بعد مشروعِ الوَحْدة جَرى انتخاب علي عبد الله صالح رئيسًا لمجلس رئاسة الجمهورية اليَمَنية، وعلي سالم البيض نائبًا له، ثم بدأت بوادرُ الاختلال السياسي في اتفاق الوَحْدة، بين نظامَينِ مختلِفَينِ: النظام الجنوبي الاشتراكي، والشمالي القَبَلي، حيثُ يَعُدُّ شيوخُ القبائلِ الاشتراكيِّين كفرةً وماركسيِّين، ويَعُدُّهم الاشتراكيُّونَ أُصوليِّين ومُتخلِّفينَ، وسُرعانَ ما انهار السِّلم واندلعت حربٌ أهليةٌ قصيرةٌ أدَّت إلى انتصار القوات الشمالية على قوات الجنوب، وتَوْحيد اليَمَن تحت مُسمَّى الجمهورية العربية اليَمنية.
قُتِلَ رأسُ الشيعةِ في مصرَ حسن شحاتة وثلاثةٌ من أتباعِه من الشيعةِ المصريِّين، وحسن شحاتة أزهري تشيَّع منذ سِنين، وانتشَرَت عدةُ مقاطِعَ مصورةٍ له وهو يستهزِئُ ويتطاوَل على الصحابةِ الكِرامِ وأُمَّهات المؤمنين رضي الله عن الجميع. وقد هَجَم المِئاتُ من أهالي زاويةِ أبي مسلم على حسن شحاتة وأتباعِه الشيعةِ، أثناءَ اجتماعِهِم داخِلَ منزل حسن العريان الذي استضافَهم بداخِلِه بإحدى القرى وأوسَعُوهم ضربًا، وعثروا على أعدادٍ كثيرةٍ من السلاحِ الأبيضِ وأُسطوانات البُوتوجاز ومنشوراتٍ تحرِّض على العُنفِ بداخلِ المنزلِ.
اغتِيلَ الداعيةُ السَّلفيُّ البارز محمد أول آدم ألباني هو وزوجتُه بمدينة "زاريا"، في ولايَةِ كادونا شماليَّ نيجيريا، عندما كان عائدًا من إحدى دُروسِه. وآدم ألباني رحمه الله هو مؤسِّسُ أكاديميَّة علوم الألبانيِّ ودار الحديثِ، وكلاهُما يَقَعُ في مدينة "زاريا"، وكان واعِظًا مُعارِضًا للحكومة، زُجَّ به في السِّجن عِدَّةَ مراٍت؛ بسببِ آرائِه المُعارِضة. واعتُقِلَ عامَ (2011م) في أعقابِ العُنفِ الذي اتَّسمَت به نتائجُ الانتخاباتِ الرئاسيَّةِ في البلاد، ولَقِي خلالَها عِدَّةُ أشخاصٍ مَصرعَهم، ودُمِّرت العديدُ من المُمتلَكات.
وُلِدَ الشَّيخُ صالِح الشيبي في مكَّةَ المكَرَّمةِ عامَ 1366هـ، ونشَأ في أسرةٍ عُرِفَت بسِدانةِ الكعبةِ المُشَرَّفةِ لعِدَّةِ قُرونٍ، وحصَل على شهادةِ الدُّكتوراه في الدِّراساتِ الإسلاميَّةِ من جامعةِ أمِّ القرى، وعَمِل أستاذًا جامعيًّا لسَنَواتٍ عِدَّةٍ، وتولَّى مَنصِبَ كبيرِ سَدَنةِ بيتِ اللهِ الحرامِ عامَ 1980، خَلَفًا لعَمِّه الشَّيخِ عبدِ القادِرِ الشيبي، وظَلَّ في هذا المنصِبِ حتَّى وفاتِه.
صُلِّيَ عليه بعدَ صلاةِ فَجرِ يومِ السَّبتِ في المسجِدِ الحرامِ، ودُفِن بمقابِرِ المُعَلَّاةِ بمكَّةَ.
