في شهر جمادى الآخرة، أوله الثلاثاء، وفيه مرض السلطان الملك المنصور، وفي يوم الجمعة رابعه: عادت الخيول من الربيع، وظهر بين أهل الدولة حركة، فكَثُرت القالة، وبات المماليك تسعى بعضها إلى بعض، فظهر الملك الناصر في بيت الأمير سودن الحمزاوي، وتلاحق به كثير من الأمراء والمماليك، ولم يطلع الفجر حتى ركب السلطان بآلة الحرب، وإلى جانبه ابن غراب، وعليه آلة الحرب، وسار بمن اجتمع إليه يريد القلعة، فقاتله سودن المحمدي أمير أخور، وإينال باي بن قجماس، وبيبرس الكبيري، ويشبك بن أزدمر، وسودن المارديني، قتالًا ليس بذاك، ثم انهزموا، وصعد السلطان إلى القلعة، فكانت مدة عبد العزيز سبعين يومًا، فعاد السلطان الملك الناصر زين الدين فرج ابن الملك الظاهر برقوق إلى الملك ثانيًا؛ وذلك أنه لما فُقِد من القلعة وصار إلى بيت سعد الدين بن غراب، ومعه بيغوت، قام له بما يليق به، وأعلم الأمير يشبك به، فخفي على أهل الدولة مكانه، ولم يعبؤوا به، وأخذ ابن غراب يدبر في القبض على الأمير إينال باي، فلم يتمَّ له ذلك، فلما تمادت الأيام قرر مع الطائفة التي كانت في الشام من الأمراء، وهم يشبك، وقطلو بغا الكركي، وسودن الحمزاوي في آخرين، أنه يخرج إليهم السلطان، ويعيدونه إلى المُلك؛ لينفردوا بتدبير الأمور؛ وذلك أن الأمير بيبرس الأتابك قويت شوكته على يشبك، وصار يتردد إليه، ويأكل على سماطه، فعزَّ عليه وعلى أصحابه ذلك، فما هو إلا أن أعلمهم ابن غراب بالخبر، فوافقوه على ذلك، وواعد بعضهم بعضًا، فلما استحكم أمرهم، برز الناصر نصف ليلة السبت خامس جمادى الآخرة من بيت ابن غراب، ونزل بدار الأمير سودن الحمزاوي، واستدعى الناس، فأتوه من كل جهة، وركب وعليه سلاحه، وابن غراب إلى جانبه، وقصد القلعة، فناوشه من تأخر عنه من الأمراء قليلًا، ثم فرُّوا، فملك السلطان القلعة بأيسر شيء؛ وذلك أن صوماي رأس نوبة كان قد وكل بباب القلعة، فعندما رأى السلطان فتح له، فطلع منه، وملك القصر، فلم يثبت بيبرس ومن معه، ومرُّوا منهزمين، فبعث السلطان بالأمير سودن الطيار في طلب الأمير بيبرس فأدركه خارج القاهرة، فقاتله وأخذه وأحضره إلى السلطان، فقيَّده وبعثه إلى الإسكندرية فسُجِن بها، واختفى الأمير إينال باي بن قجماس، والأمير سودن المارديني.
لما بايع أهلُ مراكش أبا فارس بن أحمد المنصور الذهبي السعدي، عزم أخوه زيدان على النهوض إليه، فخرج من فاس يؤمُّ بلاد الحوز، واتصل الخبَرُ بأبي فارس فجهَّز لقتال أخيه زيدان جيشًا كثيفًا وأمَّر عليهم ولده عبد الملك، فقيل له: إن زيدان رجلٌ شجاع عارفٌ بمكايد الحرب وخُدَعه، وولدك عبد الملك لا يقدِرُ على مقاومته، فلو سرَّحت أخاك محمد الشيخ المأمون لقتالِه كان أقرب للرأي؛ لأن أهل الغرب لا يقاتلونَه؛ لأنه كان خليفةً عليهم مُدَّةً، فهُم آنَسُ به من زيدان، فأَطلق أبو فارس أخاه المأمونَ من السجن وأخذ عليه العهودَ والمواثيق على النصحِ والطاعة وعدمِ شَقِّ العصا، ثم سرَّحه في ستمائة من جيش المتفرِّقة الذين كان المنصور جمعَهم ليبعث بهم إلى كاغو من أعمال السودان، وقال له ولأصحابه: جِدُّوا السير الليلةَ؛ كي تُصبحوا بمحلة جؤذر على وادي أم الربيع، فلما انتهى الشيخ إلى محلة جؤذر وعلم الناسُ به هُرِعوا إليه واستبشروا بمَقدَمِه، ثم كانت الملاقاةُ بينه وبين السلطان زيدان بموضعٍ يقال له حواتة عند أم الربيع، ففرَّ عن زيدان أكثرُ جيشه إلى المأمون وحنُّوا إلى سالف عهدِه وقديمِ صحبتِه، فانهزم زيدان لذلك، ورجع أدراجَه إلى فاس فتحصَّنَ بها، وكان أبو فارس قد تقدَّم إلى أصحابه في القبضِ على الشيخ متى وقعت الهزيمةُ على زيدان، فلما فر زيدان انعزل الشيخُ فيمن انضمَّ إليه من جيشِ أهل الغرب وامتنع على أصحابِ أبي فارس فلم يقدِروا منه على شيءٍ، وانتعش أمرُه واشتدَّت شوكتُه، ثم سار إلى فاس يقفو أثرَ السلطان زيدان، ولما اتصل بزيدان خبرُ مجيئه إليه راود أهل فاس على القيامِ معه في الحصارِ والذبِّ عنه والوفاء بطاعته التي هي مقتضى بيعتِهم التي أعطَوا بها صفقتَهم عن رضًا منهم، فامتنعوا عليه وقلبوا له ظَهرَ المِجَنِّ، وأعلنوا بنصر الشيخ المأمون وبيعته لقديم صحبتِهم له، ولما آيسَ زيدان من نصرهم وقد أرهقه الشيخُ المأمون في جموعِه، خرج من فاس بحشَمِه وثِقلِه ناجيًا بنفسه وتبِعَه جمعٌ عظيم من أصحاب الشيخ فلم يقدروا منه على شيءٍ، وذهب إلى تلمسان فأقام بها، وأما الشيخ فإنه لما وصل إلى فاس تلقَّاه أهلها ذكورًا وإناثًا وأظهروا الفرحَ بمَقدَمِه، فدخلها ودعا لنفسِه فأجيبَ واستبَدَّ بمُلكِها، ثم أمرَ جيش أهل مراكش أن يرجِعوا إلى بلادهم، فانقلبوا إلى صاحبِهم مُخفِقين.
