سار السُّلطانُ ملكشاه إلى الرَّيِّ، وعَرضَ العَسكرَ، فأَسقطَ منهم سبعةَ آلافِ رجُلٍ لم يَرضَ حالَهم، فمَضوا إلى تكش -قِيلَ: إنه مملوك لملكشاه. وقِيلَ: إنه لَصيق له وإن أبوه النُّعمان-، وهو ببوشنج، فقَوِيَ بهم، وأَظهرَ العِصيانَ على أَخيهِ ملكشاه، واستَولَى على مرو الروذ، ومرو الشاهجان، وترمذ، وغيرَها، وسار إلى نيسابور طامِعًا في مُلْكِ خُراسان، وقِيلَ: إن نِظامَ المُلْكِ قال للسُّلطانِ لمَّا أَمرَ بإسقاطِهِم من العَطاءِ: إنَّ هؤلاء ليس فيهم كاتبٌ، ولا تاجرٌ، ولا خَيَّاطٌ، ولا مَن له صَنعَةٌ غير الجُندِيَّة، فإذا أُسقِطوا لا نأَمَن أن يُقيموا منهم رجُلًا ويقولوا: هذا السُّلطانُ، فيكون لنا منهم شُغلٌ، ويَخرُج عن أَيدِينا أَضعافُ ما لهم من الجاري إلى أن نَظفرَ بهم. فلم يَقبَل السلطانُ قَولَه، فلمَّا مَضوا إلى تكش وأَظهرَ العِصيانَ نَدِمَ على مُخالفةِ وَزيرِه حيث لم يَنفَع الندمُ, فسارَ ملكشاه مُجِدًّا إلى خُراسان، فوَصلَ إلى نيسابور قبلَ أن يَستَولِي تكش عليها، فلمَّا سَمِعَ تكش بقُربِه منها سار عنها، وتَحصَّن بتِرمِذ، وقَصدَه السلطانُ، فحَصرَه بها، وكان تكش قد أَسَرَ جَماعةً من أَصحابِ السلطانِ، فأَطلَقَهم، واستَقرَّ الصُّلحُ بينهما، ونَزلَ تكش إلى السلطانِ ملكشاه، ونَزلَ له عن تِرمِذ.
ملَكَ نورُ الدين محمود بن زنكي قلعةَ جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه مِن قَبلِه من أيام السلطان ملك شاه، وهي من أمنَعِ القلاع وأحصَنِها، مطلة على الفرات من الجانب الشرقي. وأمَّا سبب ملكها فإن صاحِبَها نزل منها يتصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة 563، فاعتقله وأحسنَ إليه، ورغَّبَه في المال والإقطاع ليُسَلِّمَ إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسيَّرَ إليها نور الدين عسكرًا مُقَدَّمُه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفَرْ منها بشيء، فأمَدَّهم بعسكر آخر، فحصرها أيضًا فلم ير له فيها مطمعًا، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العِوَض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقَبِلَ قولَه وسَلَّمَها، فأخذ عِوَضًا عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار مُعَجَّلة، وهذا إقطاع عظيم جدًّا، إلا أنَّه لا حصن فيه، وهذا آخِرُ أمر بني مالك بالقلعة.