لَمَّا رحل الشريف محمد بن عون العامَ الماضي من القصيم عائدًا إلى مكة بعد الفشل في تحقيق مرادِه، أوفد أهل القصيم إلى الإمام فيصل منهم رجالًا يعتذرون عمَّا بدر منهم، فقَبِلَ عُذرَهم وغفر لهم خطأَهم، ثم إن الإمام فيصل عزل عن إمارة عُنيزة إبراهيمَ بن سليمان بن زامل؛ لأن الشريف لم ينزِلْ عُنَيزةَ إلا بإذنه، وجعل مكانَه ناصِرَ بن عبد الرحمن السحيمي من أهل العقيلية، الذي قدِمَ إلى عنيزة بكتابٍ فيه توليته الإمارة من الإمام فيصل، فأخرج آل زامل من القصر وأنزله أخاه وضبَطَه برجالٍ واستقام له الأمرُ وبايعه أهلها، ثم تعرَّض لمحاولة اغتيالٍ فاشلة، فقَتَل السحيميُّ إبراهيمَ بن سليمان أميرَ عنيزة السابق فاشتعلت الفتنة، فأراد فيصل إخمادها فأرسل إلى السحيمي ليقدمَ عليه في الرياض، فلما قَدِم حكم عليه القضاءُ بديةِ إبراهيم بن سليمان وأقعده فيصلٌ عنده في الرياضِ، ثم جهَّزَ الإمام عبد الله المداوي ورجالًا معه إلى عُنيزة وأمرهم أن يدخلوا القصرَ فلم يتمكَّنْ من دخولِه، ثم إن أهل عنيزة أجمعوا على الحربِ، فلما علم بذلك السحيمي عرض على الإمام أنَّه هو الذي يُخمِدُ الفتنة وأعطى العهودَ والمواثيق بذلك، فأذِنَ له الإمام بالذهاب إلى عُنيزة، فلما وصلها نقضَ عهودَه ودخل مع أهل عنيزةَ في أمرِهم، ثم عرضوا على أميرِ بريدة عبد العزيز المحمد أبو العليان أن يدخُلَ معهم وهو أميرُ الجميع فوافَقَهم فتعاقدوا على نكثِ عهد الإمام، وقاموا لحربه وجمعوا جموعًا كثيرة من رجالِ بلدانهم ومن كان حولَهم من بُدوانهم، فأعطوهم السلاحَ وبذلوا لهم الأموالَ وعاقدوهم على بيع الأرواح، وضربوا طبولهم بالليلِ والنهار، وكان الإمام فيصل قد أمَرَ على أهل البلدان من رعيتِه بالغزوِ، فتجهَّز غازيًا وخرج من الرياض لثلاثٍ بَقِين من ربيع الثاني، وخرج معه أولاده عبد الله ومحمد، ولحق به ابنه سعود بأهل الخَرج، وخرج معه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ إمامًا وقاضيًا، ولَمَّا نزل قرب المجمعة لقِيَه ابن بشر (صاحب كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد) الذي يقول: "ثم رحل ونزل قريبًا من المجمعة، فركبتُ إليه للسلام عليه، فكان وصولي إلى مخيَّمِه قبل صلاة العصر، فصليت معهم وإذا المسلمون مجتمعون للدرس في الصيوان الكبير، وإذا الإمام جالس فيه والمسلمون يمينه وشماله، ومِن خَلفِه وبين يديه، والشيخ عبد اللطيف إلى جنبه، فأمر القارئ عليه بالقراءةِ، فقرأ عليه في كتاب التوحيد، فقرأ آية وحديثًا، فتكلم بكلامٍ جَزْلٍ وقولٍ صائبٍ عَدْلٍ، بأوضح إشارة وأحسن عبارة، فتعجَّبْت من فصاحته وتحقيقه وتبيينه وتدقيقِه... ثم سلمتُ على الإمام فقابلني بالتوقير والإكرام ورحَّبَ بي أبلغَ ترحيب وقرَّبني أحسن تقريب.. وسلمت على الشيخين عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وعبد الله بن جبر، فقمنا ودخلنا مع الإمام خيمته وجلسنا عنده، فابتدأ الشيخ عبد الله يقرأ على الإمام في كتاب سراج الملوك، والشيخ عبد اللطيف يسمع، ولكِنَّ الإمامَ هو الذي يتكلم على القراءة ويحقِّق المعنى". ثم في الصباح رحل الإمام إلى المجمعة ومنها إلى أُشيقر إلى أن نزل المذنب فبايعه أهلها، ثم أرسل إلى أهل القصيم يذكِّرُهم أن الدِّينَ لا يستقيم إلَّا بجماعة ولا يكون إلا بالسمع والطاعة، وأنَّه يعِزُّ عليه أن يُقتَلَ رجلٌ واحد من المسلمين، فلا تكونوا سببًا في إهراق دمائكم، فأرسلوا إليه رجلًا من رؤساء بريدة يقال له مهنا بن صالح، فلما وصل تم الصلحُ على أن يؤدِّيَ أهل القصيم الزكاةَ للإمام، ويركبون معه غزاةً ويدخلون في الجماعة والسمع والطاعة.