كان الأميرُ الناصر غزا إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش، والحشودُ والعساكر تتلاحَقُ به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها، ونزل على مدينةِ طُلَيطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحِبُها، مبادرًا إليه، وغازيًا معه، وكان يظهر طاعةً تحتها معصيةٌ، حتى نزل بمدينة الفرج، فنظر لأهلها، وخرج للجهاد أكثَرُهم، حتى احتَلَّ بثغر مدينة سالم، وأظهَرَ التوجه إلى الثغر الأقصى. وقَدِمَت المُقَدِّمة نحوه. ثم عرجَ بالجيوش إلى طريقِ آلية والقلاع، وطوى من نهارِه ثلاث مراحل، حتى احتَلَّ بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباحَ تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغذَّ السيرَ حتى قَرُب من الحصن، وسرَّحَ الخيل المُغيرة يَمنة ويَسرة، والمشركون في سكونٍ وغفلة؛ إذ كان العِلجُ الذي يلي أمورَهم قد كاتبَ النَّاصِرَ مكايدًا له في إزاحته عن بلدِه بمواعيدَ وعدها من نفسه، فأظهر الناصر قَبولَ ذلك منهم، وأضمَرَ الكيد بهم، فغشيتهم الخيلُ المُغيرةُ على حينِ غَفلةٍ، وأصابوا نَعَمهم وسوامَهم ودوابَّهم مُسرحةً مُهملةً؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكرِ سالمين غانمين. فلما كان في صباحِ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيلُ إلى حصن وخشمة، ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة –المواضعُ التي يكثُرُ فيه الشجرُ ويلتفُّ-، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحِصنَ، وغنموا جميعَ ما فيه وأضرموه نارًا. ثم رحل عنها في اليومِ الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة وقاعدتُهم، فخرجوا هاربين عنه، فدخله المسلمون وغنموا جميعَ ما فيه، وخَرَّبوا حِصنَ القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء اللهِ في تلك الجهة نعمةً يأوونَ إليها، واضطرب العسكرُ بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمونَ ليلة الأحد بأسرِّ ليلة كانوا بها، والحمدُ لله. ثم انتقل الناصر في صبيحة اليوم الثاني من مكانِ المُضطَّرَب شرقيَّ الحصن إلى غربيِّه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدرُ ميل، فكسر العسكرُ في ذلك المكانِ يوم الأحد متقصيًا لآثار الكفرة، ومستبيحًا لنَعَمِهم. ثم ارتحل إلى مدينةٍ لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهَّات مُدُنِهم، فلم تمرَّ الجيوش إليها إلَّا على قرًى منتظمة وعمارة بسيطة، فغَنِمَت جميع ما كان بها، وقتلت من أدرَكَت فيها، حتى أوفت العساكِر على المدينة، فأُلقِيَت خالية، قد شُرِّدَ عنها أهلُها إلى الجبالِ المجاورة لهم، فغنم المسلمون جميعَ ما أصابوا فيها، وعَمِلَت الأيدي في تخريبِ ديارِها وكنائسها، وكسر الناصر عليها ثلاثةَ أيَّام، مطاولًا لنكايةِ المُشرِكين، وانتساف نَعَمِهم. ثم ارتحل من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقينَ من صفر إلى ثغر تطيلة، لغِياثِ صريخِ المسلمين به، إذ كان العِلجُ شانجه قد ضايقهم، وتردَّد بكَفَرته عليهم، ثم احتَلَّ الناصر حوز تطيلة ثم قدَّم الخيل مع محمَّد بن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتَّخذه شانجه على أهلها. فلما قصَدَته الخيلُ أخلاه مَن كان فيه، وضَبَطه المسلمون. ثم نهض الناصر إلى حِصن قلهرة. وكان شانجة قد اتخذه معقِلًا، وتبوَّأه مسكنًا. فلما فجَأته العساكِرُ أخلاه العِلجُ، وزال عنه؛ فغَنِمَه المسلمون بأسرِه، ثم رحل بالجيوشِ يوم الأحد لأربعٍ خَلَون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره، فخرج شائجة من حصن أرنيط في جموعه وكفَرَته، متعرضًا لمن كان في مُقدِّمة العسكر، فتبادر إليه شُجعان الرِّجال، تبادر رشق النبال، فانهزم الكفرة، وركِبَتْهم الخيلُ، تقتل وتجرَحُ، حتى توارَوا في الجبال، ولاذُوا بالشعاب وأيقنوا بالدمارِ والهلاك. وحِيزَ كثيرٌ من رؤوسِ المشركين؛ فتلقوا بها الناصر، ولا علم عنده بالمعركةِ التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكرُ بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرينَ على عَدُوِّهم، ومنبسطين في قُراهم ومزارعهم، وورد الخبرُ على الناصر باجتماع العِلجَينِ أرذون وشانجة، واستمداد بعضِهما ببعض، طامعينِ في اعتراضِ المقَدِّمة، أو انتهاز فرصة في السَّاقة. فأمر الناصرُ بتعبئة العساكر، وضبْطِ أطرافِها، ثم نهض بها موغِلًا في بلاد الكَفَرة، فتطلَّلوا على كُدًى مشرفةٍ وجبالٍ منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطرافِ الجيش، وجعلوا يتصايحون، ويولوِلون لِيُضعِفوا من قلوب المسلمين، فعهد الناصر بالنزولِ والاضطراب وإقامةِ الأبنية. ثم تبادر الناسُ إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الجبالِ، فواضعوهم القتالَ، واقتحم عليهم حتى انهزم المشركونَ، والمسلمون على آثارِهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظَّلامُ بينهم، ولجأ عند الهزيمةِ ما يزيد على ألفٍ مِن العلوج إلى حصن مويش، ورجوا التمنُّع فيه. فأمر الناصرُ بتقديم المظل وأبنية العسكرِ إلى الحصن، فأحيط به من جميعِ جِهاتِه، وحُوربوا داخِلَه حتى تغلَّب عليه، واستخرج جميعَ العُلوج منه، وقُدِّموا إلى الناصر، فضُرِبَت رقابُ جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصنِ والمحلة التي كانت للكَفَرة بقربه من الأمتعةِ والأبنية والحِليةِ المُتقَنة والآنية ما لا يحصى كثرةً، وأصيب لهم نحوُ ألف وثلاثمائة فرس، ثم انتقل الناصرُ يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصنٍ كان اتَّخذه شانجة على أهل بقيرة فألقاه خاليًا، قد فرَّ عنه أهلُه، فعَهِدَ بهَدمِه، ولم يبرح الناصرُ مِن محلَّتِه هذه حتى نُقِلَ إلى حصنِ بقيرة من أطعمة الكَفَرة ألفُ مُدٍّ تقويةً لأهله. ثم انتقل إلى حصونِ المُسلمين يسكِّنُها وينظر في مصالحِ أهلها، فكلما ألفى بقربها مَعقلًا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطَه، حتى اتصل الحريقُ في بلاد المشركين عشرةَ أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمةِ والخيرات ما عجزوا عن حَملِه، ولم يجدوا لها ثمنًا تباع به، وقفل الناصر يوم الثلاثاء. لثلاثٍ بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ وبعث إلى قرطبةَ مِن رؤوس الكَفَرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادًا عظيمة، حتى لقد عجَزَت الدواب عن استيفاءِ حَملِها. ودخل الناصرُ القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاتِه هذه تسعين يومًا.