غَزَا مُسلِمُ بن سَعيد التُّرْكَ فعَبَر النَّهرَ وعاثَ في بِلادِهم ولم يَفتَح شَيئًا وقَفَلَ، فأَتْبَعَه التُّرْكُ ولَحِقُوهُ على النَّهرِ فعَبَر بالنَّاسِ ولم يَنالوا منه، ثمَّ غَزا بَقِيَّةَ السَّنَة وحاصَر افشين حتَّى صالَحُوه على سِتَّة آلافِ رَأسٍ، ثمَّ دَفَعوا إليه القَلعَة، ثمَّ غَزَا سَنَة سِتٍّ ومائة وتَباطَأ عنه النَّاسُ, ولمَّا قَطَع مُسلمٌ النَّهرَ وصار ببُخارَى أَتاهُ كِتابٌ مِن خالدِ بن عبدِ الله القَسْرِي بِوِلايَتِه على العِراق، ويَأمُره بإتمام غَزاتِه, فسارَ إلى فَرْغانَة، فلمَّا وَصلَها بَلغَه أن خاقان قد أَقبَل إليه وأنَّه في مَوضِعٍ ذَكَروه، فارْتَحَل، فسار ثلاث مَراحِل في يَومٍ، وأَقبَل إليهم خاقان فلَقِيَ طائِفَة مِن المسلمين وأَصابَ دَوابَّ لِمُسلمِ بن سَعيد، وقُتِلَ أخو غَوْزَك وثار النَّاسُ في وُجوهِهِم فأخرجوهم مِن العَسْكَر، ورَحَل مُسلمٌ بالنَّاس فسار ثمانِيةَ أيَّام وَهُم مُطيفون بهم، فلمَّا كانت التَّاسِعَة أَرادوا النُّزولَ فشاوَرَ النَّاسَ، فأَشاروا عليه بالنُّزولِ وقالوا: إذا أَصبَحنا وَرَدْنا الماءَ، والماءُ مِنَّا غَيرَ بَعيدٍ. فنَزلوا ولم يَرفَعوا بِناء في العَسكَر، وأَحرقَ النَّاسُ ما ثَقُلَ مِن الآنِيَة والأَمْتِعَة، فحَرَقوا ما قِيمتُه ألف ألف، وأَصبَح النَّاسُ فساروا فوَرَدُوا النَّهْرَ وأَهلُ فَرْغانَة والشَّاش دُونَه، فقال مُسلِم بن سَعيد: أَعْزِمُ على كُلِّ رَجُلٍ إلَّا اخْتَرَطَ سَيفَه، ففَعَلوا وصارت الدُّنيا كُلُّها سُيوفًا، فتَرَكوا الماءَ وعَبَروا. فأَقام يَومًا ثمَّ قَطَع مِن غَدٍ واتَّبَعَهم ابنٌ لِخَاقان، فأَرسَل إليه حميد بن عبدِ الله، وهو على السَّاقَة: فقال له: قِفْ لي فإنَّ خَلفِي مائتي رَجُل مِن التُّرْك حتَّى أُقاتِلَهم. وهو مُثْقَلٌ جِراحَةً، فوَقَف النَّاسُ وعَطَف على التُّرْكِ فقاتَلَهم، وأَسَر أَهلَ الصُّغْدِ وقائِدَهم وقائِدَ التُّرْك في سَبعَة ومَضَى البَقِيَّةُ، ورَجَع حُميد فرُمِيَ بنُشَّابَة في رُكْبَتِه فمات. وعَطِشَ النَّاسُ، وكان عبدُ الرَّحمن العامِري حَمَل عشرين قِرْبَة على إبِلِه فسَقاها النَّاسَ جُرَعًا جُرَعًا، اسْتَسْقَى مُسلمُ بن سَعيدٍ، فأَتوه بإناءٍ، فأَخَذه جابِرٌ أو حارِثَة بن كَثير أخو سُليمان بن كَثير مِن فِيهِ، فقال مُسلمٌ: دَعوه فما نازَعَنِي شَرْبَتِي إلَّا مِن حَرٍّ دَخَلَهُ. وأتوا خُجَنْدَة، وقد أَصابَهم مَجاعةٌ وجَهْدٌ، فانْتَشَر النَّاسُ.