لمَّا نزَل المسلمون المدائنَ اجْتَوَوْها فشَكُوا ذلك, فكتَب حُذيفةُ إلى عُمَر: إنَّ العَربَ قد رَقَّتْ بُطونُها، وجَفَّتْ أَعضادُها، وتَغَيَّرَتْ أَلوانُها. وكان مع سعدٍ, فكتَب عُمَرُ إلى سعدٍ: أَخبِرني ما الذي غَيَّرَ أَلوانَ العَربِ ولُحومَهُم؟ فكتَب إليه سعدٌ: إنَّ الذي غَيَّرَهُم وُخومَةُ البِلادِ، وإنَّ العَربَ لا يُوافِقُها إلَّا ما وافَق إِبِلَها مِن البُلدانِ. فكتَب إليه عُمَر: أن ابْعَثْ سَلمانَ وحُذيفةَ رائِدَيْنِ فَلْيَرتادا مَنزِلًا بَرِّيًّا بَحْرِيًّا ليس بيني وبينكم فيه بَحرٌ ولا جِسْرٌ. فأَرسلَهُما سعدٌ، فخرَج سَلمانُ حتَّى أتى الكوفَةَ، وسار حُذيفةُ في شَرقِيِّ الفُراتِ لا يَرضى شيئًا حتَّى أتى الكوفَةَ، وكلُّ رَمْلٍ وحَصْباء مُخْتَلِطَيْنِ فهو كوفةُ، فأَتَيا عليها وفيها ثلاثةُ أَدْيِرَةٍ للنَّصارى، فأَعجبَتْهُما البُقعَةُ، فنَزَلا فَصَلَّيا، ودَعَوا الله تعالى أن يَجعلَها مَنزِلَ الثَّباتِ. فلمَّا رجَعا إلى سعدٍ بالخَبَرِ وقَدِمَ كِتابُ عُمَر إليه أيضًا كتَب سعدٌ إلى القَعقاعِ بن عَمرٍو وعبدِ الله بن المُعْتَمِّ أن يَسْتَخْلِفا على جُنْدِهما ويَحضَرا عنده، ففَعَلا، فارْتَحَل سعدٌ مِن المدائنِ حتَّى نزَل الكوفةَ في المُحَرَّمِ سَنَةَ سبعَ عشرةَ، وكان بين نُزولِ الكوفةِ ووَقعةِ القادِسيَّة سَنَةٌ وشَهرانِ، وكان فيما بين قِيامِ عُمَر واخْتِطاط الكوفةِ ثلاثُ سِنين وثمانيةُ أَشْهُر. ولمَّا نزَلها سعدٌ وكتَب إلى عُمَر: إنِّي قد نزَلتُ بالكوفةِ مَنزِلًا فيما بين الحِيرَةِ والفُراتِ بَرِّيًّا وبَحْرِيًّا، وخَيَّرْتُ المسلمين بينها وبين المدائنِ، فمَن أَعجبَهُ المقامُ بالمدائنِ تَركتُه فيها كالمَسْلَحَةِ. ولمَّا اسْتَقَرُّوا بها عَرَفوا أَنفُسَهُم، ورجَع إليهم ما كانوا فَقَدوا مِن قُوَّتِهم، واسْتَأْذَنَ أهلُ الكوفةِ في بُنيانِ القَصَبِ.
