكبر أولاد بُوَيه، وأوَّلُ مَن تمَلَّك منهم، وكان عاقلًا حاذقًا حميد السيرة رئيسًا في نفسه. كان أولُ ظهورِه في سنة 322, فلما كان في هذا العام 338 قَوِيَت عليه الأسقامُ وتواترت عليه الآلامُ، فأحسَّ من نفسه بالهلاك، ولم يُفادِه ولا دفَعَ عنه أمرَ اللهِ ما هو فيه من الأموالِ والمُلك وكثرةِ الرِّجال والأموالِ، ولا رَدَّ عنه جيشُه من الديلم والأتراك والأعجام، مع كثرةِ العَدَد والعُدد، بل تخَلَّوا عنه أحوجَ ما كان إليهم، فسُبحانَ اللهِ المَلِك القادِرِ، القاهرِ العلَّام! ولم يكن له ولدٌ ذكَرٌ، فأرسل إلى أخيه ركن الدولةِ يستدعيه إليه ووَلَده عَضُد الدولة، ليجعَلَه وليَّ عَهدِه من بعده، فلمَّا قدم عليه فرِحَ به فرحًا شديدًا، وخرج بنفسِه في جميع جيشِه يتلقَّاه، فلمَّا دخل به إلى دار المملكة أجلسَه على السريرِ وقام بين يديه كأحدِ الأُمَراء؛ ليرفَعَ مِن شأنه عند أمرائِه ووزرائِه وأعوانه. وكان يومًا عظيمًا مشهودًا. ثم عقَدَ لعَضُد الدولة البيعةَ على ما يملِكُه من البلدان والأموال، وتدبيرِ المَملكة والرجال. وفيهم مِن بعضِ رُؤوسِ الأمراءِ كراهةٌ لذلك، فشَرَعَ في القبضِ عليهم، وقَتَلَ مَن شاء منهم وسَجَنَ آخرين، حتى تمهَّدَت الأمورُ لعضد الدولة. ثم كانت وفاةُ عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبعٍ وخمسين سنةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه ست عشرة سنة، وكان من أقوى الملوك في زمانِه، وكان ممن حاز قَصَبَ السَّبقِ دون أقرانه، وكان هو أميرَ الأمراء، وبذلك كان يكاتِبُه الخلفاءُ، ولكِنَّ أخاه معز الدولة كان ينوبُ عنه في العراق والسواد.
هو فَخرُ الدولة أبو الحَسَنِ عليُّ بن ركن الدولة الحسَن بن بُوَيه أميرُ الرَّيِّ وهمذان. وُلِدَ سنة 341, ولَمَّا توفِّيَ أخوه مؤيد الدولة في شعبان سنة 373ه بجرجان، استولى على مملكتِه، فأقَرَّ الصاحِبَ ابنَ عبَّاد على وزارته، وكان مُبَجَّلًا عند فخر الدولة, ومُعَظَّمًا نافِذَ الأمر، كان فخرُ الدولة شهمًا شُجاعًا، لَقَّبَه الخليفةُ الطائِعُ مَلِكَ الأمة, توفِّيَ بقلعة طبرق, عن سِتٍّ وأربعين سنة، وكان سببُ وفاتِه أنَّه أكل لحمًا مشويًّا، وأكل بعده عِنَبًا، فأخذه المَغصُ، ثم اشتَدَّ مَرَضُه فمات منه، كانت دولتُه أربع عشرة سنة، وترك ألفي ألفِ دينارٍ وثمانمائة ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمتُه ثلاثةُ آلافِ ألفٍ، ومن آنية الذَّهَب ما وزنُه ألف ألف، ومن آنية الفِضَّة ما وزنه ثلاثة آلاف ألف، ومن فاخِرِ الثياب ثلاثة آلاف حِمل. وكانت خزائنُه على ثلاثة آلاف وخمسمائة جملٍ, ومع كُلِّ هذا المُلك لَمَّا مات طلبوا له كفَنًا فلم يجدوه، وتعَذَّر النزولُ إلى البلد؛ لشِدَّةِ شَغبِ الديلم، فاشتروا له مِن قَيِّمِ الجامِعِ ثوبًا كفَّنوه فيه، وزاد شغبُ الجند فلم يُمكِنْهم دفنُه فبَقِيَ حتى أنتَنَ ثمَّ دفنوه. وحين توفِّيَ قام بمُلكِه بعده ولدُه مَجدُ الدولة أبو طالِب رُستم، وعمره أربع سنين، أجلسه الأمراءُ في الملك، وجعلوا أخاه شمسَ الدولة بهمذان وقرميسين إلى حدود العراق. وكان المرجع إلى والدةِ أبي طالب في تدبير الملك، وعن رأيها يَصدُرون، وبين يديها في مباشرة الأعمالِ أبو طاهرٍ صاحِبُ فخر الدولة، وأبو العبَّاس الضبِّي الكافي.