حضر القضاةُ والعُلَماءُ وفيهم الشيخُ تقيُّ الدين ابن تيمية في يوم الاثنين ثامِنَ رجب عند نائب السلطنةِ بالقَصرِ، وقُرئت عقيدةُ الشيخ تقي الدين ابن تيمية الواسطيَّة، وحصل بحثٌ في أماكِنَ منها، وأُخِّرَت مواضِعُ إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يومَ الجمعة بعد الصلاة في الثاني عشر من هذا الشهر, وحضر الشيخُ صفي الدين الهندي، وتكلَّمَ مع الشيخِ تقيِّ الدين كلامًا كثيرًا، ولكِنَّ ساقِيَتَه لاطمت بحرًا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخُ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاقِقُه من غيرِ مُسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر النَّاسُ من فضائل الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني وجَودةِ ذِهنِه وحُسنِ بحثِه حيث قاومَ ابن تيميَّة في البحث، وتكَلَّم معه، ثم انفصل الحالُ على قبول العقيدة، وعاد الشيخُ إلى منزله مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وكان الحامِلُ على هذه الاجتماعات كتابًا ورد من السلطان في ذلك، كان الباعِثُ على إرسالِه قاضي المالكيَّة ابن مخلوف، والشَّيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه، وذلك أنَّ الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يتكَلَّم في المنبجي وينسِبُه إلى اعتقادِ ابن عربي، وكان للشيخِ تقي الدين من الفُقَهاءِ جماعة يحسُدونَه لتقَدُّمِه عند الدولة، وانفرادِه بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وطاعةِ الناس له ومحبَّتِهم له، وكثرةِ أتباعِه، وقيامه في الحق، وعِلمِه وعَمَلِه، ثم وقع بدمشقَ خَبطٌ كثير وتشويشٌ بسبب غيبةِ نائب السلطنة، وطَلَب القاضي جماعةً من أصحاب الشيخ وعَزَّرَ بَعضَهم ثمَّ اتفق أن الشيخ جمال الدين المِزِّي الحافظ قرأ فصلًا بالردِّ على الجهميَّة من كتابِ أفعال العباد للبخاريِّ تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء، فغضب بعضُ الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدوًّا للشيخ تقي الدين ابن تيمية, فسَجَن المزِّي، فبلغ الشيخَ تقي الدين فتألَّم لذلك وذهب إلى السجنِ فأخرجه منه بنَفسِه، وراح إلى القصرِ فوجد القاضيَ ابن صصرى هنالك، فتقاولا بسبب الشيخِ جمالِ الدين المزِّي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيدَه إلى السجن وإلَّا عزل نفسَه فأمر النائِبُ بإعادتِه تطييبًا لقلب القاضي فحَبَسه عنده في القوصيَّة أيامًا ثم أطلقه، ولما قدم نائبُ السلطنة ذكر له الشيخُ تقي الدين ابن تيمية ما جرى في حقِّه وحَقِّ أصحابه في غيبته، فتألم النائِبُ لذلك ونادى في البلدِ ألَّا يتكلم أحدٌ في العقائِدِ، ومن عاد إلى تلك حَلَّ مالُه ودَمُه ورُتِّبَت داره وحانوته، فسكنت الأمور، ثم عُقِدَ المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصرِ واجتمع جماعةٌ على الرضا بالعقيدة الواسطية, وفي هذا اليوم عزلَ ابنُ صصرى نفسَه عن الحكم بسبب كلامٍ سمعه من بعض الحاضرينَ في المجلس، وهو من الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتابُ السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادةُ ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارةِ المنبجي، وفي الكتابِ: إنا كنا سمعنا بعقدِ مَجلِسٍ للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقد بلَغَنا ما عُقِدَ له من المجالس، وأنه على مذهب السَّلَفِ، وإنما أردنا بذلك براءةَ ساحتِه مِمَّا نسب إليه، ثم جاء كتابٌ آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشفُ عن ما كان وقع للشيخِ تقي الدين ابن تيمية في أيَّام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني، وأن يُحمَلَ هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجَّها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخِ خَلقٌ من أصحابه وبَكَوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائبُ السلطنة ابن الأفرم بترك الذَّهابِ إلى مصر، وقال له: أنا أكاتِبُ السلطان في ذلك وأصلِحُ القضايا، فامتنع الشيخُ من ذلك، وذكَرَ له أن في توجُّهِه لمصر مصلحةً كبيرة، ومصالحَ كثيرة، فلما كان يومُ السبت دخل الشيخُ تقيُّ الدين غزَّةَ فعَمِلَ في جامعها مجلسًا عظيمًا، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوبُ معه وبه متعلِّقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنَّهما دخلاها يوم الخميس، فلما كان يومُ الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاةُ وأكابر الدولة وأراد أن يتكَلَّم على عادته فلم يتمكَّن من البحث والكلامِ، وانتدب له الشَّمسُ ابن عدنان خصمًا احتسابًا، وادَّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنَّه يقول: إنَّ الله فوق العَرشِ حَقيقةٌ، وأنَّ الله يتكَلَّمُ بحَرفٍ وصَوتٍ، فسأله القاضي جوابَه فأخذ الشيخُ في حمد اللهِ والثناء عليه، فقيل له: أجِبْ، ما جئنا بك لتخطب! فقال: ومن الحاكِمُ فيَّ؟! فقيل له: القاضي المالكي، فقال له الشَّيخُ: كيف تحكمُ فيَّ وأنت خصمي، فغضب غضبًا شديدًا وانزعج وأقيمَ مَرسمٌ عليه وحُبِسَ في برج أيامًا، ثم نقِلَ منه ليلة العيد إلى الحبس المعروفِ بالجُبِّ، هو وأخوه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن، وأما ابن صصرى فإنه جُدِّدَ له توقيعٌ بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشقَ يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوبُ له ماقتة، والنفوسُ منه نافرة، وقرئ تقليدُه بالجامع، وبعده قرئ كتابٌ فيه الحطُّ على الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشاميَّة، وألزِمَ أهلُ مذهبه بمخالفتِه، وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير وشيخُه نصر المنبجي، وساعدهم جماعةٌ كثيرةٌ من الفقهاء والصوفيَّة وجرت فِتَنٌ كثيرة منتشرة، نعوذُ بالله من الفتن، وحصل للحنابلةِ بالديار المصرية إهانةٌ عظيمة كثيرة، وذلك أنَّ قاضِيَهم كان قليلَ العِلمِ مُزجَى البضاعةِ، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابُهم ما نالهم، وصارت حالُهم حالًا مؤلمة.
كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبلَ عَقْدِ صُلحِ الحُديبيةِ بعَث خِراشَ بنَ أُميَّةَ الخُزاعيَّ إلى مكَّةَ، وحمَلهُ على جَملٍ له يُقالُ له: الثَّعلبُ. فلمَّا دخَل مكَّةَ عَقَرَتْ به قُريشٌ وأرادوا قَتْلَ خِراشٍ فمنَعهُم الأَحابيشُ (هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة) حتَّى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فدَعا عُمَرَ لِيَبعثَهُ إلى مكَّةَ، فقال: يا رسولَ الله إنِّي أَخافُ قُريشًا على نَفْسي، وليس بها مِن بني عَدِيٍّ أحدٌ يَمنعُني، وقد عَرفتْ قُريشٌ عَداوتي إيَّاها وغِلْظَتي عليها؛ ولكنْ أَدلُّك على رجلٍ هو أَعزُّ مِنِّي عُثمانَ بنِ عفَّانَ. فدَعاهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبعَثهُ إلى قُريشٍ يُخبِرُهم أنَّه لم يأتِ لحربٍ، وأنَّه جاء زائرًا لهذا البيتِ مُعَظِّمًا لِحُرمَتِه، فخرج عُثمانُ حتَّى أتى مكَّةَ ولَقِيَهُ أَبانُ بنُ سَعيدِ بنِ العاصِ، فنزَل عن دَابَّتِه وحمَله بين يَديه ورَدِف خلفَه وأَجارهُ حتَّى بلَّغَ رِسالةَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فانطلق عُثمانُ حتَّى أتى أبا سُفيانَ وعُظماءَ قُريشٍ فبَلَّغهُم عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أَرسلهُ به، فقالوا لِعُثمانَ: إن شِئتَ أن تَطوفَ بالبيتِ فَطُفْ به. فقال: ما كنتُ لأفعلَ حتَّى يَطوفَ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فاحْتبسَتهُ قُريشٌ عندها، فبلَغ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين أنَّ عُثمانَ قد قُتِلَ).قال ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما:كانت بَيعةُ الرِّضوانِ بعدَ ما ذهَب عُثمانُ إلى مكَّةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِه اليُمنى: «هذه يدُ عُثمانَ». فضرَب بها على يدِه، فقال: «هذه لِعُثمانَ».
وقال جابرُ بنُ عبدِ الله: كُنَّا يومَ الحُديبيةِ ألفًا وأربعَ مائةٍ، فبايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعُمَرُ آخِذٌ بيدِه تحت الشَّجرةِ، وهي سَمُرَةٌ. وقال لنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ». ثم قال جابرٌ: لو كنتُ أُبصِرُ لأَرَيْتُكُم مَوضِعَ الشَّجرةِ.