كان مَقتلُ الخليفةِ المتوكِّلِ على الله على يَدِ وَلَدِه المنتَصِر، وكان سببُ ذلك أن المتوكِّلَ أمَرَ ابنَه عبدَ الله المعتَزَّ أن يخطُبَ بالناسِ في يومِ جمعة، فأدَّاها أداءً عظيمًا بليغًا، فبلغ ذلك من المنتَصِر كلَّ مبلغٍ، وحَنقَ على أبيه وأخيه، وزاد ذلك أنَّ المتوكِّلَ أراد من المنتَصِر أن يتنازلَ عن ولايةِ العهد لأخيه المعتَزِّ فرفض، وزاد ذلك أيضًا أنَّه أحضَرَه أبوه وأهانَه وأمَرَ بضَربِه في رأسِه وصَفْعِه، وصَرَّحَ بعَزلِه عن ولايةِ العَهدِ، فاشتَدَّ أيضًا حَنقُه أكثَرَ ممَّا كان، فلمَّا كان يومُ عيدِ الفِطرِ خطَبَ المتوكِّلُ بالنَّاسِ وعنده بعضُ ضَعفٍ مِن عِلَّةٍ به، ثم عدَلَ إلى خيامٍ قد ضُرِبَت له أربعةُ أميالٍ في مثلِها، فنزل هناك ثم استدعى في يومِ ثالثِ شَوَّال بنُدَمائِه على عادتِه في سَمَرِه، ثمَّ تمالأ ولَدُه المنتصِرُ وجماعةٌ مِن الأمراءِ على الفَتكِ به فدخلوا عليه ليلةَ الأربعاءِ لأربعٍ خَلَونَ مِن شَوَّال، وهو على السِّماطِ، فابتدروه بالسُّيوفِ فقَتَلوه، وكانت مدةُ خلافتِه أربعَ عشرةَ سَنةً وعَشرةَ أشهر وثلاثة أيام، ثم ولَّوا بعده ولَدَه المنتَصِر، وبعث إلى أخيه المعتَزِّ فأحضَرَه إليه فبايعه المعتَزُّ، وقد كان المعتَزُّ هو وليَّ العَهدِ مِن بعدِ أبيه، ولكِنَّه أكرَهَه، وخاف فسَلَّمَ وبايعَ، ومِن المعروفِ أنَّ الأتراكَ الذين كان قد قَرَّبَهم الواثقُ وجعَلَهم قوَّادَه الأساسيِّينَ قد حَقَدوا على المتوكِّلِ، فكان ذلك من أسبابِ تَمالُئِهم على قَتلِه، وباغتيالِ المتوكِّلِ يعتبَرُ العصرُ العباسيُّ الأوَّلُ قد انتهى، وهو عصرُ القُوَّة، وبدأ العصرُ الثاني- عصرُ الضَّعفِ والانحدارِ- بالمنتصرِ؛ وذلك لأنَّ الخِلافةَ أصبحت صورةً ظاهريَّةً، والحُكمُ الحقيقيُّ هو للقُوَّاد العسكريِّين.