أوقَعُ يمينُ الدَّولةِ محمودُ بنُ سبكتكين بجيبال ملِكِ الهند وقعةً عَظيمةً، وسببُ ذلك أنَّه لَمَّا اشتغَلَ بأمر خراسان ومَلِكِها، وفرغ منها ومِن قتال خلَفِ بنِ أحمد، وخلا وجهُه مِن ذلك؛ أحَبَّ أن يغزوَ الِهندَ غزوةً تكونُ كَفَّارةً لِما كان منه من قتالِ المُسلِمينَ، فثنى عنانَه نحو تلك البلادِ، فنزل على مدينة برشور، فأتاه عدوُّ الله جيبال مَلِكُ الهند في عساكِرَ كثيرةٍ، فالتَقَوا في المحرَّمِ مِن هذه السنة، فاقتتلوا، وصبَرَ الفريقان، فلما انتصَفَ النَّهارُ انهزم الهندُ، وقُتِلَ فيهم مقتلة عظيمة، وأُسِرَ جيبال ومعه جماعةٌ كثيرة من أهلِه وعَشيرتِه، وغَنِمَ المسلمون منهم أموالًا جليلةً، وغَنِموا خمسَمئة ألف رأسٍ من العبيد، وفَتَح من بلادِ الهند بلادًا كثيرةً، فلَمَّا فرغ من غزواته أحَبَّ أن يُطلِقَ جيبال ليراه الهنودُ في شِعارِ الذُّلِّ، فأطلقه بمالٍ قرَّرَه عليه، فأدَّى المال، ومن عادةِ الهندِ أنَّهم مَن حصَلَ منهم في أيدي المُسلِمينَ أسيرًا لم ينعَقِدْ له بعدها رئاسةٌ، فلما رأى جيبال حالَه بعد خلاصِه حلَق رأسَه، ثم ألقى نفسَه في النَّارِ، فلمَّا فرَغَ يمينُ الدولة مِن أمرِ جيبال رأى أن يغزوَ غَزوةً أخرى، فسار نحو ويهند، فأقام عليها مُحاصِرًا لها، حتى فتحها قهرًا، وبلغَه أنَّ جماعةً مِن الهند قد اجتمعوا بشِعابِ تلك الجبال عازِمينَ على الفسادِ والعناد، فسيَّرَ إليهم طائفةً مِن عَسكَرِه، فأوقعوا بهم، وأكثَروا القتلَ فيهم، ولم ينجُ منهم إلَّا الشَّريدُ الفريدُ، وعاد إلى غزنةَ سالِمًا ظافِرًا.