وعن مَعقِلِ بنِ يَسارٍ قال: لقد رَأيتُني يومَ الشَّجرةِ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُبايِعُ النَّاسَ، وأنا رافعٌ غُصنًا مِن أَغصانِها عن رَأسِه، ونحن أربعَ عشرةَ مائةً. وقدِ اخْتلفتِ الرِّواياتُ في عَددِهم، فقال ابنُ حَجَرٍ: (والجمعُ بين هذا الاختلافِ أنَّهم كانوا أكثرَ مِن ألفٍ وأربعمائةٍ، فمَن قال: ألفًا وخمسمائةٍ جبَر الكَسرَ، ومَن قال: ألفًا وأربعمائةٍ أَلغاهُ).
هو بِشرُ بنُ غِياثِ بنِ أبي كريمةَ العَدَويُّ، مولاهم، البغداديُّ، المِرِّيسيُّ. شيخُ المعتزلة، وأحدُ من أضَلَّ المأمونَ، كان والِدُ بِشرٍ يهوديًّا، وصنَّف بِشرٌ كِتابًا في التَّوحيدِ، وكِتابَ (الإرجاء)، وكِتابَ (الرَّدُّ على الخوارجِ)، وكِتاب (الاستطاعة)، و(الرَّدُّ على الرَّافضةِ في الإمامةِ)، وكِتاب (كُفرُ المُشَبِّهة)، وكِتاب (المعرفة)، وكِتابُ (الوعيد) .نظَر في الفقهِ أوَّلَ أمرِه فأخذ عن القاضي أبي يوسُفَ، وروى عن حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ. ثُمَّ نظر في عِلمِ الكلامِ، فغلب عليه، ودعا إلى القولِ بخلقِ القرآنِ، حتى كان عينَ الجَهْميَّةِ في عصرِه وعالِمَهم، فمقَتَه أهلُ العلمِ، وكفَّره عِدَّةٌ منهم، ولم يُدرِكْ جَهْمَ بنَ صَفوانَ، بل تلقَّف مقالاتِه من أتباعِه . ومات بِشرٌ سنةَ 218هـ.وقد وقَف العُلَماءُ منه موقفًا شديدًا، ونُقِل عن كثيرٍ تكفيرُه، ومنهم: سفيانُ بنُ عُيَينةَ، وعبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، وعبَّادُ بنُ العوَّامِ، وعليُّ بنُ عاصمٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ، ووكيعٌ، وأبو النَّضرِ هاشِمُ بنُ القاسِمِ، وشبابةُ بنُ سوارٍ، والأسودُ بنُ عامرٍ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وبِشرُ بنُ الوليدِ، ويوسُفُ بنُ الطَّبَّاعِ، وسُليمانُ بنُ حسَّانَ الشَّاميُّ، ومُحمَّدٌ ويَعلَى ابنا عُبَيدٍ الطَّنافسيَّانِ، وعبدُ الرَّزَّاقِ بنُ همَّامٍ، وأبو قتادةَ الحرَّانيُّ، وعبدُ الملِكِ بنُ عبدِ العزيزِ الماجِشونُ، ومُحمَّدُ بنُ يوسُفَ الفِريابيُّ، وأبو نُعَيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مَسلَمةَ القَعْنبيُّ، وبِشرُ بنُ الحارثِ، ومُحمَّدُ بنُ مُصعَبٍ الزَّاهِدُ، وأبو البَختريِّ وَهبُ بنُ وَهبٍ السَّوائيُّ المدنيُّ قاضي بغدادَ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ، وعبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ الحُمَيديُّ، وعليُّ بنُ المدينيِّ، وعبدُ السَّلامِ بنُ صالحٍ الهَرَويُّ، والحَسَنُ بنُ عليٍّ الحلوانيُّ .وسبَبُ هذا الموقِفِ الشديدِ تجاهَه أنَّ الأصولَ والمناهِجَ التي سلكها المِرِّيسيُّ أصولٌ ومناهِجُ كُفريَّةٌ تقومُ على التلبيسِ والخِداعِ اللَّفظيِّ، وذلك أنَّه قد توسَّع في بابِ التأويلاتِ وصَرفِ النُّصوصِ، وخاض فيها أكثَرَ ممَّن سبقه من الجَهْميَّةِ، فآراؤه ومقالاتُه تمثِّلُ المرحلةَ الثَّالثةَ من مراحلِ الجَهْميَّةِ وأطوارِها بَعدَ الجَعْدِ والجَهْمِ؛ لأنَّ المِرِّيسيَّ نهَج نهجًا أكثَرَ تلبيسًا وتمويهًا وخُبثًا من أسلافِه، حيث كان منهَجُ الجَعْدِ والجَهْمِ يصادِمُ النُّصوصَ بعُنفٍ، أمَّا المِرِّيسيُّ فقد سلك مسلَكَ التأويلِ، وعَرَض مَذهَبَ الجَهْميَّةِ بأسلوبٍ ماكرٍ، ولديه شيءٌ من العِلمِ والفقهِ، يُلبِّسُ به على النَّاسِ. ومن وُجوهِ خُطورةِ فِكرِه أنَّ توسُّعَه في بابِ التأويلاتِ صار نهجًا لكثيرٍ من المُتكلِّمين بَعدَه، كابنِ فُورَك، والبغداديِّ، والشَّهْرَستانيِّ، والجُوَينيِّ، والرَّازيِّ، والماتُريديِّ، وأتباعِهم من متأخِّري الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ.
في صَفَر مِن هذه السنة وصَلَ المَلِك مسعود إلى بلْخ من غزنة، فجمع أصحابَه، ولقِيَ إسماعيلَ شاه مَلِكَ خوارزم، وقاتله، ودامت الحربُ بينهما مُدَّةَ شَهر، وانهزم إسماعيلُ، والتجأ إلى طغرلبك وأخيه داود السلجقيَّة، ثم سار مسعودُ بن سبكتكين من بلخ بنفسِه، وقصد سرخس، فتجَنَّب الغزُّ لقاءه، وعدلوا إلى المُراوغة والمُخاتلة، وأظهر الغُزُّ العزمَ على دخول المفازة التي بين مروٍ وخوارزمَ، فبينما عساكِرُ مسعودٍ تَتْبَعُهم وتَطلُبُهم إذ لَقُوا طائفةً منهم، فقاتلوهم وظَفِروا بهم وقتلوا منهم، ثمَّ إنه واقعهم بنفسه في شعبان من هذه السنة وقعةً استظهَرَ فيها عليهم، فأبعدوا عنه، ثم عاودوا القُربَ منه بنواحي مرو، فواقعوهم وقعةً أخرى قُتِلَ مِن الغز التركمان فيها نحوُ ألف وخمسمِئَة قتيل، وهرب الباقون فدخلوا البرِّيَّة التي يحتَمون بها، وثار أهلُ نيسابور بمن عندهم منهم، فقَتَلوا بعضًا، وانهزم الباقونَ إلى أصحابِهم بالبرِّيَّة وعدل مسعودٌ إلى هراة؛ ليتأهَّبَ في العساكِرِ للمسير خلْفَهم وطَلَبِهم أينما كانوا، فعاد طغرلبك إلى الأطرافِ النائية عن مسعود، فنهَبَها وأثخنَ فيها، فحينئذ سار مسعودٌ يَطلُبُه، فلما قاربَه انزاح طغرلبك من بينِ يديه إلى أستوا وأقام بها، وكان الزمانُ شِتاءً، ظنًّا منه أنَّ الثَّلجَ والبردَ يَمنَعُ عنه، فطلبه مسعودٌ إليها، ففارقه طغرلبك وسلك الطريقَ على طوس، واحتمى بجبالٍ منيعة، ومضايقَ صَعبةِ المسلك، فسَيَّرَ مسعود في طلبه وزيرَه أحمد بن محمد بن عبد الصمد في عساكِرَ كثيرة، فطوى المراحِلَ إليه جريدةً- الجريدة: خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها-, فواقعوهم الغُزُّ وانتصروا على الوزير وعسكَرِه، واستأمن من أصحابِه جماعةً كثيرةً، ورأى الوزيرُ الطلَبَ له من كل جانبٍ، فعاود دخولَ المفازة إلى خوارزمَ وأوغل فيها، فلمَّا فارق الغز خراسان قصد مسعود جبلًا مِن جبال طوس منيعًا لا يُرام، وكان أهلُ الجبل قد وافقوا الغُزَّ وأفسدوا معهم، فلمَّا فارق الغزُّ تلك البلاد تحصَّنَ هؤلاء بجَبَلِهم ثقةً منهم بحصانتِه وامتناعه، فسرى مسعود إليهم جريدةً، فلم يَرُعْهم إلَّا وقد خالطهم، فتركوا أهلَهم وأموالَهم وصَعِدوا إلى قِمَّة الجبَلِ واعتَصَموا بها وامتَنَعوا، وغَنِمَ عسكَرُ مسعود أموالَهم وما ادَّخَروه. ثمَّ أمر مسعودٌ أصحابَه أن يزحَفوا إليهم في قمَّة الجبل، وباشَرَ هو القتالَ بنَفسِه، فزحَفَ النَّاسُ إليهم، وقاتلوهم قتالًا لم يَرَوا مثله، وكان الزمانُ شتاءً، والثلجُ على الجبلِ كثيرًا، فهلك من العسكر في مخارمِ الجَبَلِ وشِعابِه كثيرٌ، ثمَّ إنهم ظَفِروا بعسكر طغرلبك وأكثَروا فيهم القتلَ والأسرَ، وفرَغوا منهم، وأراحوا المسلمينَ مِن شَرِّهم. ثمَّ سار مسعود إلى نيسابور في جمادى الأولى سنة 431، ليريحَ ويستريحَ، وينتظِرَ الربيعَ ليسيرَ خَلْفَ الغز، ويطلُبَهم في المفاوزِ التي احتَمَوا بها.