لَمَّا توفِّيَ أحمدُ بن طولون كان إسحاقُ بن كنداجيق على الموصل والجزيرة، فطَمِعَ هو وابن أبي الساج- وهما من كبار قادة الترك عند المعتَمِد- في الشام، واستصغرا أولادَ أحمد، وكاتَبا الموفَّقَ بالله في ذلك، واستمَدَّاه، فأمرهما بقصدِ البلاد، ووعدهما إنفاذَ الجيوش، فجمَعَا وقصدَا ما يجاوِرُهما من البلاد، فاستولَيَا عليه وأعانهما النائبُ بدمشق لأحمد بن طولون، ووعدَهما الانحيازَ إليهما فتراجع مَن بالشامِ مِن نواب أحمد بأنطاكية، وحلب وحمص، وعصى متولِّي دمشق، واستولى إسحاقُ عليها، وبلغ الخبَرُ إلى أبي الجيش خمارَوَيه بن أحمد بن طولون، فسيَّرَ الجيوش إلى الشام فمَلَكوا دمشق، وهرب النائبُ الذي كان بها من قِبَل إسحاق؛ وسار عسكرُ خمارويه من دِمشقَ إلى شيزر لقتال إسحاق بن كنداجيق وابن أبي الساج، فطاولهم إسحاقُ ينتظِرُ المدد من العراق، وهجم الشتاءُ على الطائفتَينِ، وأضرَّ بأصحاب ابن طولون، فتفَرَّقوا في المنازل بشيزر، ووصل العسكرُ العراقي إلى كنداجيق، وعليهم أبو العباس أحمد بن الموفَّق وهو المعتضِدُ بالله، فلما وصل سار مُجِدًّا إلى عسكر خمارويه بشيزر، فلم يَشعُروا حتى كبَسَهم في المساكن، ووضع السيفَ فيهم، فقتل منهم مقتلةً عظيمةً، وسار من سَلِمَ إلى دمشق على أقبَحِ صُورةٍ، فسار المعتَضِد إليهم، فجُلُوا عن دمشقَ إلى الرملة، ومَلَك هو دمشق، ودخلَها في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأقام عسكرُ ابن طولون بالرملة، فأرسلوا إلى خِمارَوَيه يُعَرِّفونه بالحال، فخرج من مصرَ في عساكره قاصدًا إلى الشَّامِ.
هو أبو الحسَنِ عليُّ بنُ بُوَيه، وهو أكبر أولاد بُوَيه، وأوَّلُ مَن تمَلَّك منهم، وكان عاقلًا حاذقًا حميد السيرة رئيسًا في نفسه. كان أولُ ظهورِه في سنة 322, فلما كان في هذا العام 338 قَوِيَت عليه الأسقامُ وتواترت عليه الآلامُ، فأحسَّ من نفسه بالهلاك، ولم يُفادِه ولا دفَعَ عنه أمرَ اللهِ ما هو فيه من الأموالِ والمُلك وكثرةِ الرِّجال والأموالِ، ولا رَدَّ عنه جيشُه من الديلم والأتراك والأعجام، مع كثرةِ العَدَد والعُدد، بل تخَلَّوا عنه أحوجَ ما كان إليهم، فسُبحانَ اللهِ المَلِك القادِرِ، القاهرِ العلَّام! ولم يكن له ولدٌ ذكَرٌ، فأرسل إلى أخيه ركن الدولةِ يستدعيه إليه ووَلَده عَضُد الدولة، ليجعَلَه وليَّ عَهدِه من بعده، فلمَّا قدم عليه فرِحَ به فرحًا شديدًا، وخرج بنفسِه في جميع جيشِه يتلقَّاه، فلمَّا دخل به إلى دار المملكة أجلسَه على السريرِ وقام بين يديه كأحدِ الأُمَراء؛ ليرفَعَ مِن شأنه عند أمرائِه ووزرائِه وأعوانه. وكان يومًا عظيمًا مشهودًا. ثم عقَدَ لعَضُد الدولة البيعةَ على ما يملِكُه من البلدان والأموال، وتدبيرِ المَملكة والرجال. وفيهم مِن بعضِ رُؤوسِ الأمراءِ كراهةٌ لذلك، فشَرَعَ في القبضِ عليهم، وقَتَلَ مَن شاء منهم وسَجَنَ آخرين، حتى تمهَّدَت الأمورُ لعضد الدولة. ثم كانت وفاةُ عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبعٍ وخمسين سنةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه ست عشرة سنة، وكان من أقوى الملوك في زمانِه، وكان ممن حاز قَصَبَ السَّبقِ دون أقرانه، وكان هو أميرَ الأمراء، وبذلك كان يكاتِبُه الخلفاءُ، ولكِنَّ أخاه معز الدولة كان ينوبُ عنه في العراق والسواد.