قامَت الدعوةُ الصُّلَيحيَّة باليمنِ والتي أصلها إسماعيليٌّ عن طريق علي بن محمد الصليحي. كانت الدعوةُ الإسماعيليَّةُ قد انقطعت في اليمَنِ بعد اختلافِ عليِّ بن الفضل وابن حوشب؛ إذ سيطَرَ الأوَّلَ على المنطقةِ وأعلن كُفرَه الصَّريحِ حتى مات مسمومًا عام 303هـ على حين اعتزل ابن حوشب في مغارب اليمن. حتى قامت الدعوةُ مُجدَّدًا على يدِ عليٍّ الصليحيِّ الذي كان أبوه محمَّدٌ مِن قضاة اليمن سُنِّي المذهب, وكان داعي الباطنيَّة عامِرُ بنُ عبد الله الزواخي يتردَّدُ على القاضي محمَّد الصليحي؛ لِمَنزلتِه وسُؤدَدِه، وكان عليٌّ حَدَثًا فتفَرَّس به عامِرٌ النجابةَ فاستمال قلبَه وشَوقَّه للمال والحُكمَ، وأسَرَّ إليه أمورًا سِرًّا من أبيه وأهله وهو لا يزالُ حدثًا, ثم لم ينشبْ عامر أنْ هلك فأوصى بكُتُبِه لعلي، فعكف الصليحي على دراستِها ومطالعتها، وكان ذكيًّا, ففقِه وتميَّزَ في رأي العُبَيدين الإسماعيليَّة، ومهر في تأويلاتهم، وقَلْبِهم للحقائقِ, ولَمَّا كان في سنة 429 ثار في رأس مسار، وهو أعلى ذروةٍ في جبال اليمن، وكان معه ستونَ رجلًا قد حالَفَهم بمكة في موسم سنة 428 على الموت والقيامِ بالدعوة، وما منهم إلَّا مَن هو مِن قَومِه وعشائِرِه في مَنعةٍ وعددٍ كثيرٍ، ولم يكنْ برأس الجبل المذكور بناءٌ، فقط كان فيه قلعةٌ منيعة عالية، ولم تمضِ عليه أشهرٌ حتى بناه وحَصَّنه وأتقَنَه. واستفحل أمرُ الصليحيِّ شيئًا فشيئًا، وكان يدعو للمستنصرِ صاحِبِ مصر، ويخافُ من نجاح صاحِبِ تهامةَ، وظلَّ يلاطِفُه ويستكينُ لأمره، وفي الباطِنِ يَعمَلُ الحيلةَ في قتله، ولم يَزَل به حتى قَتَله بالسُّمِّ.
غزا الرُّومَ إبراهيم ينال أخو طغرل بك لأمه وأحد قادة السلاجقة، فظَفِرَ بهم وغَنِمَ، وكان سببُ ذلك أنَّ خلقًا كثيرًا من الغزِّ بما وراء النهر قَدِموا عليه، فقال لهم: بلادي تضيقُ عن مُقامِكم والقيامِ بما تحتاجون إليه، والرأيُ أن تَمضُوا إلى غَزوِ الروم، وتُجاهِدوا في سبيل الله، وتغنَموا، وأنا سائِرٌ على أثَرِكم، ومساعِدٌ لكم على أمْرِكم. ففعلوا، وساروا بين يديه، وتَبِعَهم، فوصلوا إلى ملازكرد، وأرزن الروم، وقاليقلا، وبلغوا طرابزون وتلك النواحيَ كلَّها، ولَقِيَهم عسكَرُ عَظيمِ الروم والأبخاز يبلغونَ خمسين ألفًا، فاقتتلوا، واشتد القتالُ بينهم، وكانت بينهم عِدَّةُ وقائِعَ، تارةً يظفَرُ هؤلاء، وتارة هؤلاء، وكان آخِرَ الأمر الظَّفَرُ للمسلمين، فأكثروا القتلَ في الروم وهزموهم، وأسَروا جماعةً كثيرةً مِن بطارقتهم، وممَّن أُسِرَ قاريط ملِكُ الأبخاز، فبذل في نفسِه ثلاثَمِئَة ألف دينار، وهدايا بمِئَة ألفٍ، فلم يجبه ينال إلى ذلك، ولم يَجُس تلك البلادَ وينهَبْها إلى أن انهزموا وبَقِيَ بينه وبين القُسْطَنطينية خمسةَ عشر يومًا، واستولى المسلمونَ على تلك النواحي فنهبوها، وغَنِموا ما فيها، وسَبَوا أكثَرَ مِن مِئَة ألف رأس، وأخذوا من الدوابِّ والبغالِ والغنائم والأموال ما لا يقَعُ عليه الإحصاءُ، وقيل: إن الغنائِمَ حُمِلَت على عشرة آلاف عجلة، وإنَّ في جملة الغنيمةِ تِسعةَ عشر ألف درع، وكان قد دخل بلدَ الروم جمعٌ مِن الغز يَقدُمُهم نسيب طغرلبك، فلم يؤثِّرْ كَبيرَ أثَرٍ، وقُتِلَ من أصحابه جماعة، وعاد، ودخل بعده إبراهيم ينال، فانتصر عليهم.