هو أمير الجيوش أبو القاسم شاهنشاه الملك الأفضل بن أمير الجيوش بدر الجمالي. كان والده بدر أرمنيًّا، اشتراه جمال الدولة بن عمار، وتربى عنده وتقدم بسببه، كان بدر نائبًا بعكا، فسار في البحر في ترميم دولة المستنصر العبيدي، فاستولى على الإقليم، وأباد عدة أمراء، ودانت له الممالك إلى أن مات، فقام بعده ابنه الأفضل، وعَظُم شأنه، وأهلك نزارًا ولد المستنصر صاحب دعوة الباطنية الإسماعيلية أصحاب ابن الصباح وقلعة ألموت، وكذلك أتابكه أفتكين متولي الثغر، وكان الأفضل بطلًا شجاعًا، وافر الهيبة، عظيم الرتبة، فلما هلك المستعلي نَصَب في الإمامة ابنه الآمر، وحجر عليه وقمعه، وكان الآمر طياشًا فاسقًا، فعمل على قتل الأفضل، فرتب عدةً وثبوا عليه، فأثخنوه، ونزل إليه الآمر، وتوجَّع له، فلما قُضِي الأفضل استأصل الآمر أمواله، وبقي الآمر في داره أربعين صباحًا والكَتَبة تضبط تلك الأموال والذخائر، وحبس أولاد الأفضل، وكانت ولايته بعد أبيه ثماني وعشرين سنة، منها: آخر أيام المستنصر، وجميع أيام المستعلي، إلى هذه السنة من أيام الآمر، وكانت الأمراء تكرهه لكونه سنيًّا، فكان يؤذيهم، وكان فيه عدل، والإسماعيلية يكرهونه لأسباب؛ منها: تضييقه على إمامهم، وتركه ما يجب عندهم سلوكه معهم، ومنها ترك معارضة أهل السنة في اعتقادهم، والنهي عن معارضتهم، وإذنه للناس في إظهار معتقدات أهل السنة والمناظرة عليها، فكثر الغرباء ببلاد مصر، وكان حَسَن السيرة، عادلًا. قال أبو يعلى بن القلانسي: "كان الأفضل حسن الاعتقاد، سُنِّيًّا، حميد السيرة، كريم الأخلاق، لم يأت الزمان بمثله". قال ابن خلكان: "ترك الأفضل من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار مكررة، ومن الدراهم مائتين وخمسين أردبًا، وسبعين ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهرة باثني عشر ألف دينار، ومائة مسمار ذهب زنة كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس كان يجلِسُ فيها، على كل مسمار منديل مشدود بذهب، كل منديل على لون من الألوان من ملابسه، وخمسمائة صندوق كسوة للبس بدنه، قال: وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والمسك والطيب والحلي ما لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، وخلف من البقر والجواميس والغنم ما يستحيي الإنسانُ من ذكره، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، وترك صندوقين كبيرين مملوءين إبر ذهب برسم النساء والجواري" قُتِل الأفضل في رمضان سنة 515، وله ثمان وخمسون سنة, ولما قتل ولي الوزارة بعد الأفضل أبو عبد الله بن البطائحي، ولقب المأمون، وتحكم في الدولة، وظهر الظلم والبدعة أيام البطائحي, وبقي كذلك حاكمًا في البلاد إلى سنة 519، فصُلِب.
سار سِنجر إلى لقاء التُّرك، فعبَرَ إلى ما وراء النَّهرِ، فشكا إليه محمودُ بنُ محمد خان من الأتراك القارغلية، فقَصَدهم سنجر، فالتجؤوا إلى كوخان الصيني ومَن معه من الكُفَّار، وأقام سنجر بسمرقند، فكتب إليه كوخان كتابًا يتضَمَّنُ الشَّفاعةَ في الأتراكِ القارغلية، ويَطلُبُ منه أن يعفوَ عنهم، فلم يُشَفِّعْه فيهم، وكتَبَ إليه يدعوه إلى الإسلامِ ويتهَدَّدُه إن لم يُجِبْ عليه، ويتوعَّدُه بكَثرةِ عساكرِه، ووَصْفِهم، وبالَغَ في قتالِهم بأنواعِ السِّلاحِ، حتى قال: وإنَّهم يَشُقُّونَ الشَّعرَ بسِهامهم، فلم يرْضَ هذا الكتابَ وزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، فلم يُصغِ إليه، وسَيَّرَ الكِتابَ، فلمَّا قُرئَ الكِتابُ على كوخان أمَرَ بنَتفِ لحيةِ الرَّسولِ، وأعطاه إبرةً، وكَلَّفَه شَقَّ شَعرةٍ مِن لحيَتِه فلم يَقدِرْ أن يفعَلَ ذلك، فقال: كيف يَشُقُّ غَيرُك شَعرةً بسَهمٍ وأنت عاجِزٌ عن شَقِّها بإبرةٍ؟ وقيل: سَبَبُ المعركة أنَّ سنجرَ كان قَتَلَ ابنًا لخوارزم شاه أتسز بن محمد، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا، وهم مِن الأتراك المجوس بما وراءَ النهر، وحَثَّهم على قَصدِ مملكةِ السُّلطان سنجر، فساروا في ثلاثمئة ألف فارسٍ بقيادة مَلِكِهم كوخان، وسار إليهم سنجر في عساكِرِه، واستعَدَّ كوخان للحَربِ، وعنده جنودُ الترك والصين والخطا وغيرهم، وقصد السُّلطانُ سنجر، فالتقى العسكرانِ بما وراءَ النَّهرِ بمَوضعٍ يقال له قطوان، وكانا كالبَحرينِ العَظيميَنِ، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى وادٍ يقالُ له درغم، وكان على ميمنةِ سِنجر الأميرُ قماج، وعلى مَيسَرتِه ملك سجستان، والأثقالُ وراءهم، فاقتتلوا خامِسَ صَفَر, وكانت الأتراكُ القارغليَّة الذين هربوا من سنجر مِن أشَدِّ النَّاسِ قِتالًا، ولم يكُنْ ذلك اليومَ مِن عَسكَرِ السُّلطان سنجر أحسَنُ قتالًا من صاحِبِ سجستان، فانجَلَت الحربُ عن هزيمة المسلمين، فقُتِلَ منهم ما لا يُحصى مِن كَثرتِهم، واشتمل وادي درغم على عشرةِ آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السُّلطانُ سنجر مُنهَزِمًا، وأُسِرَ صاحب سجستان والأميرُ قماج وزوجةُ السُّلطان سنجر، وهي ابنةُ أرسلان خان، فأطلَقَهم الكُفَّارُ، ولَمَّا انهزم سنجر قَصَد خوارزم شاه مدينةَ مَروٍ، فدخلها مُراغمةً للسُّلطانِ سنجر، وقَتَل جمعًا مِن أهلها، وقَبَضَ على أبي الفضل الكرماني الفقيهِ الحنفي وعلى جماعةٍ مِن الفقهاء وغيرِهم من أعيانِ البَلَدِ، وممَّن قُتِلَ الحسامُ عُمَرُ بن عبد العزيز بن مازة البُخاري الفقيهُ الحنفي المشهور. ولم يكُنْ في الإسلامِ وَقعةٌ أعظَمُ من هذه ولا أكثَرُ مِمَّن قُتِلَ فيها بخراسان، واستقَرَّت دولة الخطا والترك الكُفَّار بما وراء النهر، وبَقِيَ كوخان إلى رَجَب من سنة 537 فمات فيه.