حصر ابن ردمير الفرنجي مدينةَ أفراغة من شرق الأندلس، وكان الأمير يوسف بن تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة، فجهَّز الزبير بن عمرو اللمتوني والي قرطبة ومعه ألفا فارس، وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة، وكان يحيى بن غانية، الأمير المشهور، أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس، ووالي أمرها لأمير المسلمين علي بن يوسف، فتجهَّز في خمسمائة فارس، وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة، فتجهز في مائتي فارس، فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة، وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس، وأدركه العجب، ونفذ قطعة كبيرة من جيشه. فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم بعضُهم وكسَرَهم، وردَّ بعضَهم على بعض، وقتل فيهم، والتحم القتال، وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعها مدلين بكثرتهم وشجاعتهم، وعظم القتال، فكثُرَ القتل في الفرنج، فانهزم ابن ردمير وولى هاربًا، واستولى القتل على جميع عسكرِه، فلم يسلم منهم إلا القليل، ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة، فلما رأى ما قُتِل من أصحابه مات مفجوعًا بعد عشرين يومًا من الهزيمة، وكان أشدَّ ملوك الفرنج بأسًا، وأكثرهم تجردًا لحرب المسلمين، وأعظمهم صبرًا، كان ينام على طارقته بغير وطاءٍ، وقيل له: هلا تسرَّيت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سَبَيتَ؟ فقال: الرجلُ المحارب ينبغي أن يعاشِرَ الرجال لا النساء، وأراح اللهُ منه وكفى المسلمين شَرَّه.
بعد أن فَشِلَ عليُّ بنُ إسحاق الملثَّم السنة الماضية في مُلك بجاية، سار علي إلى إفريقيَّة، فلما وصل إليها اجتمع سليمٌ ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم التركُ الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع بهاء الدين قراقوش، ودخل أيضًا من أتراكِ مِصرَ مملوك لتقي الدين بن أخي صلاح الدين، اسمُه بوزابة، فكَثُرَ جَمعُهم، وقَوِيَت شوكتُهم، فلما اجتمعوا بلغت عِدَّتُهم مبلغًا كثيرًا، وكُلُّهم كاره لدولة الموحِّدين، وقصدوا بلاد إفريقيَّةَ فمَلَكوها جميعها شرقًا وغربًا إلَّا مدينتي تونس والمهدية؛ فإن الموحدين أقاموا بهما، وحَفِظوهما على خوفٍ وضِيقٍ وشِدَّة، وكان الوالي على إفريقيَّةَ حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يُعلِمُه الحال، وقصد الملثَّم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتَمِلُ على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلُها منه الأمان، فأمَّنهم، فلما دخلها العسكَرُ نهبوا جميع ما فيها من الأموالِ والدوابِّ والغَلَّات، وسلبوا النَّاسَ حتى أخذوا ثيابَهم، وامتدت الأيدي إلى النِّساءِ والصبيان، وتركوهم هلكى، فقَصَدوا مدينة تونس، فأما الأقوياءُ فكانوا يخدُمون ويَعمَلون ما يقوم بقُوتِهم، وأما الضعفاء فكانوا يَستَعطونَ ويسألون الناس، ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلَكَهم البَردُ ووقع فيهم الوباء، فأُحصيَ الموتى منهم فكانوا اثني عشر ألفًا، هذا من موضع واحد، ولما استولى الملثَّم على إفريقية قطَعَ خطبة أولاد عبد المؤمن وخطَبَ للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلُبُ الخِلَعَ والأعلامَ السُّودَ.
