انقطعت الأمطارُ بالكليَّةِ في سائِرِ البلاد الشاميَّة والجزيرة والبلاد العراقية، والديار البكريَّة، والموصل وبلاد الجَبَل وخلاط، وغير ذلك، واشتدَّ الغلاء، وكان عامًا في سائرِ البلاد، واستسقى الناسُ في أقطار الأرض، فلم يُسقَوا، وتعَذَّرَت الأقوات، وأكَلَت الناس الميتةَ وما ناسَبَها، ودام كذلك إلى آخِرِ سنة خمس وسبعين؛ ثم تَبِعَه بعد ذلك وباءٌ شديد عامٌّ أيضًا، كَثُرَ فيه الموت، وكان مَرَضُ الناس شيئًا واحدًا، وهو السرسام- ورم في حجاب الدماغ تَحدُثُ عنه حُمَّى دائمة- وكان الناسُ لا يلحقون يدفنون الموتى، إلا أنَّ بعض البلاد كان أشَدَّ مِن البَعضِ.
ملَكَ نورُ الدين محمود بن زنكي قلعةَ جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه مِن قَبلِه من أيام السلطان ملك شاه، وهي من أمنَعِ القلاع وأحصَنِها، مطلة على الفرات من الجانب الشرقي. وأمَّا سبب ملكها فإن صاحِبَها نزل منها يتصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة 563، فاعتقله وأحسنَ إليه، ورغَّبَه في المال والإقطاع ليُسَلِّمَ إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسيَّرَ إليها نور الدين عسكرًا مُقَدَّمُه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفَرْ منها بشيء، فأمَدَّهم بعسكر آخر، فحصرها أيضًا فلم ير له فيها مطمعًا، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العِوَض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقَبِلَ قولَه وسَلَّمَها، فأخذ عِوَضًا عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار مُعَجَّلة، وهذا إقطاع عظيم جدًّا، إلا أنَّه لا حصن فيه، وهذا آخِرُ أمر بني مالك بالقلعة.
اسْتُهِلَّ هذا العام والنَّاسُ مُتَواقِفون لِقتال الحَجَّاج وأصحابه بِدَيْرِ قُرَّة، وابنُ الأشعث وأَصحابُه بِدَيْرِ الجَماجِم، والمُبارَزة في كُلِّ يَومٍ بينهم واقِعَة، وفي غالبِ الأيَّامِ تكون النُّصْرَة لأهلِ العِراق على أهلِ الشَّام، إذا حصَل له ظَفَرٌ في يوم مِن الأيَّام يَتقدَّم بجَيشِه إلى نَحْرِ عَدُوِّهِ، وكان له خِبرَةٌ بالحربِ، وما زال ذلك دَأْبُه ودَأْبُهم حتَّى أَمَر بالحَمْلَةِ على كَتيبةِ القُرَّاء; لأنَّ النَّاس كانوا تَبَعًا لهم، وهُم الذين يُحَرِّضُونهم على القِتال، والنَّاس يَقْتَدُون بهم، فصَبَر القُرَّاء لِحَمْلَةِ جَيشِه، ثمَّ جمَع الحَجَّاجُ الرُّماةَ مِن جَيشِه وحَمَل بهم على كَتيبةِ القُرَّاء، وما انْفَكَّ حتَّى قَتَل منهم خَلْقًا كثيرًا، ثمَّ حَمَل على جَيشِ ابن الأشعث فانْهَزَم أصحابُ ابن الأشعث وذَهَبوا في كُلِّ وَجْهٍ، وهَرَب ابنُ الأشعث ومَن معه إلى بلادِ رتبيل مَلِك التُّرْك فأَكْرَمَهُم, كان الحَجَّاجُ يومَ ظَهَرَ على ابن الأشعث بِدَيْرِ الجَماجِم نادَى مُنادِيه في النَّاس: مَن رَجَع فهو آمِن، ومَن لَحِقَ بِقُتَيْبَة بن مُسلِم بالرَّيِّ فهو آمِن. فلَحِقَ به خَلْقٌ كثيرٌ ممَّن كان مع ابنِ الأشعثِ، فأَمَّنَهم الحَجَّاجُ، ومَن لم يَلْحَق به شَرَعَ الحَجَّاجُ في تَتَبُّعِهِم، فقَتَل منهم خَلْقًا كثيرًا.