								 كان سببُ ذلك أن أبا المُظفَّر أبا الحارث أرسلان التُّركي المعروف بالبساسيري كان قد عَظُمَ شَأنُه بالعراقِ، واستَفحَل أَمرُه، وبَعُدَ صِيتُه، وعَظُمَت هَيبتُه في النُّفوسِ، وخُطِبَ له على المنابرِ، وصار هو الكُلَّ، ولم يَبْقَ للمَلِكِ الرَّحيمِ ابن بُويه معه إلا مُجرَّد الاسمِ. ثم إنَّه بَلَغَ أَميرَ المؤمنين القائم أنَّ البساسيري قد عَزَمَ على نَهْبِ دارِ الخِلافَة والقَبضِ على الخَليفةِ، فكاتَبَ الخَليفةُ القائمُ السُّلطانَ طُغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق يَستَنجِد به، ويَعِدُهُ بالسَّلطَنَةِ، ويَحُضُّهُ على القُدومِ، وكان طُغرلبك بالرَّيِّ، وكان قد استولى على المَمالِك الخُراسانيَّة وغَيرِها، وكان البساسيري يومئذٍ بواسِط ومعه أَصحابُه، ففارَقَهُ طائِفةٌ منهم ورَجَعوا إلى بغداد، فوَثَبوا على دارِ البساسيري فنَهَبوها وأَحرَقوها، وذلك برَأيِ رَئيسِ الرُّؤساءِ وسَعيِه. ثم أَبخَسَهُ عند القائمِ بأنَّه يُكاتِب المِصريِّين، وكاتَبَ المَلِكَ الرَّحيم يَأمرُهُ بإبعادِ البساسيري فأَبعدَهُ، وكانت هذه الحَركةُ مِن أَعظمِ الأَسبابِ في استِيلاءِ طُغرلبك على العراقِ. فقَدِمَ السُّلطانُ طُغرلبك في شَهرِ رمضان بجُيوشِه، فذَهبَ البساسيري من العراقِ وقَصدَ الشَّامَ، ووَصلَ إلى الرَّحبَةِ، وكاتَبَ المُستَنصِرَ العُبيديَّ صاحبَ مصر، واستولى على الرَّحبةِ وخَطَبَ للمُستَنصِر بها فأَمَدَّهُ المُستَنصِر بالأَموالِ. وأما بغداد فخطب بها للسُّلطانِ طُغرلبك بعدَ القائمِ، ثم ذكر بعده المَلِكَ الرَّحيم وذلك بِشَفاعةِ القائمِ فيه إلى السُّلطان. ثم إنَّ السُّلطانَ قَبَضَ على المَلِكِ الرَّحيمِ بعدَ أيَّامٍ، وقُطِعَت خُطبتُه في آخر رمضان، وانقَرضَت دَولةُ بني بُويه، وكانت مُدَّتُها 127 سَنَة، وقامت دَولةُ بني سلجوق، ودخل طُغرلبك بغداد في تَجَمُّلٍ عَظيمٍ، وكان يومًا مَشهودًا دخل معه ثمانية عشر فِيلًا، ونزَلَ بِدارِ المَملكةِ.
 			
وَقعَ نِزاعٌ بين فِرقَتينِ، فِرقةِ العَبيدِ وعَرَبِ الصَّعيدِ، وفِرقةِ الجُنْدِ مِن التُّركِ والمَغارِبَةِ، ورَأسُهم ناصرُ الدَّولةِ ابنُ حمدان التَّغلبيُّ، فالتَقوا بكومِ الريش، فهَزمَهم ابنُ حمدان، وقَتَلَ وغَرَّقَ نحوًا من أربعين ألفًا. ونَفَدَت خَزائنُ المُستَنصِر على التُّركِ، ثم اختَلَفوا، ودامت الحَربُ أيامًا، وطَمِعَ التُّركُ في المُستَنصِر، وطالبوه حتى بِيعَت فُرُشُ القَصرِ، وأَمتِعَتُه بأَبخَسِ ثَمَنٍ، وغَلَبَت العَبيدُ على الصَّعيدِ، وقَطَعوا الطُّرُقَ، وكان نَقْدُ الأَتراكِ في الشهرِ أربعَ مائة ألف دِينارٍ، واشتَدَّت وَطأةُ ناصرِ الدَّولةِ، وصار هو الكُلُّ، فحَسَده الأُمراءُ، وحارَبوهُ، فهَزَموه، ثم جَمَعَ وأَقبلَ فانتَصَر، واضمَحلَّ أَمرُ المُستَنصِر بالمَرَّةِ، وخَملَ ذِكْرُهُ. وبَعثَ ابنُ حمدان يُطالِبُه بالعَطاءِ، فَرآهُ رَسولُه على حَصيرٍ، وما حوله سِوى ثلاثةِ غِلمانٍ. فقال: أما يكفي ناصرَ الدَّولةِ أن أَجلِسَ في مثلِ هذا الحالِ؟ فبَكَى الرسولُ، ورَقَّ له ناصرُ الدَّولةِ، وقَرَّرَ له كلَّ يومٍ مائةَ دِينارٍ, وتَفرَّق عن المُستَنصِر أَولادُه، وأَهلُه من الجوعِ، وتقرفوا وتَفَرَّقوا في البلادِ، ودامَ الجَهْدُ عامين، ثم انحَطَّ السِّعْرُ في سَنةِ خمسٍ وسِتِّين. قال الذهبيُّ: "كان ناصرُ الدَّولةِ، يُظهِر التَّسَنُّنَ، ويَعِيبَ المُستَنصِرَ لِخُبْثِ رَفْضِهِ وعَقِيدَتِه" قال ابنُ الأَثيرِ: بالَغَ ابنُ حمدان في إهانَةِ المُستَنصِر، وفَرَّقَ عنه عامَّةَ أَصحابِه، وكان غَرضُه أن يَخطُبَ لأَميرِ المؤمنين القائمِ، ويُزيلَ دَولةَ الباطنِيَّة، وما زال حتى قَتَلَهُ الأُمراءُ، وقَتَلوا أَخوَيهِ فَخْرَ العَربِ، وتاجَ المعالي، وانقَطَع ذِكْرُ الحمدانية بمصر بالكُلِّيَّةِ"
غَدَرَ شاهملك التُّركيُّ بِيَحيى بنِ تَميمِ بنِ المُعِزِّ بنِ باديس، وقَبَضَ عليه، وكان شاهملك هذا من أَولادِ بَعضِ الأُمراءِ الأَتراكِ ببلادِ الشَّرقِ، فنالَهُ في بَلدِه أَمْرٌ اقتَضى خُروجَه منه، فسار إلى مصر في مائةِ فارسٍ، فأَكرَمَهُ الأَفضلُ أَميرُ الجُيوشِ، وأَعطاهُ إِقطاعًا ومَالًا، ثم بَلَغَهُ عنه أَسبابٌ أَوجبَت إِخراجَه من مصر، فخَرجَ هو وأَصحابُه هارِبينَ، فاحتالوا حتى أَخَذوا سِلاحًا وخَيْلًا وتَوجَّهوا إلى المغربِ، فوَصَلوا إلى طرابلس الغَربِ، وأَهلُ البَلدِ كارِهونَ لِوالِيها، فأَدخَلوهُم البَلدَ، وأَخرَجوا الوالي، وصار شاهملك أَميرَ البلدِ، فسَمِعَ تَميمٌ الخَبرَ، فأَرسلَ العَساكِرَ إليها، فحَصَروها، وضَيَّقوا على التُّركِ ففَتَحوها، ووَصَلَ شاهملك معهم إلى المَهدِيَّةِ، فسُرَّ بهِ تَميمٌ وبمَن معه، فخَرجَ يحيى بنُ تَميمٍ إلى الصَّيْدِ في جَماعةٍ من أَعيانِ أَصحابِه نحوَ مائةٍ فارسٍ، ومعه شاهملك، فغَدَرَ به شاهملك فقَبَضَ عليه، وسار به وبمَن أُخِذَ معه مِن أَصحابِه إلى مَدينةِ سفاقس، وبَلغَ الخَبرُ تَميمًا، فرَكِبَ، وسَيَّرَ العَساكرَ في إثرِهِم، فلم يُدرِكوهُم، ووَصلَ شاهملك بِيَحيى بنِ تَميمٍ إلى سفاقس، ثم إن صاحِبَ سفاقس خاف يحيى على نَفسِه أن يَثُورَ معه الجُنْدُ وأَهلُ البَلدِ ويُمَلِّكوهُ عليهم، فأَرسلَ إلى تَميمٍ كِتابًا يَسألُه في إِنفاذِ الأَتراكِ وأَولادِهم إليه لِيُرسِلَ ابنَه يحيى، ففَعلَ ذلك بعدَ امتِناعٍ، وقَدِمَ يَحيى، فحَجَبَهُ أَبوهُ عنه مُدَّةً، ثم أَعادَهُ إلى حالِه، ورَضِيَ عنه، ثم جَهَّزَ تَميمٌ عَسكرًا إلى سفاقس، ويحيى معهم، فساروا إليها وحَصَروها بَرًّا وبَحرًا، وضَيَّقوا على الأَتراكِ بها، وأَقاموا عليها شَهرَينِ، واستَولُوا عليها، وفارَقَها الأَتراكُ إلى قابس.
استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية، منها قلاع العقر، وقلعة شوش، وغيرهما، وكان لما ملك الموصل أقرَّ صاحبها الأمير عيسى الحميدي على ولايتها وأعمالها، ولم يعترِضْه على شيء مما هو بيده، فلما حصر المسترشد بالله الموصل حضر عيسى هذا عنده، وجمع الأكراد عنده فأكثر، فلما رحل المسترشد بالله عن الموصل أمر زنكي أن تُحصَر قلاعهم، فحُصرت مدة طويلة وقُوتلت قتالًا شديدًا إلى أن مُلِكت هذه السنة، فاطمأنَّ إذًا أهل سواد الموصل المجاورون لهؤلاء القوم؛ فإنهم كانوا معهم في ضائقة كبيرة من نهب أموالهم وخراب البلاد، كما ملك قلاع الهكارية وكواشي، وحُكِي عن بعض العلماء من الأكراد ممن له معرفة بأحوالهم أن أتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله صاحب قلعة أشب والجزيرة ونوشي، فأرسل إلى أتابك زنكي من استحلفه له، وحمل إليه مالًا، وحضر عند زنكي بالموصل فبقي مدة ثم مات، فدُفِن بتل توبة. ولَمَّا سار عن أشب إلى الموصل أخرج ولده أحمد بن أبي الهيجاء منها؛ خوفًا أن يتغلب عليها، وأعطاه قلعةَ نوشى، وأحمد هذا هو والد علي ابن أحمد المعروف بالمشطوب، من أكابر أمراء صلاح الدين بن أيوب بالشام، ولما أخرجه أبوه من أشب استناب بها كرديًّا يقال له باو الأرجي، فلما مات أبو الهيجاء سار ولده أحمد من نوشى إلى أشب ليملِكَها، فمنعه باو وأراد حفظها لولد صغير لأبي الهيجاء اسمه علي، فسار زنكي بعسكره فنزل على أشب وملكها.
حصر ابن ردمير الفرنجي مدينةَ أفراغة من شرق الأندلس، وكان الأمير يوسف بن تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة، فجهَّز الزبير بن عمرو اللمتوني والي قرطبة ومعه ألفا فارس، وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة، وكان يحيى بن غانية، الأمير المشهور، أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس، ووالي أمرها لأمير المسلمين علي بن يوسف، فتجهَّز في خمسمائة فارس، وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة، فتجهز في مائتي فارس، فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة، وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس، وأدركه العجب، ونفذ قطعة كبيرة من جيشه. فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم بعضُهم وكسَرَهم، وردَّ بعضَهم على بعض، وقتل فيهم، والتحم القتال، وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعها مدلين بكثرتهم وشجاعتهم، وعظم القتال، فكثُرَ القتل في الفرنج، فانهزم ابن ردمير وولى هاربًا، واستولى القتل على جميع عسكرِه، فلم يسلم منهم إلا القليل، ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة، فلما رأى ما قُتِل من أصحابه مات مفجوعًا بعد عشرين يومًا من الهزيمة، وكان أشدَّ ملوك الفرنج بأسًا، وأكثرهم تجردًا لحرب المسلمين، وأعظمهم صبرًا، كان ينام على طارقته بغير وطاءٍ، وقيل له: هلا تسرَّيت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سَبَيتَ؟ فقال: الرجلُ المحارب ينبغي أن يعاشِرَ الرجال لا النساء، وأراح اللهُ منه وكفى المسلمين شَرَّه.