أرسل الشيخُ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز إلى والي مكة الشريفِ أحمد بن سعيد رسولًا بهدايا, وكان الشريفُ قد كاتبهما وطلب منهما أن يرسِلَا إليه فقيهًا وعالِمًا من جماعتهما يُبَيِّن حقيقة ما يدعونَ إليه من الدِّينِ، ويناظر علماءَ مكةَ، فأرسلا إليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، ومعه رسالة منهما, يقول ابن غنام: "لما وصل الشيخُ عبد العزيز الحصين على الشريفِ الملقب بالفعر، واجتمع هو وبعض علماء مكة عنده، وهم يحيى بن صالح الحنفي، وعبد الوهاب بن حسن التركي- مفتي السلطان- وعبد الغني بن هلال، وتفاوضوا في ثلاث مسائل وقعت المناظرة فيها: الأولى: ما نُسِبَ إلينا من تكفير العموم، والثانية: هدمُ القبابِ التي على القبور، والثالثة: إنكار دعوة الصالحين للشَّفاعة. فذكر لهم الشيخ عبد العزيز أنَّ نسبة التكفير بالعموم إلينا زورٌ وبهتان علينا, وأمَّا هدم القباب التي على القبورِ فهو الحقُّ والصوابُ، كما هو وارد في كثيرٍ مِن الكتب، وليس لدى العلماء فيه شَكٌّ, وأما دعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم والاستغاثة بهم في النوازل، فقد نص عليه الأئمة والعلماء وقرَّروا أنَّه مِن الشرك الذي فعله القدماء، ولا يجادِلُ في جوازه إلا ملحِدٌ أو جاهِلٌ, فأحضروا كتب الحنابلة فوجدوا أنَّ الأمر على ما ذكر فاقتنعوا, واعترفوا بأنَّ هذا دينُ الله، وقالوا هذا مذهب الإمام المعظَّم، وانصرف الشيخ عنهم مبجَّلًا معزَّزًا"
نقض أهلُ حرمة عهدَهم مع الأمير سعود بن عبد العزيز وتواعَدوا مع أهل الزلفي وأرسلوا إلى سعدون بن عريعر حاكِمِ الأحساء وأتباعِه مِن العربان أنَّهم يريدون أن يَسطُوا على بلدة المجمعة، وكان فيها مرابط وضباط من جهة الإمام عبد العزيز بن محمد، وقد تحقَّق عند أهل حرمة أنَّهم إن لم يأخُذوا المجمعة ويضبطوها لم يكن لهم في بلدهم قرار, فسار رجالٌ مِن أهل حرمة في زيِّ النساءِ وأمسكوا بروجَ النخيل، ثمَّ قَدِم عليهم أهلُ الزلفي بشوكتِهم، ثم قدم سعدون بالجموعِ العظيمة من بني خالد وغيرهم، فاجتمعت تلك الجموعُ ونزلوا وسطَ النخيل وحصروا أهل المجمعةِ في بلدتهم أيامًا حتى ضاق عليهم الأمرُ، فهمُّوا بالمصالحة وأرسلوا إلى سعدون يطلبون مهلةَ يومين يرجون وصولَ المدد لهم من جهة عبد العزيز, كان حسنُ بن مشاري بن سعود يدبِّرُ الأمر من جلاجل لدَعمِ أهل المجمعة، وتمكن مع بعض رجاله من أهل العارض وسدير من دخول المجمعة ليلًا على الرغم من شدة الحصار عليها. فلما عَلِمَ ابن عريعر وأتباعُه بذلك عرفوا أنهم ممتنعون، وقد كانت صدورُ البوادي ضاقت من طولِ الحصارِ، فرحلوا من المجمعة منصرفين، ورجع أهل الزلفي إلى بلَدِهم، واستقَرَّت الحرب بين أهلِ الجمعة وأهل حرمة، فجهز عبد العزيز أخاه عبد الله بالجنودِ، فنازل أهلَ حرمة ووقع بينهم قتالٌ شديدٌ قُتِل فيه عددٌ مِن رجال حرمة، ثم رحل عنهم عبد الله بعد أن ترك لأهل المجمعة خيلًا ورِجالًا، واستمَرَّت الحربُ بينهم أيامًا.