هو الشيخُ الإمام العلَّامة المحقِّق المدقِّق نور الدين أبو الحسن بن عبد الهادي السندي، من فقهاء الأحناف المشهورين. ولِدَ ببته قرية من بلاد السند ونشأ بها ثم ارتحل إلى تستر، وأخذ بها عن جملة من الشيوخ، كالسيد محمد البرزنجي، والملا إبراهيم الكوراني، وغيرهما، ودرَّس بالحرم الشريف النبوي، واشتهر بالفضل والذكاء والصلاح. استوطن المدينةَ المنورة، برع في علم الحديث، وألَّف مؤلفات نافعة من الحواشي، منها: حاشية على كل من سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، وعلى مسند أحمد، وعلى صحيحي البخاري ومسلم، وعلى البيضاوي، وغيرها من المؤلفات التي سارت بها الركبان، وكان شيخًا جليلًا عالِمًا عاملًا ورعًا زاهدًا، ماهرًا محققًا بالحديث والتفسير والفقه والأصول والمعاني والمنطق والعربية، وغيرها، أخذ عنه جملةٍ من الشيوخ، منهم: الشيخ محمد حياة السندي وغيره. كانت وفاته بالمدينة المنورة ثاني عشري شوال، وكان لوفاته مشهد عظيم حضره جمٌّ غفير من الناس حتى النساء، وغُلِّقت الدكاكين، وحمل الولاة نعشَه إلى المسجد النبوي الشريف، وصلِّي عليه به، ودُفِن بالبقيع، وكُثَر البكاءُ والأسفُ عليه.
كان الأمير أبو الحسن علي بن سعد بعد وفاة والده محجورًا عليه، والأمر كان للقوَّاد ولم يكن له من الملك إلا اسمه، فأراد أن يقوم بنفسه ويزيل عنه الحَجر، فانفرد بنفسه عن قواده كما انفرد معه بعضهم، ووقعت بينهم حروب وأحداث؛ وذلك أنه لما اعتزل عن قواده أخذوا أخاه محمد بن سعد الملقب بالزغل, وكان أصغر منه سنًّا فبايعوه، واشتعلت نار الفتنة بينهم, فأظهر أبو الحسن التوبة للناس ووعدهم إن قاموا معه أن يصلح شأنهم وأن يظهر الأحكام وينظر في مصالح الوطن ويقيم الشريعة، فمالت إليه الرعية وأعانوه على ما نواه من مراده إلى أن ظَفِرَ بخصومه في مدينة مالقة فأخذهم وقتَلَهم كلَّهم, ولم يبقَ له معاند، فاستقام له الأمر ودانت له البلاد، وهو مع ذلك يغزو الفرنج المرة بعد المرة حتى غزا غزوات كثيرة وأظهر الأحكام ونظر في مصالح الحصون، ونما الجيش فهابته النصارى وصالحته برًّا وبحرًا، وكثر الخير وانبسطت الأرزاق ورخصت الأسعار، وانتشر الأمن في جميع بلاد الأندلس وشملتهم العافية في تلك المدة وضربت سكة جديدة طيبة.
في الثالث من شعبان ملك غياث الدين كيخسرو، صاحِبُ قونية وبلد الروم، مدينةَ أنطاكية بالأمان، وهي للرومِ على ساحِلِ البحر، وسَبَبُ ذلك أنَّه كان حَصَرَها قبل هذا التاريخ، وأطال المقامَ عليها، وهَدَّمَ عِدَّةَ أبراج من سورها، ولم يبقَ إلَّا فَتْحُها عَنوةً، فأرسل مَن بها من الروم إلى الفرنجِ الذين بجزيرة قبرص، وهي قريبةٌ منها، فاستنجدوهم، فوصل إليها جماعةٌ منهم، فعند ذلك يَئِسَ غياث الدين منها، ورَحَلَ عنها، وتَرَك طائفةً مِن عسكره بالقُربِ منها، بالجبالِ التي بينها وبين بلاده، وأمَرَهم بقَطعِ الميرة منها، فاستمَرَّ الحالُ على ذلك مُدَّةً حتى ضاق بأهلِ البلد، واشتَدَّ الأمر عليهم، فطَلَبوا من الفرنج الخروج لدفعِ المسلمين عن مضايقَتِهم، فظَنَّ الفرنجُ أنَّ الروم يريدون إخراجهم من المدينةِ بهذا السبب، فوقع الخلافُ بينهم، فاقتتلوا، فأرسل الرومُ إلى المسلمين، وطَلَبوهم ليسَلِّموا إليهم البلدَ، فوصلوا إليهم، واجتمعوا على قتالِ الفِرنجِ، فانهزم الفرنجُ ودخل المسلمون الحِصنَ فاعتَصَموا به، ثم أرسلوا يطلُبونَ غياثَ الدين، وهو بمدينةِ قونيَّة، فسار إليهم مجِدًّا في طائفةٍ مِن عسكره، فوصلها ثاني شعبان، وتقَرَّرَ الحالُ بينه وبين الروم، وتسَلَّمَ المدينة ثالثة، وحَصَر الحِصنَ الذي فيه الفرنج، وتسَلَّمَه وقَتَلَ كُلَّ من كان به مِن الفرنجِ.
ثار الجُندُ الأتراكُ ببغداد على جَلالِ الدَّولة البُويهيِّ الشِّيعيِّ، وشَغَّبوا، وطالبوا الوزيرَ أبا علي بنَ ماكولا بما لهم من العلوفةِ والأدرار، ونَهَبوا دارَه ودُورَ كُتَّاب المَلِك وحواشيه، حتى المُغَنِّينَ والمُخَنَّثين، ونَهَبوا صياغاتٍ أخرَجَها جلالُ الدَّولة لتُضرَبَ دنانيرَ ودراهِمَ، وتُفَرَّق فيهم، وحَصَروا جلالَ الدَّولة في داره، ومَنَعوه الطَّعامَ والماءَ، حتى شَرِبَ أهلُه ماءَ البئر، وأكَلوا ثمرةَ البُستانِ، فسألهم أن يُمَكِّنوه من الانحدارِ، فاستأجروا له ولأهلِه وأثقالِه سُفُنًا، فجَعَل بين الدارِ والسُّفُن سُرادقًا لتجتازَ حَرَمُه فيه، لئلَّا يراهم العامَّةُ والأجنادُ، فقصَدَ بعضُ الأتراكِ السُّرادِقَ، فظَنَّ جلالُ الدَّولة أنَّهم يريدونَ الحَرَم، فصاح بهم يقولُ لهم: بلَغَ أمرُكم إلى الحَرَمِ! وتقَدَّم إليهم فصاح صِغارُ الغِلمانِ والعامَّة: جلالُ الدَّولة يا منصورُ، ونزل أحدُهم عن فَرَسِه وأركَبَه إيَّاه، وقَبَّلوا الأرضَ بين يَدَيه، فلمَّا رأى قُوَّادُ الأتراك ذلك هربوا إلى خيامِهم بالرَّملة، وخافوا على نُفوسِهم، وكان في الخِزانةِ سِلاحٌ كثيرٌ، فأعطاه جلالُ الدَّولة أصاغِرَ الغِلمانِ وجعَلَهم عنده، ثمَّ أرسل إلى الخليفةِ ليُصلِحَ الأمرَ مع أولئك القُوَّاد، فأرسَلَ إليهم الخليفةُ القادِرُ بالله، فأصلح بينهم وبين جلالِ الدَّولة، وحَلَفوا، فقَبَّلوا الأرضَ بينَ يَدَيه، ورَجَعوا إلى منازِلِهم، فلم يمضِ غيرُ أيَّامٍ حتى عادوا إلى الشَّغبِ، فباع جلالُ الدَّولةِ فُرُشَه وثيابَه وخِيَمَه وفَرَّقَ ثَمَنَه فيهم حتى سَكَنوا.