قُتِلَ قَسيمُ الدَّولةِ أتسز، وسَببُ قَتلِه أن تاجَ الدَّولةِ تتش لمَّا عاد من أذربيجان مُنهزِمًا لم يَزل يَجمَع العَساكرَ، فكَثُرت جُموعُه، وعَظُمَ حَشدُه، فسار في هذا التاريخِ عن دِمشقَ نحوَ حَلَب لِيَطلُب السَّلطنةَ، فاجتَمعَ قَسيمُ الدولةِ أتسز وبوزان، وأَمَدَّهُما رُكنُ الدِّينِ بركيارق بالأَميرِ كربوقا الذي صار بعدَ صاحِبِ المَوصِل، فلمَّا اجتَمَعوا ساروا إلى طَريقِه، فلَقوهُ عند نَهرِ سبعين قَريبًا من تَلِّ السُّلطانِ، بينه وبين حَلَب سِتَّةُ فَراسِخ، واقتَتَلوا، واشتَدَّ القِتالُ، فخامَرَ بَعضُ العَسكرِ الذين مع أتسز، فانهَزَموا، وتَبِعَهم الباقون، فتَمَّت الهَزيمةُ، وثَبَتَ أتسز، فأُخِذَ أَسيرًا، فقَتَلَهُ صَبْرًا، وسار نحوَ حَلَب، وكان قد دَخلَ إليها كربوقا، وبوزان، فحَفِظاها منه، وحَصَرَها تتش وأَلَحَّ في قِتالِها حتى مَلَكَها، وسَلَّمَها إليه المُقيمُ بقَلعةِ الشَّريفِ، ومنها دَخلَ البلدَ، وأَخذَهُما أَسِيرَيْنِ، وأَرسلَ إلى حران والرها لِيُسلِّموهُ مَن بهما وكانتا لبوزان، فامتَنَعوا من التَّسليمِ عليه، فقَتَلَ بوزان، وأَرسلَ رَأسَهُ إليهم وتَسَلَّم البَلدَينِ، وأمَّا كربوقا فإنه أَرسلَه إلى حِمصَ، فسَجَنهُ بها إلى أن أَخرَجهُ المَلِكُ رضوان بعدَ قَتْلِ أَبيهِ تتش، فلمَّا مَلَكَ تتش حران والرها سار إلى الدِّيارِ الجَزريَّةِ فمَلَكَها جَميعَها، ثم مَلَكَ دِيارَ بَكرٍ وخلاط، وسار إلى أذربيجان فمَلَكَ بِلادَها كُلَّها، ثم سار منها إلى همذان فمَلَكَها، وأَرسلَ إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ من الخَليفةِ المُستظهِر بالله، وكان شِحنَتُه –الشحنة يعني القَيِّم لضَبطِ البلد- ببغداد ايتكين جب، فلازَمَ الخِدمَةَ بالدِّيوانِ، وأَلَحَّ في طَلَبِها، فأُجيبَ إلى ذلك، بعدَ أن سَمِعوا أن بركيارق قد انهَزَم من عَسكرِ عَمِّهِ تتش.
هو المَلِكُ القاهر عزُّ الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحِبُ الموصل، توفِّيَ ليلة الاثنين لثلاثٍ بقِينَ من شهر ربيع الأول، وكانت ولايتُه سبع سنين وتسعة أشهر، وكان سبب موته أنَّه أخذته حمى، ثم فارقته الغد، وبقي يومينِ موعوكًا، ثم عاودته الحُمَّى مع قيءٍ كثير، وكربٍ شديد، وقلق متتابعٍ، ثم برد بدَنُه، وعَرقَ، وبَقِيَ كذلك إلى وسط الليل، ثم توفِّيَ، وقيل مات مسمومًا، وكان لما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولدِه الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وعُمُره حينئذ نحو عشر سنين، وجعل الوصيَّ عليه والمدبِّر لدولته بدر الدين لؤلؤًا، وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله، فلما قضى نحبَه قام بدر الدين بأمر نور الدين، وأجلسه في مملكةِ أبيه، وأرسل إلى الخليفةِ يطلب له التقليدَ والتشريف، وأرسل إلى الملوك، وأصحاب الأطراف المجاورين لهم، يطلبُ منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدةِ التي كانت بينهم وبين أبيه، فلم يصبِحْ إلَّا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه، وجلس للعزاء، وحَلَف الجند والرعايا، وضبط المملكة، وبعد أيامٍ وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية، ولبدر الدين بالنظرِ في أمر دولته، والتشريفات لهما أيضًا، وأتتهما رسلُ الملوك بالتعزية، وبذل ما طلب منهم من العهود، واستقَرَّت القواعد لهما. ثم تغلب بدر الدين لؤلؤ على الموصِلِ، وملكها 40 سنة، وكان من قبلُ نائبًا بها ثم استَقَلَّ بالسلطنة وتلَقَّب بالملك الرَّحيم.