سار عمادُ الدين أتابك زنكي بن آقسنقر إلى بعلبك، فحَصَرَها ثمَّ مَلَكَها؛ وسبَبُ ذلك أنَّ مَحمودًا صاحِبَ دِمشقَ لَمَّا قُتِلَ كانت والدتُه زمرد خاتون عند أتابك زنكي بحَلَب، قد تزوَّجَها، فوَجَدت لقَتلِ وَلَدِها وَجْدًا شديدًا، وحَزِنَت عليه، وأرسلت إلى زنكي وهو بديارِ الجزيرة تُعَرِّفُه الحادثةَ، وتَطلُبُ منه أن يَقصِدَ دمشقَ ويطلُبَ بثأر ولدها. فلمَّا وقف على هذه الرِّسالةِ بادر في الحالِ مِن غيرِ توقُّفٍ ولا تَرَيُّث، وسار مُجِدًّا ليجعلَ ذلك طريقًا إلى مِلْكِ البلد، وعبَرَ الفرات عازمًا على قَصدِ دِمشقَ، فاحتاط مَن بها، واستعدُّوا، واستكثروا مِن الذخائرِ، ولم يتركوا شيئًا مِمَّا يحتاجون إليه إلَّا وبذلوا الجُهدَ في تحصيلِه، وأقاموا ينتَظِرونَ وصولَه إليهم، فتَرَكهم وسار إلى بعلبك، فوصلَ إليها في العشرين من ذي الحِجَّة من السَّنة فنازلها في عساكِرِه، وضَيَّقَ عليها، وجَدَّ في محاربتِها، ونَصَب عليها من المنجنيقاتِ أربعة عشر عددًا ترمي ليلًا ونهارًا، فأشرف مَن بها على الهلاك، وطلبوا الأمانَ، وسَلَّموا إليه المدينة، وبَقِيَت القلعةُ وبها جماعةٌ مِن شُجعانِ الأتراك، فقاتلهم، فلما أَيِسوا مِن مُعينٍ ونَصيرٍ طلبوا الأمانَ فأمَّنَهم، فسَلَّموا القلعة إليه، فلما نزلوا منها ومَلَكَها غَدَرَ بهم وأمَرَ بصَلبِهم فصُلِبوا ولم ينجُ منهم إلَّا القليلُ، فاستقبَحَ النَّاسُ ذلك مِن فِعْلِه واستعظَموه وخافه غيرُهم وحَذِروه، ولا سيَّما أهلُ دمشق؛ فإنَّهم قالوا: لو مَلَكَنا لفَعَل بنا مِثلَ فِعْلِه بهؤلاء؛ فازدادوا نفورًا وجِدًّا في محاربتِه، ولَمَّا ملك زنكي بعلبك أخذَ الجاريةَ التي كانت لمُعين الدين أنر، فتزوَّجَها بحَلَب.
لَمَّا ملك صلاح الدين إعزازَ رحل إلى حلب فنازلها منتصَفَ ذي الحجة وحَصَرَها، وبها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود ومَن معه من العساكِرِ، وقد قام العامَّةُ في حفظِ البَلَدِ القيامَ المَرضِيَّ، بحيث إنَّهم منعوا صلاح الدين من القُربِ مِن البلد، لأنَّه كان إذا تقدم للقتال خَسِرَ هو وأصحابُه، كَثُرَ الجراح فيهم والقَتلُ، كانوا يخرجُون ويقاتلونه خارج البلد، فترك القتالَ وأخلدَ للمطاولة، وانقَضَت سنة إحدى وسبعين، ودخلت سنة اثنتين وسبعين، وهو محاصِرٌ لها، ثم ترددت الرسُلُ بينهم في الصُّلحِ في العشرين من المحرم، فوقَعَت الإجابةُ إليه من الجانبين؛ لأن أهل حلب خافوا من طول الحصارِ؛ فإنَّهم ربمَّا ضَعُفوا، وصلاحُ الدين رأى أنه لا يقدِرُ على الدنوِّ مِن البلد، ولا على قتالِ مَن به، فأجاب أيضًا، وتقرَّرَت القاعدة في الصلحِ للجميع، للمَلِك الصالحِ، ولسيف الدين صاحِبِ الموصل، ولصاحِبِ الحصن، ولصاحِبِ ماردين، وتحالفوا واستقَرَّت القاعدة أن يكونوا كُلُّهم عونًا على الناكِثِ الغادر، فلمَّا انفصل الأمرُ وتمَّ الصلحُ، رحل صلاح الدين عن حلب، بعد أن أعاد قلعةَ إعزاز إلى الملك الصالح، وكان في شروط الصلح أن يُطلِقَ صَلاحُ الدين عزَّ الدين جورديك، وشمسَ الدين علي بن الداية، وأخويه سابق الدين، وبدر الدين. فسار أولادُ الداية إلى الملك الناصر، فأكرمهم، وأنعمَ عليهم. وأما جورديك، فأقام في خدمةِ الملك الصالح، وعَلِمَ الجماعةُ براءتَه ممَّا ظنوا به.