حضر جماعةٌ كثيرة من الفقراء الأحمدية في يوم السبت تاسع جمادى الأولى إلى نائب السَّلطنةِ بالقصر الأبلق وحضر الشيخُ تقي الدين ابن تيمية فسألوا من نائب السلطنةِ بحَضرةِ الأمراء أن يكُفَّ الشيخ تقي الدين إمارتَه عنهم، وأن يسَلِّمَ لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا ما يمكِنُ، ولا بُدَّ لكل أحد أن يدخُلَ تحت الكتاب والسنة، قولًا وفعلًا، ومن خرج عنهما وجب الإنكارُ عليه، فأرادوا أن يفعلوا شيئًا من أحوالِهم الشيطانيَّة التي يتعاطَونَها في سماعاتهم، فقال الشيخ: تلك أحوالٌ شيطانيَّةٌ باطلة، وأكثَرُ أحوالهم من باب الحِيَل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخُلَ النارَ فليدخُلْ أوَّلًا إلى الحَمَّامِ وليغسل جسَدَه غَسلًا جَيِّدًا ويَدلكَه بالخَلِّ والأُشنان ثم يدخُل بعد ذلك إلى النَّارِ إن كان صادقًا، ولو فرض أن أحدًا من أهل البِدَعِ دخل النار بعد أن يغتَسِلَ فإن ذلك لا يدُلُّ على صلاحِه ولا على كرامتِه، بل حالُه من أحوال الدَّجاجِلة المخالِفة للشريعة إذا كان صاحِبُها على السُّنَّة، فما الظنُّ بخلاف ذلك؟! فابتدر شيخُ المنيبع الشيخُ الصالح وقال: نحن أحوالُنا إنما تَنفُق عند التتر ليست تَنفُق عند الشرع، فضبط الحاضرونَ عليه تلك الكلمة، وكثُرَ الإنكار عليهم من كل أحدٍ، ثم اتفق الحالُ على أنهم يخلعون الأطواقَ الحديدَ مِن رقابهم، وأنَّ من خرج عن الكتابِ والسنة ضُرِبَت عنقه، وصنَّف الشيخُ جزءًا في طريقة الأحمدية، وبيَّنَ فيه أحوالهم ومسالِكَهم وتخيُّلاتِهم، وما في طريقتِهم من مقبولٍ ومَردودٍ بالكتاب، وأظهر اللهُ السنة على يديه وأخمد بدعتَهم، ولله الحمدُ والمِنَّة.
لَمَّا دخل السلطانُ سليم الأول القاهرةَ وقتَلَ السلطان المملوكيَّ طومان باي آخِرَ سلاطين دولة المماليك وتنازلَ الخليفة العباسي له بالخلافةِ كُرهًا- على ما قيل- وجاءه أيضًا أشراف الحجاز مع أمير مكة الشريف محمد أبا نمي بن بركات ليَدينوا له بالطاعة وسَلَّموا له مفاتيح الكعبة، فولى السلطان الشريف محمد أبا نمي ولاية الحجاز، ثمَّ بعد أن أقام شهرًا في مصر بعد أن وطَّد فيها دعائم الحُكم ملحِقًا حكم مصر بالشام لنائِبِها، وعين نائبًا له بمصر هو خيري بك، وفرض المذهب الحنفيَّ دون سائر المذاهب في الحكم والقضاء، ثم عاد إلى إستانبول آخذًا معه الخليفة العباسي المتنازل عن الخلافة وآخذًا معه أيضًا مفاتيح الحرمين الشريفين، فأصبح هو بذلك خليفةَ المسلمين وتلقَّب بخادم الحرمين الشريفين.
تجدَّدت الفِتنةُ بين جلالِ الدَّولةِ البُويهي وبين الأتراك، فأغلَقَ بابه، فجاءت الأتراكُ ونهبوا دارَه، وسلبوا الكُتَّابَ وأربابَ الديوانِ ثيابَهم، وطلبوا الوزيرَ أبا إسحاقَ السهلي، فهرب إلى حلةِ كمال الدَّولةِ غريب بن محمد، وخرج جلالُ الدَّولة إلى عكبرا في شهرِ ربيعٍ الآخر، وخطب الأتراكُ ببغداد للمَلِك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونَه وهو بالأهواز، فمَنَعه العادلُ بن مافنة عن الإصعادِ إلى أن يحضُرَ بعضُ قوادهم، فلمَّا رأوا امتناعَه من الوصول إليهم، أعادوا خُطبةَ جلال الدَّولة، وساروا إليه، وسألوه العَودَ إلى بغداد، واعتذروا، فعاد إليها بعدَ ثلاثة وأربعينَ يومًا.
طمع كل من بوهمند الثاني أمير أنطاكية وإيلغازي بن دانشمند في الاستيلاء على الإمارة الأرمنية في كليكيا بعد وفاة الأمير الأرمني طوروس الأول، ثم وفاة ابنه قسطنطين مسمومًا بعده، فنشب القتال بينهما في سهل عين زربة، وقُتِل فيه بوهمند الثاني، فورثت ابنته كونستانس وكانت قاصرة، فقام جدُّها بودوان الثاني بالوصاية عليها حتى تكبر، ولم يكن له هو ولد، فبعث إلى لويس السادس ملك فرنسا وطلب منه اختيار أمير معروف بالشجاعة يكون خلَفًا له، فرشَّح له الأمير فولك الخامس أمير أنجو الذي تزوج ابنة بودوان الثاني، فأصبح بذلك الوريث الشرعي لمملكة بيت المقدس، وتملك كذلك مدينتي صور وعكا.