لمَّا استقَرَّ الملك ناصر بالكرك وعَزَم على الإقامة بها بعد أن خرج من مصرَ على أنَّه يريد الحَجَّ، كتب كتابًا إلى الديار المصرية يتضَمَّنُ عَزلَ نَفسِه عن المملكة، فأثبت ذلك على القُضاةِ بمصر، وكان قد اشتَدَّ حَنَقُه، وصار في غاية الحَصرِ مِن تحَكُّم بيبرس الجاشنكيري- متذوِّق طعام السلطان- وسيف الدين سلار المغولي عليه، وعَدَم تصَرُّفِه ومَنْعه من كلِّ ما يريد، حتى إنه ما يصِلُ إلى ما يشتهي أكلَه لقِلَّةِ المُرَتَّب، فلولا ما كان يتحَصَّلُ له من أوقاف أبيه لما وجد سبيلًا إلى بلوغِ بعض أغراضِه، فكانت مُدَّةُ سلطنة الملك الناصر هذه عشر سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يومًا، ثم نفذَ على قضاة الشامِ وبُويِعَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنةِ في الثالث والعشرين من شوَّال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيانُ الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالمَلِك المظَفَّر، ورَكِبَ إلى القلعة ومَشَوا بين يديه، وجلس على سريرِ المَملكة بالقلعة، ودُقَّت البشائِرُ وسارت البريدية بذلك إلى سائِرِ البلدان، وفي مستهَلِّ ذي القعدة وصل الأميرُ عز الدين البغدادي إلى دمشق فاجتمع بنائِبِ السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقَصرِ الأبلقِ، فقرأ عليهم كتابَ الناصر إلى أهل مصر، وأنَّه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبَتَه القضاة وامتنع الحنبليُّ من إثباته وقال: ليس أحدٌ يترُكُ المُلكَ مُختارًا، ولولا أنَّه مُضطهدٌ ما تركه، فعُزِلَ وأقيم غيره، واستحلَفَهم للسلطانِ الملك المظفر ركن الدين بيبرس، وكُتِبَت العلامة على القلعة، وألقابُه على محالِّ المملكة، ودُقَّت البشائِرُ وزُيِّنَت البلد، ولما قرئَ كتاب الملك الناصر على الأمراءِ بالقصر، وفيه: إني قد صَحِبتُ الناس عشر سنين ثم اخترت المقامَ بالكرك، تباكى جماعةٌ من الأمراء وبايعوا كالمُكرَهين، وتولى مكانَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأميرُ سيف الدين بن علي، ويُذكَرُ أن أصل بيبرس هذا من مماليكِ الملك المنصور قلاوون البرجية، وكان شركسي الجِنسِ، ولم نعلم أحدًا ملَكَ مِصرَ مِن الشراكسة قبله إن صَحَّ أنه كان شَركسيًّا.
تأسَّست حركة الإخوان -وكان مقرها الرئيسي الأرطاوية- على يد الملك عبدالعزيز لخوض المعارك ضد خصومه، وكانوا تستعِرُ داخِلَهم جذوةُ الدين وأصبحوا لا يُقهَرون، وكان شعارهم في الحرب: (هَبَّت هبوبُ الجنة، أين أنت يا باغيها؟ وكلٌّ يبغيها)؛ لذلك فكانوا يحاربون، وقلَّما ينهزمون، يرون أنَّ الجنَّةَ أمامهم والنارَ خلفهم، فلا يتقهقرون ولا يولون الدبر، فانتشر خبرهم وذاع صيتهم حتى بلغ الدوائر الإنجليزية والشريف حسين الذي هابهم وأبلغ الانجليز عن قلقه منهم وتحريضه لهم للقضاء عليهم والضغط على الملك عبدالعزيز للإلغائهم والتخلص منهم.