هو الإمامُ العَلَّامة الحافِظُ الأوحَدُ، شَيخُ الإسلامِ القاضي أبو الفَضلِ عِياضُ بنُ موسى بنِ عِياضِ بنِ عَمرِو بنِ موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عِياض اليحصبي الأندلسي، ثمَّ السبتي، المالكيُّ، قاضي سبتة. أحدُ مشايخ العُلَماءِ المالكيَّة، أصلُه من الأندلُسِ انتَقَلَ جَدُّه عَمرٌو مِن الأندلُسِ إلى مدينة فاس، ثمَّ مِن فاس إلى سبتة, ووُلِدَ القاضي عياض بسبتة في النِّصفِ مِن شعبان سنة 476, لم يَحمِل القاضي العِلمَ في الحداثة، وأوَّلُ شَيءٍ أخذه عن الحافِظِ أبي علي الغساني إجازةً مُجَرَّدة، وكان يُمكِنُه السَّماعُ منه. بدأ بطلب العلمِ في الثانية والعشرين مِن عُمُرِه, ثمَّ رحل إلى الأندلس سنة 503، فاستبحَرَ مِن العُلومِ، وجمَعَ وألَّف، وسارت بتصانيفِه الرُّكبانُ، واشتُهِرَ اسمُه في الآفاقِ، حتى أصبح إمامَ وَقتِه في الحديثِ وعُلومِه، والفِقهِ واللُّغةِ والأدَبِ، وأيَّامِ الناس، وله مُصَنَّفات كثيرةٌ مُفيدةٌ شاهِدةٌ على إمامتِه، منها: الشَّفا بتعريف حقوق المصطفى، وشَرحُ مُسلِم، ومشارِقُ الأنوار، وشَرحُ حديث أم زرع، وغير ذلك، وله شِعرٌ حَسَنٌ. قال خلف بن بشكوال تلميذُه: "هو مِن أهلِ العِلمِ والتفَنُّنِ والذَّكاءِ والفَهمِ، استُقضِيَ بسبتةَ مُدَّةً طويلةً، حُمِدَت سِيرتُه فيها، ثمَّ نُقِلَ عنها إلى قضاءِ غِرناطة سنة 532، فلم يُطَوِّلْ بها، وقَدِمَ علينا قُرطُبةَ، فأخَذْنا عنه". قال الفقيهُ محمد بن حماده السبتي: "جلس القاضي للمُناظرة وله نحوٌ مِن ثمان وعشرين سنة، ووَلِيَ القضاءَ وله خمس وثلاثون سنة، كان هيِّنًا مِن غَيرِ ضَعفٍ، صُلبًا في الحَقِّ، تفَقَّه على أبي عبدِ الله التميمي، وصَحِبَ أبا إسحاق بن جعفر الفقيه، ولم يكُنْ أحَدٌ بسبتة في عَصرِه أكثَرَ تواليفَ مِن تواليفِه" ذكره الذهبي بقوله: "تواليفُه نَفيسةٌ، وأجَلُّها وأشرَفُها كِتابُ (الشَّفا) لولا ما قد حشاه بالأحاديثِ المُفتَعَلةِ عَمَلَ إمامٍ لا نَقْدَ له في فَنِّ الحديثِ ولا ذَوْقَ، واللهُ يُثيبُه على حُسنِ قَصْدِه، وينفَعُ بـ (شِفائِه) وقد فَعَل، وكذا فيه من التأويلاتِ البَعيدةِ ألوانًا، ونبيُّنا صَلَواتُ الله عليه وسلامُه غَنِيٌّ بمِدحةِ التَّنزيلِ عن الأحاديثِ، وبما تواتَرَ مِن الأخبارِ عن الآحادِ، وبالآحادِ النَّظيفةِ الأسانيدِ عن الواهياتِ، فلماذا يا قومِ نتشَبَّعُ بالموضوعاتِ؟ فيتطَرَّق إلينا مقالُ ذَوي الغِلِّ والحَسَدِ، ولكِنْ مَن لا يعلَمُ مَعذورٌ، فعليك يا أخي بكتاب (دلائل النبوة) للبَيهقيِّ؛ فإنَّه شِفاءٌ لِما في الصُّدور، وهُدًى ونُور" مات بمراكش يومَ الجُمُعةِ في جمادى الآخرةِ، وقيل في رمضانَ، بمدينة سبتة, ودُفِنَ بباب إيلان داخِلَ المَدينةِ.
أهلَّ شهر جمادى الأولى والفتنة قائمة بين أمراء الدولة؛ وذلك أن الأمير يشبك هو زعيم الدولة، بيده جميع أمورها من الولاية والعزل، والنقض والإبرام، وصار له عصبة كبيرة، فأحبوا عزل الأمير إينال باي ابن الأمير قجماس ابن عم الملك الظاهر برقوق من وظيفة أمير أخور؛ وذلك أنه اختص بالسلطان لأمور؛ منها: قرابته، ثم مصاهرته إياه، فشَقَّ ذلك على عصبة يشبك، وأحبوا أن يكون جركس المصارع أمير أخور، وانقطعوا عن حضور الخدمة السلطانية عدة أيام من جمادى الأولى، فاستوحش السلطان منهم، وتمادى الحال، فتقدم السلطان إلى الأمير إينال باي أن ينزل إلى الأمراء ويصالحهم، فمنع جماعة من المماليك السلطانية إينال باي أن ينزل، وتشاجروا مع طائفة من مماليك الأمراء، واشتد ما بينهم من الشر، وأخذ كل أحد في أُهبة الحرب، وأصبحوا جميعًا يوم الأحد لابسين السلاح، وقد أعدَّ يشبك بأعلى مدرسة حسن مدافع النفط والمكاحل؛ ليرمي على الإسطبل السلطاني، ومن يقف تحت القلعة بالرميلة، ونزل السلطان من قلعة الجبل إلى الإسطبل، واجتمع عليه من أقام على طاعته من الأمراء والمماليك، وأقام مع يشبك من الأمراء المقدَّمين سبعة وأكثر المماليك الظاهرية، فأقاموا على الحصار والمراماة، من بكرة الأحد إلى ليلة الخميس سابعه، وقد أخذ أصحاب السلطان على اليشبكية المنافذ، وحصروهم والقتال بينهم مستمر، وأمرُ يشبك في إدبار، فلما كان ليلة الخميس نصف الليل، خرج يشبك بمن معه على حمية من الرميلة، ومروا إلى جهة الشام، فلم يتبَعْهم أحد من السلطانية، ونودِيَ من آخر الليل في الناس بالقاهرة الأمان والاطمئنان، ومُنِع أهل الفساد من النهب، وأما يشبك ففي مروره إلى دمشق انضم له الكثير وزُوِّد بالكثير من العدد والعتاد، وقد انضم إليهم خلق كثير، فدخلوا دمشق بكرة الثلاثاء رابع شهر رجب، فسألهم الأمير شيخ المحمودي عن خبرهم، فأعلموه بما كان، وذكروا له أنهم مماليك السلطان وفي طاعته، لا يخرجون عنها أبدًا غير أن الأمير إينال باي ثقل عنهم ما لم يقع منهم، فتغير خاطر السلطان، حتى وقع ما وقع، وأنهم ما لم يُنصَفوا منه ويعودوا لِما كانوا عليه، وإلا فأرض الله واسعة، فوعدهم بخير، وقام لهم بما يليق بهم، وكتب إلى السلطان يسأله في أمرهم، وقدمت كتب نواب الشام إلى الأمير يشبك، تَعِدُه بالأمداد، وتقويته بما يريد، وقدم عليهم الأمير نوروز والأمير دقماق، فبعث الأميران شيخ ويشبك بيشبك العثماني إلى الأمير جكم الجركسي الظاهري، يستدعيه من أنطاكية إلى دمشق، وأفرج الأمير شيخ المحمودي أيضًا عن قرا يوسف ابن قرا محمد التركماني.