هو العالم الفقيهُ الشيخ عثمان بن عبد الجبَّار بن حمد بن شبانة الوهبي التميمي، بقيَّةُ العُلماء الزُّهَّاد، ورِثَ العلمَ كابرًا عن كابر مِن آبائه وأجداده وأعمامه وإخوانه، وممَّن تعلم منهم ابنُ عمه الشيخ حمد بن عثمان بن عبد الله، والشيخ حمد التويجري، والشيخ عبد المحسن بن نشوان بن شارخ، القاضي في الكويت والزبير، والشيخ عبد العزيز بن عيد الإحسائي نزيل الدرعية، وكان الشيخ عثمان فقيهًا له قُدرةٌ على استحضار أقوال العلماء، وله معرفةٌ في التفسير والفرائض والحساب، وهو عالمُ زمانِه في المذهَبِ، لا يدانيه فيه أحدٌ، تخرَّج على يديه وانتفع به خلقٌ كثير، منهم: ابنه القاضي الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن بن أحمد الثميري قاضي سدير، والشيخ عثمان بن علي بن عيسى قاضي الغاط والزلفي، وغيرهم. وكان في الغايةِ مِن الوَرَعِ والعبادة والعفاف، عَيَّنه الإمام عبد العزيز بن محمد قاضيًا لعسير، وألمع عند عبد الوهاب أبو نقطة المتحَمِّي، وأقام هناك مدة ثم رجع، وأرسله الإمام عبد العزيز بن محمد أيضًا قاضيًا لعسير عند ابن حرملة وعشيرته، ثم أرسله الإمام سعود قاضيًا في عمان، وأقام في رأس الخيمة يقضي بين الناسِ ويُدَرِّس لطلابِ العلم، ثم رجع، ولَمَّا توفِّيَ عَمُّه محمد قاضي بلدان سدير، عَيَّنه الإمام سعود مكانه قاضيًا لبلدان سدير، واستمَرَّ في القضاء زمن الإمام سعود وزمن ابنه الإمام عبد الله وما بعدهما، إلى أن توفي في السابع والعشرين من هذا الشهر.
قصد في هذه السنة شريفُ مكَّةَ محمد بن عون بتحريضٍ من رؤساء أهل القصيم الذين زيَّنوا له أنَّه إن سار إلى نجدٍ فلا يقاومُه أحدٌ ولا يثبُتُ فيصلُ بن تركي في مكانِه، فجهَّز نفسَه وعساكره واستلحق عساكِرَ الترك من المدينة والحناكية، وظهر معه خالدُ بن سعود واجتمع عليه عساكِرُ كثيرةٌ، وقَدِمَ القصيم في ربيع الآخر وأطاعه أهلُ القصيم كلُّهم، ووفد عليه كثيرٌ من رؤساء العُربان وأمراء البلدان، فلما علم فيصل بهذا الخبر استنفر رعيَّتَه وأمر ابنَه عبد الله أن يركَبَ من الرياض، وجهَّزَ معه الخيل والرجال ونزل ناحية سدير، وتكاملت عليه باقي غزوانه فيها، فلما علم الشريف بذلك داخلَه الفَشَلُ، وأرسل إلى فيصل يطلب الصلحَ وأن يرسِلَ له أحد إخوانِه مع هدية تكسِرُ عنه الفشَلَ، فقبل فيصل فأرسل له أخاه محمدًا ومعه ثماني عمانيات وخيل، لكِنَّ أهل القصيم أشاروا عليه برَدِّ الهدية ليعلمَ أهلُ نجد بقوَّتِه فيكاتبوه، فلما علم فيصل بذلك غَضِبَ وأمر بالنفير لملاقاةِ الشريف، فلما بلَغَ الشريف خروجُ الإمام فيصل وابنه عبد الله داخله الفشل وحَلَّ به الرعب وقنع باليسيرِ وشتَمَ مَن أشار عليه من أهل القصيم بالخروجِ، وأرسل إلى فيصل للمصالحة الأبدية والمسالمة المَرْضية فقَبِلَ منه فيصل وأرسل له هدايا من النجائِبِ العمانيات وأطايب الخيل، وعاد من عنيزة إلى مكة في منتصف رجب من هذه السنة راضيًا على فيصل ساخطًا على أهل القصيم ورؤسائِهم.