تمكن الكولونيل هاملتون خلال رحلة له في الرياض أن يقضيَ يوما في الأرطاوية في أكتوبر 1917 أحدِ أهمِّ مراكز الإخوان، ليتعرف عليهم عن كثب فقدَّر عدد سكان الأرطاوية ب 35 ألف نسمة، وأرسل تقريره إلى جُدة ثم القاهرة فانتشر وأثار لديهم فزعًا ليس بقليل.
هو مَلِكُ العِراقِ وفارس، سُلطانُ الدَّولة، أبو شُجاع، فناخِسرو بنُ بهاءِ الدَّولةِ خُرَّة فيروز بن عَضُد الدَّولة أبي شُجاع بن رُكنِ الدَّولة حسن بن بُوَيه الديلميُّ الشِّيعيُّ. وَلِيَ إمرةَ واسط لأبيه وبرَعَ في الأدبِ والأخبار والعربيَّة، وأكَبَّ على اللَّهوِ والخَلاعةِ. تملَّك بعد أبيه سنة 403، وهو صبيٌّ، فقُرئَ عَهدُ أبي شجاع من القادِرِ بالله، ولَقَّبه سُلطانَ الدَّولة, ثم أُحضِرَت الخِلَعُ وهي سبعٌ على العادة: عِمامةٌ سَوداءُ، وتاجٌ مُرصَّعٌ، وسَيفٌ، وسِواران، وطَوْق، وفَرَسان، ولِواءان عَقَدَهما القادِرُ بِيَدِه، وتلَفَّظَ بالحَلِفِ له بمَسمعٍ مِن الوزير أبي غالبٍ، وكبار الدَّولة, ووزَرَ لسُلطانِ الدَّولة فَخرُ الملك أبو غالب، واستخلَفَ ببغداد أخاه مُشرف الدَّولة أبا علي، وجعَلَ إليه إمارةَ الأتراك خاصَّةً، فحَسَّنوا له العِصيانَ، فاستولى مُشَرف الدَّولة على بغداد وواسط، وترَدَّد الأتراكُ إلى الديوان، فأمَرَ بقَطعِ الخُطبة لأخيه سُلطان الدَّولة، وأن يُخطَبَ له. ثمَّ تناقَضَت أمورٌ على سلطان الدَّولة، فكان يواصِلُ الشُّربَ حتى فسَدَ خُلُقُه، وطلب طبيبًا لفَصدِه، ففَصَده، ونَفذ قَضاءُ الله فيه، فمات بشيراز في شوال سنة 415 وله ثلاث وعشرون سنة، وكانت مُدَّة ملكه اثنتي عشرةَ سنة وأشهرًا, ولَمَّا مات، نَهَبَت الديلمُ ما قَدَروا عليه، وأشار عليهم الأوحَدُ بابنِه أبي كاليجار، فخُطِبَ له بخوزستان.