أمر السلطان محمد الفاتح بإنشاء جامِعِه في موقع كنيسة بيزنطة القديمة التي دمَّرها الصليبيون أثناء الحملة الصليبية الرابعة، وسمي الجامعُ باسم جامع الفاتح نسبةً إليه، وأمر كذلك أن يُبنى بجانب مسجده ثماني مدارس، على كل جانب من جوانب المسجد أربعة مساجد يتوسَّطُها صَحنٌ فسيح، وفيها يقضي الطالبُ المرحلة الأخيرة من دراسته، وأُلحقت بهذه المدارس مساكِنُ للطلبة ينامون فيها ويأكلون فيها طعامَهم، ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وكان الموسمُ الدراسي على طول السنة في هذه المدارس، وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة، وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى، متبحرًا في أسماء الكتب والمؤلِّفين، وكان المشرف على المكتبة يعير الطلبة والمدرسين ما يطلبونَه من الكتب بطريقةٍ منظمة دقيقة ويسجل أسماء الكتب المستعارة في دفتر خاص، وهذا الأمين مسؤول عن الكتب التي في عهدته، ومسؤول عن سلامة أوراقها، وتخضع هذه المكتبة للتفتيش كل ثلاثة أشهر على الأقل، وكانت مناهج هذه المدارس تتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص، وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضًا، ثم صار الوزراء والعلماء من أصحاب الثروات يتنافسون في إنشاء المعاهد والمدارس والمساجد والأوقاف الخيرية، وكان الفاتح مهتمًّا باللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن الكريم، كما أنها من اللغات العلمية المنتشرة في ذلك العهد، وليس أدلَّ على اهتمام الفاتح باللغة العربية من أنه طلب إلى المدرسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة، كالصحاح، والتكملة، والقاموس، وأمثالها، ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكاتب العامة، وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم. كان السلطان محمد الفاتح مغرمًا ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات، والخانات والحمامات، والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة، وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات، وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءً ورونقًا، واهتم بالعاصمة إسلامبول اهتمامًا خاصًّا، وكان حريصًا على أن يجعلها حاضرة العلوم والفنون، وكثر العمران في عهد الفاتح وانتشر، واهتم بدُور الشفاء ووضع لها نظامًا مثاليًّا في غاية الروعة والدقة والجمال؛ فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب، ثم زيد إلى اثنين من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحَّال- طبيب عيون- وجراح وصيدلي، وجماعة من الخدم والبوابين، ويشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وألا تصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفًا بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان، ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم!
هو الشيخ الإمام الكبير العلَّامة جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الخضيري القاهري الشافعي، صاحب التصانيف والمؤلفات الحافلة الجامعة التي تزيد على خمسمائة مصنف، وقد تداولها الناس واشتهرت, وعم النفعُ بها، وُلد في مستهل رجب سنة 849 في مصر بأسيوط وإليها نسبته، وأمُّه أَمَةٌ تركية، وكان أبوه قاضي أسيوط، ثم نشأ في القاهرة يتيمًا بعد وفاة والده، فاشتغل بالعلم فحفظ القرآن والعمدة والمنهاج الفرعي وبعض الأصلي وألفية النحو, ثم رحل إلى كثير من البلاد، فبرع في عدة فنون وشارك في كل العلوم تقريبًا، فله في كل فن مؤلفات مقبولة قد سارت في الأقطار مسير النهار، حتى اعتبر من أكثر العلماء تأليفًا، وأجاز له أكابر علماء عصره مَن سايَرَ وفاق الأقرانَ واشتهر ذكره وبعُد صيتُه, وقد وقع خلاف بينه وبين معاصره الإمام السخاوي رحمهما الله. قال الإمام الشوكاني عن السيوطي: "لكنه لم يسلَمْ من حاسدٍ لفضله، وجاحد لمناقبِه؛ فإن السخاوي في الضوء اللامع- وهو من أقرانه- ترجم له ترجمة مُظلِمة غالبها ثلبٌ فظيع وسبٌّ شنيع، وانتقاصٌ وغمط لمناقبه تصريحًا وتلويحًا، ولا جرم؛ فذلك دأبه في جميع الفضلاء من أقرانه، وقد تنافس هو وصاحب الترجمة منافسة أوجبت تأليف صاحب الترجمة لرسالة سمَّاها: الكاوي لدماغ السخاوي، فليعرف المطَّلع على ترجمة هذا الفاضل في الضوء اللامع أنها صدرت من خصمٍ له غير مقبول عليه" والحق أن السيوطي صاحب فنون وإمام في كثير منها، وهو أحفظ للمتون من السخاوي وأبصر باستنباط الأحكام الشرعية، وله الباع الطويل في اللغة العربية والتفسير بالمأثور وجمع المتون، والاطلاع على كثير من المؤلفات التي لم يطلع عليها علماء عصره، وقد وقع في بعض مؤلفاته الحديثية بعض التسامح والتناقض, أما السخاوي فهو في علم الحديث وعلوم الإسناد وما يتعلق بالرجال والعلل والتاريخ إمام لا يشاركه فيها أحد, ويعتبر صاحب فن واحد؛ ولذا يرجَّح قولُه في الحديث وعلومه على السيوطي، ومؤلفاته في ذلك مرجع المحققين، وهو وارث شيخه ابن حجر. ومن تصانيف السيوطي: الجامعين في الحديث، والدر المنثور في التفسير بالمأثور، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، وتاريخ الخلفاء، واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، والجامع الصغير وزيادته في الحديث، وأسباب النقول، وشرح على مسلم، وعلى الموطأ، وعلى النسائي، وألفية في المصطلح، وفي اللغة ألفية في النحو، والأشباه والنظائر، وفي علوم القرآن أسباب النزول، والإتقان في علوم القرآن، وغيرها كثير يصعب حصره. توفي السيوطي بعد أذان الفجر يوم الجمعة التاسع عشر جمادى الأولى.
كان أبو سَلمةَ عبدُ الله بنُ عبدِ الأسدِ أوَّلَ مَن هاجر إلى المدينةِ مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ المُهاجرين مِن قُريشٍ مِن بني مَخزومٍ، وكانتْ هِجرتُه إليها بعدَ بَيعةِ العَقبةِ الأولى، وقبلَ بَيعةِ العَقبةِ الثَّانيةِ، حين آذتْهُ قُريشٌ بعدَ مَرجعِهِ مِنَ الحَبشةِ، فعزم على الرُّجوعِ إليها، ثمَّ بَلغهُ أنَّ بالمدينةِ لهم إخوانًا، فعزم في الهِجرةِ إليها.