حصر جلال الدين خوارزم شاه مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف، وبها عسكره، فامتنعوا بها، وأعانهم أهل البلد خوفًا من جلال الدين لسوء سيرته، وأسرفوا في الشتم والسفه، فأخذه اللجاج معهم، وأقام عليهم جميع الشتاء محاصرًا، وفرق كثيرًا من عساكره في القرى والبلاد القريبة من شدة البرد وكثرة الثلج؛ فإن خلاط من أشد البلاد بردًا وأكثرها ثلجًا، وأبان جلال الدين عن عزم قوي، وصبر تحارُ العقول منه، ونصب عليها عدةَ مجانيق، ولم يزل يرميها بالحجارة حتى خربت بعض سورها، فأعاد أهلُ البلد عمارته، ولم يزل مصابِرَهم وملازِمَهم إلى أواخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين، فزحف إليها زحفًا متتابعًا، وملكها عَنوةً وقهرًا يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الأولى، سلمها إليه بعض الأمراء غدرًا، فلما ملك البلد صعد من فيه من الأمراء إلى القلعة التي لها وامتنعوا بها، وهو مُنازِلهم، ووضع السيف في أهل البلد، وقتل من وجد به منهم، وكانوا قد قلوا، فإن بعضهم فارقوه خوفًا، وبعضهم خرج منه من شدة الجوع، وبعضهم مات من القلة وعدم القوت، وخرب عساكر جلال الدين خلاط، وأكثروا القتلَ فيها، ومن سلم هرب في البلاد، وسبوا الحريم، واسترقُّوا الأولادَ، وباعوا الجميعَ، فتمَزَّقوا كلَّ مُمزَّق، وتفَرَّقوا في البلاد، ونهبوا الأموال، وجرى على أهلِها ما لم يسمَعْ بمثله أحدٌ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد أن رجع الناصِرُ محمَّد إلى السلطنة وقَتَل المظَفَّر بيبرس الجاشنكيري، بقِيَ هناك الكثيرُ مِن الأمراء الذين كان يتخَوَّفُ منهم فبدأ بالقَبضِ عليهم فاستدعى من دمشقَ سبعةً من الأمراء واعتقَلَهم وحبَسَهم عنده، وفي مِصرَ قَبَض على أربعةَ عَشرَ أميرًا وحَبَسَهم، ومنهم من قُتِلَ وأُخِذَت إقطاعاته، وقُبض أيضًا على مماليك المظَفَّر بيبرس، ولكِنَّه تَرَكهم رحمة لهم، ثم إنَّه كان يهتَمُّ أكثَرَ شَيء ٍلأمرِ الأمير سيف الدين سلار المغولي الذي كان نائِبَ السلطان بيبرس الجاشنكيري، فهو الذي كان الآمِرَ الناهيَ في الدولة، وهو الذي حَرَّض بيبرسَ على كلِّ الأفعال التي صدرت منه وخاصةً مُصادرة أموال الناصر، وكان سلار قد هرب إلى الشوبك، ثمَّ إنَّه قَرَّر الحضورَ إلى السلطانِ النَّاصر، فلمَّا حضر حبَسَه وبقي محبوسًا شَهرًا حتى مات في سِجنِه جُوعًا وعَطَشًا، وقد استُخرِجَت منه كلُّ أمواله وإقطاعاته، فكانت كثيرة جدًّا بما لا يُحَدُّ ولا يوصَفُ من الذهب والفضَّة والجواهر الثمينة من الياقوت والزمُرُّد واللؤلؤ وغير ذلك من الأموال والأراضي والحيوانات الشيء المهول، ويُذكَرُ أنَّ سلار أصله من المماليك التتار الأويراتية، وصار إلى الملك الصالحِ عليِّ بن قلاوون، وبقِيَ بعد موته في خدمة الملك المنصورِ قلاوون حتى مات، ثم دخل في خدمةِ الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وحَظِي عنده، فلما قُتِلَ حظي عند لاجين لمودَّة كانت بينهما، وترقى إلى أن صار نائِبَ السلطنة بديار مصرَ للسُّلطانِ المظَفَّر بيبرس.
بلغ السُّلطانُ صاحِبُ مصر أنَّ الناصِرَ داود بن الملك المعظَّم صاحب الكرك قد وافق الصالحَ إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم صاحب حمص، وأهل حلب، على محاربته، فسير السلطان كمال الدين بن شيخ الشيوخ على عسكر إلى الشام، فخرج إليه الناصرُ وقاتله ببلاد القدس، وأسَرَه في عدة من أصحابه، ثم أطلقهم وعادوا إلى القاهرة، وكان من خبر ذلك أنَّه في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، وقع عسكر الناصر داود على الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد، وقد نزل على الغوار، فكسره وأخذ الأثقالَ، وكان معه الأميرُ شمس الدين شرف- المعروف بالسبع مجانين- وشمس الدين أبو العلاء الكرديان، وشرف الدين بن الصارم صاحب بنين، وكان مقدَّم عسكر الناصر سيف الدين بن قلج، وجماعة من الأيوبية من عسكر مصر.
كان أوَّل الغورية هو محمد بن الحسين قد صاهر بهرام شاه بن مسعود صاحِبَ عزنة من آل سبكتكين، ثم قتله بهرام شاه خشيةً من غدره، وقد جاءه يظهِرُ الطاعة ويُبطِنُ الغدر، فولى بعده ملكَ الغورية أخوه سورى وسار إلى غزنة في طلب ثأرِ أخيه وقاتَلَ بهرام شاه فظفر به وقتله أيضًا. ثم ملك أخوهما علاء الدين الحسين بن الحسين، وسار إلى غزنة، فانهزم عنها بهرام شاه، فاستوى عليها علاء الدين الحسين وأقام بغزنة أخاه سيف الدين شاه، ورجعَ إلى الغور، فكاتب أهل غزنة بهرام شاه فقاتَلَ سيف الدين الغوري فظَفِرَ بسيف الدين فقتَله وملك بهرام شاه غزنة، ثم توفِّي بهرام شاه. وملك ابنُه خسرو شاه وتجهَّز علاء الدين ملك الغورية إلى غزنةَ فمَلَكَها شهاب الدين سنة تسع وسبعين وخمسمائة بعد حصار، وأمنَ خسرو شاه فحضر فأكرمه، وبلغ غياث الدين ذلك فطلب من شهاب الدين إنفاذَ خسرو شاه إليه فأمَرَه شهاب الدين بالتوجُّه إليه، فقال خسرو شاه: أنا ما أعرف أخاك فطَيَّبَ خاطره وأرسله، وأرسل ابن خسرو شاه أيضًا معه مع عسكر يحفظونهما فرفعهما غياثُ الدين إلى بعض القلاع ولم يرهما، فكان آخِرَ العهد بهما, وخسرو شاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين هو آخر ملوك آل سبكتكين، ابتداءُ دولتهم سنة 366، وملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريبًا، فانقراض دولتهم سنة 578، وكانوا من أحسن الملوك سيرةً.
كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
وصل التتارُ إلى الجزيرة وسروج ورأس العينِ وما والى هذه البلادَ، فقتلوا وسَبَوا ونهبوا وخَرَّبوا ووَقَعوا بسنجار يسيرونَ بين حران ورأس العين، وكان عِدَّة من قتلوا من أهل الجزيرة نحًوا من عشرة آلاف قتيل، وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك، وسيَّرَ منكوخان ملك التتر أخاه هولاكو لأخذ العراق فسار وأباد أهلَ بلاد الإسماعيلية قتلًا ونهبًا، وأسرًا وسبيًا، ووصَلَت غاراته إلى ديار بكرٍ وميافارقين، وصادفوا قافلةً سارت من حران تريد بغداد، فأخذوا منها أموالًا عظيمة، من جملتها ستُّمائة حمل سكر من عمل مصر، وستمائة ألف دينار.