قالتْ أمُّ سَلمةَ: لمَّا أجمع أبو سَلمةَ الخُروجُ إلى المدينةِ رَحَّلَ لي بَعيرَهُ ثمَّ حملَني عليه، وجعل معي ابْنِي سَلمةَ بنَ أبي سَلمةَ في حِجْري، ثمَّ خرج يقود بي بَعيرَهُ، وانطلق به بنو عبدِ الأسدِ، وحبسني بنو المُغيرةِ عندهم وانطلق زوجي أبو سَلمةَ إلى المدينةِ. قالتْ: ففُرِّق بيني وبين ابْنِي وبين زوجي. قالت: فكنتُ أخرُج كُلَّ غَداةٍ فأجلِسُ في الأَبْطَحِ، فما أزالُ أبكي حتَّى أُمْسي، سَنَةً أو قريبًا منها، حتَّى مَرَّ بي رجلٌ مِن بني عَمِّي أحدُ بني المُغيرةِ، فرأى ما بي فرحِمَني، فقال لِبَني المُغيرةِ: ألا تحرجون من هذه المِسكينةِ؟ فرَّقتُم بينها وبين زوجِها وبين ولدِها؟ قالت: فقالوا لي: الْحَقي بزوجِك إن شئتِ. قالت: فَرَدَّ بنو عبدِ الأسدِ إليَّ عند ذلك ابْنِي، قالت: فارتحلتُ بعيري، ثمَّ أخذتُ ابْنِي فوضعتُه في حِجْري، ثمَّ خرجتُ أُريدُ زوجي بالمدينةِ. قالت: وما معي أحدٌ من خَلقِ الله، حتَّى إذا كنتُ بالتَّنعيمِ لَقيتُ عُثمانَ بنَ طلحةَ بنِ أبي طلحةَ أخا بني عبدِ الدَّارِ، فقال: إلى أين يا ابنةَ أبي أُميَّةَ؟ قلتُ: أُريدُ زوجي بالمدينةِ. قال: أَوَمَا معكِ أحدٌ؟ قلتُ: ما معي أحدٌ إلَّا الله وابْنِي هذا. فقال: والله ما لكِ مِن مَتْرَكٍ. فأخذ بخِطامِ البَعيرِ فانطلق معي يَهْوي بي، فَوَالله ما صَحِبتُ رجلًا مِن العربِ قَطُّ أَرى أنَّه كان أَكرمَ منه، كان إذا بلغ المنزِلَ أناخ بي، ثمَّ استأخر عنِّي حتَّى إذا نزلتُ استأخر ببعيري فحَطَّ عنه ثمَّ قيَّدهُ في الشَّجرِ، ثمَّ تنحَّى إلى شجرةٍ فاضطجع تحتها. فإذا دَنا الرَّواحُ قام إلى بعيري فقدَّمهُ فَرَحَّلَهُ، ثمَّ استأخر عنِّي وقال: ارْكَبي. فإذا رَكِبْتُ فاستويتُ على بعيري أتى فأخذ بخِطامهِ فقادَني حتَّى يَنزِلُ بي، فلمْ يَزلْ يصنعُ ذلك بي حتَّى أَقْدَمَني المدينةَ، فلمَّا نظر إلى قريةِ بني عَمرِو بنِ عَوفٍ بقُباءٍ قال: زوجُكِ في هذه القريةِ. وكان أبو سَلمةَ بها نازلًا، فادْخُليها على بركةِ الله. ثمَّ انصرف راجعًا إلى مكَّةَ. فكانت تقولُ أمُّ سَلمةَ: ما أعلمُ أهلَ بيتٍ في الإسلامِ أصابهم ما أصاب آلَ أبي سَلمةَ، وما رأيتُ صاحبًا قَطُّ كان أكرمَ مِن عُثمانَ بنِ طلحةَ. أَسلمَ عُثمانُ بنُ طلحةَ بنِ أبي طلحةَ العَبْدَريُّ بعدَ الحُدَيبيةِ.
وهي غزوةُ ذي أمَرَّ بناحيةِ نَجدٍ. وسَبَبُها: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَلَغه أنَّ جَمعًا من بني ثَعلَبَة بنِ سَعيدِ بن ذُبْيانَ بن بَغيضٍ بنِ رَيثِ بن غَطَفانَ، وبني مُحارِبِ بن خَصَفةَ بن قَيسٍ بذي أمَرَّ قد تَجَمَّعوا يُريدون أن يُصيبوا مِن أطرافِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَمَعهم رجلٌ منهم يُقال له: دُعْثورُ بن الحارِثِ بن مُحارِبٍ، فنَدَب رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المسلمين، وخرج في أربعِمِئةٍ وخَمسين، معهم عِدَّةُ أفراسٍ، واستَخلَف على المدينةِ عُثمانَ بنَ عفانَ، فأصابوا بالمدينةِ رجلًا منهم بذي القَصَّةِ يُقال له: جَبَّارٌ من بني ثَعلَبةَ، فقال له المسلمون: أين تُريد؟ فقال: أُريدُ يَثرِبَ لأرتاَد لنَفسي وأنظُرَ، فأُدخِلَ على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرَه مِن خَبَرِهم، قال: لن يُلاقوك ولو سَمِعوا بسَيرِك هَرَبوا في رؤوسِ الجبالِ وأنا سائِرٌ معك، فدعاه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الإسلامِ وأسلم، وضمَّه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بلالٍ، فأخَذَ به جبَّارٌ طَريقًا، وهَبَط به عليهم، وسَمِع القومُ بمَسيرِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهَرَبوا في رؤوسِ الجِبالِ، فبَلَغ ماءً يقال له: ذو أمَرَّ، فعَسكرَ به، وأصاب رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه مطرٌ كثيرٌ، فابتَلَّت ثيابُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وثيابُ أصحابِهِ؛ فنزل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تحتَ شجرةٍ ونَشَر ثيابَهُ لتَجِفَّ، واضطَجَع، وذلك بمَرأًى من المُشرِكين، واشتَغَل المسلمون في شؤونِهم. فبَعَث المشركون رَجلًا شُجاعًا منهم يقال له: دُعْثورُ بنُ الحارث، وكان سيِّدَها وأشجَعَها، ومعه سيفٌ متقلِّدٌ به، فبادَرَ دُعْثورٌ وأقبَلَ مُشتَمِلًا على السَّيفِ، حتى قام على رأسِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالسَّيفِ مشهورًا، فقال: يا مُحمَّدُ، مَن يَمنَعُك مِنِّي اليَومَ؟ فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اللهُ". ودَفَع جِبريلُ في صدرِه، فوقَع السَّيفُ من يدِه؛ فأخَذه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال له: "مَن يَمنَعُك مِنِّي؟!" فقال: لا أحَدَ، وأنا أشهَدُ أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ الله، والله لا أُكثِّرُ عليك جَمعًا أبدًا، فأعطاهُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سيفَه.ثم أتى قَومَه فقالوا: ما لك؟ وَيلَكَ! فقال: نَظرتُ إلى رجلٍ طَويلٍ، فدَفَع في صَدري، فوَقَعتُ لظَهري، فعَرَفتُ أنَّه مَلَك، وشَهِدتُ بأنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، واللهِ لا أُكثِّرُ عليه جَمعًا. وجَعَل يَدعو قومَه إلى الإسلامِ. وأنزل الله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة 11]. وعاد رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، ولم يَلْقَ كَيدًا، وكانت غَيبَتُه خمسَ عشرةَ ليلةً، وقيل: قام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنَجدٍ صَفَرَ كُلَّه.