كان قد حدث من الملك السعيد أشياء أوغرت صدورَ الأمراء عليه، وأصبَحَ خاصية الملك يحظَونَ بما يريدون ويُبعِدونَ من أرادوا حتى كان في السنة الماضيةِ أن أرسل بعض الأمراء إلى سيس للقتال فخرجوا وهم مكرهون، فأما الأمراء فإنهم غَزَوا سيس وقتلوا وسَبَوا، ثم عادوا إلى دمشق ونزلوا بالمرجِ، فخرج الأميرُ كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم مما وقع من الخاصكية في حَقِّهم وحَقِّه من تخوُّفِ الملك منهم، فحَرَّك قَولُه ما عندهم من كوامِنِ الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطانِ يُعلِمونَه أنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكى إليهم من لاجين الزيني وهو من أقرَبِ مقربي الملك السعيد شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشفِ عنها، وسألوا السلطانَ أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامَه وكلام كوندك، فلما بلغ السلطانَ ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراءِ الظاهريَّة يأمُرُهم بمفارقة الصالحيَّة ودخول دمشق، فرحلوا مِن فَورِهم ونزلوا على الجورةِ مِن جهة داريا، وأظهروا الخلافَ، ورموا الملكَ السعيد بأنه قد أسرف وأفرطَ في سوء الرأي وأفسد التدبير، فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأميرَ سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار- المشرف على شؤون بيوت السلطان- ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارِهم، فلم يوافقوا على ذلك، وعادا إلى السلطان فزاد قلقُه، وتردَّدَت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعادَ الخاصكية، فلم يوافق، فرحل الأمراءُ بمن معهم من العساكِرِ إلى مصر وتَبِعَهم الملك السعيد ليلحَقَهم ويتلافى أمرَهم فلم يُدرِكْهم فعاد إلى دمشق وبات بها، ثم سار من دمشق بالعساكر يريد مصرَ فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأميرُ قلاوون بمن معه إلى القاهرة، ونزلوا تحت الجبل الأحمر، فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل، وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي، والأمير بلبان الزربقي، فامتنعوا بها وحَصَّنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسَدَّ أبوابها فراسَلَهم قلاوون والأمراء في فتحِ أبواب القاهرة ليدخُلَ العسكر إلى بيوتهم ويُبصِروا أولادَهم؛ فإن عهدهم بَعُدَ بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقَبَضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففُتِحَت أبوابها ودخل كلُّ أحد إلى داره وسُجِنَ الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعةِ وحاصروها وأمَّا السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبَرُ الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكَرِ الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام، فصاروا إليه ولم يبقَ مع السلطان إلا مماليكُه ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأميرُ سنقر الأشقر فقط، فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه، وبلغ الأمراءَ أن السلطان جاء من خَلفِ الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرًا فنجا منهم واستتر عن رؤيتِهم وطلع إلى المقَدِّمة، فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطانَ بالقلعة فعادوا إلى حصارِها وصار السلطان يُشرِفُ من برج الرفرف المطلِّ على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراءُ، أرجِعُ إلى رأيكم ولا أعمَلُ إلا ما تقولونَه، فلم يجبه أحدٌ منهم وأظهروا كتبًا عنه يطلب فيها جماعةً من الفداوية لقَتلِهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأميرُ سنجر الحلبي معتَقلًا بالقلعة، فأخرجه السلطانُ وصار معه، فاستمر الحصارُ مدة أسبوع، وكان الذي قام في خلع السلطان جماعةٌ كثيرة من الأمراء وأعيان المفاردة والبحرية، ولما طال الحصار بعث الخليفةُ العباسي الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراءُ، أيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع المَلِكُ السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيدُ لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفةُ والقضاة والأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنَّه لا يَصلُحُ للمُلك، وخلعَ السعيدُ نفسَه، وحلف أنه لا يتطَرَّقُ إلى غير الكرك، ولا يكاتِبُ أحدًا من النواب، ولا يستميلُ أحد من الجند، وسافر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، فوصل إلى الكرك وتسَلَّمَها في الخامس عشر من جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئًا كثيرًا، ولما تم خلعُ الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراءُ السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع، وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعًا في السلطنة، والأولى ألا يخرجَ الأمر عن ذرية الملك الظاهر، فاستُحسِنَ ذلك منه؛ لأن الفتنة سكنت فإنَّ الظاهرية كانوا معظم العسكرِ، وكانت القلاعُ بيَدِ نواب الملك السعيد، وقصَدَ قلاوون بهذا القَولِ أن يتحَكَّم حتى يغَيِّرَ النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميعُ إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش بن السلطان الظاهر، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابِكَه، وأن يكون إليه أمرُ العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكرُ جميعه على إقامته سلطانًا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقَّبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقَرَّ الأمرُ على ذلك، وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة.